المستبصر /حسن هادي عليوي الجبوري
من دولة / العراق
المذهب السابق / الحنفي
1- المولد والنشأة :
ولد عام (1391هـ) 1971م في مدينة (بغداد) في العراق، درس في المدارس الأكاديميّة المراحل المتوسّط الإعدادية حتّى أكمل شهادة الدبلوم في قسم الكهرباء. وبعد استبصاره دخل كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلاميّة.
وقد أجرى بعض المناقشات مع بعض أقاربه حول كلام من أحد كبار الصحابة يسئ إلى مقام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ممّا جعله يبحث عن الحقيقة، ويتشرّف إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) سنة (1415هـ) 1994م.
2- الدافع نحو البحث:
يقول «حسن هادي»: في أحد الأيّام من سنة (1409هـ) 1989م حينما كان لي نقاش مع ابن عمّي السنّي واسمه «حميد»، والذي فاجأني بأنّه حينما كان يتردّد على أحد بيوت أصدقائنا من الشيعة في المنطقة التي ولدت فيها، وهي قرية «السيّافية» في الدورة جنوب بغداد الواقعة على ضفاف نهر دجلة، قال ابن عمي: بأنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يقول «إنّ النبي يهجر» وذلك في حادثة رزية الخميس.
فقلت له: أأنت متأكّد من هذه المعلومة؟ لأنّ هذا الكلام باطل، ولا يمكن أن أقبله منك, لأنّه تجاوز وطعن على أعظم شخصيّة في الإسلام، وهو عمر الفاروق، والذي كان بالنسبة لي رمزاً وقائداً في عالم الإسلام، ومن المدافعين عنه وعن رسوله الكريم، فلا يمكن أن يصدر منه مثل هذه الكلام الباطل!!
خصوصاً وأنّي كنت أقرأ في كتب السنّة عن فضائل عمر، وكيف أنّه فتح البلدان، وأنّه ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه من فضائل ومناقب من كونه من المبشرين بالجنة، وأنّه وأنّه...
وكان كلام ابن عمّي كالصاعقة، ولكنّه في نفس الوقت زرع الشكّ في نفسي، وجعلني أتفحّص الأحاديث والفضائل الواردة في الصحابة في كتب أهل السنّة، وكنت أطلب من الله سبحانه أن يهديني إلى الطريق الحقّ والصواب.
3-رزيّة يوم الخميس:
رزيّة يوم الخميس من أشهر القضايا، وأكبر الرزايا التي حدثت في مرض الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي توفّي فيها، وأخرجها أصحاب الصحاح، وسائر أهل السنن، ونقلها أهل السير والأخبار، ومنهم البخاري ومسلم.
1- ما روي بلفظ : «غلبه الوجع»، أو «غلب عليه الوجع»:
أخرج البخاري عن عبد الله عن ابن عبّاس قال: لما اشتدّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده».
قال عمر: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا.
فاختلفوا وكثر اللغط، قال (صلى الله عليه وآله): «قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع».
فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين كتابه(1).
وورد في لفظ آخر: «غلب عليه الوجع»(2).
وفي لفظ ثالث: فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3).
هذا الحديث قد أخرّجه الشيخان محمّد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما، وواّفقهم المحدّثون كافّة على روايتيهما(4).
2- ما روي بلفظ : «هجر رسول الله»، أو «يهجر»:
أخرج البخاري عن ابن عبّاس أنّه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! ثمّ بكى حتّى خضّب دمعه الحصباء. فقال اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس.
فقال (صلى الله عليه وآله): «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعهده أبداً».
فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع.
فقالوا: هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال (صلى الله عليه وآله): «دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه».
وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة(5).
ليست الثالثة إلاّ الأمر الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى ادّعاء نسيانه(6).
روى مسلم وأحمد بإسنادهما والطبري في تاريخه عن عمر أنّه قال: «إنّ رسول الله يهجر»(7).
وفي بعض المصادر روي بألفاظ قريبة منه: «هجر»(8)، أو «إنّ النبي يهجر»(9)، «إنّ نبي الله ليهجر»(10)، أو «إنّ محمّداً ليهجر»(11)، أو «إنّ الرجل ليهجر»(12)، أو «إنّه ليهجر»(13)، أو «دعوا الرجل فإنّه ليهجر»(14)، أو «إنّ الرجل ليهذر»(15).
وقد ورد في بعض المصادر على نحو التساؤل والاستفهام: «أهجر»(16)؟ أو «أهجرا»(17)؟ أو «أهجر رسول الله»(18)؟ أو «ماله أهجر»(19)؟ أو «ما شأنه أهجر»(20)؟ أو «ما شأنه يهجر»(21)؟
3- ما روي بلفظ: «فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة»:
روى الطبراني في معجمه عن عمر بن الخطاب قال: لمّا مرض النبي (صلى الله عليه وآله).
قال: «ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً».
فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): «ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً».
فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقلت: إنهنّ صويحبات يوسف، إذا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صحّ ركبتنّ عنفه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أحزنتني فإنّهنّ خير منكم»(22).
وفي مجمع الزوائد: فقال بعض القوم: اسكتي، فإنّه لا عقل لك.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «أنتم لا أحلام لكم»(23).
4- ما روي المعارضة بالمعنى:
عن ابن عبّاس أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي مات فيه: «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً».
فقال عمر بن الخطاب: من لفلانة وفلانة مدائن الروم، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس بميت حتّى نفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى.
فقالت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله): ألا تسمعون النبي (صلى الله عليه وآله) يعهد إليكم؟!
فلغطوا.
فقال (صلى الله عليه وآله): «قوموا».
فلمّا قاموا، قبض النبي (صلى الله عليه وآله) مكانه(24).
وعن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: «ائتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي».
قال: فأقبل القوم في لغطهم.
فقالت المرأة: ويحكم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)(25).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لمّا كان في مرض رسول الله? الذي توفّي فيه، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأُمّته كتاباً لا يَضلّون ولا يُضلّون.
قال: فكان في البيت لغط وكلام، وتكلّم عمر بن الخطاب. قال: فرفضه والنبي (صلى الله عليه وآله)(26).
وأيضاً عن جابر قال: دعا النبي? عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لأمّنه لا يَضلّوا ولا يُضلوا، فلغطوا عنده حتّى رفضها النبي (صلى الله عليه وآله)(27).
4- الاختلاف في النقل:
وهذا الحديث ممّا لا كلام في صحّته ولا شكّ في صدوره، واتّفق المحدّثون كافّة على روايته، فقد أورده البخاري في عدّة مواضع من صحيحه، ومسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد، إلاّ أنّ هناك تصرّفاً فيه ; إذ نقلوه في بعض الموارد بالمعنى لا بلفظه ; لأنّ لفظه الثبت إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر، لكنّهم ذكروا تارة بلفظ: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد غلب عليه الوجع تهذيباً للعبارة، وتقليلاً لمن يستهجن منها، والشاهد على ذلك ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي بإسناده إلى ابن عبّاس، قال: «لمّا حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده».
فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول (صلى الله عليه وآله)(28)، وتراه صريحاً بأنّهم إنّما نقلوا معارضة عمر بالمعنى لا بعين لفظه.
5- إساءات للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):
1- عدم إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله): إنّ الله تعالى فرض طاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) بنصّ الكتاب العزيز تارة مقرونة بطاعته وأخرى منفردة وذلك في عدّة آيات بنحو الإطلاق وعدم اختصاصها بحال من الأحوال.
كقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فاِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ) (آل عمران:132).
وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ) (آل عمران:132).
وغيرها من الآيات المقرونة بطاعته تعالى(29).
وأخرى أفرد طاعة نبيّه كقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ) (النور:56).
فإنّ الله أراد من المسلمين إطاعة أوأمر نبيّه والتجنّب عن نواهيه والعمل على طبقهما (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا) (الحشر:7).
وهو المسدّد من شديد القوى في جميع حالاته لحصره النطق عن الوحي: (وَالنَّجمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى) (النجم:1-5).
ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم: (وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاء وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ) (القصص:36).
وما يختاره الرسول هو مختار الله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِن وَلَا مُؤمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم) (الأحزاب:36).
هذه من جهة، ومن جهة أخرى جعل إطاعة رسوله إطاعة لله سبحانه وتعالى حيث يقول: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللّهَ) (النساء:80).
ومن لم يطع الرسول فقد خرج عن طاعة الله، وصار ممّن يعص الله (وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن:23), و(وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (الأحزاب:36).
2- إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله): إنّ هذه العبارة: «إنّ النبي يهجر»، أو «إنّ الرجل ليهجر» إيذاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويكشف عن تألّمه عدم تحّمل جلوسهم عنده، وقد ظهر شدّة تأذيه وتأثّره من ذلك، حيث طردهم من بينه فقال لهم: «قوموا عنّي»، مع أنّه ليس من دأبه وخلقه التعامل مع الآخرين بهذا الإسلوب وفي أصعب الحالات حيث مدحه الله تعالى بقول: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) (القلم:4)، وأنّه كان يقّسم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، ولم يبسط رجليه بين أصحابه قد، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك يده حتّى يكون هو التارك(30)، وإذا غضب أعرض وأشاح(31)، فقوله: «قوموا عنّي» يكشف عن شدّة تأذّيه، (وَالَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:61)، و(إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُّهِينًا) (الأحزاب:57).
3- رفع الصوت بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله): ومن جملة إساءاتهم لمقام النبوّة أنّهم رفعوا أصواتهم ولغطوا في محضره إذ جاء في الخبر: كان في البيت لغط وكلام(32)، وقد نهى الله أن يرفعوا صوتهم فوق صوت النبي قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرفَعُوا أَصوَاتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعض أَن تَحبَطَ أَعمَالُكُم وَأَنتُم لَا تَشعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصوَاتَهُم عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقوَى لَهُم مَّغفِرَةٌ وَأَجرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات:2-3).
4- التنازع بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله): كما أنّهم تنازعوا بمحضره (صلى الله عليه وآله)، ونهى الله عن ذلك قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم) (الأنفال:46)، وعلى تقدير حصوله لابدّ لهم من الرجوع إلى الله ورسوله: (فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَي فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء:59)، ولم يردّوا الأمر إليه حتّى طردهم من بينه.
6- «حسبنا كتاب الله» تخالف الشريعة:
إنّ مقولة «حسبنا كتاب الله» تخالف الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
أوّلاً: مخالفتها للكتاب الذي يأمرنا بطاعة رسوله إذ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (النساء:59).
ثانياً: مخالفتها للأخبار القطعيّة على وجوب اتّباع السنّة في حديث الثقلين وغيره، وإلاّ فلو كان الكتاب كافياً لكان ما في الصحاح الست وغيرها فضولاً.
ثالثاً: مخالفتها للإجماع القطعي بين الفريقين من الرجوع إلى السنّة في كثير من جزئيات الأحكام الشرعيّة بل حتّى في الأمور الكلّية من الأحكام الفقهيّة والاعتقاديّة.
رابعاً: مخالفتها للعقل الذي يقضي من أنّه لا يمكن استفادة تفاصيل الأحكام في العبادات والمعاملات من الكتاب العزيز ; لأنّه وإن كان تبياناً لكلّ شيء، وما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال(33)، وإنّما يعرف القرآن من خوطب به(34).
فالقول: «حسبنا كتاب الله» استبعاد للسنّة الشريفة التي أمرنا الله ورسوله باتباعها.
ماذا أراد أن يكتب النبي (صلى الله عليه وآله)؟ يتّضح لكلّ متدبّر في هذه الواقعة، والمتمعّن فيها من أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب أمراً مهماً نبأً عظيماً، بل كان شغله الشاغل وفكره في هذه الواقعة، وأنّه الحافظ عن الضلال أبداً إلى يوم القيامة كما صرّح به «لن تضلّوا بعده أبداً»، فيعلم من ذلك الاهتمام أيّاه، وأنّه قطب رحى الإسلام، وهي الإمامة كما اعترف بذلك عمر في موارد من كلامه، نذكر بعضها هنا:
1- عن ابن عبّاس رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر في أوّل خلافته وقد أُلقي له صاع من تمر على خصفة فدعاني إلى الأكلّ، فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتّى أتى عليه، ثمّ شرب من جرّ كان عنده، واستلقى على مرفقة له، وطفق يحمد الله يكرر ذلك، ثمّ قال: من أين جئت يا عبد الله؟
قلت: من المسجد.
قال كيف خلّفت ابن عمّك؟
فضننته يعني عبد الله بن جعفر.
قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال: لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت.
قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.
قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي نفسه شيء من أمر الخلافة؟
قلت: نعم.
قال: أيزعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصّ عليه؟
قلت: نعم، وأزيدك سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّي علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم(35).
وقال ابن أبي الحديد بعد نقله لهذا الخبر: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.
2- عن ابن عبّاس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتّبعته، فاقل لي: يا بن عبّاس، أشكو إليك ابن عمّك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ومل أزل أراه واجداً، فيم تظّن موجدته؟
قلت: يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم.
قال: أظّنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة.
قلت: هو ذاك، إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له.
فقال: يا ابن عبّاس، وارد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر له، فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد أمراً، وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى، ولم ينفذ مراد رسوله، أو كلّما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان! إنّه أراد إسلام عمّه ولم يرده الله فلم يسلم!
وقد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، وهو قوله: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد أن يذكره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفاً من الفتنة وانتشار أمر الإسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم(36).
وقد اعترف جماعة من أعلام النسة من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن ينصّ على الإمامة والخلافة من بعده من دون أن يصرّحوا باسم الإمام علي? كما ذكره الخفاجي(37)، واحتمله الخطابي(38).
7- تبرير غير مقبول:
أرادا بعض أعلام أهل السّنة التخفيف على عمر في تصرّفاته الخشنة مع الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقال ابن أبي الحديد: وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة، يحسبه السامع لها أنّه أراد بها مالم يكن قد أراد، ويتوهّم من تُحكى له أنّه قصد بها ظاهراً مالم يقصده، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومعاذ الله أن يقصد بها ظهارها! ولكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته، وملءٌ يتحفّظ منها. وكان الأحسن أن يقول: «مغمور» أو «مغلوب بالمرض»، وحاشاه أن يعني بها غير ذلك(39)!
وقال ابن أبي الحديد أيضاً في موضع آخر من كتابه: واعلم أنّ هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة، ولا حيلة له فيها ; لأنّه مجبول فيها لا يستطيع تغييرها، ولا ريب عندنا أنّه كان يتعاطى أن يتلطّف، وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع القاسي، والغزيرة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات، ولا يقصد بها سوءاً، ولا يريد بها ذمّاً ولا تخطئة، كما قدّمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكاللفظات التي قالها عام الحديبيّة وغير ذلك، والله تعالى لا يجازي المكلّف إلاّ بما نواه، ولقد كانت نيّته من أطهر النيّات وأخلصها لله سبحانه وللمسلمين(40).
وهذا الكلام فارغ لا أساس له ; فإنّ الخشونة الغريزيّة لا تبرّر عصيان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المعصوم عن الخطأ.
أضف إلى أنّه كان يدأب في مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) في كثير من الموارد كما يذكرها التاريخ لنا.
قال أبو جعفر النقيب(41): وممّا جرّأ عمر على بيعة أبي بكر والعدول عن علي - مع ما كان يسمعه من الرسول (صلى الله عليه وآله) في أمره - أنّه أنكر مراراً على الرسول (صلى الله عليه وآله) أموراً اعتمدها، فلم ينكر عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) إنكاره بل رجع في كثير منها إليه وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته، فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة، ممّا هي خلاف النص، وذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق، وإنكاره فداء أسارى بدر، وإنكاره عليه تبرّج نسائه للناس، وإنكاره قضيّة الحديبيّة، وإنكاره أمان العبّاس لأبي سفيان ابن حرب، وإنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة، وإنكاره أمره بالنداء: (من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنّة)، وإنكاره أمره بذبح النواضح، وإنكاره على النساء بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هيبتهنّ له دون رسول الله (صلى الله عليه وآله)... إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث، ولولم يكن إلاّ إنكاره قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه: (ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي)، وقوله ما قال، وسكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه(42).
وأعجب الأشياء أنّه قال ذلك اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار فبعضهم، يقول القول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعضهم يقول: القول ما قال عمر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد كثر اللغط، وعلت الأصوات: (قوموا عنّي فما ينبغي لنبيّ أن يكون عنده هذا التنازع).
فهل بقي للنبوّة مزّية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين، وميل المسلمون بينهما، فرجّح قوم هذا، فليس ذلك دالاًّ على أنّ القوم سووا بينه وبين عمر، وجعلوا القولين مسألة خلاف، ذهب كلّ فريق إلى نصرة واحد منهما، كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام، فينصر قوم هذا، وينصر ذاك آخرون، فمن بلغت قوّته وهمّته إلى هذا كيف ينكر منه أنّه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها، ويعدل عن النص؟! ومن الذي كان ينكر عليه ذلك، وفي القول الذي قاله للرسول (صلى الله عليه وآله) في وجهه غير خائف من الأنصار، ولا ينكر عليه أحد، لا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا غيره، وهو أشدّ من مخالفة النصّ في الخلافة وأفظع وأشنع(43).
فهذه الحادثة وغيرها جعلت الأخ «حسن عليوي» يبحث عن الحقيقة، ويطالع كتب التاريخ عن كثب حتّى يصل إلى الحقّ والحقيقة، وكان دائماً يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى طريق الصواب، وبدأ بقرءاة بعض الكتب العقائدية ككتاب «المراجعات»، و«النصّ والاجتهاد» للسيّد شرف الدين، و«الفصول المهمّة في أصول الأئمّة» للحر العاملي وكتب التيجاني وغيرها.
وبعد صراع بين الحقائق والأوهام بفضل الله تعالى اهتدى إلى نور مذهب أهل البيت" (وَمَن يَهدِ اللّهُ فَهُوَ المُهتَدِ وَمَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لَهُم أَولِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحشُرُهُم يَومَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِم عُميًا وَبُكمًا وَصُمًّا مَّأوَاهُم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَت زِدنَاهُم سَعِيرًا) (الإسراء:97).
-------------------------------------------------------------------
الهامش:
(1) صحيح البخاري 1: 36 -37 و5: 137 - 138.
(2) صحيح البخاري 7: 9، صحيح مسلم 5: 76، مسند أحمد بن حنبل 1: 336.
(3) شرح نهج البلاغة 6: 51.
(4) شرح نهج البلاغة 6: 51.
(5) صحيح البخاري 4: 31.
(6) نقله السيّد عبد الحسين شرف الدين عن مفتي الحنفية في صورة الشيخ أبو سليمان الحاج داود الدادا: هامش كتابه النصّ والاجتهاد: 151.
(7) صحيح مسلم 5: 76، مسند أحمد بن حنبل 1: 355، تاريخ الطبري 2: 436، كتاب سليم بن قيس الهلالي: 234.
الغيبة: 84، مناقب آل أبي طالب 1: 202 بحار الأنوار 22: 472، 498، غاية المرام 6: 99، الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 534.
(8) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192، بحار الأنوار 30: 538.
(9) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192.
(10) فتح الباري 8: 101، الطبقات الكبرى 2: 242.
(11) غاية المرام 6: 100 و115.
(12) أوائل المقالات: 406، الرسالة السعدية: 79، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: 432، غاية المرام 6: 97، حلية الأبرار 2: 321، بحار الأنوار 30: 466، 513، 535، شرح أصول الكافي 7: 241، الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة: 224، كشف الغمة 2: 47، كشف اليقين: 472، الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 534، إحقاق الحقّ: 236، 264، 280، 284، مستدرك سفينة البحار 9: 30.
(13) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3: 100.
(14) الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 284.
(15) شرح أصول الكافي 12: 413، الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 284.
(16) تاريخ ابن خلدون 2: ق2، 62، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192، بحار الأنوار 30: 538.
(17) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192.
(18) عمدة القاري 14: 298.
(19) صحيح البخاري 4: 66، عمدة القاري 15: 90، أمتاع الاسماع 2: 132، ج14، ص449، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192.
(20) صحيح البخاري 5: 137، صحيح مسلم 5: 75، مسند أحمد بن حنبل 1: 222، السنن الكبرى 3: 434، ح5854، عمدة القاري 18: 61، المصنف 6: 57، ح9992، و ج10، ص361، ح19371، مسند الحميدي 1: 241، ح525، الطبقات الكبرى 2: 242، تاريخ الطبري 2: 436، البداية والنهاية 5: 247، الفائق في غريب الحديث 3: 391 مادة (هجو)، شرح نهج البلاغة 2: 55 و ج13، ص31، نصب الراية 4: 343، امتاع الاسماع 14: 447، السيرة النبوية لابن كثير 4: 450، سبل الهدى والرشاد 12: 247.
(21) الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين: 534.
(22) المعجم الأوسط 5: 287 - 288، كنز العمّال 5: 644، ح14133.
(23) مجمع الزوائد 4: 215.
(24) الطبقات الكبرى 2: 244 - 245.
(25) مسند أحمد بن حنبل 1: 293.
(26) الطبقات الكبرى 2: 243.
(27) الطبقات الكبرى 2: 244.
(28) شرح نهج البلاغة 6: 51.
(29) انظر النساء (4): 59، المائدة (5): 92، الأنفال (8): 1 و20، النور (24): 54، محمّد (47: 33، المجادلة (58): 13، التغابن (64): 12.
(30) الكافي 2: 671.
(31) معاني الأخبار: 81.
(32) الطبقات الكبرى 2: 243.
(33) المحاسن 1: 268، ح355.
(34) الكافي 8: 312.
(35) شرح نهج البلاغة 12: 20.
(36) شرح نهج البلاغة 12: 78 - 79.
(37) نسيم الرياض 4: 325.
(38) عمدة القاري 2: 171.
(39) شرح نهج البلاغة 1: 183.
(40) شرح نهج البلاغة 2: 27.
(41) وهو استاد ابن أبي الحديد المعتزلي قال عنه: «ولم يكن إمامي المذهب، ولا كان يبرأ من السلف، ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة، ولكنّه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه على أن العلوي لو كان كرامياً لابدّ أن يكون عنده نوع من تعصّب وميل على الصحابة وإن قل»، شرح نهج البلاغة 12: 90.
(42) شرح نهج البلاغة 12: 87.
(43) شرح نهج البلاغة 12: 87 - 88.
من دولة / العراق
المذهب السابق / الحنفي
1- المولد والنشأة :
ولد عام (1391هـ) 1971م في مدينة (بغداد) في العراق، درس في المدارس الأكاديميّة المراحل المتوسّط الإعدادية حتّى أكمل شهادة الدبلوم في قسم الكهرباء. وبعد استبصاره دخل كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلاميّة.
وقد أجرى بعض المناقشات مع بعض أقاربه حول كلام من أحد كبار الصحابة يسئ إلى مقام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ممّا جعله يبحث عن الحقيقة، ويتشرّف إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) سنة (1415هـ) 1994م.
2- الدافع نحو البحث:
يقول «حسن هادي»: في أحد الأيّام من سنة (1409هـ) 1989م حينما كان لي نقاش مع ابن عمّي السنّي واسمه «حميد»، والذي فاجأني بأنّه حينما كان يتردّد على أحد بيوت أصدقائنا من الشيعة في المنطقة التي ولدت فيها، وهي قرية «السيّافية» في الدورة جنوب بغداد الواقعة على ضفاف نهر دجلة، قال ابن عمي: بأنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يقول «إنّ النبي يهجر» وذلك في حادثة رزية الخميس.
فقلت له: أأنت متأكّد من هذه المعلومة؟ لأنّ هذا الكلام باطل، ولا يمكن أن أقبله منك, لأنّه تجاوز وطعن على أعظم شخصيّة في الإسلام، وهو عمر الفاروق، والذي كان بالنسبة لي رمزاً وقائداً في عالم الإسلام، ومن المدافعين عنه وعن رسوله الكريم، فلا يمكن أن يصدر منه مثل هذه الكلام الباطل!!
خصوصاً وأنّي كنت أقرأ في كتب السنّة عن فضائل عمر، وكيف أنّه فتح البلدان، وأنّه ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّه من فضائل ومناقب من كونه من المبشرين بالجنة، وأنّه وأنّه...
وكان كلام ابن عمّي كالصاعقة، ولكنّه في نفس الوقت زرع الشكّ في نفسي، وجعلني أتفحّص الأحاديث والفضائل الواردة في الصحابة في كتب أهل السنّة، وكنت أطلب من الله سبحانه أن يهديني إلى الطريق الحقّ والصواب.
3-رزيّة يوم الخميس:
رزيّة يوم الخميس من أشهر القضايا، وأكبر الرزايا التي حدثت في مرض الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي توفّي فيها، وأخرجها أصحاب الصحاح، وسائر أهل السنن، ونقلها أهل السير والأخبار، ومنهم البخاري ومسلم.
1- ما روي بلفظ : «غلبه الوجع»، أو «غلب عليه الوجع»:
أخرج البخاري عن عبد الله عن ابن عبّاس قال: لما اشتدّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده».
قال عمر: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا.
فاختلفوا وكثر اللغط، قال (صلى الله عليه وآله): «قوموا عنّي، ولا ينبغي عندي التنازع».
فخرج ابن عبّاس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين كتابه(1).
وورد في لفظ آخر: «غلب عليه الوجع»(2).
وفي لفظ ثالث: فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3).
هذا الحديث قد أخرّجه الشيخان محمّد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما، وواّفقهم المحدّثون كافّة على روايتيهما(4).
2- ما روي بلفظ : «هجر رسول الله»، أو «يهجر»:
أخرج البخاري عن ابن عبّاس أنّه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟! ثمّ بكى حتّى خضّب دمعه الحصباء. فقال اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس.
فقال (صلى الله عليه وآله): «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعهده أبداً».
فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع.
فقالوا: هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال (صلى الله عليه وآله): «دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه».
وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة(5).
ليست الثالثة إلاّ الأمر الذي أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلى ادّعاء نسيانه(6).
روى مسلم وأحمد بإسنادهما والطبري في تاريخه عن عمر أنّه قال: «إنّ رسول الله يهجر»(7).
وفي بعض المصادر روي بألفاظ قريبة منه: «هجر»(8)، أو «إنّ النبي يهجر»(9)، «إنّ نبي الله ليهجر»(10)، أو «إنّ محمّداً ليهجر»(11)، أو «إنّ الرجل ليهجر»(12)، أو «إنّه ليهجر»(13)، أو «دعوا الرجل فإنّه ليهجر»(14)، أو «إنّ الرجل ليهذر»(15).
وقد ورد في بعض المصادر على نحو التساؤل والاستفهام: «أهجر»(16)؟ أو «أهجرا»(17)؟ أو «أهجر رسول الله»(18)؟ أو «ماله أهجر»(19)؟ أو «ما شأنه أهجر»(20)؟ أو «ما شأنه يهجر»(21)؟
3- ما روي بلفظ: «فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة»:
روى الطبراني في معجمه عن عمر بن الخطاب قال: لمّا مرض النبي (صلى الله عليه وآله).
قال: «ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً».
فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): «ادعوا لي بصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً».
فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقلت: إنهنّ صويحبات يوسف، إذا مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صحّ ركبتنّ عنفه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أحزنتني فإنّهنّ خير منكم»(22).
وفي مجمع الزوائد: فقال بعض القوم: اسكتي، فإنّه لا عقل لك.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «أنتم لا أحلام لكم»(23).
4- ما روي المعارضة بالمعنى:
عن ابن عبّاس أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي مات فيه: «ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً».
فقال عمر بن الخطاب: من لفلانة وفلانة مدائن الروم، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس بميت حتّى نفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى.
فقالت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله): ألا تسمعون النبي (صلى الله عليه وآله) يعهد إليكم؟!
فلغطوا.
فقال (صلى الله عليه وآله): «قوموا».
فلمّا قاموا، قبض النبي (صلى الله عليه وآله) مكانه(24).
وعن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: «ائتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لا يختلف منكم رجلان بعدي».
قال: فأقبل القوم في لغطهم.
فقالت المرأة: ويحكم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)(25).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لمّا كان في مرض رسول الله? الذي توفّي فيه، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأُمّته كتاباً لا يَضلّون ولا يُضلّون.
قال: فكان في البيت لغط وكلام، وتكلّم عمر بن الخطاب. قال: فرفضه والنبي (صلى الله عليه وآله)(26).
وأيضاً عن جابر قال: دعا النبي? عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لأمّنه لا يَضلّوا ولا يُضلوا، فلغطوا عنده حتّى رفضها النبي (صلى الله عليه وآله)(27).
4- الاختلاف في النقل:
وهذا الحديث ممّا لا كلام في صحّته ولا شكّ في صدوره، واتّفق المحدّثون كافّة على روايته، فقد أورده البخاري في عدّة مواضع من صحيحه، ومسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد، إلاّ أنّ هناك تصرّفاً فيه ; إذ نقلوه في بعض الموارد بالمعنى لا بلفظه ; لأنّ لفظه الثبت إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر، لكنّهم ذكروا تارة بلفظ: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد غلب عليه الوجع تهذيباً للعبارة، وتقليلاً لمن يستهجن منها، والشاهد على ذلك ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي بإسناده إلى ابن عبّاس، قال: «لمّا حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده».
فقال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول (صلى الله عليه وآله)(28)، وتراه صريحاً بأنّهم إنّما نقلوا معارضة عمر بالمعنى لا بعين لفظه.
5- إساءات للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):
1- عدم إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله): إنّ الله تعالى فرض طاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) بنصّ الكتاب العزيز تارة مقرونة بطاعته وأخرى منفردة وذلك في عدّة آيات بنحو الإطلاق وعدم اختصاصها بحال من الأحوال.
كقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فاِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ) (آل عمران:132).
وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ) (آل عمران:132).
وغيرها من الآيات المقرونة بطاعته تعالى(29).
وأخرى أفرد طاعة نبيّه كقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ) (النور:56).
فإنّ الله أراد من المسلمين إطاعة أوأمر نبيّه والتجنّب عن نواهيه والعمل على طبقهما (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا) (الحشر:7).
وهو المسدّد من شديد القوى في جميع حالاته لحصره النطق عن الوحي: (وَالنَّجمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى) (النجم:1-5).
ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم: (وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاء وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ) (القصص:36).
وما يختاره الرسول هو مختار الله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِن وَلَا مُؤمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم) (الأحزاب:36).
هذه من جهة، ومن جهة أخرى جعل إطاعة رسوله إطاعة لله سبحانه وتعالى حيث يقول: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللّهَ) (النساء:80).
ومن لم يطع الرسول فقد خرج عن طاعة الله، وصار ممّن يعص الله (وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن:23), و(وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (الأحزاب:36).
2- إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله): إنّ هذه العبارة: «إنّ النبي يهجر»، أو «إنّ الرجل ليهجر» إيذاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويكشف عن تألّمه عدم تحّمل جلوسهم عنده، وقد ظهر شدّة تأذيه وتأثّره من ذلك، حيث طردهم من بينه فقال لهم: «قوموا عنّي»، مع أنّه ليس من دأبه وخلقه التعامل مع الآخرين بهذا الإسلوب وفي أصعب الحالات حيث مدحه الله تعالى بقول: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) (القلم:4)، وأنّه كان يقّسم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، ولم يبسط رجليه بين أصحابه قد، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك يده حتّى يكون هو التارك(30)، وإذا غضب أعرض وأشاح(31)، فقوله: «قوموا عنّي» يكشف عن شدّة تأذّيه، (وَالَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:61)، و(إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُّهِينًا) (الأحزاب:57).
3- رفع الصوت بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله): ومن جملة إساءاتهم لمقام النبوّة أنّهم رفعوا أصواتهم ولغطوا في محضره إذ جاء في الخبر: كان في البيت لغط وكلام(32)، وقد نهى الله أن يرفعوا صوتهم فوق صوت النبي قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرفَعُوا أَصوَاتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعض أَن تَحبَطَ أَعمَالُكُم وَأَنتُم لَا تَشعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصوَاتَهُم عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقوَى لَهُم مَّغفِرَةٌ وَأَجرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات:2-3).
4- التنازع بمحضر النبي (صلى الله عليه وآله): كما أنّهم تنازعوا بمحضره (صلى الله عليه وآله)، ونهى الله عن ذلك قال تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم) (الأنفال:46)، وعلى تقدير حصوله لابدّ لهم من الرجوع إلى الله ورسوله: (فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَي فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء:59)، ولم يردّوا الأمر إليه حتّى طردهم من بينه.
6- «حسبنا كتاب الله» تخالف الشريعة:
إنّ مقولة «حسبنا كتاب الله» تخالف الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
أوّلاً: مخالفتها للكتاب الذي يأمرنا بطاعة رسوله إذ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (النساء:59).
ثانياً: مخالفتها للأخبار القطعيّة على وجوب اتّباع السنّة في حديث الثقلين وغيره، وإلاّ فلو كان الكتاب كافياً لكان ما في الصحاح الست وغيرها فضولاً.
ثالثاً: مخالفتها للإجماع القطعي بين الفريقين من الرجوع إلى السنّة في كثير من جزئيات الأحكام الشرعيّة بل حتّى في الأمور الكلّية من الأحكام الفقهيّة والاعتقاديّة.
رابعاً: مخالفتها للعقل الذي يقضي من أنّه لا يمكن استفادة تفاصيل الأحكام في العبادات والمعاملات من الكتاب العزيز ; لأنّه وإن كان تبياناً لكلّ شيء، وما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال(33)، وإنّما يعرف القرآن من خوطب به(34).
فالقول: «حسبنا كتاب الله» استبعاد للسنّة الشريفة التي أمرنا الله ورسوله باتباعها.
ماذا أراد أن يكتب النبي (صلى الله عليه وآله)؟ يتّضح لكلّ متدبّر في هذه الواقعة، والمتمعّن فيها من أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب أمراً مهماً نبأً عظيماً، بل كان شغله الشاغل وفكره في هذه الواقعة، وأنّه الحافظ عن الضلال أبداً إلى يوم القيامة كما صرّح به «لن تضلّوا بعده أبداً»، فيعلم من ذلك الاهتمام أيّاه، وأنّه قطب رحى الإسلام، وهي الإمامة كما اعترف بذلك عمر في موارد من كلامه، نذكر بعضها هنا:
1- عن ابن عبّاس رضي الله عنه، قال: دخلت على عمر في أوّل خلافته وقد أُلقي له صاع من تمر على خصفة فدعاني إلى الأكلّ، فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتّى أتى عليه، ثمّ شرب من جرّ كان عنده، واستلقى على مرفقة له، وطفق يحمد الله يكرر ذلك، ثمّ قال: من أين جئت يا عبد الله؟
قلت: من المسجد.
قال كيف خلّفت ابن عمّك؟
فضننته يعني عبد الله بن جعفر.
قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال: لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت.
قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.
قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي نفسه شيء من أمر الخلافة؟
قلت: نعم.
قال: أيزعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصّ عليه؟
قلت: نعم، وأزيدك سألت أبي عمّا يدّعيه، فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه، فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّي علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم(35).
وقال ابن أبي الحديد بعد نقله لهذا الخبر: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسنداً.
2- عن ابن عبّاس، قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتّبعته، فاقل لي: يا بن عبّاس، أشكو إليك ابن عمّك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ومل أزل أراه واجداً، فيم تظّن موجدته؟
قلت: يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم.
قال: أظّنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة.
قلت: هو ذاك، إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له.
فقال: يا ابن عبّاس، وارد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر له، فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك! إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد أمراً، وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى، ولم ينفذ مراد رسوله، أو كلّما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان! إنّه أراد إسلام عمّه ولم يرده الله فلم يسلم!
وقد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ، وهو قوله: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد أن يذكره للأمر في مرضه، فصددته عنه خوفاً من الفتنة وانتشار أمر الإسلام، فعلم رسول الله ما في نفسي وأمسك، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم(36).
وقد اعترف جماعة من أعلام النسة من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن ينصّ على الإمامة والخلافة من بعده من دون أن يصرّحوا باسم الإمام علي? كما ذكره الخفاجي(37)، واحتمله الخطابي(38).
7- تبرير غير مقبول:
أرادا بعض أعلام أهل السّنة التخفيف على عمر في تصرّفاته الخشنة مع الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقال ابن أبي الحديد: وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة، يحسبه السامع لها أنّه أراد بها مالم يكن قد أراد، ويتوهّم من تُحكى له أنّه قصد بها ظاهراً مالم يقصده، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومعاذ الله أن يقصد بها ظهارها! ولكنّه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته، وملءٌ يتحفّظ منها. وكان الأحسن أن يقول: «مغمور» أو «مغلوب بالمرض»، وحاشاه أن يعني بها غير ذلك(39)!
وقال ابن أبي الحديد أيضاً في موضع آخر من كتابه: واعلم أنّ هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة وجفاء الطبيعة، ولا حيلة له فيها ; لأنّه مجبول فيها لا يستطيع تغييرها، ولا ريب عندنا أنّه كان يتعاطى أن يتلطّف، وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة، فينزع به الطبع القاسي، والغزيرة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات، ولا يقصد بها سوءاً، ولا يريد بها ذمّاً ولا تخطئة، كما قدّمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكاللفظات التي قالها عام الحديبيّة وغير ذلك، والله تعالى لا يجازي المكلّف إلاّ بما نواه، ولقد كانت نيّته من أطهر النيّات وأخلصها لله سبحانه وللمسلمين(40).
وهذا الكلام فارغ لا أساس له ; فإنّ الخشونة الغريزيّة لا تبرّر عصيان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المعصوم عن الخطأ.
أضف إلى أنّه كان يدأب في مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) في كثير من الموارد كما يذكرها التاريخ لنا.
قال أبو جعفر النقيب(41): وممّا جرّأ عمر على بيعة أبي بكر والعدول عن علي - مع ما كان يسمعه من الرسول (صلى الله عليه وآله) في أمره - أنّه أنكر مراراً على الرسول (صلى الله عليه وآله) أموراً اعتمدها، فلم ينكر عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) إنكاره بل رجع في كثير منها إليه وأشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته، فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة، ممّا هي خلاف النص، وذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق، وإنكاره فداء أسارى بدر، وإنكاره عليه تبرّج نسائه للناس، وإنكاره قضيّة الحديبيّة، وإنكاره أمان العبّاس لأبي سفيان ابن حرب، وإنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة، وإنكاره أمره بالنداء: (من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنّة)، وإنكاره أمره بذبح النواضح، وإنكاره على النساء بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هيبتهنّ له دون رسول الله (صلى الله عليه وآله)... إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث، ولولم يكن إلاّ إنكاره قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه: (ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي)، وقوله ما قال، وسكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه(42).
وأعجب الأشياء أنّه قال ذلك اليوم: حسبنا كتاب الله، فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار فبعضهم، يقول القول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعضهم يقول: القول ما قال عمر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد كثر اللغط، وعلت الأصوات: (قوموا عنّي فما ينبغي لنبيّ أن يكون عنده هذا التنازع).
فهل بقي للنبوّة مزّية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين، وميل المسلمون بينهما، فرجّح قوم هذا، فليس ذلك دالاًّ على أنّ القوم سووا بينه وبين عمر، وجعلوا القولين مسألة خلاف، ذهب كلّ فريق إلى نصرة واحد منهما، كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام، فينصر قوم هذا، وينصر ذاك آخرون، فمن بلغت قوّته وهمّته إلى هذا كيف ينكر منه أنّه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها، ويعدل عن النص؟! ومن الذي كان ينكر عليه ذلك، وفي القول الذي قاله للرسول (صلى الله عليه وآله) في وجهه غير خائف من الأنصار، ولا ينكر عليه أحد، لا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا غيره، وهو أشدّ من مخالفة النصّ في الخلافة وأفظع وأشنع(43).
فهذه الحادثة وغيرها جعلت الأخ «حسن عليوي» يبحث عن الحقيقة، ويطالع كتب التاريخ عن كثب حتّى يصل إلى الحقّ والحقيقة، وكان دائماً يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى طريق الصواب، وبدأ بقرءاة بعض الكتب العقائدية ككتاب «المراجعات»، و«النصّ والاجتهاد» للسيّد شرف الدين، و«الفصول المهمّة في أصول الأئمّة» للحر العاملي وكتب التيجاني وغيرها.
وبعد صراع بين الحقائق والأوهام بفضل الله تعالى اهتدى إلى نور مذهب أهل البيت" (وَمَن يَهدِ اللّهُ فَهُوَ المُهتَدِ وَمَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لَهُم أَولِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحشُرُهُم يَومَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِم عُميًا وَبُكمًا وَصُمًّا مَّأوَاهُم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَت زِدنَاهُم سَعِيرًا) (الإسراء:97).
-------------------------------------------------------------------
الهامش:
(1) صحيح البخاري 1: 36 -37 و5: 137 - 138.
(2) صحيح البخاري 7: 9، صحيح مسلم 5: 76، مسند أحمد بن حنبل 1: 336.
(3) شرح نهج البلاغة 6: 51.
(4) شرح نهج البلاغة 6: 51.
(5) صحيح البخاري 4: 31.
(6) نقله السيّد عبد الحسين شرف الدين عن مفتي الحنفية في صورة الشيخ أبو سليمان الحاج داود الدادا: هامش كتابه النصّ والاجتهاد: 151.
(7) صحيح مسلم 5: 76، مسند أحمد بن حنبل 1: 355، تاريخ الطبري 2: 436، كتاب سليم بن قيس الهلالي: 234.
الغيبة: 84، مناقب آل أبي طالب 1: 202 بحار الأنوار 22: 472، 498، غاية المرام 6: 99، الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 534.
(8) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192، بحار الأنوار 30: 538.
(9) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192.
(10) فتح الباري 8: 101، الطبقات الكبرى 2: 242.
(11) غاية المرام 6: 100 و115.
(12) أوائل المقالات: 406، الرسالة السعدية: 79، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: 432، غاية المرام 6: 97، حلية الأبرار 2: 321، بحار الأنوار 30: 466، 513، 535، شرح أصول الكافي 7: 241، الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة: 224، كشف الغمة 2: 47، كشف اليقين: 472، الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 534، إحقاق الحقّ: 236، 264، 280، 284، مستدرك سفينة البحار 9: 30.
(13) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3: 100.
(14) الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 284.
(15) شرح أصول الكافي 12: 413، الأربعين في إمامة الأئمّة الطاهرين: 284.
(16) تاريخ ابن خلدون 2: ق2، 62، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192، بحار الأنوار 30: 538.
(17) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192.
(18) عمدة القاري 14: 298.
(19) صحيح البخاري 4: 66، عمدة القاري 15: 90، أمتاع الاسماع 2: 132، ج14، ص449، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 192.
(20) صحيح البخاري 5: 137، صحيح مسلم 5: 75، مسند أحمد بن حنبل 1: 222، السنن الكبرى 3: 434، ح5854، عمدة القاري 18: 61، المصنف 6: 57، ح9992، و ج10، ص361، ح19371، مسند الحميدي 1: 241، ح525، الطبقات الكبرى 2: 242، تاريخ الطبري 2: 436، البداية والنهاية 5: 247، الفائق في غريب الحديث 3: 391 مادة (هجو)، شرح نهج البلاغة 2: 55 و ج13، ص31، نصب الراية 4: 343، امتاع الاسماع 14: 447، السيرة النبوية لابن كثير 4: 450، سبل الهدى والرشاد 12: 247.
(21) الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين: 534.
(22) المعجم الأوسط 5: 287 - 288، كنز العمّال 5: 644، ح14133.
(23) مجمع الزوائد 4: 215.
(24) الطبقات الكبرى 2: 244 - 245.
(25) مسند أحمد بن حنبل 1: 293.
(26) الطبقات الكبرى 2: 243.
(27) الطبقات الكبرى 2: 244.
(28) شرح نهج البلاغة 6: 51.
(29) انظر النساء (4): 59، المائدة (5): 92، الأنفال (8): 1 و20، النور (24): 54، محمّد (47: 33، المجادلة (58): 13، التغابن (64): 12.
(30) الكافي 2: 671.
(31) معاني الأخبار: 81.
(32) الطبقات الكبرى 2: 243.
(33) المحاسن 1: 268، ح355.
(34) الكافي 8: 312.
(35) شرح نهج البلاغة 12: 20.
(36) شرح نهج البلاغة 12: 78 - 79.
(37) نسيم الرياض 4: 325.
(38) عمدة القاري 2: 171.
(39) شرح نهج البلاغة 1: 183.
(40) شرح نهج البلاغة 2: 27.
(41) وهو استاد ابن أبي الحديد المعتزلي قال عنه: «ولم يكن إمامي المذهب، ولا كان يبرأ من السلف، ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة، ولكنّه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه على أن العلوي لو كان كرامياً لابدّ أن يكون عنده نوع من تعصّب وميل على الصحابة وإن قل»، شرح نهج البلاغة 12: 90.
(42) شرح نهج البلاغة 12: 87.
(43) شرح نهج البلاغة 12: 87 - 88.
تعليق