قصَّة أصحابِ الفِيل
تتمّيز هذه الاُقصوصة أو الحكاية بجملة سمات ، منها: أ نّها تتمحّض للسرد الخالص ، أي لا تتوكّأ على عنصر المحاورة و منها: طغيان العنصر الحيواني بالنسبة إلى أبطالها ، كالفيل و كالطير . و منها: وحدة ضمير السرد و هو الغائب . . . و سنجد أنّ لهذه السمات أثرها في الصياغة الجمالية و الدلالية للحكاية . المهمّ يمكن الذهاب إلى أنّ اُقصوصة أصحاب الفيل وُزِّعت في سورتين قصيرتين ، هما: سورة الفيل و سورة الإيلاف .و لهذا التوزيع في سورتين ـ مع أ نّهما تـتناولان حادثةً قصصيةً واحدة ـ دلالة فنّية سنوضحها في تضاعيف دراستنا لهذه القصة .
لكن الملاحظ أنّ المشرّع الإسلامي يُطالبنا بدمج هاتين السورتين و قراءتهما في الصلاة بمثابة سورة واحدة ، . . . و مثلهما سورتا الضحى و ألم نشرح .و هذه المُطالبة من قبل المشرّع الإسلامي ، تُلقي بعضاً من الإنارة الفنّية دون أدنى شك ، . . . فمادامت السورتان تُقرءان بمثابة سورة واحدة في الصلاة ، فهذا يعني أنّ هناك وحدة أو خطوطاً مشتركة تجمع بين السورتين ، من الممكن أن يجهل الدارسُ أسرار ذلك تكوينياً ، لكنّه من الناحية الفنّية يمكنه أن يُدرك بسهولة بعض أسرار الفنّ القصصي ، مادام الأمر يتصل بحادثة واحدة هي محاولة هجوم أبرهة على مكّة ، و استهدافه هدم الكعبة ، ثمّ فَشَلُ هذا الهجوم و إبادة جيشه ، وصِلة اُولئك جميعاً بطبقة اجتماعية في مكة ، هي قريش ، و موقفها من ثمّ من رسالة الإسلام .و المهم: أنّ كلاّ من وحدة السورتين و انفصالهما له دلالته الفنّية التي سنتحدّث عنها لاحقاً .
و لكن قبل ذلك ، لنقرأ النص القصصي أوّلا:﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ﴾﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ﴾﴿أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل﴾﴿وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ﴾﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل﴾﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول﴾﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ﴾﴿لإِيلافِ قُرَيْش﴾﴿إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ﴾﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ﴾﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْف﴾
و الآن ، لِنتقدّم إلى تلخيص القصة قبل الرجوع إلى النصوص المفسّرة . فماذا يُمكننا بصفتنا قرّاء قصة فنّية أن نستخلص منها: أبطالا و حوادثَ و مواقفَ ؟* * *النص القصصي يقول لنا: إنّ هناك رهطاً أو مجموعةً ، هم أصحاب الفيل ، و إلى أنّ كيدَهم رُدّ إلى نحورهم ، متمثّلا في إرسال السماء عليهم أسراباً من الطيور تقذفهم بحجارة صلبة ، حتّى تقطّعت أوصالُهم ، فأصبحت مثل الزرع الذي أكلته الدواب ، وَرَاثَتهُ ، و داست عليه .
و كلّ ذلك من أجل إسباغ النعمة على قوم هم قريش . . . مُضافاً إلى أنّ قُرَيشاً قد اُسبِغَت عليهم نعمة اُخرى هي: تهيئة رحلات تجارية لهم في الشتاء و الصيف لتأمين الراحة لهم ، حتّى لا يصيبهم جوع و لا يهدّد أمنَهم أي خوف من الأعداء الذين يُغيرون عليهم .إلى هنا فإنّ القارئ لهذه القصة بمقدوره أن يستخلص بأنّ القضية تـتصل بقوم قريش و بالكعبة التي يعيش هؤلاء القومُ في ظلّها .
إنّه ـ أي القارئ ـ لايمكنه أن يعرف من ظاهر القصة سوى أنّ هناك هجوماً من الأعداء هم أصحاب الفيل ، و أ نّهم قصدوا البيت الحرام ، فأبيدوا . و إلى أنّ قُريشاًأمنت حياتها مِن ذلك .مضافاً إلى تأمين حياتها الاقتصادية من خلال رحلة الشتاء و الصيف . فيما يتعيّن عليهم أن يقّدروا هذه النِعَمَ التي اغدقها اللّه عليهم و أن يعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و أَمَنهم من خوف .خارجاً عن ذلك ، فإنّ القارئ يجهل كلّ التفاصيل المتّصلة بأسباب الهجوم و بتحديد هوية المُهاجمين ، و تحديد علاقة الشخصية الحيوانية الفيل بهؤلاء المهاجمين . . .كما يجهل القارئ رحلتي الشتاء و الصيف و تفصيلاتهما المتصلة بحادثة الهجوم .
غير أنّ جهل القارئ بهذه التفصيلات لا يمنعه من استخلاص الدلالة الفكرية للقصة التي تستهدف لفت الانتباه إلى أنّ نِعَمَ اللّه لا تعدّ و لا تحصى ، و إلى أ نّه سبحانه و تعالى يقف بالمرصاد لكلّ من يعتزم إلحاق السوء بمواطن العبادة ، و إلى أنّ تقدير هذه النِعَمَ ينبغي ألاّ يغيب عن ذاكرة اُولئك الذين أحاطوا بالبيت . . .
هذه الدلالة الفكرية واضحة كلّ الوضوح ، ممّا تفسّر لنا عدم دخول القصة في تفصيلات فنّية تـتكفّل النصوص المفسّرة بتوضيحها ، مثلما تـتكفّل خبراتُ القارئ و تجاربُه باستخلاصها ، حتّى تُحقّق للقارئ المتعةَ الفنّية التي يكتشفها كلٌّ منّا خلال قراءته لهذه النصوص القصصية العظيمة .إذن لِنتّجه إلى نصوص التفسير ، و مساهمة القُرّاء في الكشف عن المزيد من التفصيلات الفنّية و الفكرية للقصة .
* * *تقول النصوص المفسّرة: إنّ أبرهة حاكم اليمَن و هو حبشي ، بدافع من عقيدته الملتوية و أسباب اُخرى لا يعنينا عَرضُها ، قرّر هدم البيت الحرام ، فزحف بجيشه الذي تقدّمه فيلٌ ـ كان الحاكمُ يباهي به الآخرين ـ زحفَ نحو مكّة ، إلاّ أنّ الفيل ربَضَ و امتنع من الدخول .و كانت هذه الحادثة أوّل مؤشّر لفشل الهجوم .بيد أنّ قريشاً فيما يبدو هالهم هذا الزحف ، فالتجأوا إلى رؤوس الجبال قائلين:
لا طاقة لنا بقتال هؤلاء .و هذه الحادثة على العكس من سابقتها تظلّ مؤشّراً لأوّل وهلة و كأنّ الزحف محفوف بالنصر .
و هناك حادثة ثالثة رافقت هذه العملية ، و هي: أنّ الجيش استولى على إبل عبدالمطلب الذي بقي هو و بعض الأفراد على حراسة البيت الحرام . و حيال هذه الحادثة طالب عبدُالمطلب أبرهة بردّ إبله ، ممّا ترك ردّ فعل سلبي في أعماق أبرهة قائلا له بما مؤدّاه: كنت أتخيّل إنّك تطالبني بالكفّ عن الكعبة ، و إذا بك تطالبني بمكاسب شخصيّة . و عندها أجابه عبدالمطلب بما مؤدّاه: إنّ للبيت ربّاً يحميه .
هذه الإجابة تشكل بدورها مؤشّراً لفشل الهجوم ، مادامت القضية قد ارتبطت بربّ البيت .و هناك تفصيلات اُخرى عن عملية الهجوم و مقدّماته و ملابساته تذكرها نصوص التفسير ، لا يعنينا منها إلاّ مؤشّراتها التي تدلّ من جانب على أنّ الهجوم سيواكبه الفشل ، و إلى أنّ القريشيين من جانب آخر لم يُساهموا في ردّ العدوان ، بقدر ما تمثّل الردّ في تدخّل السماء ، و حسمها للأمر على نحو ما فصّلته القصة .و ممّا تجدر ملاحظته ، أنّ هذه التفصيلات التي حذفتها القصة لا تؤثّر على دلالتها الجوهرية التي قلنا: إنّ القصة ألمحت إليها فنّياً حينما تحدّثت فحسب عن قريش ، و عن ردّ الهجوم ، و عن عناية السماء بعامّة بالبيت و ممّن يحيطون به .و مع ذلك ينبغي ألاّ يفوتنا دلالاتها التي أشرنا إليها: مِن رَبض الفيل ، و إجابة عبدالمطلب ، و هروب قريش إلى رؤوس الجبال . . . إلى آخره ، لأ نّها جميعاً تدلّنا على أنّ حماية السماء تحسم المشكلة أساساً ، و إلى أنّ تقدير و تثمين هذه الحماية ، مشفوعةً بِنِعَم الأمن و الشبع ، ينبغي أن تـتوفّر عليه قريش في تعاملها مع اللّه . . . و بخاصة أنّ مكة تشهد أحداثاً و وقائع تـتصل برسالة الإسلام التي بشّر بها محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) و موقف قريش بالذات من هذه الرسالة .
إذن قريش و موقفها الجديد من رسالة الإسلام ، هي المحطّ الذي ستنتهي القصةُ إليه على نحو ما سنلحظه .بدأت قصة أصحاب الفيل برسم الفشل الذي رافق حملة أبرهة على الكعبة .بيد أنّ فَشَل هذه الحملة لم يتم على يد أبطال آدميين توجّهوا إلى ساحة القتال لردّ العدوان ، بل تمّ على أكُفّ و أجنحةِ و مناقير و أنياب أبطال ينتسبون إلى عضوية اُخرى هي: الطير .و الطيور بصفتهم أبطالا في القصة ، لم يمارسوا أدواراً محدّدة لهم في هذه القصة فحسب ، بل مارسَ هؤلاء الأبطال أدواراً كثيرة متنوّعة في قصص اُخرى ، . . .
و في مقدّمتها داود و سليمان ، . . . فهُم حيناً ـ أي الطيور ـ بصفتهم أبطالا يُشاركون الآدميين في ممارسات عبادية لفظية و تأمليّة مثل التسبيح و التأويب في قصص داود . . . و هم حيناً يمارسون نشاطاً إعمارياً ، أو سياسياً أو عسكرياً ، كما هو شأنهم في قصص سليمان (عليه السلام) . . . و هم حيناً يمارسون هذه الألوان من النشاط بنحو مشترك بينهم وبين الآدميين ، كما في قصص سليمان . . . و حيناً آخر يمارسون نشاطاً مستقلا عن الآدميين ، كما هو شأنهم في قصة أصحاب الفيل .
لقد توجّه هؤلاء الأبطال ، أي الطيور إلى ساحة المعركة بناءً على أوامر السماء . . .هذه الساحة لم تكن أرضاً ، بل كانت جوّاً .و كما أنّ أبطال المعركة لم يكونوا بشراً ، بل طيراً .كذلك لم تكن ساحتُهم أرضاً ، بل جوّاً . . .و أسلحتهم أيضاً لم تكن عاديةً أو مألوفةً ، بل كانت من السلاح الغريب أيضاً .
إنّه الحجارة . . .إذن نحن الآن أمام أبطال ، و ساحة ، و سلاح من نوع خاص ، . . . من نوع يتّسم بما هو غريبٌ و مدهشٌ و معجزٌ . . .و إذا كان الأمر كذلك ، حينئذ نتوقّع أن يكون سيرُ المعارك مُثيراً كلّ الإثارة أيضاً ، . . . إنّها معركة لم تألفها الأذهان ، و لم تشاهدها العيون . . . معركة مُثيرة تدفعنا بفضول و نهم و شوق و تطلّع إلى معرفة تفصيلاتها الداعية إلى الدهشة و العجب . . .فإلى تفصيلاتها . . .
* * *يتبــــــــــــــــــــــــــــــع
تتمّيز هذه الاُقصوصة أو الحكاية بجملة سمات ، منها: أ نّها تتمحّض للسرد الخالص ، أي لا تتوكّأ على عنصر المحاورة و منها: طغيان العنصر الحيواني بالنسبة إلى أبطالها ، كالفيل و كالطير . و منها: وحدة ضمير السرد و هو الغائب . . . و سنجد أنّ لهذه السمات أثرها في الصياغة الجمالية و الدلالية للحكاية . المهمّ يمكن الذهاب إلى أنّ اُقصوصة أصحاب الفيل وُزِّعت في سورتين قصيرتين ، هما: سورة الفيل و سورة الإيلاف .و لهذا التوزيع في سورتين ـ مع أ نّهما تـتناولان حادثةً قصصيةً واحدة ـ دلالة فنّية سنوضحها في تضاعيف دراستنا لهذه القصة .
لكن الملاحظ أنّ المشرّع الإسلامي يُطالبنا بدمج هاتين السورتين و قراءتهما في الصلاة بمثابة سورة واحدة ، . . . و مثلهما سورتا الضحى و ألم نشرح .و هذه المُطالبة من قبل المشرّع الإسلامي ، تُلقي بعضاً من الإنارة الفنّية دون أدنى شك ، . . . فمادامت السورتان تُقرءان بمثابة سورة واحدة في الصلاة ، فهذا يعني أنّ هناك وحدة أو خطوطاً مشتركة تجمع بين السورتين ، من الممكن أن يجهل الدارسُ أسرار ذلك تكوينياً ، لكنّه من الناحية الفنّية يمكنه أن يُدرك بسهولة بعض أسرار الفنّ القصصي ، مادام الأمر يتصل بحادثة واحدة هي محاولة هجوم أبرهة على مكّة ، و استهدافه هدم الكعبة ، ثمّ فَشَلُ هذا الهجوم و إبادة جيشه ، وصِلة اُولئك جميعاً بطبقة اجتماعية في مكة ، هي قريش ، و موقفها من ثمّ من رسالة الإسلام .و المهم: أنّ كلاّ من وحدة السورتين و انفصالهما له دلالته الفنّية التي سنتحدّث عنها لاحقاً .
و لكن قبل ذلك ، لنقرأ النص القصصي أوّلا:﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ﴾﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ﴾﴿أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل﴾﴿وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ﴾﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجارَة مِنْ سِجِّيل﴾﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول﴾﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ﴾﴿لإِيلافِ قُرَيْش﴾﴿إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ﴾﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ﴾﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْف﴾
و الآن ، لِنتقدّم إلى تلخيص القصة قبل الرجوع إلى النصوص المفسّرة . فماذا يُمكننا بصفتنا قرّاء قصة فنّية أن نستخلص منها: أبطالا و حوادثَ و مواقفَ ؟* * *النص القصصي يقول لنا: إنّ هناك رهطاً أو مجموعةً ، هم أصحاب الفيل ، و إلى أنّ كيدَهم رُدّ إلى نحورهم ، متمثّلا في إرسال السماء عليهم أسراباً من الطيور تقذفهم بحجارة صلبة ، حتّى تقطّعت أوصالُهم ، فأصبحت مثل الزرع الذي أكلته الدواب ، وَرَاثَتهُ ، و داست عليه .
و كلّ ذلك من أجل إسباغ النعمة على قوم هم قريش . . . مُضافاً إلى أنّ قُرَيشاً قد اُسبِغَت عليهم نعمة اُخرى هي: تهيئة رحلات تجارية لهم في الشتاء و الصيف لتأمين الراحة لهم ، حتّى لا يصيبهم جوع و لا يهدّد أمنَهم أي خوف من الأعداء الذين يُغيرون عليهم .إلى هنا فإنّ القارئ لهذه القصة بمقدوره أن يستخلص بأنّ القضية تـتصل بقوم قريش و بالكعبة التي يعيش هؤلاء القومُ في ظلّها .
إنّه ـ أي القارئ ـ لايمكنه أن يعرف من ظاهر القصة سوى أنّ هناك هجوماً من الأعداء هم أصحاب الفيل ، و أ نّهم قصدوا البيت الحرام ، فأبيدوا . و إلى أنّ قُريشاًأمنت حياتها مِن ذلك .مضافاً إلى تأمين حياتها الاقتصادية من خلال رحلة الشتاء و الصيف . فيما يتعيّن عليهم أن يقّدروا هذه النِعَمَ التي اغدقها اللّه عليهم و أن يعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع و أَمَنهم من خوف .خارجاً عن ذلك ، فإنّ القارئ يجهل كلّ التفاصيل المتّصلة بأسباب الهجوم و بتحديد هوية المُهاجمين ، و تحديد علاقة الشخصية الحيوانية الفيل بهؤلاء المهاجمين . . .كما يجهل القارئ رحلتي الشتاء و الصيف و تفصيلاتهما المتصلة بحادثة الهجوم .
غير أنّ جهل القارئ بهذه التفصيلات لا يمنعه من استخلاص الدلالة الفكرية للقصة التي تستهدف لفت الانتباه إلى أنّ نِعَمَ اللّه لا تعدّ و لا تحصى ، و إلى أ نّه سبحانه و تعالى يقف بالمرصاد لكلّ من يعتزم إلحاق السوء بمواطن العبادة ، و إلى أنّ تقدير هذه النِعَمَ ينبغي ألاّ يغيب عن ذاكرة اُولئك الذين أحاطوا بالبيت . . .
هذه الدلالة الفكرية واضحة كلّ الوضوح ، ممّا تفسّر لنا عدم دخول القصة في تفصيلات فنّية تـتكفّل النصوص المفسّرة بتوضيحها ، مثلما تـتكفّل خبراتُ القارئ و تجاربُه باستخلاصها ، حتّى تُحقّق للقارئ المتعةَ الفنّية التي يكتشفها كلٌّ منّا خلال قراءته لهذه النصوص القصصية العظيمة .إذن لِنتّجه إلى نصوص التفسير ، و مساهمة القُرّاء في الكشف عن المزيد من التفصيلات الفنّية و الفكرية للقصة .
* * *تقول النصوص المفسّرة: إنّ أبرهة حاكم اليمَن و هو حبشي ، بدافع من عقيدته الملتوية و أسباب اُخرى لا يعنينا عَرضُها ، قرّر هدم البيت الحرام ، فزحف بجيشه الذي تقدّمه فيلٌ ـ كان الحاكمُ يباهي به الآخرين ـ زحفَ نحو مكّة ، إلاّ أنّ الفيل ربَضَ و امتنع من الدخول .و كانت هذه الحادثة أوّل مؤشّر لفشل الهجوم .بيد أنّ قريشاً فيما يبدو هالهم هذا الزحف ، فالتجأوا إلى رؤوس الجبال قائلين:
لا طاقة لنا بقتال هؤلاء .و هذه الحادثة على العكس من سابقتها تظلّ مؤشّراً لأوّل وهلة و كأنّ الزحف محفوف بالنصر .
و هناك حادثة ثالثة رافقت هذه العملية ، و هي: أنّ الجيش استولى على إبل عبدالمطلب الذي بقي هو و بعض الأفراد على حراسة البيت الحرام . و حيال هذه الحادثة طالب عبدُالمطلب أبرهة بردّ إبله ، ممّا ترك ردّ فعل سلبي في أعماق أبرهة قائلا له بما مؤدّاه: كنت أتخيّل إنّك تطالبني بالكفّ عن الكعبة ، و إذا بك تطالبني بمكاسب شخصيّة . و عندها أجابه عبدالمطلب بما مؤدّاه: إنّ للبيت ربّاً يحميه .
هذه الإجابة تشكل بدورها مؤشّراً لفشل الهجوم ، مادامت القضية قد ارتبطت بربّ البيت .و هناك تفصيلات اُخرى عن عملية الهجوم و مقدّماته و ملابساته تذكرها نصوص التفسير ، لا يعنينا منها إلاّ مؤشّراتها التي تدلّ من جانب على أنّ الهجوم سيواكبه الفشل ، و إلى أنّ القريشيين من جانب آخر لم يُساهموا في ردّ العدوان ، بقدر ما تمثّل الردّ في تدخّل السماء ، و حسمها للأمر على نحو ما فصّلته القصة .و ممّا تجدر ملاحظته ، أنّ هذه التفصيلات التي حذفتها القصة لا تؤثّر على دلالتها الجوهرية التي قلنا: إنّ القصة ألمحت إليها فنّياً حينما تحدّثت فحسب عن قريش ، و عن ردّ الهجوم ، و عن عناية السماء بعامّة بالبيت و ممّن يحيطون به .و مع ذلك ينبغي ألاّ يفوتنا دلالاتها التي أشرنا إليها: مِن رَبض الفيل ، و إجابة عبدالمطلب ، و هروب قريش إلى رؤوس الجبال . . . إلى آخره ، لأ نّها جميعاً تدلّنا على أنّ حماية السماء تحسم المشكلة أساساً ، و إلى أنّ تقدير و تثمين هذه الحماية ، مشفوعةً بِنِعَم الأمن و الشبع ، ينبغي أن تـتوفّر عليه قريش في تعاملها مع اللّه . . . و بخاصة أنّ مكة تشهد أحداثاً و وقائع تـتصل برسالة الإسلام التي بشّر بها محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) و موقف قريش بالذات من هذه الرسالة .
إذن قريش و موقفها الجديد من رسالة الإسلام ، هي المحطّ الذي ستنتهي القصةُ إليه على نحو ما سنلحظه .بدأت قصة أصحاب الفيل برسم الفشل الذي رافق حملة أبرهة على الكعبة .بيد أنّ فَشَل هذه الحملة لم يتم على يد أبطال آدميين توجّهوا إلى ساحة القتال لردّ العدوان ، بل تمّ على أكُفّ و أجنحةِ و مناقير و أنياب أبطال ينتسبون إلى عضوية اُخرى هي: الطير .و الطيور بصفتهم أبطالا في القصة ، لم يمارسوا أدواراً محدّدة لهم في هذه القصة فحسب ، بل مارسَ هؤلاء الأبطال أدواراً كثيرة متنوّعة في قصص اُخرى ، . . .
و في مقدّمتها داود و سليمان ، . . . فهُم حيناً ـ أي الطيور ـ بصفتهم أبطالا يُشاركون الآدميين في ممارسات عبادية لفظية و تأمليّة مثل التسبيح و التأويب في قصص داود . . . و هم حيناً يمارسون نشاطاً إعمارياً ، أو سياسياً أو عسكرياً ، كما هو شأنهم في قصص سليمان (عليه السلام) . . . و هم حيناً يمارسون هذه الألوان من النشاط بنحو مشترك بينهم وبين الآدميين ، كما في قصص سليمان . . . و حيناً آخر يمارسون نشاطاً مستقلا عن الآدميين ، كما هو شأنهم في قصة أصحاب الفيل .
لقد توجّه هؤلاء الأبطال ، أي الطيور إلى ساحة المعركة بناءً على أوامر السماء . . .هذه الساحة لم تكن أرضاً ، بل كانت جوّاً .و كما أنّ أبطال المعركة لم يكونوا بشراً ، بل طيراً .كذلك لم تكن ساحتُهم أرضاً ، بل جوّاً . . .و أسلحتهم أيضاً لم تكن عاديةً أو مألوفةً ، بل كانت من السلاح الغريب أيضاً .
إنّه الحجارة . . .إذن نحن الآن أمام أبطال ، و ساحة ، و سلاح من نوع خاص ، . . . من نوع يتّسم بما هو غريبٌ و مدهشٌ و معجزٌ . . .و إذا كان الأمر كذلك ، حينئذ نتوقّع أن يكون سيرُ المعارك مُثيراً كلّ الإثارة أيضاً ، . . . إنّها معركة لم تألفها الأذهان ، و لم تشاهدها العيون . . . معركة مُثيرة تدفعنا بفضول و نهم و شوق و تطلّع إلى معرفة تفصيلاتها الداعية إلى الدهشة و العجب . . .فإلى تفصيلاتها . . .
* * *يتبــــــــــــــــــــــــــــــع
تعليق