بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو الفرع كريم من الأصل العظيم ،
إنّه الحسين بن علي (عليهما السّلام) ومحنته الكبرى في هذه الأُمّة ، ودماؤه الزكية وأبناؤه وإخوته وأصحابه من الشهداء الذين كُتب الإسلام بدمائهم على صفحات الوجود .
فما هو موقف السلفية والوهابيّة من هذا الإمام العظيم ، وشهادته المفجعة على بطاح كربلاء ؟
المولى أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) الذي قال الله عنه الكثير من آيات القرآن المجيد ، وقال عنه جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الكثير الكثير من الأحاديث التي
تجعل من الإمام (عليه السّلام) : (( مصباح هدى وسفينة نجاة ))(1) و ( سيّد شباب أهل الجنّة )(2) و ( ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقرّة عين البتول )(3) و ( الإمام إن قام وإن قعد ) .
وقد تقدّم في القسم الأوّل ـ المناقب والأخلاق الحسينيّة ـ بعض الإشارات التي لاحت لنا من نوره الوضّاء ، واستطعنا أن نستفيد منها لا سيما ما يتعلّق بالأخلاق والقيم الإنسانيّة الإسلاميّة التي مثّلها الإمام (عليه السّلام) بشخصه الكريم في حياة المسلمين على أرض الواقع .
وأهل الإنصاف من كلِّ نِحلة ودين ودنيا عندما يقرؤون عن الحسين بن علي (عليه السّلام) ، وما جرى عليه من مصائب وأهوال حتّى قُتل شهيداً مظلوماً سعيداً ، راضياً مرضيّاً عند الله ورسوله ، يتأثّرون بتضحياته الجسام ويتّخذونه قدوة وأسوة .
فكم من مسيحي تأثّر بالإمام الحسين (عليه السّلام) وكتب عنه الدراسات والمؤلّفات ، كأنطون بارا وسليمان الكتاني ، وغيرهما من علماء النصارى حتّى قال قائلهم : لو أنّ لنا شخصاً كالإمام الحسين (عليه السّلام) لصنعنا له تمثالاً من ذهب نضعه في مدخل كلّ قرية .
وقال آخر : بل لوضعناه في كلّ بيت ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم الحسين (عليه السّلام) المظلوم(4) .
وكم من الثوار استفاد من سيرة وسنّة الإمام (عليه السّلام) في تحرير بلدانهم ، ألم يقل المهاتما غاندي محرّر الهند من الاستعمار البريطاني : ( تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ) ؟!
وأمّا علماء الإسلام من مختلف المذاهب فإنّ حصر الكتب التي كتبوها عن الإمام السبط الشهيد متعذّر وليس بالمقدور ؛ ذلك لأنّ ما لم يطبع أكثر من المطبوع ، والمجهول منها أكثر من المعلوم ، ورغم كلّ ذلك فإنّ المكتبات تضجّ بالكتب عن سيد الشهداء وأبي الأحرار الحسين بن علي (عليه السّلام) .
رغم ذلك كلّه ورغم كلّ الآيات التي شملت الإمام (عليه السّلام) ، والأحاديث التي رويت في الإمام الشهيد ، وأقوال العلماء من كلّ الأديان والأمم وبكلّ لسان ، رغم ذلك كلّه فعند السلفية : أنّه قُتل بسيف جدّه
نعم ، إنّها فتوى قاضي القضاة لعشرات السنوات ، إنّه شريح القاضي هو الذي أطلق تلك الفتوى ليُرضي سيّده يزيد ( لعنة الله عليه ) ، ويُغضب الربّ الجليل وسيّد الخلق (صلّى الله عليه وآله) حين قال : إنّ الحسين قُتل بسيف جدّه .
وكذلك ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتابه ( العواصم من القواصم ) إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قُتل بسيف جدّه وشريعته(5) .
وكم طبع هذا الكتاب ووزّع في الأسواق بالمجان وبلا أثمان ؛ لما فيه من التعصّب المقيت
والتهجّم على أهل البيت (عليهم السّلام) وأتباعهم بلا ذنب ولا سبب .
وذلك ـ على ما يدّعي ـ لأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) خرج على الخليفة الحاكم ، وهو لا يستحق الخلافة ، وليس للإمامة أهلاً ـ والعياذ بالله ـ ، فثار على يزيد وسلطانه فقتله ؛ لأنّه أراد الفتنة بالأُمّة ، وهذا حكمه القتل والتنكيل .
فبالحكم الشرعي الذي ينصّ على وجوب قتل الخارج على الخليفة قُتل الإمام السبط الشهيد (عليه السّلام ) ، ويزيد لم يفعل إلاّ واجبه بقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه !
ولن نطيل الكلام في هذا المقام ، بل سأنقل لك أيّها القارئ الكريم فقرات وكلمات من شيخ الإسلام السلفي ابن تيمية ، رأس الجماعة وعالمهم ، وآراءه في النهضة الحسينيّة المباركة ، ورموز أعدائها يزيد وجيشه ؛ لتعلم مدى تعلّق هؤلاء الناس بالدين الإسلامي الحنيف ورموزه المقدّسة .
فما عساه يقول ابن تيمية في النهضة وقائدها العظيم سيد شباب أهل الجنة (عليه السّلام) ؟
بادئ ذي بدء نتذكّر كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) التي يعرب فيها عن فلسفته في المسألة وأسبابها ودوافعها وما الذي يريده منها .
قال المولى أبو عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في البيان الأوّل للنهضة أمام والي المدينة ووزيره مروان بن الحكم ، حين أمر الوليد أن يضرب عنق الإمام إن لم يبايع : (( أيّها الأمير ، إنّا أهلُ بيت النبوّة ، ومعدنُ الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلُّ الرّحمة ، بنا فتح الله وبنا يختمُ ، ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ ، شاربُ الخمور ، وقاتلُ النّفس
المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يُبايع مثله ، ولكن نُصبح وتُصبحون ، وننظرُ وتنظرون أيُّنا أحقُّ بالخلافة والبيعة ))(6) .
هذا هو البيان النهضوي الأوّل وفيه : رفض البيعة لمثل يزيد الفاسق الفاجر .
والإمام السبط الشهيد عندما أراد الخروج من المدينة قاصداً مكة المكرّمة في أيّام الحجّ ، كتب وصيته لأخيه محمد بن الحنفية ، ويا لها من وصية نورانيّة رائعة يقول فيها (عليه السّلام) : (( وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مُفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ، أُريدُ أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب ، فمَنْ قبلني بقبول الحقِّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردَّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين ))(7) .
فالإمام الحسين (عليه السّلام) خرج على يزيد ليس لأنّه حاكم الدولة الإسلاميّة ، لا بل لأنّه فاسق فاجر ، ولا يمكن أن يكون مثلُه حاكماً للمسلمين ؛ لأنّه بعيد كلّ البعد عن الإسلام وعن أخلاقيّاته وعقائده السمحة .
ولم يخرج نزهة بسبب الترف والرفاهيّة ، ولا طمعاً في الحكم والرئاسة ، بل كان الهدف سامياً ، والغاية نبيلة ، والمطلوب عمل دؤوب ودماء زاكيات تسيل ، وأجساد طاهرة تُقطّع ، وستور وخدور تُنتهك
وذلك كلّه لطلب الإصلاح لهذه الأُمّة التي عدلت بها بنو أُميّة عن جادة الصّواب إلى السبل الشيطانيّة المختلفة ، وكان التدهور قد وصل إلى أن تسنّم كرسي القيادة العليا مثل يزيد الخارج عن الإسلام ، بل هو إلى دين أُمّه أقرب وإلى طباعهم أنسب .
فأُمّة الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وآله) غدت مهدَّدة بالاضمحلال ، وديانته أصبحت مهدَّدة بالانحلال إذا لم يخرج الحسين مُعلناً الرفض لهذا الحاكم العنيد والطاغية يزيد الذي زاد على كلّ الأعمال الخبيثة التي قام بها أبوه وجدّه من قبل في محاربة الإسلام ورسوله (صلّى الله عليه وآله) .
ولكنّ المصيبة عند السلفية والوهابيّة تكمن هنا بالضبط ، وبالذّات قول الإمام (عليه السّلام) : (( وأسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب )) ؛ لأنّهم لا يريدون لسيرة وسنّة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أن تكون هي السائدة ، ولا لكلمته أن تكون هي العليا في الحياة الإسلاميّة ، مع أنّ ذلك لأجل الحقّ تعالى ، وهل بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين !
وكثيراً ما خطب الإمام الحسين (عليه السّلام) خلال مسيرته المظفَّرة ووعظ الناس ، ونبّه الأُمّة إلى المخاطر المحدقة بها من حكومة يزيد ، وها هي بعض الكلمات التي قالها الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام جيش يزيد ؛ ليعتذر إلى الله بقيام الحجّة عليهم : (( أيُّها الناس ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : مَنْ رأى سُلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً بعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يعملُ في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء ( بنو أُميّة وأزلامهم ) قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ،
وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقُّ مَنْ غيّر ... ))(8) .
تنبّه لخطاب المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه ينادي الناس ، أيّ الذين يتّصفون بالإنسانيّة ، وأمّا مَنْ تبلّد قلبه وتجلّد عقله فإنّ هذا النداء لا يخصّه ، كاُولئك الخوارج عن الإنسانيّة .
والإمام الحفيد يحدّث عن جدّه الرسول (صلوات الله عليهما وآلهما) مباشرة ودون وسائط كأبي هريرة الدوسي ، أو كعب الأحبار اليهودي ، أو غيره من المدلّسين ، أو الذين وقع عليهم الجرح والتعديل في علم الرجال ، بل سيّد شباب أهل الجنّة يروي عن سيّد البشر وخاتم الأنبياء (عليهم السّلام) هذه الرواية والتي تضعنا أمام شمس الحقيقة .
إنّ تحكّم سلطان جائر وجب على كلّ حرٍّ أن يكون ثائراً ؛ إمّا باليد والسيف ، أو الكلمة والقلم ، ولا مجال لأضعف الإيمان ( بالقلب ) إذا كانت بيضة الإسلام وشريعته مهدّدة بالانحراف والضياع .
وهذا بالضبط كان حال الأُمّة الإسلاميّة حين وصل بها السقوط والتسافل ؛ ليتسنم الحكم والقيادة السياسية شخص فاسد فاسق منافق كيزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ويسلّط زبانيته ورجاله الساقطين على هذه الأُمّة ويستهلكون مقدّراتها ؛ ولذا فقد وجب النهوض للإصلاح ، وحرم السكوت والخنوع ؛ لأنّ الأُمّة
والملّة يتهدّدها طغيان يزيد وجلاوزته من صبيان أُميّة اللعناء على لسان الوحي وسيّد الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين وآله الطاهرين) .
فمَنْ ينهض بهذا الواجب إلاّ المؤمن التقيّ ؟ ومَنْ يخنع للفاسق إلاّ الفاسق أو الجبان الشقيّ ؟ ولكن قد تسأل ماذا فعل صبيان أُميّة وزعيمهم يزيد ؟
الجواب يأتيك من بطل التوحيد الإمام الحسين الشهيد (سلام الله عليه) في الخطاب نفسه ، فقد كان من أفعال هؤلاء ما يلي :
1 ـ التزام طاعة الشيطان ، وقد أمروا أن يكفروا به ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا )(9) .
2 ـ ترك طاعة الرحمان : ( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )(10) .
3 ـ إظهار الفساد ، فالزعيم شاربٌ للخمر ، لاعبٌ بالقرد والنرد ، معلنٌ بالفسق .
4 ـ تعطيل الحدود ، كيف يقيمونها وهم جهلاء بها ، بل وهم أوّل المستحقين لإقامتها عليهم ؟!
5 ـ الاستئثار بالفيء ، فقد استهلكوا اقتصاد الأُمّة الذي فيه حياتها ورفاهها .
6 ـ أحلّوا حرام الله ؛ كالخمر ، والزنى ، والقتل ... وغيرها .
7 ـ حرّموا حلال الله .
ألا تكفي هذه البنود السبعة لمعرفة أحوال الجماعة في الديانة والتدين ؟
ـــــــــــــــــــــــ
1 ـ انظر الحسين في الكفر المسيحي / 24 .
2 ـ راجع : العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) / 229 ، طباعة السلفية ، القاهرة 1371 هـ .
3 ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم / 131 ، مثير الأحزان / 24 ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 / 184 ، الفتوح 5 / 14 .
4 ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم / 139 ، العوالم / 54 ، مقتل الخوارزمي 1 / 188 ، المناقب 4 / 89 ، الفتوح 5 / 23 .
5 ـ الكامل في التاريخ 4 / 48 .
6 ـ سورة فاطر / 6 .
7 ـ سورة الأنبياء / 92 .
هذا هو الفرع كريم من الأصل العظيم ،
إنّه الحسين بن علي (عليهما السّلام) ومحنته الكبرى في هذه الأُمّة ، ودماؤه الزكية وأبناؤه وإخوته وأصحابه من الشهداء الذين كُتب الإسلام بدمائهم على صفحات الوجود .
فما هو موقف السلفية والوهابيّة من هذا الإمام العظيم ، وشهادته المفجعة على بطاح كربلاء ؟
المولى أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) الذي قال الله عنه الكثير من آيات القرآن المجيد ، وقال عنه جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الكثير الكثير من الأحاديث التي
تجعل من الإمام (عليه السّلام) : (( مصباح هدى وسفينة نجاة ))(1) و ( سيّد شباب أهل الجنّة )(2) و ( ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقرّة عين البتول )(3) و ( الإمام إن قام وإن قعد ) .
وقد تقدّم في القسم الأوّل ـ المناقب والأخلاق الحسينيّة ـ بعض الإشارات التي لاحت لنا من نوره الوضّاء ، واستطعنا أن نستفيد منها لا سيما ما يتعلّق بالأخلاق والقيم الإنسانيّة الإسلاميّة التي مثّلها الإمام (عليه السّلام) بشخصه الكريم في حياة المسلمين على أرض الواقع .
وأهل الإنصاف من كلِّ نِحلة ودين ودنيا عندما يقرؤون عن الحسين بن علي (عليه السّلام) ، وما جرى عليه من مصائب وأهوال حتّى قُتل شهيداً مظلوماً سعيداً ، راضياً مرضيّاً عند الله ورسوله ، يتأثّرون بتضحياته الجسام ويتّخذونه قدوة وأسوة .
فكم من مسيحي تأثّر بالإمام الحسين (عليه السّلام) وكتب عنه الدراسات والمؤلّفات ، كأنطون بارا وسليمان الكتاني ، وغيرهما من علماء النصارى حتّى قال قائلهم : لو أنّ لنا شخصاً كالإمام الحسين (عليه السّلام) لصنعنا له تمثالاً من ذهب نضعه في مدخل كلّ قرية .
وقال آخر : بل لوضعناه في كلّ بيت ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم الحسين (عليه السّلام) المظلوم(4) .
وكم من الثوار استفاد من سيرة وسنّة الإمام (عليه السّلام) في تحرير بلدانهم ، ألم يقل المهاتما غاندي محرّر الهند من الاستعمار البريطاني : ( تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر ) ؟!
وأمّا علماء الإسلام من مختلف المذاهب فإنّ حصر الكتب التي كتبوها عن الإمام السبط الشهيد متعذّر وليس بالمقدور ؛ ذلك لأنّ ما لم يطبع أكثر من المطبوع ، والمجهول منها أكثر من المعلوم ، ورغم كلّ ذلك فإنّ المكتبات تضجّ بالكتب عن سيد الشهداء وأبي الأحرار الحسين بن علي (عليه السّلام) .
رغم ذلك كلّه ورغم كلّ الآيات التي شملت الإمام (عليه السّلام) ، والأحاديث التي رويت في الإمام الشهيد ، وأقوال العلماء من كلّ الأديان والأمم وبكلّ لسان ، رغم ذلك كلّه فعند السلفية : أنّه قُتل بسيف جدّه
نعم ، إنّها فتوى قاضي القضاة لعشرات السنوات ، إنّه شريح القاضي هو الذي أطلق تلك الفتوى ليُرضي سيّده يزيد ( لعنة الله عليه ) ، ويُغضب الربّ الجليل وسيّد الخلق (صلّى الله عليه وآله) حين قال : إنّ الحسين قُتل بسيف جدّه .
وكذلك ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتابه ( العواصم من القواصم ) إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قُتل بسيف جدّه وشريعته(5) .
وكم طبع هذا الكتاب ووزّع في الأسواق بالمجان وبلا أثمان ؛ لما فيه من التعصّب المقيت
والتهجّم على أهل البيت (عليهم السّلام) وأتباعهم بلا ذنب ولا سبب .
وذلك ـ على ما يدّعي ـ لأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) خرج على الخليفة الحاكم ، وهو لا يستحق الخلافة ، وليس للإمامة أهلاً ـ والعياذ بالله ـ ، فثار على يزيد وسلطانه فقتله ؛ لأنّه أراد الفتنة بالأُمّة ، وهذا حكمه القتل والتنكيل .
فبالحكم الشرعي الذي ينصّ على وجوب قتل الخارج على الخليفة قُتل الإمام السبط الشهيد (عليه السّلام ) ، ويزيد لم يفعل إلاّ واجبه بقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه !
ولن نطيل الكلام في هذا المقام ، بل سأنقل لك أيّها القارئ الكريم فقرات وكلمات من شيخ الإسلام السلفي ابن تيمية ، رأس الجماعة وعالمهم ، وآراءه في النهضة الحسينيّة المباركة ، ورموز أعدائها يزيد وجيشه ؛ لتعلم مدى تعلّق هؤلاء الناس بالدين الإسلامي الحنيف ورموزه المقدّسة .
فما عساه يقول ابن تيمية في النهضة وقائدها العظيم سيد شباب أهل الجنة (عليه السّلام) ؟
بادئ ذي بدء نتذكّر كلمات الإمام الحسين (عليه السّلام) التي يعرب فيها عن فلسفته في المسألة وأسبابها ودوافعها وما الذي يريده منها .
قال المولى أبو عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في البيان الأوّل للنهضة أمام والي المدينة ووزيره مروان بن الحكم ، حين أمر الوليد أن يضرب عنق الإمام إن لم يبايع : (( أيّها الأمير ، إنّا أهلُ بيت النبوّة ، ومعدنُ الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلُّ الرّحمة ، بنا فتح الله وبنا يختمُ ، ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ ، شاربُ الخمور ، وقاتلُ النّفس
المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يُبايع مثله ، ولكن نُصبح وتُصبحون ، وننظرُ وتنظرون أيُّنا أحقُّ بالخلافة والبيعة ))(6) .
هذا هو البيان النهضوي الأوّل وفيه : رفض البيعة لمثل يزيد الفاسق الفاجر .
والإمام السبط الشهيد عندما أراد الخروج من المدينة قاصداً مكة المكرّمة في أيّام الحجّ ، كتب وصيته لأخيه محمد بن الحنفية ، ويا لها من وصية نورانيّة رائعة يقول فيها (عليه السّلام) : (( وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مُفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ، أُريدُ أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب ، فمَنْ قبلني بقبول الحقِّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردَّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين ))(7) .
فالإمام الحسين (عليه السّلام) خرج على يزيد ليس لأنّه حاكم الدولة الإسلاميّة ، لا بل لأنّه فاسق فاجر ، ولا يمكن أن يكون مثلُه حاكماً للمسلمين ؛ لأنّه بعيد كلّ البعد عن الإسلام وعن أخلاقيّاته وعقائده السمحة .
ولم يخرج نزهة بسبب الترف والرفاهيّة ، ولا طمعاً في الحكم والرئاسة ، بل كان الهدف سامياً ، والغاية نبيلة ، والمطلوب عمل دؤوب ودماء زاكيات تسيل ، وأجساد طاهرة تُقطّع ، وستور وخدور تُنتهك
وذلك كلّه لطلب الإصلاح لهذه الأُمّة التي عدلت بها بنو أُميّة عن جادة الصّواب إلى السبل الشيطانيّة المختلفة ، وكان التدهور قد وصل إلى أن تسنّم كرسي القيادة العليا مثل يزيد الخارج عن الإسلام ، بل هو إلى دين أُمّه أقرب وإلى طباعهم أنسب .
فأُمّة الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وآله) غدت مهدَّدة بالاضمحلال ، وديانته أصبحت مهدَّدة بالانحلال إذا لم يخرج الحسين مُعلناً الرفض لهذا الحاكم العنيد والطاغية يزيد الذي زاد على كلّ الأعمال الخبيثة التي قام بها أبوه وجدّه من قبل في محاربة الإسلام ورسوله (صلّى الله عليه وآله) .
ولكنّ المصيبة عند السلفية والوهابيّة تكمن هنا بالضبط ، وبالذّات قول الإمام (عليه السّلام) : (( وأسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب )) ؛ لأنّهم لا يريدون لسيرة وسنّة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أن تكون هي السائدة ، ولا لكلمته أن تكون هي العليا في الحياة الإسلاميّة ، مع أنّ ذلك لأجل الحقّ تعالى ، وهل بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين !
وكثيراً ما خطب الإمام الحسين (عليه السّلام) خلال مسيرته المظفَّرة ووعظ الناس ، ونبّه الأُمّة إلى المخاطر المحدقة بها من حكومة يزيد ، وها هي بعض الكلمات التي قالها الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام جيش يزيد ؛ ليعتذر إلى الله بقيام الحجّة عليهم : (( أيُّها الناس ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : مَنْ رأى سُلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً بعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يعملُ في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء ( بنو أُميّة وأزلامهم ) قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ،
وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقُّ مَنْ غيّر ... ))(8) .
تنبّه لخطاب المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه ينادي الناس ، أيّ الذين يتّصفون بالإنسانيّة ، وأمّا مَنْ تبلّد قلبه وتجلّد عقله فإنّ هذا النداء لا يخصّه ، كاُولئك الخوارج عن الإنسانيّة .
والإمام الحفيد يحدّث عن جدّه الرسول (صلوات الله عليهما وآلهما) مباشرة ودون وسائط كأبي هريرة الدوسي ، أو كعب الأحبار اليهودي ، أو غيره من المدلّسين ، أو الذين وقع عليهم الجرح والتعديل في علم الرجال ، بل سيّد شباب أهل الجنّة يروي عن سيّد البشر وخاتم الأنبياء (عليهم السّلام) هذه الرواية والتي تضعنا أمام شمس الحقيقة .
إنّ تحكّم سلطان جائر وجب على كلّ حرٍّ أن يكون ثائراً ؛ إمّا باليد والسيف ، أو الكلمة والقلم ، ولا مجال لأضعف الإيمان ( بالقلب ) إذا كانت بيضة الإسلام وشريعته مهدّدة بالانحراف والضياع .
وهذا بالضبط كان حال الأُمّة الإسلاميّة حين وصل بها السقوط والتسافل ؛ ليتسنم الحكم والقيادة السياسية شخص فاسد فاسق منافق كيزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ويسلّط زبانيته ورجاله الساقطين على هذه الأُمّة ويستهلكون مقدّراتها ؛ ولذا فقد وجب النهوض للإصلاح ، وحرم السكوت والخنوع ؛ لأنّ الأُمّة
والملّة يتهدّدها طغيان يزيد وجلاوزته من صبيان أُميّة اللعناء على لسان الوحي وسيّد الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين وآله الطاهرين) .
فمَنْ ينهض بهذا الواجب إلاّ المؤمن التقيّ ؟ ومَنْ يخنع للفاسق إلاّ الفاسق أو الجبان الشقيّ ؟ ولكن قد تسأل ماذا فعل صبيان أُميّة وزعيمهم يزيد ؟
الجواب يأتيك من بطل التوحيد الإمام الحسين الشهيد (سلام الله عليه) في الخطاب نفسه ، فقد كان من أفعال هؤلاء ما يلي :
1 ـ التزام طاعة الشيطان ، وقد أمروا أن يكفروا به ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا )(9) .
2 ـ ترك طاعة الرحمان : ( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )(10) .
3 ـ إظهار الفساد ، فالزعيم شاربٌ للخمر ، لاعبٌ بالقرد والنرد ، معلنٌ بالفسق .
4 ـ تعطيل الحدود ، كيف يقيمونها وهم جهلاء بها ، بل وهم أوّل المستحقين لإقامتها عليهم ؟!
5 ـ الاستئثار بالفيء ، فقد استهلكوا اقتصاد الأُمّة الذي فيه حياتها ورفاهها .
6 ـ أحلّوا حرام الله ؛ كالخمر ، والزنى ، والقتل ... وغيرها .
7 ـ حرّموا حلال الله .
ألا تكفي هذه البنود السبعة لمعرفة أحوال الجماعة في الديانة والتدين ؟
ـــــــــــــــــــــــ
1 ـ انظر الحسين في الكفر المسيحي / 24 .
2 ـ راجع : العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) / 229 ، طباعة السلفية ، القاهرة 1371 هـ .
3 ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم / 131 ، مثير الأحزان / 24 ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 / 184 ، الفتوح 5 / 14 .
4 ـ مقتل الحسين ـ للمقرّم / 139 ، العوالم / 54 ، مقتل الخوارزمي 1 / 188 ، المناقب 4 / 89 ، الفتوح 5 / 23 .
5 ـ الكامل في التاريخ 4 / 48 .
6 ـ سورة فاطر / 6 .
7 ـ سورة الأنبياء / 92 .
تعليق