آداب حضور مجالس الحسين (عليه السلام)
إن هناك محطتين عباديتين متميزتين في السنة:
المحطة الأولى: توحيدية.. وهي محطة شهر رمضان المبارك، حيث يحلق الإنسان في أجواء التوحيد، والمناجاة، وكبت النفس عن الشهوات، وتلاوة الكتاب الكريم.. فالغالب على ذلك الشهر، اللون التوحيدي.. وهذا اللون يتجلى بشكل واضح وصريح في ليالي القدر المباركة، حيث يقضي المؤمن ليله من المغرب إلى مطلع الفجر، وهو يذكر ربه ذكرا متميزا بليغا.. فالإنسان يحتاج في نشاطه اليومي، وفي حركته اليومية إلى هذه الصلة الوثيقة برب العالمين.. ومن منا يمكن أن يعيش، وهو مبتور الصلة بمنشأ الفيض، والهبة العظمى في هذا الوجود؟..
المحطة الثانية: ولائية.. وهي محطة شهري محرم وصفر؛ فمحرم شهر الشهادة، وصفر شهر الصبر والتحمل والتبليغ.. هؤلاء الأسارى بمن فيهم الإمام السجاد (ع) وعمته الحوراء زينب؛ رفعوا لواء الحسين (ع)، ولولا تلك الخطب الرنانة في الطريق، وفي الكوفة، وفي الشام، في مواجهة طواغيت ذلك الزمان؛ لاندثر قسم من نهضة الحسين (ع).. وليس من بدع القول أن نقول: أن الإسلام وإن كان محمدي الحدوث؛ فهو حسيني البقاء.. وفي نهضة الحسين (ع) نقول: حسيني الحدوث، وزينبي وسجادي البقاء.. نعم في هذا الشهر، وفي شهر صفر؛ نعيش أجواء الولاية والتبعية والاقتداء بالبقية من الماضين.. وليس من الغريب أن تقام مجالس العزاء على من بكاه النبي (ص)، بل بكاه الأنبياء السلف، عندما سمعوا بأن هذه الأمة ستقتل ابن بنت نبيها.
إن لكل حركة برمجة.. فالإنسان الذي لا يبرمج حركته، من الممكن أن يصل إلى بعض الأهداف، أو إلى بعض المكاسب؛ ولكن حركته هذه حركة غير رتيبة.. في عالم التجارة، التجار على قسمين: قسم يبيع بالمفرق؛ وهذا يكون لديه حانوت صغير في زاوية من زوايا سوق المسلمين، يبيع سلعا بسيطة، ويقنع بالربح القليل.. وقسم يبيع بالجملة؛ وهذا لديه شركة أو شركات كبرى: لها هيئة إدارية، ولها رأس مال، ولها برامج، ولها مخططات، ولها موظفون.. وهذه الشركات العملاقة، قد تكسب الملايين أو المليارات في أيام معدودة.. وعليه، فإن الإنسان المؤمن في كل حركاته، ينبغي ألا يكون كالحانوت.. بل يحاول أن يكون كالشركة الكبيرة، التي لها برامجها، ولها رأس مالها، ولها مخططاتها.
فإذن كل حركة يقوم بها المؤمن، لابد لها من فقهٍ ظاهري وباطني، ليخرج بعدها باستفادة كبرى.. ومن هذا المنطلق، أحببنا التنويه على ملاحظات مهمة في هذا المجال، وذلك لأن عطاء هذه المواسم كعطاء الشمس، فهي واحدة في أصل العطاء، ومتعددة في آثارها الخارجية، بحسب القابليات، واختلاف درجات المستقبلين لهذا العطاء.
ماذا نعمل لاستفادة كبرى وأساسية من هذا الموسم المبارك؟..
هو موسم مبارك بعطائه، وإن كنا نعيش حالة الحزن والأسى.. فالأئمة (ع) عندما كان يدخل هذا الشهر كانت الكآبة تعلو وجوههم، وكانت تزيد وتتزايد إلى يوم مقتل الحسين (ع)، من باب تحضير الأذهان والنفوس لكيفية حضور مجالس الحسين (ع).. عن الرضا (ع): "كان أبي (ع) إذا دخل شهر محرم لم يُر ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام.. فإذا كان يوم العاشر؛ كان ذلك يوم مصيبته، وحزنه وبكائه، ويقول: هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين (ع)".
إن هنالك تأكيداً بليغاً في روايات أهل البيت (ع) على مسألة البكاء، فلماذا أعطي البكاء هذا القدر من الأهمية؟.. ما الذي تكشفه هذه الدموع حتى يقول الإمام الرضا (ع): (من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا؛ كان معنا في درجتنا يوم القيامة)؟.. إن الدمعة التي أعطيت هذا القدر من الأهمية، لهي تلك الدمعة المؤثرة في سلوك الإنسان، والتي ترقى به نحو الكمال، التي تجنبه المعاصي والذنوب، وتجعله يسير في الخط الذي سار فيه الحسين (ع)، خط الشهادة والتضحية والفداء في سبيل الله؛ فتجعله يلعن ويتبرأ من أعداء الله ورسوله.. وإلا فإن هذه الدموع قد تجري لأي سبب -مرض أو غيره-، ولا قيمة لها.
فإذن، إن البكاء هو موقف فكري نظري، وإحساس قلبي، وسلوك عملي، هو صرخة ضد الظلم في كل مكان وزمان.. أما البكاء الذي لا رصيد له، هذا البكاء بكاء باهت.. ترى هل حققنا في بكائنا على الحسين (ع) ذلك الأثر؟.. أم أنه كان بكاءً باهتاً لا قيمة له، ومجرد قطرات من الدمع تسيل على الخدين؟..
لماذا نبكي على الحسين (ع)، فالشهداء والمظلومون كثيرون طوال التأريخ؟..
أولاً: نحن إنما نقف هذا الموقف؛ لأن حقه علينا عظيم، فلولا دم الحسين (ع) ما بقي من الإسلام شيء.. كما قال النبي (ص): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين، لا تبرد أبدا).
ثانياً: كما أن الصائم نفسه تسبيح ونومه عبادة، كذلك حال المعزي لأهل البيت (ع).. فلننظر جيداً ماذا يقول الإمام الصادق (ع): (نَفَسُ المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله).. ألا ينبغي للمؤمن بعد ذلك، أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة؟..
ثالثاً: إن الظالمين -الطغاة الفجرة الفسقة- حاولوا طوال التأريخ، وبشتى الطرق والأساليب؛ طمس ذكر الحسين (ع)، ولكنهم ما فلحوا ولن يفلحوا {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.. هناك إصرار عجيب كان يبديه المحبون في إحياء ذكره (ع)!.. في الأزمنة القديمة كانت ضريبة الذهاب إلى زيارة الإمام (ع) ليس مبلغا من المال، وإنما كانت الضريبة قطع اليدين.. أحدهم قطعت يده في سبيل زيارة الإمام الحسين (ع)، وإذا به يأتي في زيارة أخرى ويقدم اليسرى.. وهذا الشعار الذي أطلق في موسم من المواسم، في عصورنا المتأخرة؛ لا زال يدوي في نفوس الكثيرين وأسماعهم:
لو قطّعوا أرجلنا و اليدين *** نأتيك زحفاً سيدي يا حسين
في كل سنة، وكلما اقتربنا من عصر الظهور، زادت مجالس الحسين: بركة، ووهجا، وتأثيرا في النفوس.. هذه الأيام: المواقع، والفضائيات، والإذاعات، والصحف، والجرائد؛ تبث معالم دروس ثورة الحسين (ع).
آداب حضور المجالس الحسينية:
أولاً: قصد التعلم.. إن مجالس ذكر الحسين (ع) إنما هي في واقعها ذكر لله تعالى؛ فإنه إنما اكتسب الخلود، بتحقيقه أعلى صور العبودية لرب العالمين، وهي الفداء بالنفس، وأية نفس؟!.. وعليه فلابد من توقير تلك المجالس: بالدخول فيها بالتسمية والطهور، واستحضارها كجامعة من أعرق الجامعات الإسلامية الشعبية، والتي تضم في قاعاتها المتعددة -(من أكواخ البوادي إلى أفخم الأبنية)- مختلف الطبقات الاجتماعية.. وهذا أيضاً من أسباب التفوق العلمي في القاعدة الشعبية للموالين نسبة إلى غيرهم، وذلك لتعرضهم لهذا الإشعاع النوري منذ نعومة أظفارهم.
ثانياً: قصد القربة.. مع الأسف هنالك من ينظر إلى كل ما يتعلق بأهل البيت (ع)، وكأن هذه المعالم هي في قبال معالم التوحيد!.. بينما هما وجهان لعملة واحدة: فوحدانية الرب متجلية: تارة في الكعبة، وتارة في كربلاء.. تارة في الصلاة والقرآن، وتارة في مجالس الحسين (ع).. تارة في المساجد، وتارة في المآتم والحسينيات.. كلها معنى واحد!.. عميد المنبر الحسيني، الشيخ الوائلي -رحمه الله- كان يفتتح كلامه بآية من كتاب الله -عز وجل- فيشبعها بحثا من الزمن، ثم يختم بذكر مصائب الحسين(ع).. هذا المجلس مجلس قرآني، محاضرة عن القرآن الكريم.. ولهذا عندما يريد أحدهم أن يميز ذلك المجلس عن المجلس الآخر، يميزه من خلال المفتتح؛ أي الآية التي كانت محور من البحث.
فإذن، إنه لمن الظلم الفاحش أن نجعل لأهل البيت (ع) حسابا، ولله -سبحانه وتعالى- حسابا آخر!.. انظروا إلى كلمات الحسين في يوم عاشوراء!.. الإنسان في لحظاته الأخيرة: براً كان أو فاجرا؛ يلهج بما كان اهتمامه طوال عمره، يفكر في أهم شيء عنده، فيلهج بذكر زوجته إن كانت هي المحبوبة، أو يلهج بذكر أولاده، والبعض يلهج بذكر أمواله ومتجره.. ولكن الإمام الحسين(ع) بماذا كان يلهج عند استشهاده، حيث قتل جميع من معه من خيرة أصحابه وأهل بيته؟.. (إلهي!.. رضاً بقضائك، صبراً على بلائك، تسليماً لأمرك، لا معبود سواك).
ثالثاًً: إخلاص النية.. لابد لأصحاب المجالس من أن يقصدوا القربة الخالصة لله تعالى، (وأخلص العمل؛ فإن الناقد بصير)، بعيدين عن كل صور الشرك الخفي.. ومما لا شك فيه أن البركات -التي ذكرت من خلال النصوص الكثيرة- مترتبة على مثل هذه النية الخالصة.. وعلامة ذلك: عدم الاهتمام بعدد الحضور، وإطرائهم، وما يعود إلى مثل هذه العوالم التي قد تستهوي عامة الخلق؛ فالأجر مرتبط بما يقوم به هو، لا بما يقوم به الآخرون.. فما عليك إلا أن تفتح بابك، وتنشر بساطك، كما ذكر الصادق (ع) في باب المعاملة.
رابعاً: استثمار الدموع.. لنستغل ساعة الدعاء بعد انتهاء المجلس، فإنها من ساعات الاستجابة.. وحاول أن يكون لك جو من الدعاء الخاص، غير مكتف بما دعا به الخطيب.. فالملاحظ أن الدعاء بعد المجلس لا روح فيه بشكل عام، أي بمعنى أن الناس لا ينظرون إلى هذه الفقرة نظرة جد واعتناء، وكأن الحديث مع الرب المتعال أمر هامشي، لا يعطى له ما يستحقه من الالتفات.. والحال أنه من الممكن أن يحقق العبد حاجاته الكبرى، بعد الدموع التي جرت على أحب الخلق إلى الله -تعالى- في زمانه.
تعليق