« الاستدلال بالحديث على أفضلية علي (عليه السلام) »
* قال القاضي الشهيد السيّد نورالله الحسيني المرعشي التستري(56) قدّس سرّه في كتابه في الاستدلال بالسُنّة على خلافة علي (عليه السلام):
قال العلامة الحلي رفع الله درجته(57):
الثامن عشر : في مسند أحمد بن حنبل والجمع بين الصحاح الستة عن أنَس بن مالك قال : كان عند النبي (صلى الله عليه وآله) طائر قد طبخ له ، فقال : اللهم ائتني بأحبِ الناس اليك يأكل معي ، فجاء علي (عليه السلام) فأكله معه . ومنه عن ابن عباس : انه لما حضرت ابن عباس الوفاة قال : اللّهُم اِني اتقرّبُ اليك بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) . انتهى .
ثم علق القاضي الشهيد المرعشي التستري قدّس سره على الحديث قائلا :
اِن حديث الطير مع أنه كما أعترف به الناصب مشهور ، بل بالغ حدّ التواتر ، وقد رواه خمسة وثلاثون رجلا من الصحابة عن أنس وغيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وصنّفَ اكابر المحدِّثين فيه كتباً ورسائل مؤيد بما مَرّ من حديث خيبر وغيره . ووجه التأييد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) بمحبة الله تعالى له ، ومحبته لله تعالى ، كما ذكره المصنّف في «شرح الياقوت» لا معنى لها الا زيادة الثواب وذلك لا يكون الا بالعمل ان يكون عمل علي اكثر من غيره .
واعلم : ان المحبة مرَتبة عليّة ودرجة سنيّة هي من صفات الله سبحانه حقيقة يعبّر عنها المتكلم بالارادة ، والحكيم بالعناية ، وأهل الذوق بالعشق ، وقد فاض شيء من رحيق كأسها بحسب الاستعدادات والقوابل من الحقّ على الخلق ، فكل منها يطلب العود الى مبدئه ، ومَن خلا منها فهو من المطرودين الذين رضوا بالحيوة الدنيا وأطمأنوا بها ، فهم كالارض الساكنة التي لا حراك لها ، وبتلك المحبة حركة الافلاك والاملاك والعقول والنفوس والارواح والقوى والعناصر والمواليد الثلاثة طلباً للكمال ، واهتزازاً من مشاهدة الجمال . ورجاءً للتخلص عن قيد التشخص والسير وانما هو على اقدام الاقدام بها ، والطيران انما هو بأجنحة اجتلاء القلوب عنها .
والكتب السماوية والآيات الربانية والاحاديث النبوية تَشهدَ بثبوتها ووجودها ، قال تعالى (فسَوفَ يأتي الله بقومَ يُحبّهُم ويُحبُونه) وقال : (اِن الله يُحب التوابين ويحب المتطهّرين) وقال : (اِن الله يحَب الذينَ يُقاتِلُون في سَبيلهِ صَفْاً كَأنهُم بُنيانٌ مرصوص)وقال الله تعالى اِنْ كُنتم تُحبُّونَ الله فاتّبِعوني يُحببكم الله) وقال تعالى : (وألقَيت عَليك مَحبةً مني) .
وروت الثقاة :
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبَرَ عن الله تعالى أنه قال : «لا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبّه ، فاذا أحبَبتهُ كنتُ سمعه الذي يَسمَعُ به ، وبَصَرهُ الذي يَبصرُ به ، ويَدَهُ التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ، فبي يسمع ، وبي يُبصر ، وبي يأخذ ، وبي يعطي ، وبي يقوم ، وبي يقُعُد ، واذا سألني أعطيته ، واذا استعاذ بي استعذته» .
وقال (صلى الله عليه وآله) :
«اذا أحَبّ الله عبداً دعا جبرئيل فقال له : اِني أحبُّ فلاناً فأَحِبه ، قال : فيُحبّه جبرئيل فينادي في السماء اِن الله يُحب فلاناً فأحبُّوه . فيُحبه مَن في السماء ، ثم يوضع له القبول في العناصر فما يتركب منها شيء اِلا أحَبَّهُ» .
ولهذا روي في المشهور انه لما رأى محمد سليمان العباسي حُسن مناظرة بهلول بن عمرو العارف العاقل المعروف مع عمر بن عطاء العدوي ، في امامة علي أبي طالب (عليه السلام) قال : ما خاطب البهلول بقوله : ما الفضل الا فيك ؟ ومالعقل الا من عندك والمجنون من سَمّاكَ مَجنوناً ، لا اله الا الله ، لقد رزق الله علي بن أبي طالب (عليه السلام) لبّ كل ذي لبّ ، فقد ثبت من الكتاب والسنّة ، وكلام أكابر الامة وجود المحبة وثبوتها ، غير أنها وان اشترك اسمها في الاطلاق ، لكنها يختلف باختلاف المتعلّق ، فمحبة الله لعبده تخصيصه بانعام مخصوص ، يكون سبباً لتقريبه وازلافه من محال الطهارة والقدس ، وقطع شواغله عمّا سواه ، وتطهير بواطنه عن كدورات الدنيا ، ورفع الحجاب حتى يشاهده في جميع الاشياء ، ويشهد أن جميع الاشياء بالحَقِّ قائمة وأن وجوده وجوده ، و لا وجود لشيء الا بنحو من الانتساب كما استَعْذَ به ذوق المتهأَلّين من الحكماء أيضاً ، فيأخذ بالله ، ويعطي بالله ، ويُحب للهِ ، ويُبغض للهِ ، وهذا سرّ لا اله الا الله ، وحقيقة لا حول ولا قوة الا بالله ، فهذه الارادة هي المحبة وان كانت إرادته لعبده ان يختصه بمقام من الانعام دون هذا المقام كارادته ثوابه ودفع عقابه ، وهذه الارادة هي الرحمة . فالمحبة اعمّ من الرحمة . وأما محبة العبد لله تعالى ، فهي ميله الى نيل هذا الكمال وارادته الوصول الى هذا المقام الذي يتسابق اليه الرجال وتتهافت على التحلي به همم الابطال .
واذ قد عرفت محبة الرَب ومحبة العبد ، وانقدت الناس ، عرفت أن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)ليسَ لأحَد هذا المقام ، الا لأمير المؤمنين عليه آلاف التحية والثناء .
بيان ذلك : اِن النبي (صلى الله عليه وآله) ، لما عَلِمَ اتصاف علي بهذا الصفة (المحاسن) من الجانبين وكانت امراً معنوياً لا يدرك اِلا باظهار امر محسوس من لوازمها ، يشهد ذلك الامر لمن اتصف به باتصافه بتلك المحبة أثبتها (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) بأمرين :
أحدهما فتح خيبر ، فجمع (صلى الله عليه وآله) وصفه بين المحبة والفتح ، بحيث يظهر لكل أحد صورة الفتح ويدركه بحس البصر ، فلا يبقى عنده تردد في اتّصافه بالصفة المعنوية المقرونة بالصفة المحسوسة .
وثانيهما : حديث الطائر ، جَعَل (صلى الله عليه وآله) واتيانه وأكله معه من ذلك الطائر ، وهما امران محسوسان دليلا موضحاً لأتصافه بتلك الصفة ، ليعلم أنه (عليه السلام) هو وأتباعه هُم الذينَ أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (فسَوفَ يأتي الله بقوَم يحبُّهم ويُحبونه) .
ومما يُصرِّح بهذا المعنى ما سَبقَ من قوله (صلى الله عليه وآله) :
«لتَنتهُنّ يا قريش ، او ليبعثنّ الله عليكُم رجُلا يضرب رقابكم عَلَى التَأويل كما ضربَتُ رقابكم على تنزيله ، فقال بعض أصحابه : مَن هو يا رسول الله ؟ أبو بكر قال : لا قال : عمر قال : لا ولكنه خاصف النعل ..(الحديث)»(58).
واذا سبرت احواله واعتبرت أقواله ظهر لك أتصافه بهذه المحبة باعتبار تعلّقين : اما محبة الله تعالى فظاهرة آثارها ساطعة أنوارها من ازلافه سبحانه وتعالى من مقام التقديس ومقرّ التطهير ، لقوله (صلى الله عليه وآله) فيما سبَق أيضاً من حديث النجوى المشهور(59): «ما انتجَيتهُ ولكن الله انتجاه» .
وروى ابن مسعود قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله) :
«اِن الله يبعث أناساً وجوههم من نور على كراسي من نور عليهم ثيابٌ من نور في ظل العرش بمنزلة الأنبياء والشهداء ، فقال أبو بكر : أنا منهم يا رسول الله ؟ قال : لا ، قال عمر : انا منهم ، قال : لا ، قيل : مَن هم يا رسول الله ؟ فوضع يده على رأس علي (عليه السلام) ، وقال : هذا وشيعته» .
وروى محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني رحمه الله قال :
حدّثني الحافظ أبو العلاء الهمداني ، والقاضي أبو منصور البغدادي بالاسناد عن أبي بكر وعن أنَس(60). وروى مشايخَنا عن الصادق عليه وعلى آبائه وابنائه الطاهرين السلام ، عن آبائه ، عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال : «خَلَقَ الله عَزّ و جلّ من نور وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام) سبعين الف ملك يستغفرون له ولمحبيه الى يوم القيامة» .
وفي كتاب الحدائق عن أبي تراب الخطيب باسناده الى النبي (صلى الله عليه وآله)(61): «اِن الله قد خلَقَ من نور وجه علي (عليه السلام) مَلائكةً يُسَبَّحونه ويقدِّسُونه ويَجعَلون ثواب ذلك لعلي ولمحبيه» .
وأما محبته لله تعالى :
فهي معلومة لكل أحَد من عباداته ومجاهداته ورفضه الدنيا واعراضه عَما سوى الله ، واقباله بكلا كله على مولاه ، ولو أردنا استقصاء بعض من ذلك لطال المطال وكثرت المقال ، و لربما حصل بعض الملال ، ولقد اتضَحَ بما قرّرناه بطلان ما ذكره الناصب الشقي من أنّ الحديث لا يدُلّ على النص الى آخره ، وذلك لما عرفت : من أنه دالٌّ على الافضلية ، لدلالته على أنه (عليه السلام) أحَبُّ الى الله من كل المخلوقات ، وأمّا عدم كونه (عليه السلام) أحبُّ من النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقد علم من خارج ، وهو انعقاد الاجماع على انه(عليه السلام)أحَبُّ الى الله تعالى من جميع المخلوقات بلا أستثناء ، فهو (عليه السلام) مستثنى بالاجماع ، وبقرينة السؤال ، وأما الملائكة فليس شيء يخرجهم عن هذا الحكم ، فيكون هو (عليه السلام)أحبُّ منهم .
وأجاب صاحب المواقف بأن الحديث لا يفيد كون علي (عليه السلام) أحَبُّ الى الله تعالى في كل شيء لصحة التقسيم ، وادخال لفظ الكل والبعض ، الا يرى انه يصح ان يستفسر ويقال : أحب خلقه اليه في كل شيء أو في بعض الاشياء ، وحينئذ جاز أن يكون اكثر ثواباً في شيء دون آخر ، فلا يدل على الافضلية مطلقاً ، وفيه أن قوله (عليه السلام) : أحب لفظ عام أو مطلق ، فمَن خصّهُ أو قيّده بوقت دون وقت وببعض الاشياء دون بعض ، فعليه الدليل ، لان العلم والمطلق لا يخص ولا يقيّد بالاقتراح ، بل يخص أو يقيد بالدليل ، ودون ذلك خرط القتاد .
وأيضاً على هذا التقدير لا فائدة في قوله (صلى الله عليه وآله) : ائتني بأَحبِ خلقك ، لان كل مسلم أحب عند الله من وجه في وقت دون وقت .
وأيضا يتوجه ما قاله بعض أصحابنا : من انَّ مثل هذا البحث يجري في استدلالهم على افضلية أبو بكر لقوله تعالى : (وسيجنّبها الاتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى)مع أنه عمدة ادلّتهم على أفضليته ، وذلك لصحة الاستثناء في الاتقى ، وادخال لفظة الكل والبعض ، فلم يبق الا العناد والغفلة والرقاد .
ولنعم ما قال ابن رزيك رحمه الله :
وفي الطائر المشوي اوفى دلالة *** لو استيقظوا من غفَلْة وسباتِ
وقال الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى :
علي له في الطير ما طار ذكره *** وقامت به أعداؤه وهي شُهد
«أقوال الشعراء في حديث الطير»
ابن العطار الواسطي الهاشمي :
ولقد أرانا الله أفضل خلقه *** في الطاير المشوي لما أن دعا
الجبري :
والطاير المشوي نصٌّ ظاهرٌ *** فتيقظي يا ويك عن عمياك
الصوري :
وايكم صار في فرشه *** اذ القوم مهجته طالبونا
ومن شارك الطهر في طائر *** وانتم بذاك له شاهدونا
المفجع :
كان النبي لَمّا تمنى *** حين أتوه طايراً مشوياً
اِذ دعا الله أن يسوق أحب *** الخلق طراً اليه سوقا وحياً
ابن حماد :
وفي قصة الطير لَمّا دَعا *** النبي الاله وأبدى الضرع
ايا ربِّ ابعث الي احب *** خلقك يا مَن اليه الفَزع
فلم يستتم النبي الدعاء *** اذا بامام الهدى قد رجع
ثلاث مرار فلما انتهى *** الى الباب دافعه واقترع
فقال النبي له ادخل فقد ***اطَلْت احتباسك يا ذا الصلع
فخَبّرهُ انه جاءَهُ *** ثلاثا ودافعه مَن دفع
فقطب في وجه مَن رَدَّهُ *** وانكر ما بأخيه صنع
فأوَرثَهُ برصَاً فاحشاً *** فظل وفي الوجه منه بقع
الاصفهاني :
أمن له في الطير قال نبيَّهِ *** قولا ينيرُ بشَرحهِ الأفقان
يا رَبِّ جِىء بأحب خلقك كلهم *** شخصاً اليك وخير من يغشاني
كيما يؤاكلني ويؤنس وحشتي *** والشاهدان قوله عدلان
فبَدا علي كالهزبر ووجهه *** كالبدر يلمَعُ أيّما لمَعان
فتواكلا واستأنسا وتَحدّثا *** بأبي وأمي ذلك الحَدّثان
الحميري :
اَما أتى في خير الانبل *** في طاير أهدي الى المرسل
سفينة مكن في رشده *** وأنَس خان ولم يحصل
في ردّه سيّد كل الورى *** مَولاهم في المحكم المنزل
فصَدَّه ذو العرش عن رشده *** ثم غرى بالبرص الانكل
مناقب آل ابي طالب : ج2 ص283 ـ 286 .
تعليق