قد يتحدّث الإنسانُ مع نفسه ـ و لكن دون أن ينطق ـ قائلاً :أطعمتُ هذا الفقير لوجه اللّه .وقد يوجّه حديثه إلى الفقير ـ و لكن دون أن ينطق أو يُسمعَ الفقير ـ قائلا:أطعمتُك لوجه اللّه .و قد يُمارس عمليّة تفكير مبهمة غير محدّدة ، لكنها تحوم على معنىً خاص ، هو: إطعام الفقير لوجه اللّه ، من دون أن يتحدّد في لفظ خاص ، بل في معنى يماثل آلاف المعاني أو الأفكار التي تمرّ على ذاكرته طوال يقظته و وعيه بما يدور من حوله . . .و السؤال هو: هل إنّ أبطال أهل البيت (عليهم السلام) ـ و قد أطعموا الفقراء ـ حينما حام تفكيرهم بلغة المخاطب :﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً﴾ ، هل إنّ هؤلاء الأبطال حينما فكّروا بلُغة الخطاب ، كان تفكيرهم يحمل دلالة خاصة بحيث أبرزتها القصة على النحو المذكور ، بغية أن نفيد منها نحن القرّاء في تلوين سلوكنا و تعديله عند كلّ ممارسة عبادية ننهض بها ؟لا شك أنّ المخاطبين: المسكين و اليتيم و الأسير ، لم يصل إلى مسامعهم هذا الخطابُ غير الملفوظ به ، ممّا يعني أنّ التفكير بلغة المخاطب له أهميتُه في مثل هذه الحالة من حيث حجم العمل العبادي عند الإنسان .و في تصوّرنا ، أنّ الأهمية الفنّية لمثل هذا الحوار الداخلي الموجّه إلى المعدمين ، تـتمثّل في أنّ الأبطال ـ و هم حريصون على مساعدة الآخرين ـ إنّما يتوجّهون إليهم في مستوى التفكير الصرف ، تعبيراً عن حرصهم على المساعدة و لكن بما أ نّهم لا يحرصون على انتزاع الشكر أو السمعة من المُعَدمين ، . . . حينئذ لا يترجمون حرصهم لعمل الخير إلى لغة منطوق بها ، بل يكتفون من ذلك بالخطاب إليهم في نطاق التفكير فحسب .و هذا النمط من السلوك له أهميته الكبيرة دون أدنى شك .إنّه يكشف عن النزعة الخيّرة لدى الإنسان ، . . . يكشف عن حرص الأبرار على تقديم المساعدة للآخرين ، و قضاء حوائجهم إلى الدرجة التي تأخذ مساحةً كبيرةً من تفكيرهم ، بحيث يهمّون بتوجيه خطاب مباشر للإفصاح عن حبّهم للآخرين .و لكن بما أنّ حبّهم للآخرين ، هو من أجل اللّه . . . حينئذ يحتفظون بهذا السرّ و لا يعلنون عنه أمام الآخرين ، بحيث يبقى مجرّد حوار داخليٍّ في نطاق العمليات الفكرية . . .إذن أدركنا أهمية السرّ الفنّي لهذا الحوار الداخلي الذي صاغته القصة لأبطالها الأبرار و ما يمكن أن نفيد منه نحن القرّاء في سلوكنا العبادي الذي ينبغي أن يختط هذا المسار نفسَه في مساعدتنا للآخرين ، و في قضاء حوائجهم ، . . . بل في ممارساتنا العبادية جمعاء . . . و إلاّ فإنّ العمل العبادي سيُحبَط ـ دون أدنى شك ـ عندما يقترن بالبحث عن استلام الشكر أو الحرص على تحقيق مكسب ذاتي هو:
السمعة الاجتماعية .* * *إلى هنا فإنّ القصة تأخذ نهايتها فيما يتصل بالأبطال الذين تحرّكوا داخلها .فالقصة بدأت بتعريف الأبرار و كان بدؤها من بيئة الجنّة التي اُعدّت لهم:﴿إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْس كانَ مِزاجُها كافُوراً ﴾﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً﴾ثمّ ارتدّت القصة من الجنّة ، من شرابها المتصل بالكؤوس و بالعيون ، إرتدّت بالأحداث إلى الحياة الدنيا ، فنقلت لنا بطريقة فنّية أوضحناها في حينه ، جانباً من سلوك الأبطال الذين استحقّوا من أجله خلعَ سمة الأبرار عليهم ، و احتلالهم هذا الموقع من الجنّة .و الآن تعود القصةُ ثانيةً إلى بيئة الجنّة ، لتواصل الحديث عن عناصر هذه البيئة ، قائلةً:﴿فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً﴾﴿وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً﴾لا ننس أنّ الأبطال هتفوا في نطاق الحوار الداخلي ، قائلين:﴿إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾و ها هي السماء تُجيبهم قائلة:﴿فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ﴾و ها هي تكافؤهم على العمل لوجه اللّه ، قائلةً:﴿وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً﴾و ها هي تواصل عرض مفردات النعيم الذي كافأتهم به ، قائلةً:﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً﴾﴿وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً﴾﴿وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَة مِنْ فِضَّة وَ أَكْواب كانَتْ قَوارِيراً﴾﴿قَوارِيراً مِنْ فِضَّة قَدَّرُوها تَقْدِيراً﴾﴿وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً﴾﴿عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً﴾﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً﴾﴿وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً﴾﴿عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُس خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّة﴾﴿وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً﴾﴿إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾و نحن قبل أن نتحدّث عن تفصيلات هذه البيئة في الجنّة ، ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أنّ هذه الأوصاف أو المشاهد تكاد تنفرد بها هذه القصة دون سواها ، من حيث استقطابها لكلّ أدوات الشرب بخاصة ، . . . و إلى أنّ انفراد القصة بهذا الوصف لابدّ أن يرتبط بطبيعة السلوك الذي طبع الأبرار أبطال الدنيا . . . لابدّ أن يرتبط بمعطيات ذلك الحوار الداخلي الذي صدر عن الأبطال ، و هم يهتفون في أعماقهم :﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً﴾﴿إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾هذا الحوار الذي أوضحنا قيمته من حيث انطواؤه على أسرار العمليات النفسية له صلته بدقائق الأوصاف التي انفردت بها هذه القصة ، ممّا يجدر توضيحُه مادام متصلا بإفادتنا نحن القرّاء في تعديل السلوك و تحقيق مهمّة الخلافة في الأرض على الوجه الذي تُطالبنا السماءُ به .* * *قلنا: إنّ قصة الأبرار الذين تضمّنتهم هذه السورة ، تظلّ أكبر القصص حجماً فيما يتصل بوصف الجنّة و نعيمها ، حيث تنوّعت فيها عناصر النعيم ، من شرب و زاد و مسكن و ملبس و سواها ، و بلغت أشدّ مستويات الترف ، بحيث لم يرد في قصة اُخرى مثل هذه التفصيلات .و نحن لا نحتاج إلى تأمّل كبير لكي ندرك السرّ الفنّي الكامن وراء هذا ، . . .
فالقصة تـتحدّث عن الأبرار الذين قدّموا طعامهم للمسكين و اليتيم و الفقير ، و آثروا الجوع و العطش ، من أجل إرواء و إشباع الآخرين . . . و نتيجةً لتحمّلهم حِرمانَ الزاد عوّضهم اللّه إشباعاً في الآخرة ، بحيث يتناسب تحمّلهم للجوع مع المكافأة الضخمةِ التي تفسّر لنا السبب الفنّي الذي جعل هذه القصة تـتحدّث عن نعيم الجنّة بنحو لا تـتحدّث به أيّةُ قصة اُخرى .و لكي يتبيّن للقارئ بوضوح ثراء النعيم الذي اُعدّ للأبرار بالشكل الذي لَمّحنا إليه ، يحسن بنا أن نفصّل في عرض مستوياته .لقد عُرِضت في القصة ستُ حاجات إنسانية تـتصل بدوافعه الحيوية ، أي البيلوجية ، بعضها يُشكّل حاجات أساسية في معيارنا الدنيوي ، و بعضها يشكل حاجات ثانوية .و هذه الحاجات الست هي:1 ـ الماء .2 ـ الطعام .3 ـ المسكن .4 ـ الملبس .5 ـ الخدمة .6 ـ الجمال .و نقصد بالحاجة الأخيرة الجمال : الحاسّة الجمالية عند الإنسان فيما يتصل بمشاهد الطبيعة ، و أدوات الترف التي يستخدمها في حاجاته المختلفة .و واضح ، أنّ هذه الحاجات الست ، ما بَعدها من حاجات عدا المرأة في نطاق البيئة التي يحياها إنسان الدنيا أو إنسان الآخرة ، مع ملاحظة أنّ القصة شدّدت أو ركّزت على بعض الحاجات بنحو أشدّ من غيرها ، فيما ينطوي هذا التشدّدُ أيضاً على سرّ فنّي لابدّ أن نتعرّفه بعد أن عرفنا سرّ التركيز على تنوّع النعيم وصِلته بالسلوك الدنيوي الذي تحمّل من خلاله الأبرارُ شدائد الحياة ، و عُوّضوا بدلا منه روائع الترف . أيضاً ينبغي ملاحظة إختفاء عنصر المرأة ، فيما يتطلّب معرفة السرّ وراء ذلك في هذا الصدد .و لنتقدّم أوّلا بنماذج الحاجات الست:1 ـ الماء:﴿إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْس كانَ مِزاجُها كافُوراً﴾﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً﴾﴿وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَة مِنْ فِضَّة وَ أَكْواب﴾﴿وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً﴾﴿عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً﴾﴿وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً﴾2 ـ الطعام:﴿وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً﴾3 ـ المسكن:﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً﴾﴿وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً﴾4 ـ الملبس:﴿عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُس خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّة﴾5 ـ الخدمة:﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً﴾6 ـ الحاجة الجمالية:و هي تشمل طرائق الإشباع الذي يرافق كلاّ من الحاجات المذكورة ، من تنوّع أدوات الشرب: آنية ، أكواب ، أباريق ، و تنوّع الملبس: سندس ، استبرق ، أساور . . . إلى آخره .و الآن أوّل ما يُلاحَظ أنّ الماء و أدوات تناوله يُشكّل عنصراً غالباً على سائر الحاجات الاُخرى من حيث كثرة التفصيلات فيه ، و من حيث تنويع أدواته ، و من حيث تنويع أشكاله ، و من حيث بدء الحديث عنه قبل غيره من الحاجات الاُخرى .و السرّ الفنّي وراء ذلك ـ وقد سبقَ التلميحُ إليه ـ هو دافع العطش في التركيبة الآدمية ، يُعدّ أقوى الدوافع على الاطلاق بالقياس إلى الدوافع الحيوية الاُخرى من جوع و جنس و جمال و نحوها ، ممّا يفسّر لنا سببَ التركيز عليه و تنويع أدواته و التفصيل في عَرضِ كلّ ما يتّصل به .هذا السبب الفنّي يتّضح تماماً حينما نلحظ أوّلا أنّ الماء قد دخله التنويع من حيث المادّة ، فهو حيناً يمتزج بالكافور ، و حيناً يمتزج بالزنجبيل ، و حيناً ثالثاً هو سلسبيل .هذا من حيث المادّة: كافور ، زنجبيل ، سلسبيل .و أمّا من حيث أدواته ، فهي: آنية و أكواب و كؤوس .و أمّا من حيث أشكالها ، فهي: قوارير زجاجات . . . و هي فضّة . . .و أمّا من حيث المظهر ، فهو: عيون تُفجّر تفجيراً . . .و أمّا من حيث القيمة ، فهو: شرابٌ طهور .إذن هناك ما يُجسّد شراباً طهوراً ، يُفجّر من العيون تفجيراً ، يجري سلسبيلا و يمتزج كافوراً و زنجبيلا ، و يُسقى آنيةً و كأساً و أكواباً و قواريراً ، كلّها من فضّة شفّافة يُرى ما في داخلها من الخارج . . .هذه الأوصاف أو السمات لو صحبها قليلٌ من التأمّل ، لاستطارت العقولُ من الدهشة و الانبهار حيالَها دون أدنى شك .* * *ولو قدّر لنا أن نتابع سائر العناصر المتصلة بالحاجات الاُخرى ، للحظناها بالسمة ذاتها و لكن بتفصيل و تنويع أقل ، ممّا لا حاجة إلى متابعتها مادمنا في صدد الربط بين أشدّ حاجة حيوية من دوافع الإنسانِ و هي الماءُ و بين صِلتِها بالسلوكِ الدنيوي الذي وازنَ بين الأبطال الذين يؤثرون الآخرين على أنفسهم في الحياة و يتحمّلون شدائد الحياة و منها: الجوع و العطش ، و بين المكافأة لهم في الحياة الآخرة .و لا ننس أنّ الأبطال أو الأبرار الذين تناولتهم القصة إنّما مارسوا وظيفة عبادية هي الصوم المنذور بما يصاحبه من عطش و جوع . ثمّ مارسوا ـ ثانيةً ـ وظيفةً عباديةً اُخرى هي: إطعامُ الفقراء . و جاء هذا الإطعام في سياق الجوع و العطش ، بحيث آثروا الفقراء على أنفسهم حتّى في نطاق ما ينبغي أن يتناولوه عند الإفطار ، لا في نطاق مجرّد التناول للطعام في أوقاته الاعتيادية . . .كلّ ذلك ينبغي أن نضعه في الاعتبار ، مصحوباً بما قلناه من أنّ الإطعام ـ في سياق هذه الشدّة التي تحمّلها الأبطال ـ إنّما كانت لوجه اللّه ، لايبتغون بذلك جزاءً من أحد و لا شُكوراً .إنّه من الممكن أن يُطْعِمَ الإنسانُ ، جائعاً ، و لكنّه ليس بحاجة إلى الطعام الذي يقدّمه للجائع . . .و من الممكن أن يُطعم الإنسانُ جائعاً ، لكنّه يبحث عن تقدير و شكر . . . أمّا أن يقدّم الطعام و هو جائع ، فأمرٌ يختلف كلّ الاختلاف عن تقديمه للطعام و هو مستغن عنه ، و أن يقدّمه لا بحثاً عن سمعة ، بل عن مخافة من يوم يبدو عبوساً قمطريراً . . .المهمّ أنّ الزادَ واحدٌ من الحاجات البشرية ، . . . و هناك حاجات اُخرى حيوية و نفسية تلفت القصةُ انتباهنا إلى ضرورة التعامل معها وفق مبدأ محدّد هو الإيثار ، إيثار الآخرين على الذات الفردية ، من أجل اللّه فحسب ، مصحوباً بالخوف من اليوم الآخر ، . . . من الحسابِ . . . من يوم وُصِفَ بأ نّ شرَّه مستطيرٌ ، و بأ نّه عبوسٌ قمطرير . . .و على العكس من ذلك ، أشارت السورةُ بعد انتهاء القصة إلى اُولئك الذين:﴿يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾يؤثرون الحياة الدنيا ، و يذرون الآخرة في يومها الثقيل . . . يزهدون بالحياة الآخرة بما صاحبها من النعيم الذي تقدّمت افانينهُ ، و يؤثرون العاجلة بما يصاحبها ـ بعدئذ ـ من ثقل ، و شرٍّ مستطير ، و عبوس بوجه اُولئك الذين ركبوا رؤوسهم ، و اتّبعوا الشهوات ، فهل لنا أن نَعِىَ وظيفتنا العبادية ؟
السمعة الاجتماعية .* * *إلى هنا فإنّ القصة تأخذ نهايتها فيما يتصل بالأبطال الذين تحرّكوا داخلها .فالقصة بدأت بتعريف الأبرار و كان بدؤها من بيئة الجنّة التي اُعدّت لهم:﴿إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْس كانَ مِزاجُها كافُوراً ﴾﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً﴾ثمّ ارتدّت القصة من الجنّة ، من شرابها المتصل بالكؤوس و بالعيون ، إرتدّت بالأحداث إلى الحياة الدنيا ، فنقلت لنا بطريقة فنّية أوضحناها في حينه ، جانباً من سلوك الأبطال الذين استحقّوا من أجله خلعَ سمة الأبرار عليهم ، و احتلالهم هذا الموقع من الجنّة .و الآن تعود القصةُ ثانيةً إلى بيئة الجنّة ، لتواصل الحديث عن عناصر هذه البيئة ، قائلةً:﴿فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً﴾﴿وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً﴾لا ننس أنّ الأبطال هتفوا في نطاق الحوار الداخلي ، قائلين:﴿إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾و ها هي السماء تُجيبهم قائلة:﴿فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ﴾و ها هي تكافؤهم على العمل لوجه اللّه ، قائلةً:﴿وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً﴾و ها هي تواصل عرض مفردات النعيم الذي كافأتهم به ، قائلةً:﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً﴾﴿وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً﴾﴿وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَة مِنْ فِضَّة وَ أَكْواب كانَتْ قَوارِيراً﴾﴿قَوارِيراً مِنْ فِضَّة قَدَّرُوها تَقْدِيراً﴾﴿وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً﴾﴿عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً﴾﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً﴾﴿وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً﴾﴿عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُس خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّة﴾﴿وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً﴾﴿إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾و نحن قبل أن نتحدّث عن تفصيلات هذه البيئة في الجنّة ، ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أنّ هذه الأوصاف أو المشاهد تكاد تنفرد بها هذه القصة دون سواها ، من حيث استقطابها لكلّ أدوات الشرب بخاصة ، . . . و إلى أنّ انفراد القصة بهذا الوصف لابدّ أن يرتبط بطبيعة السلوك الذي طبع الأبرار أبطال الدنيا . . . لابدّ أن يرتبط بمعطيات ذلك الحوار الداخلي الذي صدر عن الأبطال ، و هم يهتفون في أعماقهم :﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً﴾﴿إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾هذا الحوار الذي أوضحنا قيمته من حيث انطواؤه على أسرار العمليات النفسية له صلته بدقائق الأوصاف التي انفردت بها هذه القصة ، ممّا يجدر توضيحُه مادام متصلا بإفادتنا نحن القرّاء في تعديل السلوك و تحقيق مهمّة الخلافة في الأرض على الوجه الذي تُطالبنا السماءُ به .* * *قلنا: إنّ قصة الأبرار الذين تضمّنتهم هذه السورة ، تظلّ أكبر القصص حجماً فيما يتصل بوصف الجنّة و نعيمها ، حيث تنوّعت فيها عناصر النعيم ، من شرب و زاد و مسكن و ملبس و سواها ، و بلغت أشدّ مستويات الترف ، بحيث لم يرد في قصة اُخرى مثل هذه التفصيلات .و نحن لا نحتاج إلى تأمّل كبير لكي ندرك السرّ الفنّي الكامن وراء هذا ، . . .
فالقصة تـتحدّث عن الأبرار الذين قدّموا طعامهم للمسكين و اليتيم و الفقير ، و آثروا الجوع و العطش ، من أجل إرواء و إشباع الآخرين . . . و نتيجةً لتحمّلهم حِرمانَ الزاد عوّضهم اللّه إشباعاً في الآخرة ، بحيث يتناسب تحمّلهم للجوع مع المكافأة الضخمةِ التي تفسّر لنا السبب الفنّي الذي جعل هذه القصة تـتحدّث عن نعيم الجنّة بنحو لا تـتحدّث به أيّةُ قصة اُخرى .و لكي يتبيّن للقارئ بوضوح ثراء النعيم الذي اُعدّ للأبرار بالشكل الذي لَمّحنا إليه ، يحسن بنا أن نفصّل في عرض مستوياته .لقد عُرِضت في القصة ستُ حاجات إنسانية تـتصل بدوافعه الحيوية ، أي البيلوجية ، بعضها يُشكّل حاجات أساسية في معيارنا الدنيوي ، و بعضها يشكل حاجات ثانوية .و هذه الحاجات الست هي:1 ـ الماء .2 ـ الطعام .3 ـ المسكن .4 ـ الملبس .5 ـ الخدمة .6 ـ الجمال .و نقصد بالحاجة الأخيرة الجمال : الحاسّة الجمالية عند الإنسان فيما يتصل بمشاهد الطبيعة ، و أدوات الترف التي يستخدمها في حاجاته المختلفة .و واضح ، أنّ هذه الحاجات الست ، ما بَعدها من حاجات عدا المرأة في نطاق البيئة التي يحياها إنسان الدنيا أو إنسان الآخرة ، مع ملاحظة أنّ القصة شدّدت أو ركّزت على بعض الحاجات بنحو أشدّ من غيرها ، فيما ينطوي هذا التشدّدُ أيضاً على سرّ فنّي لابدّ أن نتعرّفه بعد أن عرفنا سرّ التركيز على تنوّع النعيم وصِلته بالسلوك الدنيوي الذي تحمّل من خلاله الأبرارُ شدائد الحياة ، و عُوّضوا بدلا منه روائع الترف . أيضاً ينبغي ملاحظة إختفاء عنصر المرأة ، فيما يتطلّب معرفة السرّ وراء ذلك في هذا الصدد .و لنتقدّم أوّلا بنماذج الحاجات الست:1 ـ الماء:﴿إِنَّ الأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْس كانَ مِزاجُها كافُوراً﴾﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً﴾﴿وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَة مِنْ فِضَّة وَ أَكْواب﴾﴿وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً﴾﴿عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً﴾﴿وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً﴾2 ـ الطعام:﴿وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً﴾3 ـ المسكن:﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً﴾﴿وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً﴾4 ـ الملبس:﴿عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُس خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّة﴾5 ـ الخدمة:﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً﴾6 ـ الحاجة الجمالية:و هي تشمل طرائق الإشباع الذي يرافق كلاّ من الحاجات المذكورة ، من تنوّع أدوات الشرب: آنية ، أكواب ، أباريق ، و تنوّع الملبس: سندس ، استبرق ، أساور . . . إلى آخره .و الآن أوّل ما يُلاحَظ أنّ الماء و أدوات تناوله يُشكّل عنصراً غالباً على سائر الحاجات الاُخرى من حيث كثرة التفصيلات فيه ، و من حيث تنويع أدواته ، و من حيث تنويع أشكاله ، و من حيث بدء الحديث عنه قبل غيره من الحاجات الاُخرى .و السرّ الفنّي وراء ذلك ـ وقد سبقَ التلميحُ إليه ـ هو دافع العطش في التركيبة الآدمية ، يُعدّ أقوى الدوافع على الاطلاق بالقياس إلى الدوافع الحيوية الاُخرى من جوع و جنس و جمال و نحوها ، ممّا يفسّر لنا سببَ التركيز عليه و تنويع أدواته و التفصيل في عَرضِ كلّ ما يتّصل به .هذا السبب الفنّي يتّضح تماماً حينما نلحظ أوّلا أنّ الماء قد دخله التنويع من حيث المادّة ، فهو حيناً يمتزج بالكافور ، و حيناً يمتزج بالزنجبيل ، و حيناً ثالثاً هو سلسبيل .هذا من حيث المادّة: كافور ، زنجبيل ، سلسبيل .و أمّا من حيث أدواته ، فهي: آنية و أكواب و كؤوس .و أمّا من حيث أشكالها ، فهي: قوارير زجاجات . . . و هي فضّة . . .و أمّا من حيث المظهر ، فهو: عيون تُفجّر تفجيراً . . .و أمّا من حيث القيمة ، فهو: شرابٌ طهور .إذن هناك ما يُجسّد شراباً طهوراً ، يُفجّر من العيون تفجيراً ، يجري سلسبيلا و يمتزج كافوراً و زنجبيلا ، و يُسقى آنيةً و كأساً و أكواباً و قواريراً ، كلّها من فضّة شفّافة يُرى ما في داخلها من الخارج . . .هذه الأوصاف أو السمات لو صحبها قليلٌ من التأمّل ، لاستطارت العقولُ من الدهشة و الانبهار حيالَها دون أدنى شك .* * *ولو قدّر لنا أن نتابع سائر العناصر المتصلة بالحاجات الاُخرى ، للحظناها بالسمة ذاتها و لكن بتفصيل و تنويع أقل ، ممّا لا حاجة إلى متابعتها مادمنا في صدد الربط بين أشدّ حاجة حيوية من دوافع الإنسانِ و هي الماءُ و بين صِلتِها بالسلوكِ الدنيوي الذي وازنَ بين الأبطال الذين يؤثرون الآخرين على أنفسهم في الحياة و يتحمّلون شدائد الحياة و منها: الجوع و العطش ، و بين المكافأة لهم في الحياة الآخرة .و لا ننس أنّ الأبطال أو الأبرار الذين تناولتهم القصة إنّما مارسوا وظيفة عبادية هي الصوم المنذور بما يصاحبه من عطش و جوع . ثمّ مارسوا ـ ثانيةً ـ وظيفةً عباديةً اُخرى هي: إطعامُ الفقراء . و جاء هذا الإطعام في سياق الجوع و العطش ، بحيث آثروا الفقراء على أنفسهم حتّى في نطاق ما ينبغي أن يتناولوه عند الإفطار ، لا في نطاق مجرّد التناول للطعام في أوقاته الاعتيادية . . .كلّ ذلك ينبغي أن نضعه في الاعتبار ، مصحوباً بما قلناه من أنّ الإطعام ـ في سياق هذه الشدّة التي تحمّلها الأبطال ـ إنّما كانت لوجه اللّه ، لايبتغون بذلك جزاءً من أحد و لا شُكوراً .إنّه من الممكن أن يُطْعِمَ الإنسانُ ، جائعاً ، و لكنّه ليس بحاجة إلى الطعام الذي يقدّمه للجائع . . .و من الممكن أن يُطعم الإنسانُ جائعاً ، لكنّه يبحث عن تقدير و شكر . . . أمّا أن يقدّم الطعام و هو جائع ، فأمرٌ يختلف كلّ الاختلاف عن تقديمه للطعام و هو مستغن عنه ، و أن يقدّمه لا بحثاً عن سمعة ، بل عن مخافة من يوم يبدو عبوساً قمطريراً . . .المهمّ أنّ الزادَ واحدٌ من الحاجات البشرية ، . . . و هناك حاجات اُخرى حيوية و نفسية تلفت القصةُ انتباهنا إلى ضرورة التعامل معها وفق مبدأ محدّد هو الإيثار ، إيثار الآخرين على الذات الفردية ، من أجل اللّه فحسب ، مصحوباً بالخوف من اليوم الآخر ، . . . من الحسابِ . . . من يوم وُصِفَ بأ نّ شرَّه مستطيرٌ ، و بأ نّه عبوسٌ قمطرير . . .و على العكس من ذلك ، أشارت السورةُ بعد انتهاء القصة إلى اُولئك الذين:﴿يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾يؤثرون الحياة الدنيا ، و يذرون الآخرة في يومها الثقيل . . . يزهدون بالحياة الآخرة بما صاحبها من النعيم الذي تقدّمت افانينهُ ، و يؤثرون العاجلة بما يصاحبها ـ بعدئذ ـ من ثقل ، و شرٍّ مستطير ، و عبوس بوجه اُولئك الذين ركبوا رؤوسهم ، و اتّبعوا الشهوات ، فهل لنا أن نَعِىَ وظيفتنا العبادية ؟
اترك تعليق: