(1) في مسجد القرية..
ذات جمعة مباركة وبينما كنت في مسجد قريتي متبركاً بأداء بعض النوافل..لمحتُ شيخاً،قد أخذ الدهر منه مأخذه،متذللاً بين يدي كتاب الله يتلوه بهدوء غريب وقد بان على قسمات محيّاه المتجعِّد سمة التدبر والخشوع..كان مسترسلاً بحديث ربِّه حتى عَلا منه فجأةً نشيجٌ مزَّق خِباء الصمت وأمطر شيبته الكثيفة بوابل من الدموع..لطم رأسه هاتفَاً برفيع صوته:"وآحُسَينآآآآآآآآآه...وآعبّاسآآآآآآآآآه.."
كان قد هدأ أنينه عندما أكملت صلاتي ..قادني فضولي لأدنو منه..رفع رأسه وخاطبني بصوتٍ كسَّرته بقايا عبرات.."سأجيبك عما يداعب ذهنك لما أبصرت مني..((إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ))..هذا ما هيّج كامن أشجاني و أظهر لوعتي..كأني بالعباس uوقد إغترف الماء بيده ..فأبى ابن الزكية إلا أن يواسي ابن الزهراء..وآلهفتآه على تلك الأكباد الحرّى..وآلهفتآه!"
سألته: متى كان آخر عهدك بكربلاء ؟ ،قال:"لقد أقعدتني الأسقام عن وفادتها منذ أمد سحيق.. وليس لي من يحملني إلى مولاي.."
قلت:أتشرف برفقتك ..أترحل معي؟ ، فارتسمت على عينيه الذابلتين ابتسامة شوق..ووافق بامتنان أبوي جزيل.
(2) في الطريق..
وانطلقنا..يحدونا ولهٌ ليس له من حدود، تعمدت الصمت لأراقب الشيخ الذي وزّع نظراته بين ثنايا الطريق تارةً وبين (مفاتيح الجنان) تارةً أخرى..وأجهش معولاً لمرأى القباب في الأفق شامخة رغم أنوف كل الأرجاس و الأذناب ،وردد أبياتاً مزجها بحرقة فؤادٍ آلمه جمرُ البعاد:
حُطَّ الرِّحالَ فَقَدْ آنَستُ أنوارا.......تَهـدي وتَقري مُقيمنَــاً وزوارا
دخل الضريح بوئيد خطىً متحدياً كل أوجاع السنين.."أبا الفضل يا كفيل العقيلة..سلامٌ لا يُدانيهِ سلامُ..عليكَ..على أكفٍّك..على بأسكَ..على رايةٍ أذهلت حتى شانئيك فقالوا: أبيتَ اللعن يا عباس! سلامٌ على إيثارٍ كإيثار أمير المؤمنين..قد كان للمصطفى محض فداءٍ..وأنت بالطفِّ للوارث فداءٌ ومواسٍ ومعين..سلامٌ،سلامٌ على أمِّ البنين..سيدي قد قرعت بابك،وقبّلت أعتابك مستأذناً فأنت باب الحسين الذي منه يؤتى"
(4) على أعتاب سيد الشهداء..
لم يعد يملك قدميه..دخل الصحن حبواً..متمتماً بشغف:"سأذهب إلى حيث الزهراء ..سأذهب إلى حيث الحوراء"..ومضى حثيثاً حتى وصل المنحر..أطرقَ هناك طويلاً..لا أسمع له إلا همساً ملؤه جوىً وأسى..ثم خاطبني:"هما ربّات العزاء..و هنا تندبان الغريب إلى يوم القيامة..ألا تصغي لصدى النداء:وآولدآآآآآه...وآأخآآآآآه..؟" ومضى وقوراً يكفكف الدمع إلى ريحانة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)..شعرت أني أزور الحسينu لأول مرة وهو يقرأ (وارث) و(الناحية) و(عاشوراء)..كان سيلاً من أنين وألم..وبعد الصلاة جَلسَ معقِّباًاللَّهُمَّ إنِّي صَلَّيتُ ورَكعتُ وسَجدتُ لك وَحدك لا شريك لك لأن الصَّلاة والرُّكوعَ والسُّجودَ لا تكونُ إلا لك لأنك أنت الله لا إله إلا أنت اللَّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وأبلغهمْ عنّي أفضل السَّلامُ والتَّحيَّة واردُدْ عليَّ منهمُ السَّلامُ اللَّهُمَّ وهاتان الرَّكعتان هـ....ـديـَّ...ـةٌ...) وهنا تلعثمت الكلمات متعثِّرةً بحسرات الخجل..جرى الدمع غزيراً حتى ابتل قميصه..ردد مستعبراً "عذراً سيدي من أنا وما خطري حتى أهديك ركعاتي وأنتَ..أنتَ الصلاة ؟!"
(5) أمام التل الزينبي..
رغم الحزن الذي ملأ كيانه..رأيته قد تبسم دامِعاً عندما رأى تل الصبر والشموخ.."(سترحلين)..هكذا كتبوا على أحجار ضريحها في الشام..خسئوا،كلا وألف كلا..فمن كانت للخلود عنواناً ورمزاً..ومن دكدكت للظلم عروشاً بـ(فو الله لن تمحو ذكرنا)..ستبقى وتبقى وتبقى..(وإلى حيث ألقت رحلها....) كل وغدٍ أثيم"
----------------------------------
(1) الأبيات للشاعر عبد الكاظم كريم الفتلاوي من ناحية الكفل
ذات جمعة مباركة وبينما كنت في مسجد قريتي متبركاً بأداء بعض النوافل..لمحتُ شيخاً،قد أخذ الدهر منه مأخذه،متذللاً بين يدي كتاب الله يتلوه بهدوء غريب وقد بان على قسمات محيّاه المتجعِّد سمة التدبر والخشوع..كان مسترسلاً بحديث ربِّه حتى عَلا منه فجأةً نشيجٌ مزَّق خِباء الصمت وأمطر شيبته الكثيفة بوابل من الدموع..لطم رأسه هاتفَاً برفيع صوته:"وآحُسَينآآآآآآآآآه...وآعبّاسآآآآآآآآآه.."
كان قد هدأ أنينه عندما أكملت صلاتي ..قادني فضولي لأدنو منه..رفع رأسه وخاطبني بصوتٍ كسَّرته بقايا عبرات.."سأجيبك عما يداعب ذهنك لما أبصرت مني..((إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ))..هذا ما هيّج كامن أشجاني و أظهر لوعتي..كأني بالعباس uوقد إغترف الماء بيده ..فأبى ابن الزكية إلا أن يواسي ابن الزهراء..وآلهفتآه على تلك الأكباد الحرّى..وآلهفتآه!"
سألته: متى كان آخر عهدك بكربلاء ؟ ،قال:"لقد أقعدتني الأسقام عن وفادتها منذ أمد سحيق.. وليس لي من يحملني إلى مولاي.."
قلت:أتشرف برفقتك ..أترحل معي؟ ، فارتسمت على عينيه الذابلتين ابتسامة شوق..ووافق بامتنان أبوي جزيل.
(2) في الطريق..
وانطلقنا..يحدونا ولهٌ ليس له من حدود، تعمدت الصمت لأراقب الشيخ الذي وزّع نظراته بين ثنايا الطريق تارةً وبين (مفاتيح الجنان) تارةً أخرى..وأجهش معولاً لمرأى القباب في الأفق شامخة رغم أنوف كل الأرجاس و الأذناب ،وردد أبياتاً مزجها بحرقة فؤادٍ آلمه جمرُ البعاد:
حُطَّ الرِّحالَ فَقَدْ آنَستُ أنوارا.......تَهـدي وتَقري مُقيمنَــاً وزوارا
حُطَّ الرِّحالَ فهذي كربلاءُ لها.......يَسعى الحجيج ذوي ذنبٍ وأطهارا(1)
(3)عند باب الحوائج..دخل الضريح بوئيد خطىً متحدياً كل أوجاع السنين.."أبا الفضل يا كفيل العقيلة..سلامٌ لا يُدانيهِ سلامُ..عليكَ..على أكفٍّك..على بأسكَ..على رايةٍ أذهلت حتى شانئيك فقالوا: أبيتَ اللعن يا عباس! سلامٌ على إيثارٍ كإيثار أمير المؤمنين..قد كان للمصطفى محض فداءٍ..وأنت بالطفِّ للوارث فداءٌ ومواسٍ ومعين..سلامٌ،سلامٌ على أمِّ البنين..سيدي قد قرعت بابك،وقبّلت أعتابك مستأذناً فأنت باب الحسين الذي منه يؤتى"
(4) على أعتاب سيد الشهداء..
لم يعد يملك قدميه..دخل الصحن حبواً..متمتماً بشغف:"سأذهب إلى حيث الزهراء ..سأذهب إلى حيث الحوراء"..ومضى حثيثاً حتى وصل المنحر..أطرقَ هناك طويلاً..لا أسمع له إلا همساً ملؤه جوىً وأسى..ثم خاطبني:"هما ربّات العزاء..و هنا تندبان الغريب إلى يوم القيامة..ألا تصغي لصدى النداء:وآولدآآآآآه...وآأخآآآآآه..؟" ومضى وقوراً يكفكف الدمع إلى ريحانة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)..شعرت أني أزور الحسينu لأول مرة وهو يقرأ (وارث) و(الناحية) و(عاشوراء)..كان سيلاً من أنين وألم..وبعد الصلاة جَلسَ معقِّباًاللَّهُمَّ إنِّي صَلَّيتُ ورَكعتُ وسَجدتُ لك وَحدك لا شريك لك لأن الصَّلاة والرُّكوعَ والسُّجودَ لا تكونُ إلا لك لأنك أنت الله لا إله إلا أنت اللَّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وأبلغهمْ عنّي أفضل السَّلامُ والتَّحيَّة واردُدْ عليَّ منهمُ السَّلامُ اللَّهُمَّ وهاتان الرَّكعتان هـ....ـديـَّ...ـةٌ...) وهنا تلعثمت الكلمات متعثِّرةً بحسرات الخجل..جرى الدمع غزيراً حتى ابتل قميصه..ردد مستعبراً "عذراً سيدي من أنا وما خطري حتى أهديك ركعاتي وأنتَ..أنتَ الصلاة ؟!"
(5) أمام التل الزينبي..
رغم الحزن الذي ملأ كيانه..رأيته قد تبسم دامِعاً عندما رأى تل الصبر والشموخ.."(سترحلين)..هكذا كتبوا على أحجار ضريحها في الشام..خسئوا،كلا وألف كلا..فمن كانت للخلود عنواناً ورمزاً..ومن دكدكت للظلم عروشاً بـ(فو الله لن تمحو ذكرنا)..ستبقى وتبقى وتبقى..(وإلى حيث ألقت رحلها....) كل وغدٍ أثيم"
----------------------------------
(1) الأبيات للشاعر عبد الكاظم كريم الفتلاوي من ناحية الكفل
تعليق