المصدر .. الشيعه في مواكب التاريخ تأليف : آية الله الشيخ جعفر السبحاني
عبد الله بن سبأ أُسطورة تاريخية
إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حقّ الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول بأنّ مثل عبد الله بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال، وأمثال هؤلاء الرجال والاَبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصّاصون وأرباب السمر والجنون.. فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين: الاَمويّة والعباسيّة، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو اتّسع المجال للوضع وراج سوق الخيال، وجعلت القصص والاَمثال كي تأنس بها ربّات الحجال، وأبناء الترف والنعمة
هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر، فذهبوا إلى أنّ عبد الله بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاَسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أُسطورة تاريخية عمد أعداء الشيعة إلى تضخيمها وتهويلها لاستغفال الناس نكاية بالشيعة ومحاولة خبيثة لاِلقاء التفرقة والتباغض بين عموم المسلمين، ولا بأس بالوقوف على كلامه حيث قال:
وأكبر الظنّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا ـ إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً ـ إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلّ الفتنة، ولم يثرها.
إنّ خصوم الشيعة أيّام الاَمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نسب من الاَحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا على عليّ وشيعته من ناحية أُخرى، فيردّوا بعض أُمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة.
فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الاِسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهودياً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم، لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثمّ أُتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبله شيعاً وأحزاباً.
هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أُمور التاريخ، وإنّما الشيء الواضح الذي ليس فيه شكّ هو أنّ ظروف الحياة الاِسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأى، وافتراق الاَهواء، ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبيّ وسيرة صاحبيه كانوا يرون أُموراً تطرأ، ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الاَمور الجديدة بنفوس جديدة، فيها الطمع، وفيها الطموح، وفيها الاَثرة، وفيها الاَمل البعيد، وفيها الهَمّ الذي لا يعرف حدّاً يقف عنده، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها،
وهذه الاَمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه، فهذه أقطار واسعة من الاَرض تفتح عليهم، وهذه الاَموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الاَقطار، فأيّ غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الاَقطار المفتوحة، والانتفاع بهذه الاَموال المجموعة؟ وهذه بلاد أُخرى لم تفتح، وكلّ شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاّب الدنيا، ومن الاَجر والمثوبة إن كانوا من طلاّب الآخرة؟ ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأيّ غرابة في أن يندفع الطامحون الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الاَبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأيّ غرابة في أن يهمّ بمنافستهم في ذلك شباب الاَنصار وشباب الاَحياء الاَخرى من العرب؟ وفي أن تمتلىَ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشاً بعظائم الاَمور، ويؤثر بني أُميّة بأعظم هذه العظائم من الاَمور خطراً وأجلّها شأناً؟
والشيء الذي ليس فيه شكّ هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد و سعيداً على الكوفة بعد أن عزل سعداً، وولّى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلّها لمعاوية، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حدّ ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب، وولّي عبد الله ابن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، وكلّ هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوه لاَمّه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم خاله، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الاَدنى إلى أُميّة بن عبد شمس.
كلّ هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها، وما نعلم أنّ ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولّى وعزل من عزل، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك
والقياصرة والولاة والاَمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم، وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور
هكذا نرى أنّ الموارد التي يستنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهميّة خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الاَمور التالية:
1 ـ إنّ المؤرّخين الثقات لم يشيروا في مؤلّفاتهم إلى قصّة عبد الله بن سبأ، كابن سعد في طبقاته، والبلاذري في فتوحاته.
2 ـ إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وضّاع.
3 ـ إنّ الاَمور التي نسبت إلى عبد الله بن سبأ، تستلزم معجزات خارقة لاتتأتّى لبشر، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله بن سبأ، وسخّرهم لمآربه ـ وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض ـ في منتهى البلاهة والسخف.
4 ـ عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمّد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، وغيرهم.
5 ـ قصّة إحراق عليّ إيّاه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاِحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة،ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.
6 ـ عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في وقعة صفّين وفي حرب النهروان.
وقد انتهى الدكتور بهذه الاَمور إلى القول: بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج
تعليق