أن التعرف على مخطط قصدية النص لربما هو الأمر ذاته في التعرف على تصورات ومحسوسات دائرة حياة صاحب النص السيرية ، فالعايف عندما هم بعرض تلك المقدمات السيرية المحفوفة بروح التوثيق والتقويم ، كان يقصد من ذلك الوصول إلى منظومة حدسية خاصة بقصدية النص والتعرف عليه وفهمه أولاً وأخيراً ، كما أن السبيل الجاد في الوصول إلى حياة معنى النصوص ، هو ذلك التصديق ما بين أسلوبية عرض سيرة الكاتب وبين إيراد قيم دلالات نصوصه الشعرية ، في ضوء إجرائية نموذجية سليمة أساسها أسلوبية القراءة النقدية الفريدة. فأنا شخصيا من المتلهفين لإنشاء هكذا طريقة في رصد أعظم وأهم إستراتيجية في مقاربة النصوص نقدياً. وفي جميع الحالات فأن مقاربات العايف جاءتنا فضاءات واعية ومفيدة لغرض الوصول إلى ماهية التدليل والإضافة في فهم النصوص ، ولربما هذا الأمر يخص ما قاله ( وورد زورث ) : ( فرغم غياب ما يوحي به بالقبر والدموع فليس هناك ما يمنع من الإحالة عليهما : أن القبر والدموع لفظان يحتويهما نفس الحقل المصدري والدلالي من حيث مبدأ الحضور والتأثير).
وما قام به العايف من الممكن أن يكون فاعلا تطبيقاً وليس نظرياً ، ولكنه في الوقت نفسه ليس تأويلا عبثياً أو فوضوياً ، وقد تكون نسقية وعلامية تلك الشواهد التوثيقية في لغة المقاربة الإجرائية لدى العايف مدخلا تماثلياً إزاء تداعيات المقصود التلفظي في حياة الدراسة المعيارية للنص.
فلكي تتحول الموضوعة النقدية إلى طرائق استعدادية هامة المفهوم والمحورية الثقافية ، فما عليها سوى إظهار أقدر أساليب شروح مجموعة الظواهر التصورية والقيمية لتلك الموضوعة الإبداعية. أعود الآن إلى باقي دراسات كتاب (مقاربات في الشعر والسرد ) وما يلفت نظرنا أيضا في حقل منجز دراسات هذا الكتاب ، هو تلك الدراسة التي تختص بالبحث في أعمال الشاعر حسين عبد اللطيف ، وتحديداً قصائد ديوانه الجديد ( الهايكو) ولو أن لي في الحقيقة في هذا الديوان الأخير من تجربة شعرية حسين عبد اللطيف ، ما يخالف ما قد قاله العايف بخصوص هذه التجربة للشاعر ، والتي لربما تلاقي مني الكثير من الإنكار والرفض كصوت تعبيري في حق دوال عوالم تجربة الشاعر الأخيرة ، ولكن على أية حال ، أقول كانت مقاربة العايف لأعمال الشاعر الأخرى ، ذات رصانة وكيفية تفكيكية هائلة في رد اللون إلى الكأس من غير أن يظهر الطعم وراءه. أما الحال في دراسة ( على جناح ليلكة ) ودراسة ( فجائع عازف الليل ) ودراسة ( بداية البنفسج ) ودراسة (قصائد النثر العربية : مشاهد ورؤى متعددة ) ودراسة (أنشودة المطر.. قراءة جديدة ) ودراسة ( الأميركي براين ترنر ينقب في الجرح العراقي ) وهناك في كتاب العايف دراسات القسم الثاني تتعلق بمعينات السرد الروائي والقصصي ، كما وأن هناك قسم ثالث يتعلق بعوالم تقانات النص والبنية المسرحية ، وفي كل هذه الدراسات التي احتواها كتاب جاسم العايف ، هجسنا بأنه كان يشرع في جل دراسات كتابه إلى تقديم ترسيمة مغايرة لما نسميه النموذج العاملي في بنية المقاربة النقدية التطبيقية وبصورة قد لا تفي دائما بطبيعة الصلات القائمة بين العوامل القرائية ، وهو بدوره ما جعل شكل القراءة في دراسة العايف ، تبدو فاقدة أحيانا لطابعية حصول الهيئة الأساسية في المنظور القرائي ذات الأدوار والدور العاملي المباشر في تحقيق رؤية الاتصال الموضوعي النقدي بالأثر المنقود.
هذا الأمر بدوره ما يتعلق ومكونات قسم دراسات السرد ، فالقارىء لطبيعة تلك الدراسات التطبيقية ، لعله يلاحظ بأن اطلاعات العايف القرائية لتجارب تلك النصوص السردية ، قد حلت بشكل مباشر بروح تأثيرات كتابته النقدية حول تلك النصوص ، أي بمعنى ما ، جاءتنا شروحات الناقد الأطروحة حول أشكال تلك النصوص ، بروح ممارسة طابعية التعليق وليس بروح شرحية العلامات التقويمية المعيارية التي من شأنها إبراز نتائج مصادر الإشارات الأخيرة من زمن تجربة تلك النصوص المبحثية.وانطلاقا مما سبق منا في مجال زمن تقويم تجربة دراسات ومقالات الأستاذ العايف بشكل عام ودائم ، فليس لنا سوى أن نقول بصدد مشروع كتابه الجديد ، من أنه مجهود جاد وجديد يتضح من خلاله التركيز على مستوى جمالية رؤية النصوص وإيقاعها ، بجانب سير أصحاب النصوص داخل حدود محكيات استلهامية رهينة زمن دال اقتراحية قراءة النصوص بطريقة مرجعية النقد الذاتي ومصدرية المعادل الموضوعي بأبعاده المفهومية المتماسكة.
2
التوثيق الشعري عند جاسم العايف ومعيارية التعليق
إن القراءة النقدية للنصوص الإبداعية كما يفهما ( سارتر) لا تقوم فقط على أساسية أو ضرورية المناهج النقدية حصراً ، بل وعلى أساسية القراءة الذاتية أيضاً ، ولعل ما قرأناه في نمط ونسق دراسات جاسم العايف ، يلخص لذاته هذا المسعى من البحث والرصد والتكوين ، وباختصار شديد ، فأن القارئ لطبيعة توجهات تلك الدراسات النقدية في كتاب العايف ، لربما يشعر في الوهلة الأولى بأنه إزاء بنية توثيقية شعرية تتحدث عن موضوع قصيدة أو رواية أو سيرة ، فقد انتهى الأمر أحياناً بمضامين تلك الدراسات وكأنها عمليات متراصفة من لغة تداعيات أرشيف الشعر وأصحاب الشعر بجانب أدراكات بناء فحوى التوثيق القصدي وليس التوثيق الأرشيفي. ألا أننا وبعد نهاية زمن دراسات ذلك الكتاب ، صرنا نشعر بمدى مدروسية ودقة ترابطات عضوية قيم تلك التشكيلات المفهومية في رؤى أفكار الكاتب العايف.
ومن هذا المنطلق وحده يمكننا اعتبار دراسات ومقالات وتنظيرات (مقاربات في الشعر والسرد) كقيمة ثقافية جــــــادة وأمينة تسعى في ذاتها لمعاينة النصوص الإبداعية من باب أفراغات الصور الذهنية للأشياء ووجــــــودها العياني والظاهر والمظهر إلى غاية اللحظة التي يدون فيها الناقد انطباعاته المتلاحقة بين التلقي والإنتاج المعياري المرهون بسلطة كوامن النصوص ودلالاتها العلائقية الممكــــنة في شفرات الممارسة التأويلــــــية النقدية السليمة.
قراءة في (مقاربات الشعر و السرد)
تعليق