الصحابة في القرآن الكريم
1 - إن القرآن الكريم يصنف الصحابة إلى أصناف مختلفة ، فهو يتكلم عن السابقين الأولين ، والمبايعين تحت الشجرة ، والمهاجرين المهجرين عن ديارهم وأموالهم ، وأصحاب الفتح ، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية ، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة ، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافا أخر يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية :
1 - المنافقون المعروفون ( 1 ) .
2 - المنافقون المتسترون الذين لا يعرفهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 2 ) .
3 - ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب ( 3 ) .
4 - السماعون لأهل الفتنة ( 4 ) .
5 - المسلمون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ( 5 ) .
( 1 ) المنافقون : 1 . ( 2 ) التوبة : 101 . ( 3 ) الأحزاب : 11 . ( 4 ) التوبة : 45 - 47 . ( 5 ) التوبة : 102 . ( * )
6 - المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر ( 1 ) .
7 - الفاسق أو الفساق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم ( 2 ) .
8 - المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ( 3 ) .
9 - المؤلفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم ( 4 ) .
10 - المولون أمام الكفار ( 5 ) .
هذه الأصناف إذا انضمت إلى الأصناف المتقدمة ، فإنها تعرب عن أن صحابة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لم يكونوا على نمط واحد ، بل كانوا مختلفين من حيث قوة الإيمان وضعفه ، والقيام بالوظائف والتخلي عنها ، فيجب إخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس ، وعندئذ يتحقق أن الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلا إذا كان أهلا لها ، وتوضح بجلاء أن محاولة المساواة في الفضل بين جميع الصحابة أمر فيه مجافاة صريحة للحق وكلمة الصدق ، وهذا ما ذهبت إليه الشيعة ، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبر للقرآن الكريم .
2 - إن الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار وغيرهم بالمدح والثناء ، لا تدل على أكثر من أنهم كانوا حين نزول القرآن مثلا للفضل والفضيلة ، ولكن الأمور إنما تعتبر بخواتيمها ، فيحكم عليهم - بعد نزول الآيات - بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات ، وأما لو ثبت عن طريق السنة أو التاريخ الصحيح أنه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته ، فحينئذ لا مندوحة لنا إلا الحكم
( 1 ) آل عمران : 154 .
( 2 ) الحجرات : 6 ، السجدة : 18 .
( 3 ) الحجرات : 14 .
( 4 ) التوبة : 60 . ( 5 ) الأنفال : 15 - 16 . ( * )
بذلك ، ولا يعد مثل ذلك معارضا للقرآن الكريم ، لأنه ناظر إلى أحوالهم في ظروف خاصة ، لا في جميع فصول حياتهم ، فليس علينا رفع اليد عن السنة والتاريخ الصحيح بحجة أن القرآن الكريم مدحهم ، وأن الله تعالى كان في وقت ما راضيا عنهم ، لما عرفت من أن المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم وإخضاعها للقرآن والسنة ، فكم من مؤمن زلت قدمه في الحياة ، فعاد منافقا ، أو مرتدا ، وكم من ضال شملته العناية الإلهية ، فبصر الطريق وصار رجلا إلهيا .
وبالجملة : فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب إيمانه بالظلم والعيث والفساد ، فيؤخذ بما هو الثابت في ذينك المصدرين ، وأما من لم يثبت زيغه فلا نتكلم في حقه بشئ سوى ما أمر الله به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } ( 1 ) .
3 - ومن سوء الحظ أن شرذمة قليلة من الصحابة زلت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق ، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين ، وتبيين مواقفهم ، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين ، ولعل عدد المنحرفين ( غير المنافقين ) لا يتجاوز العشرة إلا بقليل .
أفيسوغ في ميزان العدل رمي الشيعة بأنهم يكفرون الصحابة ويفسقونهم بحجة أنهم يدرسون حياة عدة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم ، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنة والتاريخ الصحيح .
وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالإعراض عنه ، إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم ، فلماذا اهتم ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلف بيد السلف الصالح
( 1 ) الحشر : 10 . ( * )
الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف ؟ فلو كان الحق ترك التكلم فيهم وإعذارهم بالاجتهاد ، فلماذا وصف النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) بعضهم بالارتداد ، كما رواه البخاري وغيره ؟ ( 1 ) .
وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبي ( صلى الله عليه وآله ) أسوة ، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري ، فالأول هو المتعين ، ويضرب بالثاني عرض الجدار .
الردة بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بقيت هنا كلمة وهي : إذا كان موقف الشيعة وأئمتهم من الصحابة ما ذكر آنفا ، فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشي من أنه ارتد الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا ثلاثة ؟ إذ لو صح ما ذكر ، وجب الالتزام بأن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لم ينجح في دعوته ، ولم يتخرج من مدرسته إلا قلائل لا يعتد بهم في مقابل ما ضحى به من النفس والنفيس .
والإجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحص عنها سندا ومتنا ، فإن ما رواه لا يتجاوز السبع روايات ، وهي بين ضعيف لا يعول عليه ، وموثق - حسب اصطلاح علماء الإمامية في تصنيف الأحاديث - وصحيح قابلين للتأويل ، ولا يدلان على الارتداد عن الدين ، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر .
أما الضعيف فهو ما رواه الكشي عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير قال : حدثنا محمد بن عثمان ، عن حنان بن سدير ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : " كان الناس أهل الردة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا ثلاثة . . . " ( 2 ) .
وكفى في ضعفها وجود محمد بن عثمان في سندها ، وهو من المجاهيل .
( 1 ) صحيح البخاري 5 : 118 - 119 في تفسير سورة النور .
( 2 ) رجال الكشي : 12 / 1 . ( * )
ما رواه أيضا عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر الحضرمي قال : قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : " ارتد الناس إلا ثلاثة نفر : سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد " ( 1 ) .
وكفى في ضعفها أن الكشي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري ، فلا يصح أن يروي عن علي بن الحكم ، سواء أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عميرة المتوفى عام ( 217 ه ) أو كان المراد الزبيري الذي عده الشيخ من أصحاب الرضا ( عليه السلام ) المتوفى عام 203 ه .
وما نقله أيضا عن حمدويه بن نصير قال : حدثني محمد بن عيسى ومحمد بن مسعود قال : حدثنا جبرئيل بن أحمد قال : حدثنا محمد بن عيسى ، عن النضر بن سويد ، عن محمد بن البشير ، عمن حدثه قال : " ما بقي أحد إلا وقد جال جولة إلا المقداد بن الأسود ، فإن قلبه كان مثل زبر الحديد " ( 2 ) .
والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد ، فإنه مجهول كما أنها مرسلة في آخرها .
وأما الروايات الباقية فالموثق عبارة عما ورد في سنده علي بن الحسن الفضال ، والثلاثة الباقية صحيحة ، ومن أراد الوقوف على أسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشي ( 3 ) .
ومع ذلك كله فإن هذه الروايات لا يحتج بها أبدا لجهات عديدة نشير إلى بعض منها :
1 - كيف يمكن أن يقال إنه ارتد الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يبق إلا ثلاثة تمسكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها ، مع أن ابن قتيبة والطبري رويا أن جماعة من
( 1 ) رجال الكشي : 16 / 13 . ( 2 ) رجال الكشي : 16 الحديث 11 . ( 3 ) المصدر نفسه : 13 / 3 و 4 و 6 و 7 . ( * )
بني هاشم وغيرهم تحصنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة ، ولم يتركوا بيت الإمام إلا بعد التهديد والوعيد وإضرام النار أمام البيت .
وهذا يدل على أنه كان هناك جماعة مخلصون بقوا أوفياء لما تعهدوا به في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وإليك نص التاريخ : قال ابن قتيبة : إن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب ، ومعهم الزبير ابن العوام - رضي الله عنه - ( 1 ) .
وقال في موضع آخر : إن أبا بكر - رضي الله عنه - تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي - كرم الله وجهه - فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص إن فيها فاطمة ، فقال : وإن . . . ( 2 ) .
روى الطبري : قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه ( 3 ) .
وقال ابن واضح الأخباري : وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب .
فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة فقال : ما الرأي ؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في
( 1 ) الإمامة والسياسة 1 : 10 - 12 .
( 2 ) المصدر نفسه . ( 3 ) تاريخ الطبري 2 : 442 . ( * )
هذا الأمر نصيبا . . . ( 1 ) .
كل ذلك يشهد على أنه كان هناك أمة بقوا على ما كانوا عليه ، في عصر الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يغتروا بانثيال الأكثرية إلى غير من كان الحق يدور مداره . وكيف يمكن ادعاء الردة لعامة الصحابة إلا القليل .
2 - كيف يمكن أن يقال : ارتد الناس إلا ثلاثة مع أن الصدوق - رضي الله عنه - ذكر عدة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار وهم : خالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، وأبي ابن كعب ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو هيثم بن التيهان وغيرهم . ثم ذكر اعتراضاتهم على مسألة الخلافة واحدا بعد واحد ( 2 ) .
3 - إن وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الإمام يورث الشك في صحتها ، ففي بعضها " إلا ثلاثة " وفي البعض الآخر " إلا سبعة " وفي ثالث " إلا ستة " فإن التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الإيمان غير أنه على كل تقدير يوهن الرواية .
4 - كيف يمكن إنكار إيمان أعلام من الصحابة مع اتفاق كلمة الشيعة والسنة على علو شأنهم ، أمثال : بلال الحبشي ، وحجر بن عدي ، وأويس القرني ، ومالك ابن نويرة المقتول ظلما على يد خالد بن الوليد ، والعباس بن عبد المطلب وابنه حبر الأمة وعشرات من أمثالهم ، وقد عرفت أسماء المتخلفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي ، أضف إلى ذلك أن رجال البيت الهاشمي كانوا على خط الإمام ولم يتخلفوا
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 124 .
( 2 ) الخصال ، الشيخ الصدوق أبواب الاثني عشر : 461 - 465 . ( * )
عنه ، وإنما غمدوا سيوفهم اقتداء بالإمام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته ( 1 ) .
وأقصى ما يمكن أن يقال في حق هذه الروايات هو أنه ليس المراد من الارتداد الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية ، وإنما المراد عدم الوفاء بالعهد الذي أخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمها غدير خم .
ويؤيد ذلك : ما رواه وهب بن حفص ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : " جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك ( 2 ) إلى علي ( عليه السلام ) فقالوا له : أنت والله أمير المؤمنين وأنت والله أحق الناس وأولاهم بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) هلم يدك نبايعك فوالله لنموتن قدامك . فقال علي ( عليه السلام ) : إن كنتم صادقين فاغدوا غدا علي محلقين . فحلق أمير المؤمنين وحلق سلمان وحلق المقداد وحلق أبو ذر ولم يحلق غيرهم ( 3 ) .
وهذه الرواية قرينة واضحة على أن المراد هو نصرة الإمام ( عليه السلام ) لأخذ الحق المغتصب ، فيكون المراد من الردة هو عدم القتال معه .
ومما يؤيد ذلك أيضا الرواية التي جاء فيها أن قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد ، فهي وإن كانت ضعيفة السند لكن فيها إشعارا على ذلك ، لأن وصف قلب المقداد إشارة إلى إرادته القوية وثباته في سبيل استرداد الخلافة . وظني أن هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعما لأمر الولاية وتغابنا في الإخلاص ، غافلين عن أنها تضاد القرآن الكريم ، وما روي عن أمير المؤمنين وحفيده سيد الساجدين ، من الثناء والمدح لعدة من الصحابة .
وهناك كلام قيم للعلامة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصه وهو يمثل عقيدة الشيعة فقال : وقالت الشيعة : حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم ، ولا يتحتم الحكم بها
( 1 ) نهج البلاغة ، الكتاب 62 . ( 2 ) أي بعد بيعة أبي بكر . ( 3 ) لاحظ رجال الكشي : 14 / 7 من هذا الباب . ( * )
بمجرد الصحبة ، وهي لقاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) مؤمنا به ومات على الإسلام . وإن ذلك ليس كافيا في ثبوت العدالة بعد الاتفاق على عدم العصمة المانعة من صدور الذنب ، فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته ، ولزمنا له من التعظيم والتوقير ، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله ما هو أهله ، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته ، أمثال مروان بن الحكم ، والمغيرة بن شعبة ، والوليد بن عقبة ، وبسر بن أرطاة وبعض بني أمية وأعوانهم ، ومن جهلنا حاله في العدالة توقفنا في قبول روايته .
ومما يمكن أن يذكر في المقام أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) توفي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف إنسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الإصابة عن أبي زرعة الرازي : " وقيل مات ( صلى الله عليه وآله ) عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي " ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حب الشهوات كلهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عن صدور الكبائر ، والإصرار على الصغائر بمجرد رؤية النبي ( صلى الله عليه وآله ) والإيمان به ، ونحن نعلم أن منهم من أسلم طوعا ورغبة في الإسلام ، ومنهم من أسلم خوفا وكرها ، ومنهم المؤلفة قلوبهم ، وما كانت هذه الأمة إلا كغيرها من الأمم التي جبلت على حب الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم ، وقد صح عنه ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : " لتسلكن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه " .
ولو منعت رؤية النبي ( صلى الله عليه وآله ) من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الذي حصل من جماعة منهم كعبد الله بن جحش ، وعبيد الله بن خطل ، وربيعة بن أمية بن خلف ، والأشعث بن قيس ( 1 ) وغيرهم .
( 1 ) الثلاثة الأولون ارتدوا وماتوا على الردة ، والأشعث ارتد فأتي به إلى الخليفة أبي بكر أسيرا فعاد إلى الإسلام وزوجه أخته ، وكانت عوراء ، فأولدها محمدا أحد قتلة الحسين ( عليه السلام ) . ( * )
هذا مع ما شوهد من صدور أمور من بعضهم لا تتفق مع العدالة ، كالخروج على أئمة العدل ، وشق عصا المسلمين ، وقتل النفوس المحترمة ، وسلب الأموال المعصومة ، والسب والشتم وحرب المسلمين وغشهم ، وإلقاح الفتن ، والرغبة في الدنيا ، والتزاحم على الإمارة والرئاسة وغير ذلك مما تكفلت به كتب الآثار والتواريخ وملأ الخافقين .
وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة ، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة ، وكلهم من الصحابة ( 1 ) .
وحصيلة البحث : أن موضع الاختلاف ، ومصب النزاع ليس إلا كون عدالة الصحابة قضية كلية أو جزئية ؟ فالسنة على الأولى ، والشيعة على الثانية ، وأما ما سواها من سب الصحابة ولعنهم ، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول ، أو عدم حجية رواياتهم على وجه الإطلاق ، فإنها تهم أموية ناصبية ، اتهم بها شيعة آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهم براء منها .
ونعم الحكم الله .
فالشيعة يعطون لكل ذي حق حقه ، فيأخذون معالم دينهم عن ثقات الصحابة ، ولا يتكلمون في حق من لم يتعرفوا على حاله ، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنة .
إن هناك رجالا من السلف لا يسوغ لمنصف يمتلك مقياسا شرعيا سليما أن يذهب إلى جواز حبهم أو الترحم عليهم ، لأن في ذلك خروجا صارخا عن أبسط المقاييس والموازين الشرعية ، ومن هؤلاء :
1 - معاوية بن أبي سفيان - ويكفي في حقه إيراد ما ذكره الجاحظ في رسالته في بني أمية والآثام التي اقترفوها - : استوى معاوية على الملك ، واستبد على بقية أهل الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الذي سموه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي
( 1 ) الأمين ، أعيان الشيعة 1 : 113 - 114 . ( * )
تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة غصبا قيصريا ، ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكيناه ، وعلى منازل ما رتبناه ، حتى رد قضية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ردا مكشوفا وجحد حكمه جحدا ظاهرا ( 1 ) ، فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار .
أو ليس قتل حجر بن عدي ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر ، وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفئ ، واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة ، والسنن المنصوبة ، وسواء جحد الكتاب ، ورد السنة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره ، إلا أن أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد ( 2 ) .
وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت : لا تسبوه ، فإن له صحبة ، وسب معاوية بدعة ، ومن بغضه فقد خالف السنة ، فزعمت أن من السنة ترك البراءة ممن جحد السنة ( 3 ) .
2 - عمرو بن العاص ، الذي ألب على عثمان وسر بقتله ، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) الذي كان من أشد المدافعين عنه ، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء عنه وتعجيل قتله .
كل ذلك كان من ابن العاص حبا بخراج مصر ، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضا ، والعجب أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) تنبأ بذلك وصرح بأنهما لا يجتمعان إلا على غدر ( 4 ) .
3 - يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الذي ولي ثلاث سنين بعده ، فقتل في
( 1 ) إشارة إلى استلحاق زياد بن أبيه وليد فراش غير أبي سفيان .
( 2 ) أي رد السنة مثل رد الكتاب إذا بلغت السنة في الشهرة شهرة الكتاب .
( 3 ) الجاحظ : رسائل الجاحظ : 294 طبع مصر .
( 4 ) ابن حجر ، تطهير الجنان المطبوع على هامش الصواعق المحرقة : 102 . ( * )
الأولى الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم ، وفي الثالثة رمي الكعبة ( 1 ) ، وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى :
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل .
4 - مروان بن الحكم ، الذي كان من أشد الناس بغضا لأهل البيت . قال ابن حجر : ومن أشد الناس بغضا لأهل البيت مروان بن الحكم . روى الحاكم : أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال : كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلا أتي به النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : " هو الوزغ بن الوزغ ، الملعون بن الملعون " ( 2 ) .
5 - الوليد بن عقبة شارب الخمر ، والزائد في الفريضة ( 3 ) .
6 - وعبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي أهدر النبي دمه ( 4 ) .
7 - الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، الذي يخاطب كتاب الله العزيز بعد أن ألقاه ورماه بالسهام بقوله :
تهددني بجبار عنيد * فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد ( 5 )
ويقول السيوطي : إن الوليد هذا كان فاسقا خميرا لواطا ، راود أخاه سليمان
( 1 ) ابن الجوزي : تذكرة الخواص ، فصل يزيد بن معاوية : 257 .
( 2 ) الحاكم ، المستدرك 4 : 479 .
( 3 ) البلاذري : الأنساب 5 : 33 ، وأحمد بن حنبل ، المسند 1 : 144 .
( 4 ) تاريخ الطبري 3 : 300 ، فصل : ذكر الخبر عن فتح مكة .
( 5 ) ابن الأثير ، الكامل في التاريخ 5 : 107 . ( * )
عن نفسه ، ونكح زوجات أبيه ( 1 ) .
هؤلاء وأضرابهم هم الذين تتبرأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم الله به عليهم .
أفيصح تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سب هؤلاء والتبري منهم ؟ !
إن أعمال هؤلاء يندى لها جبين الإنسانية ولا يمكن أن تغضي عنها ، فيا لله ! ! أمن الإنصاف أن تتهم الشيعة بالانحراف والخروج عن الدين لأنها تدين هؤلاء وتلعنهم ، والله تعالى لعن أقواما كثيرين في كتابه الحكيم وكذلك رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ولعل أعمال أولئك لو وزنت بأعمال هؤلاء لما رجحت عليها .
( 1 ) جلال الدين السيوطي ، تاريخ الخلفاء : 97 . ( * )
تعليق