سيّدة أهل الفتوّة، والسيّدة الشريفة العَلَوية، وصاحبة الكرامات الوفيرة، والمناقب الفاخرة الكثيرة. مُشْبِعة المحروم، النقيّة الزاهدة، الراكعة الساجدة، المُحدِّثة المتبحّرة، الكثيرة النفحات، الغزيرة البركات، سليلة النبوّة، وكريمة العنصر والمنبت من آل بيتٍ اصطفاه الله تبارك وتعالى.
هي السيدة نفيسة هي بنت الحسن الانور بن زيد الابلج بن الحسن السبط بن علي بن أبى طالب عليهم السلام و أمها أم ولد، فهي سليلة هذه السلسلة الطاهرة والأركان الزاهرة. فأبوها الحسن الملقّب بـ(الأنور) شيخ بني هاشم في زمانه، واليه انتهت الرئاسة على بني الحسن، كان سيدا عالماً جليلاً.. من كبار أهل البيت، ومن سادات العلويين وأشرافهم وأجوادهم.
استهل نور السيدة نفيسة بولادتها في مكة المكرمة سنة 145هـ في الحادي عشر من ربيع الأول، وما إن أطلت بنورها حتى فرحت بها أمها واستبشر بها أبوها، وحمدوا الله على هذه النعمة الميمونة. ونشأت نشأة نبوية في بيت الله الحرام، وعندما دخلت سنتها الخامسة ذهبت في صحبة والدها إلى المدينة المنورة. وأخذ أبوها يلقّنها ما تحتاجه من أمور دينها ودنياها، وكانت تسمع من شيوخ المسجد النبوي ما يلقونه من علوم الفقه والحديث.
وهكذا ارتقت في مراتب الكمال، حتى بلغت مبالغ النساء، تقدم إليها الخطاب من السلالة النبوية الشريفة.. من بني الحسن والحسين(عليهما السلام)، كما تقدم إلى خطبتها الكثير من أشراف قريش والمسلمين لما عرفوه من كمالها وصلاحها، فكان أبوها يأبى إجابة طلبهم.
ثم جاء إسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر الصادق… يخطبها من أبيها، فصمت ولم يرد جواباً، فقام إسحاق من عنده، وتوجه إلى الحجرة النبوية الشريفة، وخاطب جده ـ بعد السلام ـ وشكى إليه همومه ورغبته في زواج السيدة نفيسة لدينها وعبادتها، ثم خرج. فرأى والدها في المنام تلك الليلة رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) وهو يقول له: (يا حسن! زوّج نفيسة من إسحاق المؤتمن). فزوجه إياها في شهر رجب سنة 161هـ.
وكان إسحاق من أهل الفضل والاجتهاد، والورع والصلاح، كيف لا! وهو ابن الإمام الصادق…، وقد أخذ عن أبيه الكثير من علومه وآدابه وأخلاقه، حتى أصبح له شأن ومقام ووثاقة لا تخدش. وهكذا كان في هذا الزواج المبارك انسجاماً يتوافق مع ما نشأت عليه السيدة نفيسة من حب الله والانصراف إلى طاعته (جل جلاله). وقد ولدت له (أبا القاسم) و(أم كلثوم)، وهكذا اجتمع في هذا البيت نور الحسن… ونور الحسين…
وكانت عليها السلام وهي في المدينة لا تفارق حرم جدّها المصطفى(صلى الله عليه واله وسلم)، قارئة ذاكرة باكية، راكعة.. ساجدة.. ضارعة داعية، وقد حجت بيت الله الحرام ثلاثين حجّة، أكثرها مشياً على الأقدام تقرّباً إلى الله، وزلفاً إليه. تقول زينب بنت يحيى المتوّج: (كانت عمتي نفيسة تأكل في كل ثلاثة أيام أكلة واحدة، وكانت لها سلّة معلقة أمام مصلاها، فكانت كلما اشتهت شيئاً وجدته في السلة، وكنت اجد عندها ما لا يخطر بخاطري، ولا أعلم من أين يأتي، فعجبت من ذلك، فقالت: يا زينب، من استقام مع الله تعالى كان الكون بيده وفي استطاعته). وليس هذا بغريب بعد قصة مريم بنت عمران(عليها السلام) التي نقلها القرآن الكريم: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) آل عمران/37.
ولا يمكّننا ان ذكر كل فضائلها الكثيرة، فالكلام عن زهدها وكرمها ويقينها بالله، وقضائها حوائج المحتاجين اكثر بكثير مما يسعه هذا المختصر.
فقد كان رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) مرشدها الأول والكوكبة الطاهرة من أبنائه البررة الأتقياء. وكان الموت والآخرة نصب عينيها، ويكفي دليلاً على ذلك حفرها قبرها بيديها، وقضاءها فيه شطراً من وقتها.. كل يوم تستلهم منه العظات، ولعلها كانت تحاسب نفسها وتهيئها للقاء باريها نقية طاهرة وهي تتلو الآية الشريفة (ربي ارجعون لعلي اعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون/100.
ُشغف حبّاً أهالي مصر بالسيدة نفيسة، وزاد شوقهم فيها ورغبتهم إليها عندما علموا أنها في الطريق إلى مصر. فخرج لاستقبالها أهالي القاهرة وأعيانها، وكانت بصحبة زوجها (إسحاق المؤتمن)، ونزلت في دار كبير التجار، وبعد فترة استقرت في الدار التي أعدت لها.
وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها.. يأخذون عنهما العلم والفقه والحديث، فحصلوا بذلك على الكثير من الثقافة الصحيحة. واستمروا يتدفقون عليهما، وأصبحت رمزاً للطهارة والقداسة في تلك الديار.
وكان لأخيها يحيى (المتوّج) بنت واحدة اسمها (زينب) انقطعت لخدمة عمتها، تقول: (لقد خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بليل أو أفطرت بنهار، إلا في العيد وأيام التشريق) وتقول: (كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسّره وتقرأه وتبكي..) وهكذا عاشت في مصر معزّزة مكرّمة، ينتهل من نمير علومها أهالي مصر. وكانت مثال الحديث الشريف: (عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا عليكم)، وهكذا ما أن حلّ عام 208هـ - ولم تكد تدخل سنتها الرابعة والستين - حتى أحست بدنو أجلها، فكتبت إلى زوجها تطلب حضوره.
واشتدت بها العلة، حتى حلّت عليها أول جمعة من شهر رمضان، فزاد عليها الألم - وهي صائمة - فدخل عليها حُذّاق الأطباء، فأشاروا عليها بالإفطار لحفظ قوتها، ولتتغلب على مرضها فرفضت، ثم أنشدت:
اصــرفوا عني طبيبي ودعونــــــي وحبيبي
زاد بــي شوقي إليه وغرامي فـــــي لهيب
طاب هتكي في هواه بين واش ورقيـــــــب
لا أبالي بفــــــــــوات حيـث قد صار نصيبي
ليس من لام بعـــــذل عنـــــــه فيه بمصيب
جسدي راضٍ بسقمي وجفونـــــــي بنحيبي
فانصرف الأطباء، وقد شدّهم الإعجاب بقوة يقينها وثبات دينها، فسألوها الدعاء، فقالت لهم خيراً ودعت لهم.
وشاءت السيدة نفيسة أن تختم حياتها بتلاوة القرآن الحكيم، وبينما كانت تتلو سورة الأنعام، حتى إذا بلغت قوله تعالى (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام/ 127 غشي عليها. تقول زينب - بنت أخيها - فضممتها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء.
وما إن ذاع خبر وفاتها حتى عج الناس بالبكاء والنحيب، ودخل الحزن بيت كل محب وعارف لفضل هذا البيت الطاهر. ووصل زوجها (إسحاق المؤتمن) القاهرة بعد أن كانت قد فارقت روحها الطاهرة البدن المسجّى.
وقد أوْصَت السيّدة نفيسة رضوان الله عليها ألاّ يتولّى أمرَها غير بَعلها، وكان مسافراً، فكان قدومه في ذلك اليوم. وقد هيّأ لها تابوتاً وقال: إنّي لا أدفنها إلاّ بالبقيع عند جَدّها المصطفى صلّى الله عليه وآله، فتعلّق بجنازتها أهل مصر، وسألوه مُلحّين متوسّلين بالله عزّوجلّ أن يدفنها عندهم فأبى، فاجتمعوا وذهبوا إلى عبدالله بن السَّرِيّ أمير مصر، وتوسّلوا به إلى إسحاق المؤتمن أن يدفنها عندهم، خاصة وأنّ السيّدة كانت حَفَرت قبرها بيدها في دارها، فسأله الأمير في ذلك وقال له: باللهِ لا تَحرِمنا مِن مشاهدة قبرها؛ فإنّا كنّا إذا نزل بنا أمرٌ جئنا إليها في دارها في حياتها نسألها الدعاء، فما تنتهي من دعائها إلاّ وقد كشف الله عنّا ما نزل بنا، فَدَعْها لتكون في أرضنا، فإذا نزل بنا أمرٌ جئنا إلى قبرها فسألْنا اللهَ تعالى عنده، فأبى إسحاق، فجمعوا له الأموال فأبى!
بات الناسُ تلك الليلة في ألمٍ عظيم، وهَمٍّ مقيم، فلمّا أصبحوا فاجأهم إسحاق بأن أجابهم عن طِيبِ خاطر إلى دفنها عندهم، وردّ عليهم مالهم، فسألوه عن سبب ذلك فقال: رأيتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في المنام فقال لي: يا إسحاق، رُدَّ على الناس أموالهم وادفِنْها عندهم. ففرح القوم، وأخذوا يكبّرون وهكذا، بعد أن تم القرار على دفنها في القاهرة، اجتمع الناس لتأدية المراسم، فكان يوماً مشهوداً، وازدحم الناس ازدحاماً شديداً.. كلهم يريد أن ينال شرف الصلاة عليها، وتشييع جنازتها. وأقيمت الصلاة عليها في مشهد ضخم حافل لم يُرَ له مثيل، واجتمع الناس وأوقدوا الشموع تلك الليلة، وسُمِع البكاء على السيّدة نفيسة مِن كلّ دارٍ بمصر، وعَظُم الأسف والحزن عليها، وصُلِّيَ عليها بمشهدٍ حافل، ودُفنت في القبر الذي حَفَرَته هي بيدها رضوان الله عليها وطالما تمددت فيه أيام حياتها تتلو القرآن.. تتعض بآياته، وتتأمل الأيام التي لابد من مجيئها.
وهكذا اصبح قبرها علماً ومزاراً.. يزوره المحبّون، ويتذاكرون بركات هذه السيدة الجليلة على أهالي مصر، وما منحتهم من علوم وآداب وما أتحفتهم به من فقه وحديث نبوي. ويتذاكرون تلك الكرامات التي بقيت ذكراها بينهم.
كراماتها :
من الكرامات التي لا تمحى من ذاكرة المصريين، تلك الصبية الكسيحة التي كانت من بيت يهودي..، إذ أنها لا قدرة لها على الحراك، وكانت أمها تريد الذهاب خارج البيت لقضاء بعض شؤونها، ولم يكن أحد عندها يرعى طفلتها المشلولة، فحلمتها إلى منزل السيدة نفيسة - الذي كان إلى جوارهم - وطلبت منها أن ترعاها لحين عودتها، فرحّبت بذلك. وأرادت السيدة الجليلة أن تتوضأ من ماء بجانبها، فجرى من ذلك الماء على الأرض.. إلى جانب الصبية المقعدة، فجعلت تبلّ يدها منه وتمرّ به على أعضائها، فزال عنها ما كان بها - بإذن الله - وهبّت تمشي على رجليها، وكأن شيئاً لم يكن بها.
فجاءت أمها، فرأت ابنتها وقد خرجت إليها ماشية، فسألتها فأخبرتها الخبر، فعجبت لذلك وأسلمت وأسرتها على يد السيدة نفيسة، وأسلم كثير ممن سمع بالخبر.
ومنها أيضا:
وحكى بعض المشايخ أنه كان في حال حياتها أمير ظالم فطلب إنساناً ليعذبه ظلماً , فمرّ ذلك الإنسان بالسيدة نفيسة واستجار بها , فقالت له بعد أن دعت له بالخلاص منه : " امض حجب الله تعالى عنك أبصار الظالمين "
فمضى ذلك الرجل مع أعوان الأمير الظالم إلى أن وقفوا بين يديه , فقال الأمير لأعوانه : أين فلان ؟ قالوا : إنه واقف بين يديك , فقال الأمير : والله ما أراه , فقالوا : إنه مرّ بالسيدة نفيسة وسألها الدعاء , فقالت له : " حجب الله تعالى عنك أبصار الظالمين "
فقال : وبلغ من ظلمي هذا كله أن يحجب عني المظلوم بالدعاء ؟ يارب إني تائب إليك , ثم كشف رأسه , فلما تاب ونصح في توبته نظر الرجل وهو واقف بين يديه , فدعا به وقبّل رأسه وألبسه أثواباً سنيه وصرفه من عنده شاكراً .
ثم إنه جمع ماله وتصدق به على الفقراء والمساكين , وأرسل إلى السيدة نفيسة بمائة ألف درهم وقال : هذه شكر لله تعالى من عبد تاب إلى الله ..
فأخذت الدراهم وصرّتها صرراً بين يديها وفرّقتها عن آخرها , وكان عندها بعض النساء فقالت واحدة لها : ياسيدتي لو تركتِ لنا شيئاً من هذه الدراهم نشتري به شيئاً نفطر عليه ؟
قال لها : خذي غزل يدي بيعيه بشيء نفطر عليه , فذهبت المرأة وباعت الغزل بشيء يفطرن عليه ولم تمس من ذلك المال شيئاً ..
وأيضا ذكر القرماني في تاريخه لما ظلم احمد ابن طالون الحاكم في مصر حيث ذاك استغاث الناس من ظلمه وتوجهوا الى السيدة نفيسة (ع) يشكونه اليها فقالت لهم متى يركب قالوا في غد فكتبت رقعة ووقفت بها في طريقه وقالت يا احمد ابن طالون فلما رآها عرفها فنزل عن فرسه وأخذ منها الرقعة وقرأها حيث كان فيها من البيان، فإذا فيها ملكتم فأسرتم وقدرتم فقهرتم وخولتم فعسفتم وردت اليكم الارزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم ان سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لا سيما من قلوب أوجعتموها وأكباد جوعتموها وأجساد اعريتموها فما حال ان يموت المظلوم ويبقى الظالم، أعملوا ما شئتم فإنّا صابرون وجوروا فإنّا بالله مستجيرون، أظلموا فإنا الى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فقيل عدَلَ لوقته وغيّرَ سياسته مع الناس، وهذا في دولة الطولونية التي أولها احمد ابن طولون كان في سنة اربع وخمسين ومئتين، كما في تاريخ الاسحاقي.
- عن سعيد بن الحسن قال: توقّف النيل بمصر في زمن السيّدة نفيسة رضي الله عنها، فجاءها الناس وسألوها الدعاء، فأعطَتْهم قِناعها، فجاؤوا به إلى النهر وطرحوه فيه، فما رجعوا حتّى زَخَر النيل بمائه، وزاد زيادةً عظيمة
السلامُ والتحيّةُ والإكرامُ والرضى، مِن العليِّ الأعلى، على السيّدةِ نفيسة سُلالةِ نبيِّ الرحمة، وشفيعِ الأُمّة، مَن أبوها عَلَمُ العِترة، وهو الإمامُ حيدرة. السلامُ عليكِ يا بنتَ الإمامِ الحسن المسموم، أخي الإمامِ الحسينِ المظلوم. السلامُ عليكِ يا بنتَ فاطمةَ الزهراء، وسلالةَ خديجةَ الكُبرى. رضيَ اللهُ عنكِ، وعن أبيكِ وعمِّكِ وجَدِّكِ، وحشَرَنا اللهُ في زُمرتِهِم أجمعين. اَللّهمّ بِحقِّ ما كان بينَك وبينَ جَدِّها محمّدٍ صلّى الله عليه وآله ليلةَ المعراج، اجعَلْ لنا مِن أمرِنا الذي نَزَلَ بنا بابَ آنفراج، وآقْضِ حوائجي في الدنيا والآخرة، بمحمّدٍ وآله أجمعين.
تعليق