عاود الشامي الأحمق :
ـ هَبْها لي يا أميرالمؤمنين.
ودّ يزيد لو يُسحق هذا الأحمق ، فنهره بشدّة :
ـ وَهبَ الله لك حتفاً قاضياً !
أطبق الصمت على المكان ، وكان التاريخ يتساءل عن المنتصر في كربلاء؛ يزيد أم الحسين. فنهضت امرأة رافقت الحسين على قدر تقول كلمتها معبّرة خالدة :
ـ صدق الله سبحانه حيث يقول: ثمّ كان عاقبةَ الّذين أساؤوا السُّوأى أنْ كذّبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون.. أظننتَ يا يزيد ـ حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى ـ أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟!.. فمهلاً مهلاً ! أنسِيتَ قول الله تعالى: ولا تَحسبنّ الّذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً و لهم عذابٌ مُهين ، فو الله ما فَرَيتَ إلاّ جِلدَك ، ولا حَزَزتَ إلاّ لحمَك. ولَترِدَنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ حُرمتَه في عترته.. وحسْبُك بالله حاكماً ، وبمحمّدٍ خصيماً ، وبجبريلَ ظهيراً ، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بَدَلاً. وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جُنداً.
ولئن جَرَّتْ عليَّ الدواهي ـ يا يزيد ـ مُخاطبتَك ، إنّي لاَستصغِرُ قَدْرك. فكِدْ كيدَك ، واسعَ سَعْيك ، فو اللهِ لا تمحو ذِكرنا ولا تُميت وحيَنا ، ولا يرحض عنك عارُها. وهل رأيُكَ إلاّ فنَد ، وأيامك إلاّ عَدَد ، وجمعك الاّ بَدَد ، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظّالمين.
تضاءل يزيد حتّى أصبح كذبابة أو يكاد؛ وربّما لأوّل مرّة أيقن أن الحسين لم يُقتل بعدُ وأنه ما يزال يقاتل في كربلاء ، وها هو الآن على أبواب دمشق. فلعن في نفسه ذلك الأرقطَ الأحمق لأنّه لم يقتلهم جميعاً ، ها هي زينب تحمل قلب الحسين وفصاحة عليّ وهيبة محمّد. وها هي الشام تتساءل عن رجل اسمه الحسين وعن امرأة اسمها زينب.
غادرت القافلة ربوع الشام في طريقها إلى كربلاء ، وعرف الدليل الطريق ، وراحت القافلة تسابق أمواج الفرات.
وتساءل الأطفال عن جنودٍ ورماح كانوا يحرسون النهر.. يحرمون القلوب الظامئة والأكباد الحرّى من قطرة ماء.
وكانت الطيور والغِزلان تمرح في الشواطئ.. ترتاد النهر بحرّية.
ـ لو تدري أيها النهر! عن قلوب ذوَتْ عطشاً على شطآنك !!
كان الحسين يذوب ظمأً.. قلبه يتفطّر ، وأنت تجري.. تنثال مياهك على الشواطئ.. تهبها الحياة ، وتمنح الأرض السمراء عشبك الأخضر.. وفي عاشوراء تركتَ قلوباً صغيرة تتلوّى عطشاً ، وكان " الرضيع " يمدّ يداً صغيرة ؛ يطلب قطرة ماء.. ما تزال يده ممدودة تستفهم التاريخ والانسان.
لاحت أرض كربلاء من بعيد.. الأرض التي شهدت قبل أربعين يوماً مصرع الحسين.
سهام مغروسة في الرمال.. سيوف مهشّمة وبقايا رماد..
قفزت الحوادث الرهيبة إلى الذاكرة. تجسّدت أمام العيون. وتردّد صداها في القلوب.
هرولَت "الرَّباب" إلى كومة رمل صغيرة.. تضمّ رضيعها الشهيد! احتضنت الرمل.. راحت تحثوه فوق رأسها:
ـ هلمّ إليّ يا صغيري..
وتساقطت قطرات من لبن سائغ فوق الثرى ، فامتزجت مع الدموع.
كان الرضيع غافياً في أحضان الأرض التي لوّنها بدمه الرائق ؛ وعندما هوّمت عيناها ، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الرضيع الشهيد. وكان الأطفال يدورون بين القبور كحمائمَ برّية تبحث عن أعشاشها.
ووقفت زينب تتأمّل الصمت المهيمن.. وهي تستيعد حوادث يومٍ طويل.. يومَ حطّم الحسينُ شبَحَ الموت.. يرسم بدمائه الطريق.. الطريق إلى جنان تجري من تحتها الأنهار.. وشواطئ الفرات تختزن الملح.. أمواجه سراب ، وظلال الخيل رماد ، والنهر حيّة يقهرها الظمأ.
والحسين يهوي بسيفه على صخور الزمن ، فتنبجس منها ينابيع الخلود.. والحسين يقهر الموت ، ينتزع من بين طواياه الحياة.
من بعيدٍ لاح "جابر".. رجل نصَر النبيّ ، وجاء اليوم يزور سِبطه. وكان مع الأنصاري عصبة من بني هاشم.. شمّ جابر رائحة النبيّ فهوى يقبل قبر الحسين :
ـ يا حسين.. يا حسين.. يا حسين.. حبيب لا يجيب حبيبه ، وأنّى لك بالجواب وقد فُرِّق بين رأسك وبدنك!.. أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
وأجال جابر بصره الواهن بين القبور :
ـ السّلام عليكم أيتها الأرواح التي حَلّت بفِناء الحسين وأناخَت برَحله.. أشهد أنكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين. والذي بَعثَ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق نبياً ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
فقال رجل كان معه ، وقد اتّسعت عيناه دهشة :
ـ كيف ولم نَهبط وادياً ولم نَعلُ جبلاً ولم نضربْ بسيف ؟!
وتداعت في أعماق جابر كلماتٌ قالها محمد من قبل :
ـ سمعتُ حبيبي رسول الله يقول : "مَن أحبّ قوماً كان معهم ، ومن أحبّ عمل قوم أُشرِك في عملهم".. والذي بعث محمداً بالحق نبياً ، إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
كانت الشمس على وشك أن تغيب وقد بدت حمراء.. حمراء كعين تسحّ دموعاً ثقالاً.
نهض جابر وقد تعفّر وجهه بتراب الحسين. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة ، كان النبيّ يداعب صبياً في ربيعه الخامس ويقول : حسين مني وأنا من حسين..
هتف جابر وسط الصمت وكان الفرات يجري.. تتدافع أمواجه :
ـ أشهد أني قد سمعت ذلك من حبيبي محمّد.
غابت الشمس خلف الرمال الممتدّة ، ونشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض ، وانبرى رجال يدقّون أوتاد خيام صغيرة..
فزينب تريد البقاء إلى جنب أخيها الحسين.
مضى يومان والقافلة التي غادرت الشام وما تزال في كربلاء تسقي رمالها دموعاً ساخنة بعد أن ارتوت من دماء الحسين وسبعين من حواريّيه.انطلق الأطفال إلى الفرات ، وقد بدا.. والنخيل تحفّ شاطئيه : حورّية نهضت لتوِّها من النوم.
غمس الصغار أرجلهم في المياه ، وكانت الأمواج تغسل أقدامهم برفق.. كأنّ النهر يعتذر إليهم عن يوم حرَمهم فيه من قطرة ماء.
تذكّروا أيّام العطش. كانوا ينظرون جهة النهر.. وكان النهر أسيراً تحرسه رماح وسهام. تذكروا صرخاتهم.. بكاءهم وهم يصيحون :
ـ العطش.. العطش !
ـ هَبْها لي يا أميرالمؤمنين.
ودّ يزيد لو يُسحق هذا الأحمق ، فنهره بشدّة :
ـ وَهبَ الله لك حتفاً قاضياً !
أطبق الصمت على المكان ، وكان التاريخ يتساءل عن المنتصر في كربلاء؛ يزيد أم الحسين. فنهضت امرأة رافقت الحسين على قدر تقول كلمتها معبّرة خالدة :
ـ صدق الله سبحانه حيث يقول: ثمّ كان عاقبةَ الّذين أساؤوا السُّوأى أنْ كذّبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون.. أظننتَ يا يزيد ـ حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى ـ أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ؟!.. فمهلاً مهلاً ! أنسِيتَ قول الله تعالى: ولا تَحسبنّ الّذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً و لهم عذابٌ مُهين ، فو الله ما فَرَيتَ إلاّ جِلدَك ، ولا حَزَزتَ إلاّ لحمَك. ولَترِدَنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ حُرمتَه في عترته.. وحسْبُك بالله حاكماً ، وبمحمّدٍ خصيماً ، وبجبريلَ ظهيراً ، وسيعلم مَن سوَّل لك ومكَّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بَدَلاً. وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعف جُنداً.
ولئن جَرَّتْ عليَّ الدواهي ـ يا يزيد ـ مُخاطبتَك ، إنّي لاَستصغِرُ قَدْرك. فكِدْ كيدَك ، واسعَ سَعْيك ، فو اللهِ لا تمحو ذِكرنا ولا تُميت وحيَنا ، ولا يرحض عنك عارُها. وهل رأيُكَ إلاّ فنَد ، وأيامك إلاّ عَدَد ، وجمعك الاّ بَدَد ، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظّالمين.
تضاءل يزيد حتّى أصبح كذبابة أو يكاد؛ وربّما لأوّل مرّة أيقن أن الحسين لم يُقتل بعدُ وأنه ما يزال يقاتل في كربلاء ، وها هو الآن على أبواب دمشق. فلعن في نفسه ذلك الأرقطَ الأحمق لأنّه لم يقتلهم جميعاً ، ها هي زينب تحمل قلب الحسين وفصاحة عليّ وهيبة محمّد. وها هي الشام تتساءل عن رجل اسمه الحسين وعن امرأة اسمها زينب.
غادرت القافلة ربوع الشام في طريقها إلى كربلاء ، وعرف الدليل الطريق ، وراحت القافلة تسابق أمواج الفرات.
وتساءل الأطفال عن جنودٍ ورماح كانوا يحرسون النهر.. يحرمون القلوب الظامئة والأكباد الحرّى من قطرة ماء.
وكانت الطيور والغِزلان تمرح في الشواطئ.. ترتاد النهر بحرّية.
ـ لو تدري أيها النهر! عن قلوب ذوَتْ عطشاً على شطآنك !!
كان الحسين يذوب ظمأً.. قلبه يتفطّر ، وأنت تجري.. تنثال مياهك على الشواطئ.. تهبها الحياة ، وتمنح الأرض السمراء عشبك الأخضر.. وفي عاشوراء تركتَ قلوباً صغيرة تتلوّى عطشاً ، وكان " الرضيع " يمدّ يداً صغيرة ؛ يطلب قطرة ماء.. ما تزال يده ممدودة تستفهم التاريخ والانسان.
لاحت أرض كربلاء من بعيد.. الأرض التي شهدت قبل أربعين يوماً مصرع الحسين.
سهام مغروسة في الرمال.. سيوف مهشّمة وبقايا رماد..
قفزت الحوادث الرهيبة إلى الذاكرة. تجسّدت أمام العيون. وتردّد صداها في القلوب.
هرولَت "الرَّباب" إلى كومة رمل صغيرة.. تضمّ رضيعها الشهيد! احتضنت الرمل.. راحت تحثوه فوق رأسها:
ـ هلمّ إليّ يا صغيري..
وتساقطت قطرات من لبن سائغ فوق الثرى ، فامتزجت مع الدموع.
كان الرضيع غافياً في أحضان الأرض التي لوّنها بدمه الرائق ؛ وعندما هوّمت عيناها ، رأت نافورة ماء تنبجس من نحر الرضيع الشهيد. وكان الأطفال يدورون بين القبور كحمائمَ برّية تبحث عن أعشاشها.
ووقفت زينب تتأمّل الصمت المهيمن.. وهي تستيعد حوادث يومٍ طويل.. يومَ حطّم الحسينُ شبَحَ الموت.. يرسم بدمائه الطريق.. الطريق إلى جنان تجري من تحتها الأنهار.. وشواطئ الفرات تختزن الملح.. أمواجه سراب ، وظلال الخيل رماد ، والنهر حيّة يقهرها الظمأ.
والحسين يهوي بسيفه على صخور الزمن ، فتنبجس منها ينابيع الخلود.. والحسين يقهر الموت ، ينتزع من بين طواياه الحياة.
من بعيدٍ لاح "جابر".. رجل نصَر النبيّ ، وجاء اليوم يزور سِبطه. وكان مع الأنصاري عصبة من بني هاشم.. شمّ جابر رائحة النبيّ فهوى يقبل قبر الحسين :
ـ يا حسين.. يا حسين.. يا حسين.. حبيب لا يجيب حبيبه ، وأنّى لك بالجواب وقد فُرِّق بين رأسك وبدنك!.. أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
وأجال جابر بصره الواهن بين القبور :
ـ السّلام عليكم أيتها الأرواح التي حَلّت بفِناء الحسين وأناخَت برَحله.. أشهد أنكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين. والذي بَعثَ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحق نبياً ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
فقال رجل كان معه ، وقد اتّسعت عيناه دهشة :
ـ كيف ولم نَهبط وادياً ولم نَعلُ جبلاً ولم نضربْ بسيف ؟!
وتداعت في أعماق جابر كلماتٌ قالها محمد من قبل :
ـ سمعتُ حبيبي رسول الله يقول : "مَن أحبّ قوماً كان معهم ، ومن أحبّ عمل قوم أُشرِك في عملهم".. والذي بعث محمداً بالحق نبياً ، إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه.
كانت الشمس على وشك أن تغيب وقد بدت حمراء.. حمراء كعين تسحّ دموعاً ثقالاً.
نهض جابر وقد تعفّر وجهه بتراب الحسين. تمتم بحديث لحبيبه كان قد سمعه قبل أكثر من خمسين سنة ، كان النبيّ يداعب صبياً في ربيعه الخامس ويقول : حسين مني وأنا من حسين..
هتف جابر وسط الصمت وكان الفرات يجري.. تتدافع أمواجه :
ـ أشهد أني قد سمعت ذلك من حبيبي محمّد.
غابت الشمس خلف الرمال الممتدّة ، ونشر المساء ستائره الرمادية فوق الأرض ، وانبرى رجال يدقّون أوتاد خيام صغيرة..
فزينب تريد البقاء إلى جنب أخيها الحسين.
مضى يومان والقافلة التي غادرت الشام وما تزال في كربلاء تسقي رمالها دموعاً ساخنة بعد أن ارتوت من دماء الحسين وسبعين من حواريّيه.انطلق الأطفال إلى الفرات ، وقد بدا.. والنخيل تحفّ شاطئيه : حورّية نهضت لتوِّها من النوم.
غمس الصغار أرجلهم في المياه ، وكانت الأمواج تغسل أقدامهم برفق.. كأنّ النهر يعتذر إليهم عن يوم حرَمهم فيه من قطرة ماء.
تذكّروا أيّام العطش. كانوا ينظرون جهة النهر.. وكان النهر أسيراً تحرسه رماح وسهام. تذكروا صرخاتهم.. بكاءهم وهم يصيحون :
ـ العطش.. العطش !
اترك تعليق: