دور الزوجة في إسعاد الزوج
السعادة أجمل كلمة في لغات العالم ، وأسمى هدف في مسعى الإنسان في هذه الحياة ، وهي في معناها الشامل : الحبور الذي ينتج عن وصول المرء إلى درجة الرضا الكامل ، والطمأنينة التامة في أفكاره وسلوكه وعلاقاته وحاجاته من جميع النواحي ، وليس من الضروري أن تكون شاملة عامة ، فقد يكون المرء سعيداً في جانب ، وغير سعيد في جانب آخر ، حيث لا ينافي ذلك كونه سعيداً في الجملة .
وقد أضفى الإسلام على السعادة بعداً سماوياً ، لتكون السعادة الحقيقية في انسجام الإنسان مع نفسه ، ومحيطه في إطار التوجيه الإلهي ، الذي يرجع الأمور جميعاً إلى الباري تعالى ، ويعطي الأشياء حقائقها في أصل التكوين ، فليست السعادة مجرد التعلم أو الطعام أو الجنس .. بل هي التعلم النافع الموصل للغاية ، والطعام الصحي المفيد المحلّل ، والجنس الطاهر النظيف ، بل السعادة ليست هذه الدنيا ، بل هي الآخرة بفرق هائل كبير ، ومع ذلك حرص الإسلام على سعادة الإنسان في هذه الدنيا ، فسخر له كل شيء ، وزوده بالوسائل التي تساعده على تلبية حاجاته ، فكان الدين أهم هذه الوسائل التي تنير الطريق في ظلام العلاقات والغرائز والطبيعة ، وكان السعي والعمل هو ثمن السعادة الذي لابد من بذله لنيلها .
الأسرة والسعادة :
وفي هذا السياق لابد أن نعتبر الزواج من جملة الوسائل التي تحقق السعادة للإنسان ، وذلك نظراً لما يترتب على الزواج من منافع مختلفة للفرد وللجماعة ، وليس أقلها شأناً قضاء حاجة الجنس ، أو الانسجام النفسي والطمأنينة التي تحصل من معايشة رفيق نبيل خلوق ، أو الأولاد الذين تستمر بهم عملية التناسل وإعمار الحياة ، والنموذج الجيد الناتج من حسن تربيتهم وتأديبهم ، أو غير ذلك من الأمور التي تترتب على الزواج بنحو قطعي وقهري ، ليساهم في السعادة مساهمة فاعلة قوية ، تجعل الفرق كبيراً بين سعادة الأعزب والمتزوج ، وتوضح السر في ذم الإسلام للعزوبة والعزاب ، ومدحه الكبير للزواج والمتزوجين ، وقد تضافرت الأحاديث على ذلك لتبلغ حداً من المعلومية والشهرة يغنينا عن ذكرها ، ويستوقفنا من هذه الأحاديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : (( أراذل موتاكم العزاب )) (1) ، ذلك أن بين العزّاب أتقياء أو علماء أو شهداء ، أفإن ماتوا عزّاباً كانوا أراذل ؟؟ !!
يبدو لي أن المراد من تعبير (الأراذل) ، الذين لم ينالوا أمانيهم في الدنيا ، ولا اسنجموا مع المستوى الاعتيادي للعيش فيها ، فماتوا في مرتبة دون التي يجب أن يصلوا إليها ، حيث من الطبيعي أن يكون المرء مكتفياً في عيشه غير فقير ، وأن يكون متزوجاً ذا أولاد ، وأن يكون وجيهاً شريفاً في قومه وعشيرته ، وأن يكون متعلماً عارماً ... وهكذا يكون المحروم من ذلك مرذولاً والحائز عليها شريفاً ، وقد يستأنس لذلك بوصف قوم نوح للذين آمنوا به ، بالأراذل في قوله تعالى : (( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ )) (2) ، فقد اعتبروهم أراذل لأنهم دون قومهم مالاً ومستوى اجتماعياً وفكرياً .
من أجل ذلك يمكن ألقول إن الأعزب حتى لو كان مؤمناً ، وهو في مرتبة دون المؤمن المتزوج ، تحصناً عن المحرمات ، وخبرة بالنفوس ، وصبراً على البلايا ، وسعادة نفسية ، ومن يكون دون غيره يكون مرذولاً ، أي ساقطاً وهابطاً عن المستوى الذي عليه التكوين ، والذي يحبه الله تعالى .
وكفى بهذا الحديث دلالة على أهمية الزواج في الحياة ، وعلى دوره في تحقيق الانسجام بين الإنسان وفطرته ، ومحيطه المقتضي لحصول السعادة ، والاستقرار في حياته .
وهم السعادة :
وإن من جملة الأفكار المشبوهة التي دخلت مجتمعنا الإسلامي ، ولوثت أفكاره ، تمجيد العزوبية وذم الزواج والحياة الأسرية ، سواء في إطار الدعوة إلى الزهد والتصوف المنحرف ، أو في إطار الدعوة إلى التحلل الجنسي والفوضى الأخلاقية ، التي تأثر بها العديد من مثقفينا في هذا العصر ، تقليداً للغرب وحضارته المادية المنحرفة ، وإذا كان ثقل المسؤولية هو الذي يُكرّه بعض الناس بالزواج ، فإن هذا شأن ضعاف النفوس ، الذين يتخيلون السعادة بالحياة الفارغة الرخية ، بل هو شأن الذين لا يعرفون أن لذة الطعام واستشعار السعادة منه لا تحصل إلاّ بعد معاناة الطبخ والمضغ والهضم ، وأن لذة العلم لا تنال إلاّ بالتفكر والتعب والسهر ، فإن كانت المسؤولية هي شرف الإنسان ، وحقيقة إنسانيته يصبح الزواج ـ كما كل شيء آخر ـ مسعداً ، بقدر ما فيه من مسؤولية ومعاناة لذيذة ، ومعه لا عجب أن يكون الجيل الذي تخيفه مسؤولية الزواج جيلاً ضعيفاً مهزوماً ، كما لا عجب أن تكون سمة هذا العصر وهذه الحضارة الشقاء والقلق .
ولكن بحمد الله تعالى لا يبقى هؤلاء هم النشاز أمام قوة الفطرة وأصالتها ، حيث لا تزال للأسرة وللزواج مكانتهما الرفيعة عند البشر ، مهما عصفت رياح التحلل .
إسعاد متبادل :
وعلى هذا الأساس يعتبر الزواج ركناً في سعادة الفرد ، لأنه يتيح له سد غائلة الجنس بنحو هادئ وصحي ، بعيداً عن قلق المغامرات العاطفية ، وعن قذارة العلاقة المتحللة ، وهو يتيح توازناً روحياً ، واستقراراً في العلاقة مع الله تعالى وشريعته ، بعيداً عن إلحاح الغرائز وإغرائها بالإشباع المحرم ، فينسد بذلك باب واسع من أبواب الوساوس الشيطانية ، وينفتح به باب واسع من أبواب الإيمان والتقوى ، وكذلك فإن الزواج يضع الفرد أمام أخلاقه الحقيقية ، وأمام طاقاته المخزونة في مواجهة الحياة ، فيتعلم فن القيادة وتحمل المسؤولية والصبر الجميل والحنكة وحسن التصرف ، ونحو ذلك من الأمور التي لا تظهر إلاّ عند المعاناة ومواجهة الشدائد ، ومن جهة ثانية ، يعيش المرء ـ من خلال الزواج ـ تجربة رائعة في التضحية والحرص على إسعاد الآخرين ، زوجاً أو ولداً ، ولو على حساب بعض الراحة الشخصية ، حيث تصبح هذه المسألة والنجاح فيها سر السعادة ، الذي لا يصل إليه إلاّ الناضجون من الرجال والنساء ، وجوهر العلاقة الزوجية الذي عبرت عنه الآية الكريمة بـ ( السكن ) في قوله تعالى : (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً )) (3) ، وليس ( السكن ) إلاّ الطمأنينة الناتجة من حسن العشرة ، القائمة على الرحمة والمودة ، والتي هي عين السعادة وثمرتها .
والإسعاد ليس مطلوباً من المرأة وحدها ، بل هو عملية متبادلة ومشتركة ، يقوم كل من الزوجين بنصيبه منها تجاه الآخر ، وخلافاً لبعض الشعوب كالهنود مثلاً ، وخلافاً لما هو مرتكز ـ ظلماً وخطأ ـ في وجدان الشعوب الإسلامية ، فإن الإسعاد ليس واجب المرأة وحدها ، ولا حقّ الرجل وحده ، وإن تصور هؤلاء ذلك ، وذهبوا إلى ألوان من الممارسات التي تكرس هذا المفهوم ، وتجعل المرأة مجرد خادمة ساهرة على راحة الزوج ، دون أن يكون لها أدنى كرامة ، ودون أن يعتني بسعادتها أبداً ، وهذا خلافاً لتعاليمنا الإسلامية السمحاء .
فالإسلام يعتبر الزواج عهداً متبادلاً ، يُحمِّل كلاًّ من الزوجين مسؤولية تجاه شريكه ، ويصفه بـ (الميثاق الغليظ) ، ويعتبره سكناً لنفس الزوج ونفس الزوجة ، وعاملاً لسعادتهما ، كما مر في الآية السالفة ، ويرتب الإسلام على كل من الزوجين واجبات ، ويضمن له حقوقاً ، حيث تؤكد الآية الكريمة أن : (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )) (4) واحدة فقط ، وفي إطار الأخلاق والشريعة تعطى المرأة من الحقوق مثلما يعطى الرجل ، ليبدو من جميع ذلك ، أن الرجل ليس قطب الرحى في الحياة الزوجية ، وكما من حقه أن يسعد في هذه الحياة ، كذلك من حق الزوجة بنفس المرتبة .
ونحن في هذا البحث لا نريد أن نكرس ذلك المعنى الجاهلي المنحرف ، بل نريد أن نخص دور المرأة في إسعاد زوجها ، لنعود في بحث آخر للحديث عن دور الزوج في إسعاد زوجته ، ومن أجل بعض الاعتبارات الأخرى ، التي سوف تظهر خلال المعالجة .
دور المرأة في إسعاد الزوج :
والحقيقة أن السعادة التي يستشعرها الرجل في عالم الزواج ، وبرفقة امرأة صالحة ؛ لا تعدلها سعادة أخرى ، غير لذة الإيمان وحلاوته ، وقد ورد التصريح في بعض الروايات ، بأن من أسباب السعادة الزوجة الصالحة (5) ، ولا عجب في ذلك ، فإن الوحدة الموحشة والشخصية غير الناضجة ؛ موجبة للشقاء واضطراب العلاقات ، بينما يكون الأنس بشريك متفهم ، يُعين على الدين والدنيا ، ويزرع البسمة والحيوية في أرجاء البيت ، يكون هذا الشريك من موجبات السعادة وأركانها .
ولعل من نافلة القول التذكير بأن انسجام العلاقة بين الزوجين هو جوهر السعادة الزوجية ، وهذا الانسجام لن يحصل ؛ إلاّ إذا رأى الزوج في زوجته معيناً له في متاعبه ، ومقدراً لآماله ومزاجه ، وحريصاً على بذل الخير في سبيله ، وعند ذلك يشعر الرجل بالطمأنينة والسعادة .. عندما يتوفر له الجو الذي يدفعه لتحقيق آماله في الحياة بعزيمة وقوة ، بحيث يحسن إنتاجه ويعظم دوره كلما خلا قلبه من الشواغل ونفسه من القلق ، ومن ثم فإن الرجل السعيد لابد أن تشاركه زوجته في شرف الدور ، وضخامة الإنجاز بمقدار ما تكون قد هيأت له الظروف المناسبة ، ليكون ـ فعلاً ـ وراء كل رجل عظيم ، إمرأة .
والمرأة قادرة على توفير السعادة للرجل بكل جد وإخلاص وقوة ؛ لأنها عندما تحب زوجها فسوف تشتد في التضحية أمامه ، بسبب ما في تكوينها النفسي من مخزون عاطفي عظيم ، يجعل معظم همها في الرجل ، بحيث أن مدار حياة المرأة وعواطفها وأعظم غاياتها أن تقترن برجل يحبها وتلد منه وتعيش في كنفه ، وهذا الهم يغلب حتى على الإيمان عند معظم النساء ، إلاّ من رحم ربي من النساء المؤمنات القانتات ، وقد ورد التصريح بذلك في رواية عن الإمام علي (عليه السلام) : ((خلق الرجال من الأرض ، وإنما همهم في الأرض ، وخلقت المرأة من الرجال ، وإنما همها في الرجال .. )) (6) ، وهو حديث واقعي تماماً ، فإن المتزوجين يعرفون أن مدار حياة المرأة هو زوجها ، بينما همة الرجل التي تملك أقطار نفسه هي (الأرض) أي الحياة ، وما فيها من شؤون متنوعة .
فإذا كان الأمر كذلك فإنه نقطة إيجابية جداً في صالح الرجل وسعادته ، ومفيد في توجيه العاطفة الغريزية المختزنة عند المرأة تجاه الزوج ، الذي لابد أن يحسن العشرة ويستفيد من هذه النزعة ، كذلك فإنها سوف تساعد المرأة على الأنس بحياة المنزل ، والرغبة في تهيئة أسباب الراحة للرجل ، ليس في إطار الخدمات فحسب ؛ بل حتى في إطار التهيؤ لزوجها العائد لتقدم له ما يجب ، وهو أمر قد لا تقدر عليه المرأة إذا غرقت في الحياة العامة ، وصارت همتها مثل الرجل في (الأرض) .
إذن ، كون همتها في الرجل ، وغزارة عاطفتها ، وأنسها بحياة البيت ، هي التي تضفي تميزاً على دور المرأة في إسعاد زوجها ، ربما أكثر من قدرة الزوج على إسعادها بنفس الدرجة ، وإن كان هذا الواقع النفسي ـ ذاته ـ هو الذي سوف يؤثر سلباً على سعادة الرجل عند إفراط المرأة في الانسياق مع هذا الواقع .
للبحث صلة ...
ــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 6.
(2) هود: 27.
(3) الروم: 21.
(4) البقرة: 288.
(5) وسائل الشيعة، ج 14، ص 23.
(6) المصدر نفسه ، ج 14 ، ص 41. والتصريح فيه بأن المرأة قد خلقت من الرجل ، وهو موضوع يطول الكلام فيه . والظاهر أن المعنى هنا من قبيل الرمز ، حيث يظهر من بعض الأحاديث نفي ذلك ، وتأكيد أن المرأة خُلقت من الطين مثل الرجل .
مجلة نور الاسلام : 5 - 6
السعادة أجمل كلمة في لغات العالم ، وأسمى هدف في مسعى الإنسان في هذه الحياة ، وهي في معناها الشامل : الحبور الذي ينتج عن وصول المرء إلى درجة الرضا الكامل ، والطمأنينة التامة في أفكاره وسلوكه وعلاقاته وحاجاته من جميع النواحي ، وليس من الضروري أن تكون شاملة عامة ، فقد يكون المرء سعيداً في جانب ، وغير سعيد في جانب آخر ، حيث لا ينافي ذلك كونه سعيداً في الجملة .
وقد أضفى الإسلام على السعادة بعداً سماوياً ، لتكون السعادة الحقيقية في انسجام الإنسان مع نفسه ، ومحيطه في إطار التوجيه الإلهي ، الذي يرجع الأمور جميعاً إلى الباري تعالى ، ويعطي الأشياء حقائقها في أصل التكوين ، فليست السعادة مجرد التعلم أو الطعام أو الجنس .. بل هي التعلم النافع الموصل للغاية ، والطعام الصحي المفيد المحلّل ، والجنس الطاهر النظيف ، بل السعادة ليست هذه الدنيا ، بل هي الآخرة بفرق هائل كبير ، ومع ذلك حرص الإسلام على سعادة الإنسان في هذه الدنيا ، فسخر له كل شيء ، وزوده بالوسائل التي تساعده على تلبية حاجاته ، فكان الدين أهم هذه الوسائل التي تنير الطريق في ظلام العلاقات والغرائز والطبيعة ، وكان السعي والعمل هو ثمن السعادة الذي لابد من بذله لنيلها .
الأسرة والسعادة :
وفي هذا السياق لابد أن نعتبر الزواج من جملة الوسائل التي تحقق السعادة للإنسان ، وذلك نظراً لما يترتب على الزواج من منافع مختلفة للفرد وللجماعة ، وليس أقلها شأناً قضاء حاجة الجنس ، أو الانسجام النفسي والطمأنينة التي تحصل من معايشة رفيق نبيل خلوق ، أو الأولاد الذين تستمر بهم عملية التناسل وإعمار الحياة ، والنموذج الجيد الناتج من حسن تربيتهم وتأديبهم ، أو غير ذلك من الأمور التي تترتب على الزواج بنحو قطعي وقهري ، ليساهم في السعادة مساهمة فاعلة قوية ، تجعل الفرق كبيراً بين سعادة الأعزب والمتزوج ، وتوضح السر في ذم الإسلام للعزوبة والعزاب ، ومدحه الكبير للزواج والمتزوجين ، وقد تضافرت الأحاديث على ذلك لتبلغ حداً من المعلومية والشهرة يغنينا عن ذكرها ، ويستوقفنا من هذه الأحاديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : (( أراذل موتاكم العزاب )) (1) ، ذلك أن بين العزّاب أتقياء أو علماء أو شهداء ، أفإن ماتوا عزّاباً كانوا أراذل ؟؟ !!
يبدو لي أن المراد من تعبير (الأراذل) ، الذين لم ينالوا أمانيهم في الدنيا ، ولا اسنجموا مع المستوى الاعتيادي للعيش فيها ، فماتوا في مرتبة دون التي يجب أن يصلوا إليها ، حيث من الطبيعي أن يكون المرء مكتفياً في عيشه غير فقير ، وأن يكون متزوجاً ذا أولاد ، وأن يكون وجيهاً شريفاً في قومه وعشيرته ، وأن يكون متعلماً عارماً ... وهكذا يكون المحروم من ذلك مرذولاً والحائز عليها شريفاً ، وقد يستأنس لذلك بوصف قوم نوح للذين آمنوا به ، بالأراذل في قوله تعالى : (( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ )) (2) ، فقد اعتبروهم أراذل لأنهم دون قومهم مالاً ومستوى اجتماعياً وفكرياً .
من أجل ذلك يمكن ألقول إن الأعزب حتى لو كان مؤمناً ، وهو في مرتبة دون المؤمن المتزوج ، تحصناً عن المحرمات ، وخبرة بالنفوس ، وصبراً على البلايا ، وسعادة نفسية ، ومن يكون دون غيره يكون مرذولاً ، أي ساقطاً وهابطاً عن المستوى الذي عليه التكوين ، والذي يحبه الله تعالى .
وكفى بهذا الحديث دلالة على أهمية الزواج في الحياة ، وعلى دوره في تحقيق الانسجام بين الإنسان وفطرته ، ومحيطه المقتضي لحصول السعادة ، والاستقرار في حياته .
وهم السعادة :
وإن من جملة الأفكار المشبوهة التي دخلت مجتمعنا الإسلامي ، ولوثت أفكاره ، تمجيد العزوبية وذم الزواج والحياة الأسرية ، سواء في إطار الدعوة إلى الزهد والتصوف المنحرف ، أو في إطار الدعوة إلى التحلل الجنسي والفوضى الأخلاقية ، التي تأثر بها العديد من مثقفينا في هذا العصر ، تقليداً للغرب وحضارته المادية المنحرفة ، وإذا كان ثقل المسؤولية هو الذي يُكرّه بعض الناس بالزواج ، فإن هذا شأن ضعاف النفوس ، الذين يتخيلون السعادة بالحياة الفارغة الرخية ، بل هو شأن الذين لا يعرفون أن لذة الطعام واستشعار السعادة منه لا تحصل إلاّ بعد معاناة الطبخ والمضغ والهضم ، وأن لذة العلم لا تنال إلاّ بالتفكر والتعب والسهر ، فإن كانت المسؤولية هي شرف الإنسان ، وحقيقة إنسانيته يصبح الزواج ـ كما كل شيء آخر ـ مسعداً ، بقدر ما فيه من مسؤولية ومعاناة لذيذة ، ومعه لا عجب أن يكون الجيل الذي تخيفه مسؤولية الزواج جيلاً ضعيفاً مهزوماً ، كما لا عجب أن تكون سمة هذا العصر وهذه الحضارة الشقاء والقلق .
ولكن بحمد الله تعالى لا يبقى هؤلاء هم النشاز أمام قوة الفطرة وأصالتها ، حيث لا تزال للأسرة وللزواج مكانتهما الرفيعة عند البشر ، مهما عصفت رياح التحلل .
إسعاد متبادل :
وعلى هذا الأساس يعتبر الزواج ركناً في سعادة الفرد ، لأنه يتيح له سد غائلة الجنس بنحو هادئ وصحي ، بعيداً عن قلق المغامرات العاطفية ، وعن قذارة العلاقة المتحللة ، وهو يتيح توازناً روحياً ، واستقراراً في العلاقة مع الله تعالى وشريعته ، بعيداً عن إلحاح الغرائز وإغرائها بالإشباع المحرم ، فينسد بذلك باب واسع من أبواب الوساوس الشيطانية ، وينفتح به باب واسع من أبواب الإيمان والتقوى ، وكذلك فإن الزواج يضع الفرد أمام أخلاقه الحقيقية ، وأمام طاقاته المخزونة في مواجهة الحياة ، فيتعلم فن القيادة وتحمل المسؤولية والصبر الجميل والحنكة وحسن التصرف ، ونحو ذلك من الأمور التي لا تظهر إلاّ عند المعاناة ومواجهة الشدائد ، ومن جهة ثانية ، يعيش المرء ـ من خلال الزواج ـ تجربة رائعة في التضحية والحرص على إسعاد الآخرين ، زوجاً أو ولداً ، ولو على حساب بعض الراحة الشخصية ، حيث تصبح هذه المسألة والنجاح فيها سر السعادة ، الذي لا يصل إليه إلاّ الناضجون من الرجال والنساء ، وجوهر العلاقة الزوجية الذي عبرت عنه الآية الكريمة بـ ( السكن ) في قوله تعالى : (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً )) (3) ، وليس ( السكن ) إلاّ الطمأنينة الناتجة من حسن العشرة ، القائمة على الرحمة والمودة ، والتي هي عين السعادة وثمرتها .
والإسعاد ليس مطلوباً من المرأة وحدها ، بل هو عملية متبادلة ومشتركة ، يقوم كل من الزوجين بنصيبه منها تجاه الآخر ، وخلافاً لبعض الشعوب كالهنود مثلاً ، وخلافاً لما هو مرتكز ـ ظلماً وخطأ ـ في وجدان الشعوب الإسلامية ، فإن الإسعاد ليس واجب المرأة وحدها ، ولا حقّ الرجل وحده ، وإن تصور هؤلاء ذلك ، وذهبوا إلى ألوان من الممارسات التي تكرس هذا المفهوم ، وتجعل المرأة مجرد خادمة ساهرة على راحة الزوج ، دون أن يكون لها أدنى كرامة ، ودون أن يعتني بسعادتها أبداً ، وهذا خلافاً لتعاليمنا الإسلامية السمحاء .
فالإسلام يعتبر الزواج عهداً متبادلاً ، يُحمِّل كلاًّ من الزوجين مسؤولية تجاه شريكه ، ويصفه بـ (الميثاق الغليظ) ، ويعتبره سكناً لنفس الزوج ونفس الزوجة ، وعاملاً لسعادتهما ، كما مر في الآية السالفة ، ويرتب الإسلام على كل من الزوجين واجبات ، ويضمن له حقوقاً ، حيث تؤكد الآية الكريمة أن : (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )) (4) واحدة فقط ، وفي إطار الأخلاق والشريعة تعطى المرأة من الحقوق مثلما يعطى الرجل ، ليبدو من جميع ذلك ، أن الرجل ليس قطب الرحى في الحياة الزوجية ، وكما من حقه أن يسعد في هذه الحياة ، كذلك من حق الزوجة بنفس المرتبة .
ونحن في هذا البحث لا نريد أن نكرس ذلك المعنى الجاهلي المنحرف ، بل نريد أن نخص دور المرأة في إسعاد زوجها ، لنعود في بحث آخر للحديث عن دور الزوج في إسعاد زوجته ، ومن أجل بعض الاعتبارات الأخرى ، التي سوف تظهر خلال المعالجة .
دور المرأة في إسعاد الزوج :
والحقيقة أن السعادة التي يستشعرها الرجل في عالم الزواج ، وبرفقة امرأة صالحة ؛ لا تعدلها سعادة أخرى ، غير لذة الإيمان وحلاوته ، وقد ورد التصريح في بعض الروايات ، بأن من أسباب السعادة الزوجة الصالحة (5) ، ولا عجب في ذلك ، فإن الوحدة الموحشة والشخصية غير الناضجة ؛ موجبة للشقاء واضطراب العلاقات ، بينما يكون الأنس بشريك متفهم ، يُعين على الدين والدنيا ، ويزرع البسمة والحيوية في أرجاء البيت ، يكون هذا الشريك من موجبات السعادة وأركانها .
ولعل من نافلة القول التذكير بأن انسجام العلاقة بين الزوجين هو جوهر السعادة الزوجية ، وهذا الانسجام لن يحصل ؛ إلاّ إذا رأى الزوج في زوجته معيناً له في متاعبه ، ومقدراً لآماله ومزاجه ، وحريصاً على بذل الخير في سبيله ، وعند ذلك يشعر الرجل بالطمأنينة والسعادة .. عندما يتوفر له الجو الذي يدفعه لتحقيق آماله في الحياة بعزيمة وقوة ، بحيث يحسن إنتاجه ويعظم دوره كلما خلا قلبه من الشواغل ونفسه من القلق ، ومن ثم فإن الرجل السعيد لابد أن تشاركه زوجته في شرف الدور ، وضخامة الإنجاز بمقدار ما تكون قد هيأت له الظروف المناسبة ، ليكون ـ فعلاً ـ وراء كل رجل عظيم ، إمرأة .
والمرأة قادرة على توفير السعادة للرجل بكل جد وإخلاص وقوة ؛ لأنها عندما تحب زوجها فسوف تشتد في التضحية أمامه ، بسبب ما في تكوينها النفسي من مخزون عاطفي عظيم ، يجعل معظم همها في الرجل ، بحيث أن مدار حياة المرأة وعواطفها وأعظم غاياتها أن تقترن برجل يحبها وتلد منه وتعيش في كنفه ، وهذا الهم يغلب حتى على الإيمان عند معظم النساء ، إلاّ من رحم ربي من النساء المؤمنات القانتات ، وقد ورد التصريح بذلك في رواية عن الإمام علي (عليه السلام) : ((خلق الرجال من الأرض ، وإنما همهم في الأرض ، وخلقت المرأة من الرجال ، وإنما همها في الرجال .. )) (6) ، وهو حديث واقعي تماماً ، فإن المتزوجين يعرفون أن مدار حياة المرأة هو زوجها ، بينما همة الرجل التي تملك أقطار نفسه هي (الأرض) أي الحياة ، وما فيها من شؤون متنوعة .
فإذا كان الأمر كذلك فإنه نقطة إيجابية جداً في صالح الرجل وسعادته ، ومفيد في توجيه العاطفة الغريزية المختزنة عند المرأة تجاه الزوج ، الذي لابد أن يحسن العشرة ويستفيد من هذه النزعة ، كذلك فإنها سوف تساعد المرأة على الأنس بحياة المنزل ، والرغبة في تهيئة أسباب الراحة للرجل ، ليس في إطار الخدمات فحسب ؛ بل حتى في إطار التهيؤ لزوجها العائد لتقدم له ما يجب ، وهو أمر قد لا تقدر عليه المرأة إذا غرقت في الحياة العامة ، وصارت همتها مثل الرجل في (الأرض) .
إذن ، كون همتها في الرجل ، وغزارة عاطفتها ، وأنسها بحياة البيت ، هي التي تضفي تميزاً على دور المرأة في إسعاد زوجها ، ربما أكثر من قدرة الزوج على إسعادها بنفس الدرجة ، وإن كان هذا الواقع النفسي ـ ذاته ـ هو الذي سوف يؤثر سلباً على سعادة الرجل عند إفراط المرأة في الانسياق مع هذا الواقع .
للبحث صلة ...
ــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة، ج 14، ص 6.
(2) هود: 27.
(3) الروم: 21.
(4) البقرة: 288.
(5) وسائل الشيعة، ج 14، ص 23.
(6) المصدر نفسه ، ج 14 ، ص 41. والتصريح فيه بأن المرأة قد خلقت من الرجل ، وهو موضوع يطول الكلام فيه . والظاهر أن المعنى هنا من قبيل الرمز ، حيث يظهر من بعض الأحاديث نفي ذلك ، وتأكيد أن المرأة خُلقت من الطين مثل الرجل .
مجلة نور الاسلام : 5 - 6
تعليق