كتاب
الأنوار الإلهية
تأليف
إبراهيم الأنصاري البحراني
وهذه الحقيقة قد بيِّنت في قوله تعالى :
{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }31
كيف و الجبل مهما عظم فهو جماد لا يستوعب كلام الله تعالى ، فأين التراب و ربِّ الأرباب ، ومن هنا يقول سبحانه :
{ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }32
قال صدر الحكماء المتألّهين وشيخ العرفاء الكاملين في الأسفار:
(( إعلم أيّها المسكين ، أنّ هذا القرآن أُنزل من الحق إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب وأخافيش أبصار البصائر، فلو فرض أنّ باء بسم اللّه مع عظمته التي كانت له في اللّوح نزل إلى العرش لذاب واضمحلّ ، فكيف إلى السماء الدنيا . وفي قوله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )33 إشارة إلى هذا المعنى))
و تعليقاً على ذلك قال الإمام قدس سرُّه :
((و هذا الكلام صادر عن معدن المعرفه مأخوذ عن مشكوة الوحي والنبوة ))
أقول:
ولهذا قال تعالى بعد ذلك :
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 34
و الجدير بالذكر أنَّها آيات ثلاثة وكلِّ واحدة منها تبدأ بـ "هو الله" .
قال الإمام قدِّس سرُّه:
((الآية الشريفة الأولى مشيرة إلى أسماء الصفات ، والآية
الثانية إلى أسماء الذات ، والآية الثالثة إلى أسماء الأفعال ))
هذا:
و لاحظ قوله تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ35 قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً36 نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً37 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }38
كلُّ هذه العبادات لماذا ؟ قال تعالى :
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }39
فهل بإمكاننا نحن القُصَّر أن نصل إلى شيء من مستوى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلَّم !!
ومن المناسب هنا الحديث عن آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق قال تعالى:
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }40
أقول :
ظاهر المثال هو نوع من التشبيه لنور الله جلَّ شانه كمشكاة فيها مصباح وهو سراج والمصباح فى قنديل من الزجاج و هو مضيىء متلالىء كأنَّه كوكب درِّي وهذا المصباح يتوقَّد من شجره مباركة هي شجرة الزيتون المتكاثر نفعها و الشجرة لبركتها جيئت مبهمة ، كما أنَّ الزيتونة لفخامة شأنها جاءت بدلاً من الشجرة ، وهي لا شرقية ، و لا غربية ، تستطع الشمس عليها بنحو متواصل من غير انقطاع ، كالتِّى على قمَّة جبل ، أو صحراء واسعة ، فان ثمرتها تكون أنضج و زيتها أصفى . أو أنَّهما إشارة إلى أرض الشام الواقعة في وسط المعمورة لا شرقها ولا غربها ، فإن زيتونه أجود الزيتون أو أنَّه لا فى مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها و لا مقناه تغيب عنها دائماً فيتركها نياً و فى الحديث :
{ لا خير فى شجرة و لا فى نبات فى مقناة و لا خير فيها في مضحى }
يكاد زيتها يضيىء و لو لم تمسسه نار وذلك لتلألؤه وبياضه الشديد ، فجميع تلك الأمور ضاعفت في النور و لم تنقص منه أصلاً فإن نور المصباح زاد فى إنارته صفاء الزيت و القنديل و ضبط المشكاة ، فهو نور على نور و إن كان النور حقيقة من المعدن ، كما جاء في المناجاة الشعبانية:
(( إلهى هب لي كمال الإنقطاع إليك ، و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، و تصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك))
و لكن عند التأمل في الأحاديث الشريفة التي وردت في تفسير الآية المباركة و الآية التي بعدها ، و ملاحظة القرائن المحيطة بها ، نصل إلى النتيجة التالية :
عند ملاحظة سياق الآيات نرى أنَّها تنوِّه إلى حقيقة واحدة وهي :
إنَّ الله هو نور السماوات و الأرض ، إنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ يشير إلى حقائق أخرى كما أشرنا سابقاً في بيان الفروق بين النور الحسِّي و الحقيقي41 .
فالأحاديث على اختلافها الظاهري تؤكِّد على أنَّ المصباح هو المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فقد جاء في الحديث التالي :
((عن عبد الله بن جندب قال :كتبت الى أبى الحسن الرضا صلوات الله عليه أسأله عن تفسير هذه الاية فكتب الى الجواب : أما بعد فان محمدا صلى الله عليه واله كان أمين الله فى خلقه فلما قبض النبى كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله فى أرضه ... مثلنا فى كتاب الله عزوجل "كمثل مشكوة "المشكوة فى القنديل فنحن المشكوة "فيها مصباح " المصباح محمد صلى الله عليه واله ))42
وكانوا عليهم السلام يستشهدون بآيات أخر تعزيزاً لهذا المعنى ، فقد ورد في تفسير قوله تعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ }43
و قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا... } 44
وقوله تعالى:
{ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ }45
((على بن محمد عن على بن العباس عن على بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام فى قول الله عز و جل...في حديث طويل ..قال في تفسير الآية المباركة أضاءت الأرض بنور محمدٍ كما تضىء الشمس فضرب الله مثل محمد صلى الله عليه وآله الشمس و مثل الوصى القمر و هو قوله عز و جل جعل الشمس ضياءا و القمر نورا و قوله و آيه لهم الليل نسلخ منه النهار فاذاهم مظلمون))46
و الجدير بالذكر ما ورد في تفسير الآيتين المباركتين وهما:
قوله تعالى :
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ }47
{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }48
(( علي بن ابراهيم باسناده عن ابى عبد الله عليه السلام فى قول الله تعالى: "الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ...إلى قوله... فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" قال : النور فى هذا الموضع على امير المؤمنين و الأئم عليهم السلام ))49
((أحمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن على بن اسباط و الحسن بن محبوب عن أبي ايوب عن أبي خالد الكابلى قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزلنا فقال : يا أبا خالد النور و الله الائمه عليهم السلام يا ابا خالد لنور الامام فى قلوب المؤمنين انور من الشمس المضيئه بالنهار و هم الذين ينورون قلوب المؤمنين و يحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم و يغشاهم بها ))50
وقال تعالى في شأن رسوله صلوات الله عليه :
{ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }51
المصادر
31 الحشر21
32 الحشر21
33 الحشر 21
34 الحش22 - 24
35 المزمل 1
36 المزمل2
37 المزمل3
38 المزمل4
39 المزمل5
40 النور35
41 **********
42 **********
43 البقرة 17
44 يونس 5
45 يس 37
46 الكافى ج 8 ص 379 روايه 574 باب 8
47 الأعراف 157
48 التغابن8
49 الكافى ج 1 ص 194 روايه 2
50 الكافي ج 1 ص 195 رواية 4
51 الاحزاب46
تعليق