تعيش المراة غالبا حالة من التيه واللامبالاة، واقفة حائرة غائرة العين، تتقاذفها التيارات هنا وهناك، يميناً وشمالاً، تائهة هائمة في مطبات الحياة، تتطلع إلى الأفق البعيد، ترنو إلى من يأخذ بيدها لينقذها، أو تجد مسندا لتتكئ عليه وتنقذ نفسها، أو خيمة تستظل بها من جور الأيام وفتنها. وإذا صادفت من يأخذ بيدها ليرفعها فهل ستوفق أم لا؟ وعلى أي صعيد؟ وفي أي مجال؟ وهي ذلك الكائن الرقيق والمليء بالعواطف هل باستطاعتها دخول كافة مجالات الحياة؟ وهي التي يشير إليها المجتمع، مهما وفقت وحازت على درجات الرقي، بأنها امراة!. نحاول في هذا المختصر أن نجيب على تساؤلات هذه المراة، وذاك المجتمع؛ عبر اقتفاء أثر نموذج نسوي واحد، استطاع أن يدخل كافة الأصعدة بقوة وحزم، وكانت آخر ما تفكر فيه أنها امرأة؛ لتثبت للعالم أجمع بأن المراة إذا أرادت أن تستغل ما لديها من طاقات وإمكانات، فإنها تستطيع أن تفعل المعجزات.
تعد فاطمة الزهراء (ع) نموذجاً راقياً، ومَثَلاً أعلى لكافة النساء؛ فهي الأسوة التي يجب أن يجعلها الإنسان - والمرأة بصفة خاصة - نصب عينيه؛ فمن النساء من تؤدي رسالتها في إطار البيت لتربية الأولاد ومداراة الزوج وحسب، ومنهن من تحب الانطلاق وعدم التأطير في مجال معين، سواء أكان ذلك ثقافياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً أم سياسياً، لترسم لكل منهن المنهج الذي تنتهجه في سبيل الرسالة والهدف الذي تحمله، فقد تكون في ظروف تقتضي منها الجلوس في البيت، فتكون في قمة الرقة والعاطفة، وقد تمر في ظروف تظهرها على حقيقتها القوية الصلبة.
فاطمة الزهراء (ع) والمجال السياسي: قد يعتقد البعض أن المرأة لا تستطيع الخوض والدخول في معترك السياسة، ومن الصعب أن تواجه الحكام برأيها المخالف، ومن الأصعب أن تطالب بحقوقها المشروعة وبالأخص في الدول الإسلامية اليوم. لقد برهنت الزهراء (ع) للعالم بأجمعه أن المرأة بإمكانها الدخول في هذا المجال، رغم جميع الصعوبات الموجودة التي تحول دون ذلك؛ فقد خاضت الزهراء (ع) هذا المجال وهي في أصعب وأشد الأحوال؛ ففقدان أبيها (ص) من جهة، وانقلاب طائفة من الناس على أعقابهم بعد وفاة الرسول (ص) من جهة ثانية، واغتصاب حق زوجها من جهة ثالثة، واغتصاب فدك من جهة رابعة، بالإضافة إلى الوضع الجسدي المؤلم الذي آلت إليه من جراء انتهاك بعض الظلمة لحرمتها وإلى غير ذلك.. من العوامل التي كدرت حياتها، بلهجة صارمة وحازمة وبعد تقديم العديد من الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة طالبت بالحق وأبدت رأيها وموقفها في مقابل الحاكم.
وفي المجال الاقتصادي: قد لا يخفى على أحد أن الاقتصاد هو العصب الرئيس في الحياة، وهو الشريان الرئيس الذي يغذي كافة مجالات الحياة العملية؛ من هذا المنطلق وبأمر من الله تعالى وبعد نزول هذه الآية (وآتِ ذا القربى حقه) وهب رسول الله (ص) فدكا لفاطمة (ع)؛ ولأهمية هذا الموضوع، أول ما جرى بعد رحيل الرسول (ص) هو قطع هذا التمويل العظيم من الزهراء (ع)؛ إذ إنهم كانوا يعرفون أن فاطمة الزهراء (ع) بامتلاكها لفدك ستقوم بذلك النشاط الاقتصادي الرائع الذي كانت ترمي من ورائه إلى إشباع الفقراء وإنعاش المحرومين، وإنهاض الواقعين تحت وطأة السياط. فمطالبة الزهراء (ع) بحقها في فدك كان يكمن في طياتها العديد من الأمور المهمة التي كانت تفوق الجانب المادي وأهمها:
* إن الهدف الرئيس من ذلك هو كشف الغطاء عن الحقيقة، وإثبات أن الحق في أمر الخلافة هو مع علي (ع) عبر الاستدلال والمطالبة بحقه؛ فقد قالت وهي تخاطب نساء المهاجرين والأنصار: (ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين...، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن...).
* رسم المقياس لتمييز الحق عن الباطل وتربية الأمة على التصدي للجور وفضح الغاصبين للحقوق.
* بيان العامل الأساسي لظاهرة الفقر ألا وهو إضاعة الحقوق، وهذا لا يكون إلا في جو الاستبداد الذي يشيعه الظلمة لضرب الاقتصاد؛ فعن أمير المؤمنين (ع): (ما رأيتُ نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع). وقد أكدت الاحصاءات اليوم ذلك فان مجرد فضلات الطعام التي يلقيها الأمريكان في النفايات والمزابل وحدها تكفي لإشباع القارة الأفريقية برمتها.لذا قالت (ع): (وأبشروا بسيف صارم... واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا).
في المجال الثقافي: إن كلمة الثقافة إنما تعني - فيما تعنيه - توجيه الطاقات الفردية – أي طاقات الإنسان – لتحقيق بناء الفرد في الداخل بالنسبة إلى مصلحته، ولتحقيق مكانته اللائقة في المجتمع بانسجام تلك المصلحة مع مصلحة المجتمع، وتعد الثقافة والتحصيل العلمي من أهم العوامل الرئيسة في تقدم الفرد والأمة. ولقد عانت المرأة في هذا المجال الكثير وذلك عبر عدم إتاحة الفرصة لها لممارسة كافة النشاطات الثقافية لتنمية مواهبها الكامنة، ناهيك عن أن تمتعها بالوعي والثقافة، سينعكس وبصورة مباشرة على أداء مسؤوليتها داخل البيت بشكل أفضل ابتداء بمداراة الزوج ومروراً بتربية الأولاد وانتهاءً بتعاملها مع المجتمع.
ولأهمية هذا المطلب فقد خاضت فاطمة الزهراء (ع) في هذا المجال لتثبت للمرأة أولاً وللمجتمع ثانياً وللعالم ثالثاً أنها قادرة على أداء مسؤوليتها في هذا الباب بجدارة وتفوق؛ فكانت (ع) هي المؤلفة الأولى في الإسلام، والخطيبة البارعة التي ضربت مثلاً نادراً في البلاغة والفصاحة، بالإضافة إلى المستوى العلمي الراقي الذي كانت تتمتع به؛ لذا كانت خطبها مليئة بالاستدلالات والبراهين القوية التي لا يمكن ردّها أبداً. إضافة إلى ذلك فقد كان بيتها مركزاً ثقافياً وعلمياً لتثقيف النسوة بكافة المسائل التي يحتجنها في حياتهن.
في المجال الفكري: يقول القرآن الكريم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وهذه الآية وإن كانت خطاباً خاصاً للرسول (ص)، فهي تحمل في طياتها ذلك الانفتاح الحضاري العالمي وعدم تحديد الفكر الإسلامي في إطار ضيق لمجتمع معين وفئة معينة؛ ليتعلم الإنسان أن يعيش في حدود العالم بروحه وفكره وليس في حدود النفس والبدن حيث تحكمه الأنانية. ومن هذا المنطلق أكدت فاطمة الزهراء (ع) على هذا الموضوع كثيراً وبالأخص في أواخر أيام حياتها؛ فعندما جاءت النساء لعيادتها والسؤال عنها بدأن بهذه العبارة : كيف أصبحتِ من علّتكِ هذه يا ابنة رسول الله؟ فأجابت بقولها: (أصبحتُ بحمد الله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم، وشنئتهم بعد أن سبرتهم... ثم أضافت: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض).
لذا لابد من طرح الفكر الإسلامي على الصعيد العالمي، والانفتاح المبرمج على العالم الخارجي؛ وهذا لا يكون إلا عبر وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة، كما استفادت الزهراء (ع) من أهم مركز للإعلام في ذلك الحين وهو المسجد باعتباره مركزاً لتجمع مختلف الشخصيات والتيارات الاجتماعية، والمركز الرئيس للرسول الأعظم (ص) لقيادة الأمة. ما تقدم هو نموذج حي للمرأة التي تطمح للخوض في كافة مجالات العمل السياسية منها والاقتصادية والثقافية وغيرها، ولكن بشرط أن تملك ذلك الإيمان الراسخ بهدفها، والإرادة القوية التي تسحق كل الصعوبات التي تعوق تقدمها، والثقة العالية بالنفس؛ لتصل إلى مراتب التفوق والرقي وإن كانت امرأة.
بقلم : حوراء عطا الله
تعليق