في السنين الماضية كان للسعودية دور كبير ومشرف على مستوى الدول العربية والإسلامية رسمياً وشعبياً، فكانت الراعي والحاضن لمشاكل الدول الأخرى والمشارِكة في بناء وتعمير بعض المدن في تلك الدول من إنشاء الطرق والوحدات السكنية وبناء الجوامع والمراكز الإسلامية.
حتى أصبحت الشعوب الإسلامية تنظر للمملكة على أنها الأم العطوف صاحبة العطاء الذي لا ينضب، بل أكبر من ذلك، بات الآخرون ينظرون لشعب المملكة على أنه الشعب الملائكي صاحب الأيادي البيضاء والثراء المالي ما يتجاوز أموال قارون.
إلا أن هذه الصورة سرعان ما تبدلت وأصبح المواطن السعودي يخشى الإفصاح عن هويته خارج وطنه في بلاد الغربة وبعض البلاد العربية، فيبدأ المواطن المحمّل بأوزار المعتدين من أقطاب الفكر الأحادي باللف والدوران عند سؤاله عن جنسيته خشية من النظرة السلبية تجاهه وتصنيفه ضمن القتلة والمجرمين محترفي العمليات الإرهابية وما يصاحبها من مواقف الازدراء والتشديد والمراقبة الأمنية.
يستذكرني موقف في دولة خليجية مع مقيم هناك عندما عرف أننا سعوديون، نظر شزراً وقال: أنتم من تقتلون الأبرياء في العراق وتصدرون لهم المال والسلاح يا إرهابيين!.
هذه الصورة المقيتة لم تكن لولا الفتاوى التكفيرية التي عكف على استصدارها العلماء المتطرفين والحاضة على قتل الأبرياء مضافاً للخطب التعبوية ضد الشيعة والمخالفين للنهج السلفي من عامة أبناء السنة، الأمر الذي جعل قتل الشيعي مباحاً ويصل لدرجة الوجوب الكفائي حتى يسفك دمه.
فالخطاب التحريضي الأخير الذي شنه عضو رابطة العالم الإسلامي إمام وخطيب جامع البواري بالرياض محمد العريفي على المرجع الديني السيد السيستاني وتهجمه على الشيعة ومعتقداتهم وأن المذهب الشيعي أساس المجوسية ينم عن أزمة حقيقية تعيشها هذه الفئة في تربية جيل من الشباب على كراهية الآخر واتهامه بالزندقة والكفر والفجور مما أعطى ولازال يعطي للمملكة سمعة سيئة الصيت حول العالم إلى أبعد الحدود خاصة مع الهجوم المتكرر من شخصيات دينية محلية على شخصيات دينية لها وزنها ومكانتها لدى عموم الشيعة والمسلمين.
فإذا كان العريفي وغيره من أئمة الجماعة الذين يبثون الشقاق في المجتمعات الإسلامية قد عُينوا رسمياً، فإنه ودرءً للفتنة وإعطاء مزيد من صور المساواة والرفض لمسببات التشنج والاحتراب الداخلي بإمكان قرار آخر يقتلع هذه الفتنة من مكانها ابتعاداً عن أي تأثير سلبي تُشرك فيه الجهات الرسمية لسكوتها عن تكميم أفواه الناعقين بمثل تلك الخطب البغيضة.
ويعيد التاريخ نفسه كلما سمعنا خطاب تحريضي أو استفزازي يهين الطائفة الشيعية باستذكار خطبة إمام الحرم المدني علي الحذيفي وبحضور هاشمي رفسنجاني عام 1998م الذي كان حينها ضيفاً رسمياً على المملكة عندما وصف الحذيفي الشيعة أو كما حلا تسميتهم «الرافضة» بأنهم أضر على الإسلام من اليهود والنصارى وتعديه صراحة على شخصية الإمام الخميني.
مع شديد الأسف أن مثل هؤلاء الانتهازيين وضعوا أنفسهم في مناصب شرفية، وباتوا يتكلمون بلسان الدولة ومسئوليها في كل المرافق العامة، إذنهم الحقيقي غياب الرادع تجاههم والصمت عن أفعالهم المشينة خاصة فيما يتعلق بالاعتداءات المتكررة ضد الطائفة الشيعية.
فيعود الحاج والزائر أوالمواطن إلى محلته حاملاً معه الذكريات السلبية والمواقف التحقيرية التي تنال من كرامته وحرية معتقداته باسم النظام والقانون الذي يتوالد شفهياً وبسرعة في بلاد مهوى أفئدة المسلمين، فيأتيك «المطوّع» متعلقاً بقشة النهي عن المنكر التي تخلو من المعروف والإحسان مانعاً إياك من قراءة أدعية ومناجاة إيمانية داخل الحرم، فتخرج مغتاظا مكرهاً من ضيافة الرسول ومن بيته وحرمة إلى خارجه آخذاً مساحة في باحة الحرم تختلي فيها بينك وبين ربك ليأتيك الصوت مزمجراً «شيل الكتاب وادعو الله بما تحفظ، الكتب هذي ممنوعة»، وعندما تلتحق بمجموعة من الناس تردد معهم الأدعية دون حمل أي من الكتب يمنعك آخر لأن «التجمعات ممنوعة»... فأستغفرك ربي لأني لم أرى يوماً قرار من قرارات المنع في بلاد الممنوعات!.
في موقف قريب في حج العام المنصرم وبالقرب من قبر سيد الشهداء الحمزة عم الرسول مُنع أحد الزوار من قبل رجل الهيئة هناك من التصوير بجواله الشخصي، فامتثل لأمره وأوقف التصوير بكل هدوء، وحول الرغبة في معرفة السبب، لم يتح له أي مجال للمناقشة وعلا صوته قائلاً: أن هذه تعليمات وزارة الداخلية.. «عندك كلام روح الرياض ناقشهم»!.. فهل يُعقل أن تترك الجهات المسئولة مسؤولياتها العظمى لتشغل نفسها بسفاسف الأمور؟!.
إن الوصاية الدينية المفروضة في بلاد الحرمين وإجبار المسلمين التعبد بطريقة معينة وتفسيق من يعمل وفق معتقده وانتماءه المذهبي بحاجة لوقفة صارمة من قبل الحكومة لمنع حدوثها وتكرارها حفاظاً على دماء المسلمين أولاً، ولئلا يتسبب عشاق الفتنة في إحراجها أمام الرأي العام العالمي وممارسة الوصاية الغربية عليها وعلينا بالقوة، مما يعطي الضوء الأخضر للجهات الخارجية للوقوف على هذه التجاوزات ورفعها للمنظمات الحقوقية في العالم لتشكل في نهاية المطاف ضغوطاً لن تحمد عواقبها
تعليق