مخاطر التلفزيون على الأطفال
((هل أنجزتَ فروضَك المدرسية لهذا اليوم، يا بُنيّ؟)).
تُلقي الأم هذا السؤال على ابنها ولكنه جالس .....إنه مشدود إلى شاشة التلفزيون، مُسَمّر إليها بكل جوارحه وحواسه.
ويظل سؤال الأم المشوب بالقلق، بلا جواب.
ولكي نفهم هذا القلق المشروع لدى بعض الآباء.. ولكي نفهم شكل العلاقة بين الأطفال وبين التلفاز يحسن بنا أن نُلقي نظرة فاحصة على طبيعة هذا الجهاز ((والخدمات)) التي يقدّمها، ولكي نفهم بالتالي الجوانب التي يُمكن أن تشكِّل خطراً على المشاهدين الذين لم يبلغوا سن النضج أو البلوغ بعد.
إن استخدام وسائل البث الحديثة ـ وفي مقدمتها التلفزيون ـ يخلق اتجاهاً أو ميلاً نحو السلبية. وتتمثّل السلبية في جلوس المُشَاهِد على مقعد وثير، في جلسة استرخاء لكي يستقبل ما يُبثّ على الشاشة الصغيرة.
وإذا كان التلفزيون ـ كما يقول د. غلين Dr. Glynn يقود الكبار إلى مرحلة شفوية تماثل مرحلة طفل تغذّيه أمه، ويلتهم بشراهة كل ما يُقدّم إليه دون أن يبذل أي مجهود(1)، فكيف الحال بالنسبة للطفل الذي يتميز عموماً بقدرة أقل من الراشدين على استخدام إرادته الشخصية؟ ويرى الكاتب غراهام أن التلفزيون يستهوي خاصة الأشخاص الذين يبحثون عن تسلية سلبية. ويفسر بعض المحلِّلين النفسيِّين هذا الميل إلى السلبية على أنه تقهقر للفرد إلى مرحلة شفوية.
ونظير ذلك، نجد أن الباحث انديرس G.Anders ينحي باللائمة على التلفزيون لأنه يجعل المُشَاهِد سلبياً، بل ويقوده إلى شكل من أشكال الاستلاب والارتهان(2).
ويُلاحظ بيلسون Belson نتيجة أبحاث ميدانية قام بها، لدى مُشاهدي التلفزيون تناقضاً أو انخفاضاً في روح المبادرة.
وتشير الدلائل إلى أن التلفاز يؤدِّي إلى تفشّي ظاهرتي الاسقاط والتقمّص المعروفتين لدى المحلِّلين النفسيين. ومع أن هاتين الظاهرتين هما ظاهرتان مختلفتان، إلاّ أن احداهما تؤدٍِّي إلى تعميق الأخرى وتقويتها.
ويُذكر أن مصطلح الإسقاط هو لفظة وضعها فرويد للدلالة على قيام شخص ما بنسبة اندفاعاته وعُقَدِه النفسية إلى الغير، بل وحتى بنقل صراعه الداخلي على قضية خارجية. أما عن طريق التمقص، فإن الفرد أو الطفل يصبح ـ لا شعورياً ـ مُماثلاً أو مُطابقاً لشخص آخر يغدق عليه مشاعر لا يغدقها الإنسان في العادة إلاّ على نفسه!
ويعتقد سيات Seat أن تقنية البث الواسع، عندما تقتحم على الإنسان جوّه العائلي الحميم، وتستحوذ عليه خلال وقت فراغه ـ وهو في حالة استرخاء في بيته ـ ، فإنها تضيف إلى وسائلها سطوة إضافية. وذلك لأن التلفزيون ـ كما يقول الفيلسوف الفرنسي باشلر ـ ينتزعنا من أنفسنا ويفرض نفسه علينا وعلى شخصيتنا.
فأي شخصية ستكون لأطفالنا وهم يتعرضون لتأثير التلفزيون ذي التقنيات والأساليب المتطورة:
انه يمتلك ـ إضافة إلى عناصر الصوت البشري والموسيقى والمؤثِّرات الصوتية ـ المؤثِّرات البصرية والخدع السينمائية وتوزيع الإضاءة ومزج الصور والديكور.. وحين ترتبط الحركة بالصوت فإن التأثير يتزايد وكل هذا مدعاة للثقة. حتى ليظن الطفل أن كل ما يراه هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك.
ولا ينبغي أن ننسى كذلك قدرة التلفزيون على التكبير والتصغير والحذف والإضافة. وبذا فإنه يفرض على مشاهديه ـ وخاصة الأطفال منهم ـ طريقة معينة لفهم المرئيات.
ترى، ماذا يعني كل ذلك بالنسبة للطفل؟ إنه يعني انشداد الطفل إلى لون من ألوان ((المعرفة)) السريعة المبتسرة.
أين يكمن الخطر؟
وتتضح خطورة الدور الذي يلعبه التلفزيون إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأمور التالية:
1 ـ تشكِّل البرامج الترفيهية نسبة عالية من البرنامج العام: 60 إلى 70 بالمئة في الولايات المتحدة، 29% في فرنسا، 42% في اليابان، 35% في تشيكوسلوفاكيا(3).
2 ـ تبثّ البرامج الأساسية عادة في المساء: في فرنسا ـ مثلاً ـ 75% من أجهزة التلفزيون تُدار بين الساعة السابعة والنصف والتاسعة والنصف، وأحياناً حتى العاشرة والنصف.
وهذا يثبت أن الأطفال يتعرّضون أولاً لتأثير المواد الترفيهية، وهي في غالبيتها برامج غير جادّة ويقتصر همّها على التسلية وقضاء الوقت، وهي مما لا يضيف شيئاً إلى الرصيد الثقافي والفكري للطفل. بل وقد يعرّضه إلى تأثيرات خُلُقية ومعنوية ضارة(4).
أما توقيت بثّ البرامج الأساسية وحصرها في الفترة المسائية فإنه ينطوي على عدة إشكالات، منها ـ أو أقلّها ـ صرف الطفل عن تحضير دروسه وحرمانه من الراحة والنوم في وقت مبكر يتناسب وعمره.
وكل الدلائل تشير إلى أنه ليس ثمة تسلية بريئة. فقد جاء في دراسة لليونسكو أجريت عام 1974 أن غالبية الدول النامية التي تُوجد بها محطّات تلفزيونية تستورد ما لا يقلّ عن نصف البرامج التي تعرضها، وأن 75% من جملة الواردات العالمية من البرامج التلفزيونية يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية(5).
ويقول محرّر التلفاز في مجلة ((ساتردي ريفيو)) إن ((برامج التسلية تُلَمّح للجمهور بالطريقة التي يتعيّن أن يتبعها في تحديد ما هو جدير بالاحترام في مجتمعنا [أي المجتمع الامريكي] والكيفية التي يتصرف بها، إنها في الواقع أشكال من التعليم أو تلقين المبادئ))(6).
وباختصار، فإن هذه البرامج تستهدف خلق نمط ثقافي عالمي واحد من حيث الذوق والأسلوب والمضمون.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك تعميم الجينز والببسي كولا والوجبات السريعة(7)، ومسلسلات دالاس وديناستي التي تقدّم التفسخ الخلقي والفساد والخيانة الزوجية وكأنها أمر طبيعي مقبول!
وقد اقتحم ميدان التلفزيون مضاربون ومتلاعبون بالعقول، ((وقد دخل هؤلاء عالم الأطفال فعلاً من خلال التلفاز اليوم، وأنشأوا شركات وأجهزة ليس من أغراضها تثقيف الأطفال بالثقافة المناسبة، بل من أجل تحقيق مآرب وأغرضا أخرى، فبدأ الحديث عن (جناية التلفاز على ثقافة الأطفال) وانتهى القول إلى أن التلفاز دخل البيوت عنوة...))(8).
وهكذا انطبع الجيل بطابع الفكر الأجنبي الهجين، حتى أن بعض أطفالنا اليوم يعرفون جي آر وكوجاك وجاك مارتان أكثر مما يعرفون أبا الأسود الدؤلي أو ابن رشد أو مالك بن نبي أو أبا الأعلى المودودي...
ونجم عن ذلك انفصام أو انفصال بين الناشئة وتراثهم ولغتهم الأصيلة بعد أن غُزوا في عقر دارهم.
الآثار الاجتماعية ـ النفسية للتلفزيون(*):
وبما أن التلفزيون هو جهاز تسلية عائلي ـ أكثر مما هو فردي ـ فقد اهتم علماء الاجتماع بدراسة الكيفية التي يمارس بها التلفاز تأثيره على سلوك الجمهور.
ففي بريطانيا أثبت استطلاع أجراه غورر Gorer عام 1957 أن أعلى نسبة لأجهزة التلفزيون توجد لدى الآباء ذوي الأولاد الصغار.
أما عن أمريكا فيقول (كوفان) ـ مستنداً إلى عدة دراسات ـ ان من أوائل مقتني أجهزة التلفزيون، العوائل ذات الأطفال العديدين. والدافع الأول هو ـ بلا شك ـ تسلية هؤلاء الأطفال.
بعض الباحثين يأخذ على التلفزيون كونه يخفض المستوى الثقافي ويجرّ أذواق الجمهور إلى شرَك التفاهة والسطحية اللتين ما يلبث الطفل أن يعتاد عليهما. وهو إلى ذلك يستحوذ على وقت أولئك الذين يستطيعون الاستفادة من الوقت بالمطالعة أو بالتأمّل والتفكير. كما يُقال بأن المعلومات المكتسبة دون جهد، وفي حالة الاسترخاء الملازمة لوقت الفراغ، ليست بذات قيمة.
لقد كان الأطفال من أبناء الجيل الماضي أو ما قبله بقليل يُزْجُون الوقت بالقراءة ـ كلٌ حسب عمره وحسب مستواه ـ. وكان العديد منهم يجدون متعة فائقة في مطالعة قصص كليلة ودمنة أو ألف ليلة وليلة أو قصة روبنسون كروزو ـ مثلاً ـ. فكيف ينصرف أبناؤنا اليوم للقراءة وقد أصبحوا أسرى شاشة التلفزيون وبرامجه التي تلعب بالنسبة لهم دور المنوِّم المغناطيسي؟
ومن البديهي أن العناصر البصرية التي تتدفق عبر البرامج التلفزيونية المختلفة تأتي بشكل مشتّت وغير مترابط، مكوّنة بذلك ما يدعوه ابراهام مول Moles ((ثقافة فسيفساء))، أي مركّبة من عناصر مختلفة وغير متجانسة، تختلف تماماً عن الثقافة النسقية المنتظمة التي هي هدف التعليم المنطقي الجاد.
ومن المهم أن نعرف ما هي الآثار ذات الطابع الثقافي التي يتركها التلفزيون على الأطفال. تقول الباحثة هيميلويت Himmelweit انه بالإجمال يبدو أن التلفزيون لا يُساهم في رفع مستوى التعليم والثقافة لدى الأطفال.
تأثيرات أخلاقية واجتماعية
أُجريت دراسات عديدة حول تأثير التلفاز على الأطفال(9). وتشير هذه الدراسات عموماً إلى أن هذه الوسيلة الإعلامية هي كمثيلاتها، تجعل الأطفال باكراً ـ أو قبل الأوان ـ على صلة واحتكاك مع مشاكل الكبار وهمومهم. وهي تضاعف لديهم القلق حيال المستقبل ـ أي مستقبلهم هم بالذات ـ، كما تخلق لديهم الاضطراب والشعور بانعدام الأمن والطمأنينة. وتكشف لهم مبكراً تعقيد الأوضاع العائلية والاجتماعية والإنسانية.
من الواضح أنه في كثير من الأحيان، تجد العائلة في التلفاز مناسبة للقاء خلال وقت الفراغ، ولا سيما مساء. ولكن ذلك لا يتعدّى في الغالب حضوراً مكانياً فقط لا يُكسب التلاحم العائلي شيئاً يُذكر. يقول ماكوبي: ان اجتماع الوالدين والأولاد أمام الشاشة الصغيرة لا ينطوي على معنى اجتماعي إلاّ في حدود ضيّقة، خاصة إذا اقتصر على المشاهدة فقط. بل ويمكن أن ينطوي على نتائج سيئة إذا ما حلّت مشاهدة البرامج محلّ المحادثة المشتركة.
وقد أثبت استطلاع أجراه فين ماكوبي Fine Maccoby في بوسطن انه في 29% من المنازل، لا أحد ينبس ببنت شفة خلال ساعات البثّ التلفزيوني.
هذا فضلاً عن أن التلفزيون يقلب العادات العائلية. إذ يجري تحوير وتعديل وقت العائلة وبرامجها اليومية لكي لا يفوت أفرادَها مشاهدةُ برامج تلفزيونية معيّنة. ولا يجد هؤلاء غضاضة في أن يأووا إلى النوم في ساعة متأخّرة، دون أن يأخذوا بنظر الاعتبار الآثار السلبية التي تتركها هذه العادة على الأطفال وكل هذا يمكن أن يخلق دواعي للمنازعات والشقاق داخل البيت.
وبتقليل التلفزيون لفرص تبادل الأفكار والآراء داخل العائلة الواحدة، وبدفعِهِ كلَّ فرد من أفرادها للاعتصام بالصمت، فإنه يمنع أو يعيق التوصل إلى حلول للخلافات والمشاكل. أما العلاقات الودّية الحميمة فتختفي لتحلّ محلها العلاقة مع العالَم الخارجي، سيّما وأن العائلة تتعرّض لغزو الحوادث العامة.
ويُلاحظ علماء الاجتماع أن التلفزيون يؤدِّي، داخل العوائل قليلة الثقافة، إلى التقليل من فرص المحادثة والحوار. بينما يؤكِّد غورر الذي أجرى بحثاً في بريطانيا بهذا الصدد، على أن المحادثات التي تتمخض عن البرامج التلفزيونية هي على الأغلب سطحية وتافهة وعقيمة.
ومن جهة أخرى، فإن التلفزيون يشدّ الناس إلى البيوت فيقلّل من التواصل الخارجي وتبادل الزيارات وصلة الرحم. وقد أمَرَنا الله بصِلَة الرحم بقوله ـ عزّ من قائل ـ: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). وجاء في الحديث الشريف: ((أعْجَلُ الخيرِ ثواباً صِلَةُ الرَّحِم)).
إضاعة الوقت:
يقضي الأطفال ساعات طويلة أمام الشاشة الصغيرة مفضّلين إيّاه على كثير من الأنشطة الثقافية والاجتماعية مما يجعل أوقاتهم تضيع هباء منثوراً ـ على الأغلب ـ في لهو سطحي غير مُجْدٍ.
فقد اتضح في الولايات المتحدة الأمريكية أن الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام التلفزيون في ازدياد مستمر خلال العقدين الماضيين حتى بلغت نسبته عام 1976 حوالي 6.8 ساعة يومياً. وفي بعض البيوت تزيد مدة استخدام جهاز التلفزيون عن 9 ساعات في اليوم(10) .
اما في البلدان العربية فنجد أن النسبة تتفاوت من بلد إلى آخر. ففي مصر يشاهد 54% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و 18 عاماً التلفاز لمدة ساعة على الأقل يومياً خلال السنة الدراسية. أما خلال العطل المدرسية فإن نسبة الأطفال ترتفع إلى 96.4% ولكن دون زيادة مدة المشاهدة.
بينما يقضي الأطفال الكويتيون من عمر سنتين حتى 6 سنوات حوالي ساعتين وربع أمام التلفزيون يومياً طوال الأسبوع عدا يوم الجمعة الذي يرتفع فيه معدل عدد ساعات المشاهدة إلى ثلاث ساعات وربع تقريباً.
وتشير بعض الدراسات المتعلّقة بالعالَم العربي إلى أن الأطفال من أعمار مختلفة يقضون 16 ساعة أمام الشاشة الصغيرة في الأسبوع.
ويُستنتج من مجمل الدراسات عن تعرّض الأطفال للتلفزيون، أن الأطفال في البلدان المختلفة يقضون فترات أما التلفاز تزيد عن المساحة المخصّصة ضمن فترات برامجهم الخاصة. وهذا يعني أنهم يتعرّضون لبرامج وأفلام ليست معدّة لهم، وهذا ينطوي على مخاطر جدية عليهم.
كما نستنتج أن الطفل يقضي أمام الشاشة الصغيرة أضعاف الوقت الذي يقضيه مع والديه أو يمضيه في المطالعة والدراسة أو في صالات الدرس!
مدرسة العنف:
تحتوي البرامج التلفزيونية على نسب عالية من مَشاهد العنف والجريمة. فقد دلّت دراسة لصحيفة التايمز البريطانية أن الطفل الملازم للتلفاز يشاهد على الشاشة قبل بلوغه الرابعة عشرة ما لا يقل عن اغتيال 18 ألف شخص!
وتشير دراسة أجراها جيربنر Gerbner عن مقدار العنف ونسبته في التلفزيون الأمريكي ـ معتمداً على تحليل المضمون لأعوام 67 / 69 ـ أن أعلى نسبة للعنف توجد في التلفزيون التجاري الأمريكي (8 برامج من 10 تحتوي على العنف)، وأن نسبة العنف في أفلام ((الكارتون)) (الرسوم المتحرِّكة) ما فتئت في تزايد مستمر (من بين 95 كارتوناً، 2 فقط لا تحتوي على العنف عام 1967، وواحد في عام 68 وواحد في 1969).
أما أبطال العنف وشخوصه فهم في 70% من الحالات من البشر. أما ((الكارتون)) فيحتوي على أعلى نسبة من القائمين بالعنف من غير البشر (حيوانات، مخلوقات فضائية).
كما زاد استخدام الأسلحة في برامج التلفاز عموماً، فارتفع من 52% إلى 83% خلال السنوات المذكورة أعلاه.
ويفضي هذا العنف التلفزيوني على الأغلب إلى الإصابة بجروح أو إلى موت المعتدى عليه. واتضح أن كل برنامجين من أصل 3 برامج عنف كان نتيجة العنف فيها الموت.
وبشأن ما يعرضه التلفزيون من مشاهد العنف والجريمة ما زال النقاش محتدماً حول ما يمكن أن يسبِّبه من أخطار للطفل. خاصة وأن بعض الباحثين يربطون بين التلفاز وبين ظهور بعض الأعراض المقلقة لدى الأطفال الذين يشاهدون مثل هذه المشاهد. حتى أن بعض الكتّاب ذهبوا إلى القول انه ((إذا كان السجن بالنسبة للمراهقين هو الكليّة التي يتعلّمون فيها الإجرام فإن التلفزيون هو المدرسة المتوسطة للانحراف)).
ويؤكِّد أغلب المهتمين بدراسة العلاقة بين برامج العنف في التلفزيون وبين الجنوح والانحراف على المعطيات التالية: أن الأطفال يحاولون التشبّه بالشخصيات التي تمثل دور العنف والجريمة، وان جو البذخ والترف الذي تقدّمه البرامج التلفزيونية عن حياة المجرمين الخاصة يدفع بالأطفال إلى سلوك الجريمة. أما ((التقنيات)) المتبعة في ارتكاب الجرائم فإنها تشكل مفاتيح للأطفال توحي إليهم بأفكار وأساليب جرمية لا يمكن أن تخطر في بالهم ما لم يشاهدوا ((درساً)) عملياً عنها على شاشة التلفزيون.
ولا شك في أن مشاهد العنف والقتل التي يبثّها التلفزيون تؤثِّر سلباً في الأطفال، إذ من الممكن أن تساهم في توجيه الميول والرغبات الكامنة في نفوسهم.
تلك هي مجمل أخطار التلفزيون على الأطفال، أثبتناها باعتبار ما هو كائن ـ لا باعتبار ما يجب أن يكون ـ. فالتلفزيون سلاح ذو حدين.. والسؤال هو إلى أي مدى يمكن له أن يلعب دوراً إيجابياً، أي كوسيلة جادة لنشر المعرفة وكنافذة يمكن للمشاهدين أن يطلّوا منها على العالم؟
د. محمد مهدي الصدر
((هل أنجزتَ فروضَك المدرسية لهذا اليوم، يا بُنيّ؟)).
تُلقي الأم هذا السؤال على ابنها ولكنه جالس .....إنه مشدود إلى شاشة التلفزيون، مُسَمّر إليها بكل جوارحه وحواسه.
ويظل سؤال الأم المشوب بالقلق، بلا جواب.
ولكي نفهم هذا القلق المشروع لدى بعض الآباء.. ولكي نفهم شكل العلاقة بين الأطفال وبين التلفاز يحسن بنا أن نُلقي نظرة فاحصة على طبيعة هذا الجهاز ((والخدمات)) التي يقدّمها، ولكي نفهم بالتالي الجوانب التي يُمكن أن تشكِّل خطراً على المشاهدين الذين لم يبلغوا سن النضج أو البلوغ بعد.
إن استخدام وسائل البث الحديثة ـ وفي مقدمتها التلفزيون ـ يخلق اتجاهاً أو ميلاً نحو السلبية. وتتمثّل السلبية في جلوس المُشَاهِد على مقعد وثير، في جلسة استرخاء لكي يستقبل ما يُبثّ على الشاشة الصغيرة.
وإذا كان التلفزيون ـ كما يقول د. غلين Dr. Glynn يقود الكبار إلى مرحلة شفوية تماثل مرحلة طفل تغذّيه أمه، ويلتهم بشراهة كل ما يُقدّم إليه دون أن يبذل أي مجهود(1)، فكيف الحال بالنسبة للطفل الذي يتميز عموماً بقدرة أقل من الراشدين على استخدام إرادته الشخصية؟ ويرى الكاتب غراهام أن التلفزيون يستهوي خاصة الأشخاص الذين يبحثون عن تسلية سلبية. ويفسر بعض المحلِّلين النفسيِّين هذا الميل إلى السلبية على أنه تقهقر للفرد إلى مرحلة شفوية.
ونظير ذلك، نجد أن الباحث انديرس G.Anders ينحي باللائمة على التلفزيون لأنه يجعل المُشَاهِد سلبياً، بل ويقوده إلى شكل من أشكال الاستلاب والارتهان(2).
ويُلاحظ بيلسون Belson نتيجة أبحاث ميدانية قام بها، لدى مُشاهدي التلفزيون تناقضاً أو انخفاضاً في روح المبادرة.
وتشير الدلائل إلى أن التلفاز يؤدِّي إلى تفشّي ظاهرتي الاسقاط والتقمّص المعروفتين لدى المحلِّلين النفسيين. ومع أن هاتين الظاهرتين هما ظاهرتان مختلفتان، إلاّ أن احداهما تؤدٍِّي إلى تعميق الأخرى وتقويتها.
ويُذكر أن مصطلح الإسقاط هو لفظة وضعها فرويد للدلالة على قيام شخص ما بنسبة اندفاعاته وعُقَدِه النفسية إلى الغير، بل وحتى بنقل صراعه الداخلي على قضية خارجية. أما عن طريق التمقص، فإن الفرد أو الطفل يصبح ـ لا شعورياً ـ مُماثلاً أو مُطابقاً لشخص آخر يغدق عليه مشاعر لا يغدقها الإنسان في العادة إلاّ على نفسه!
ويعتقد سيات Seat أن تقنية البث الواسع، عندما تقتحم على الإنسان جوّه العائلي الحميم، وتستحوذ عليه خلال وقت فراغه ـ وهو في حالة استرخاء في بيته ـ ، فإنها تضيف إلى وسائلها سطوة إضافية. وذلك لأن التلفزيون ـ كما يقول الفيلسوف الفرنسي باشلر ـ ينتزعنا من أنفسنا ويفرض نفسه علينا وعلى شخصيتنا.
فأي شخصية ستكون لأطفالنا وهم يتعرضون لتأثير التلفزيون ذي التقنيات والأساليب المتطورة:
انه يمتلك ـ إضافة إلى عناصر الصوت البشري والموسيقى والمؤثِّرات الصوتية ـ المؤثِّرات البصرية والخدع السينمائية وتوزيع الإضاءة ومزج الصور والديكور.. وحين ترتبط الحركة بالصوت فإن التأثير يتزايد وكل هذا مدعاة للثقة. حتى ليظن الطفل أن كل ما يراه هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك.
ولا ينبغي أن ننسى كذلك قدرة التلفزيون على التكبير والتصغير والحذف والإضافة. وبذا فإنه يفرض على مشاهديه ـ وخاصة الأطفال منهم ـ طريقة معينة لفهم المرئيات.
ترى، ماذا يعني كل ذلك بالنسبة للطفل؟ إنه يعني انشداد الطفل إلى لون من ألوان ((المعرفة)) السريعة المبتسرة.
أين يكمن الخطر؟
وتتضح خطورة الدور الذي يلعبه التلفزيون إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأمور التالية:
1 ـ تشكِّل البرامج الترفيهية نسبة عالية من البرنامج العام: 60 إلى 70 بالمئة في الولايات المتحدة، 29% في فرنسا، 42% في اليابان، 35% في تشيكوسلوفاكيا(3).
2 ـ تبثّ البرامج الأساسية عادة في المساء: في فرنسا ـ مثلاً ـ 75% من أجهزة التلفزيون تُدار بين الساعة السابعة والنصف والتاسعة والنصف، وأحياناً حتى العاشرة والنصف.
وهذا يثبت أن الأطفال يتعرّضون أولاً لتأثير المواد الترفيهية، وهي في غالبيتها برامج غير جادّة ويقتصر همّها على التسلية وقضاء الوقت، وهي مما لا يضيف شيئاً إلى الرصيد الثقافي والفكري للطفل. بل وقد يعرّضه إلى تأثيرات خُلُقية ومعنوية ضارة(4).
أما توقيت بثّ البرامج الأساسية وحصرها في الفترة المسائية فإنه ينطوي على عدة إشكالات، منها ـ أو أقلّها ـ صرف الطفل عن تحضير دروسه وحرمانه من الراحة والنوم في وقت مبكر يتناسب وعمره.
وكل الدلائل تشير إلى أنه ليس ثمة تسلية بريئة. فقد جاء في دراسة لليونسكو أجريت عام 1974 أن غالبية الدول النامية التي تُوجد بها محطّات تلفزيونية تستورد ما لا يقلّ عن نصف البرامج التي تعرضها، وأن 75% من جملة الواردات العالمية من البرامج التلفزيونية يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية(5).
ويقول محرّر التلفاز في مجلة ((ساتردي ريفيو)) إن ((برامج التسلية تُلَمّح للجمهور بالطريقة التي يتعيّن أن يتبعها في تحديد ما هو جدير بالاحترام في مجتمعنا [أي المجتمع الامريكي] والكيفية التي يتصرف بها، إنها في الواقع أشكال من التعليم أو تلقين المبادئ))(6).
وباختصار، فإن هذه البرامج تستهدف خلق نمط ثقافي عالمي واحد من حيث الذوق والأسلوب والمضمون.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك تعميم الجينز والببسي كولا والوجبات السريعة(7)، ومسلسلات دالاس وديناستي التي تقدّم التفسخ الخلقي والفساد والخيانة الزوجية وكأنها أمر طبيعي مقبول!
وقد اقتحم ميدان التلفزيون مضاربون ومتلاعبون بالعقول، ((وقد دخل هؤلاء عالم الأطفال فعلاً من خلال التلفاز اليوم، وأنشأوا شركات وأجهزة ليس من أغراضها تثقيف الأطفال بالثقافة المناسبة، بل من أجل تحقيق مآرب وأغرضا أخرى، فبدأ الحديث عن (جناية التلفاز على ثقافة الأطفال) وانتهى القول إلى أن التلفاز دخل البيوت عنوة...))(8).
وهكذا انطبع الجيل بطابع الفكر الأجنبي الهجين، حتى أن بعض أطفالنا اليوم يعرفون جي آر وكوجاك وجاك مارتان أكثر مما يعرفون أبا الأسود الدؤلي أو ابن رشد أو مالك بن نبي أو أبا الأعلى المودودي...
ونجم عن ذلك انفصام أو انفصال بين الناشئة وتراثهم ولغتهم الأصيلة بعد أن غُزوا في عقر دارهم.
الآثار الاجتماعية ـ النفسية للتلفزيون(*):
وبما أن التلفزيون هو جهاز تسلية عائلي ـ أكثر مما هو فردي ـ فقد اهتم علماء الاجتماع بدراسة الكيفية التي يمارس بها التلفاز تأثيره على سلوك الجمهور.
ففي بريطانيا أثبت استطلاع أجراه غورر Gorer عام 1957 أن أعلى نسبة لأجهزة التلفزيون توجد لدى الآباء ذوي الأولاد الصغار.
أما عن أمريكا فيقول (كوفان) ـ مستنداً إلى عدة دراسات ـ ان من أوائل مقتني أجهزة التلفزيون، العوائل ذات الأطفال العديدين. والدافع الأول هو ـ بلا شك ـ تسلية هؤلاء الأطفال.
بعض الباحثين يأخذ على التلفزيون كونه يخفض المستوى الثقافي ويجرّ أذواق الجمهور إلى شرَك التفاهة والسطحية اللتين ما يلبث الطفل أن يعتاد عليهما. وهو إلى ذلك يستحوذ على وقت أولئك الذين يستطيعون الاستفادة من الوقت بالمطالعة أو بالتأمّل والتفكير. كما يُقال بأن المعلومات المكتسبة دون جهد، وفي حالة الاسترخاء الملازمة لوقت الفراغ، ليست بذات قيمة.
لقد كان الأطفال من أبناء الجيل الماضي أو ما قبله بقليل يُزْجُون الوقت بالقراءة ـ كلٌ حسب عمره وحسب مستواه ـ. وكان العديد منهم يجدون متعة فائقة في مطالعة قصص كليلة ودمنة أو ألف ليلة وليلة أو قصة روبنسون كروزو ـ مثلاً ـ. فكيف ينصرف أبناؤنا اليوم للقراءة وقد أصبحوا أسرى شاشة التلفزيون وبرامجه التي تلعب بالنسبة لهم دور المنوِّم المغناطيسي؟
ومن البديهي أن العناصر البصرية التي تتدفق عبر البرامج التلفزيونية المختلفة تأتي بشكل مشتّت وغير مترابط، مكوّنة بذلك ما يدعوه ابراهام مول Moles ((ثقافة فسيفساء))، أي مركّبة من عناصر مختلفة وغير متجانسة، تختلف تماماً عن الثقافة النسقية المنتظمة التي هي هدف التعليم المنطقي الجاد.
ومن المهم أن نعرف ما هي الآثار ذات الطابع الثقافي التي يتركها التلفزيون على الأطفال. تقول الباحثة هيميلويت Himmelweit انه بالإجمال يبدو أن التلفزيون لا يُساهم في رفع مستوى التعليم والثقافة لدى الأطفال.
تأثيرات أخلاقية واجتماعية
أُجريت دراسات عديدة حول تأثير التلفاز على الأطفال(9). وتشير هذه الدراسات عموماً إلى أن هذه الوسيلة الإعلامية هي كمثيلاتها، تجعل الأطفال باكراً ـ أو قبل الأوان ـ على صلة واحتكاك مع مشاكل الكبار وهمومهم. وهي تضاعف لديهم القلق حيال المستقبل ـ أي مستقبلهم هم بالذات ـ، كما تخلق لديهم الاضطراب والشعور بانعدام الأمن والطمأنينة. وتكشف لهم مبكراً تعقيد الأوضاع العائلية والاجتماعية والإنسانية.
من الواضح أنه في كثير من الأحيان، تجد العائلة في التلفاز مناسبة للقاء خلال وقت الفراغ، ولا سيما مساء. ولكن ذلك لا يتعدّى في الغالب حضوراً مكانياً فقط لا يُكسب التلاحم العائلي شيئاً يُذكر. يقول ماكوبي: ان اجتماع الوالدين والأولاد أمام الشاشة الصغيرة لا ينطوي على معنى اجتماعي إلاّ في حدود ضيّقة، خاصة إذا اقتصر على المشاهدة فقط. بل ويمكن أن ينطوي على نتائج سيئة إذا ما حلّت مشاهدة البرامج محلّ المحادثة المشتركة.
وقد أثبت استطلاع أجراه فين ماكوبي Fine Maccoby في بوسطن انه في 29% من المنازل، لا أحد ينبس ببنت شفة خلال ساعات البثّ التلفزيوني.
هذا فضلاً عن أن التلفزيون يقلب العادات العائلية. إذ يجري تحوير وتعديل وقت العائلة وبرامجها اليومية لكي لا يفوت أفرادَها مشاهدةُ برامج تلفزيونية معيّنة. ولا يجد هؤلاء غضاضة في أن يأووا إلى النوم في ساعة متأخّرة، دون أن يأخذوا بنظر الاعتبار الآثار السلبية التي تتركها هذه العادة على الأطفال وكل هذا يمكن أن يخلق دواعي للمنازعات والشقاق داخل البيت.
وبتقليل التلفزيون لفرص تبادل الأفكار والآراء داخل العائلة الواحدة، وبدفعِهِ كلَّ فرد من أفرادها للاعتصام بالصمت، فإنه يمنع أو يعيق التوصل إلى حلول للخلافات والمشاكل. أما العلاقات الودّية الحميمة فتختفي لتحلّ محلها العلاقة مع العالَم الخارجي، سيّما وأن العائلة تتعرّض لغزو الحوادث العامة.
ويُلاحظ علماء الاجتماع أن التلفزيون يؤدِّي، داخل العوائل قليلة الثقافة، إلى التقليل من فرص المحادثة والحوار. بينما يؤكِّد غورر الذي أجرى بحثاً في بريطانيا بهذا الصدد، على أن المحادثات التي تتمخض عن البرامج التلفزيونية هي على الأغلب سطحية وتافهة وعقيمة.
ومن جهة أخرى، فإن التلفزيون يشدّ الناس إلى البيوت فيقلّل من التواصل الخارجي وتبادل الزيارات وصلة الرحم. وقد أمَرَنا الله بصِلَة الرحم بقوله ـ عزّ من قائل ـ: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). وجاء في الحديث الشريف: ((أعْجَلُ الخيرِ ثواباً صِلَةُ الرَّحِم)).
إضاعة الوقت:
يقضي الأطفال ساعات طويلة أمام الشاشة الصغيرة مفضّلين إيّاه على كثير من الأنشطة الثقافية والاجتماعية مما يجعل أوقاتهم تضيع هباء منثوراً ـ على الأغلب ـ في لهو سطحي غير مُجْدٍ.
فقد اتضح في الولايات المتحدة الأمريكية أن الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام التلفزيون في ازدياد مستمر خلال العقدين الماضيين حتى بلغت نسبته عام 1976 حوالي 6.8 ساعة يومياً. وفي بعض البيوت تزيد مدة استخدام جهاز التلفزيون عن 9 ساعات في اليوم(10) .
اما في البلدان العربية فنجد أن النسبة تتفاوت من بلد إلى آخر. ففي مصر يشاهد 54% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و 18 عاماً التلفاز لمدة ساعة على الأقل يومياً خلال السنة الدراسية. أما خلال العطل المدرسية فإن نسبة الأطفال ترتفع إلى 96.4% ولكن دون زيادة مدة المشاهدة.
بينما يقضي الأطفال الكويتيون من عمر سنتين حتى 6 سنوات حوالي ساعتين وربع أمام التلفزيون يومياً طوال الأسبوع عدا يوم الجمعة الذي يرتفع فيه معدل عدد ساعات المشاهدة إلى ثلاث ساعات وربع تقريباً.
وتشير بعض الدراسات المتعلّقة بالعالَم العربي إلى أن الأطفال من أعمار مختلفة يقضون 16 ساعة أمام الشاشة الصغيرة في الأسبوع.
ويُستنتج من مجمل الدراسات عن تعرّض الأطفال للتلفزيون، أن الأطفال في البلدان المختلفة يقضون فترات أما التلفاز تزيد عن المساحة المخصّصة ضمن فترات برامجهم الخاصة. وهذا يعني أنهم يتعرّضون لبرامج وأفلام ليست معدّة لهم، وهذا ينطوي على مخاطر جدية عليهم.
كما نستنتج أن الطفل يقضي أمام الشاشة الصغيرة أضعاف الوقت الذي يقضيه مع والديه أو يمضيه في المطالعة والدراسة أو في صالات الدرس!
مدرسة العنف:
تحتوي البرامج التلفزيونية على نسب عالية من مَشاهد العنف والجريمة. فقد دلّت دراسة لصحيفة التايمز البريطانية أن الطفل الملازم للتلفاز يشاهد على الشاشة قبل بلوغه الرابعة عشرة ما لا يقل عن اغتيال 18 ألف شخص!
وتشير دراسة أجراها جيربنر Gerbner عن مقدار العنف ونسبته في التلفزيون الأمريكي ـ معتمداً على تحليل المضمون لأعوام 67 / 69 ـ أن أعلى نسبة للعنف توجد في التلفزيون التجاري الأمريكي (8 برامج من 10 تحتوي على العنف)، وأن نسبة العنف في أفلام ((الكارتون)) (الرسوم المتحرِّكة) ما فتئت في تزايد مستمر (من بين 95 كارتوناً، 2 فقط لا تحتوي على العنف عام 1967، وواحد في عام 68 وواحد في 1969).
أما أبطال العنف وشخوصه فهم في 70% من الحالات من البشر. أما ((الكارتون)) فيحتوي على أعلى نسبة من القائمين بالعنف من غير البشر (حيوانات، مخلوقات فضائية).
كما زاد استخدام الأسلحة في برامج التلفاز عموماً، فارتفع من 52% إلى 83% خلال السنوات المذكورة أعلاه.
ويفضي هذا العنف التلفزيوني على الأغلب إلى الإصابة بجروح أو إلى موت المعتدى عليه. واتضح أن كل برنامجين من أصل 3 برامج عنف كان نتيجة العنف فيها الموت.
وبشأن ما يعرضه التلفزيون من مشاهد العنف والجريمة ما زال النقاش محتدماً حول ما يمكن أن يسبِّبه من أخطار للطفل. خاصة وأن بعض الباحثين يربطون بين التلفاز وبين ظهور بعض الأعراض المقلقة لدى الأطفال الذين يشاهدون مثل هذه المشاهد. حتى أن بعض الكتّاب ذهبوا إلى القول انه ((إذا كان السجن بالنسبة للمراهقين هو الكليّة التي يتعلّمون فيها الإجرام فإن التلفزيون هو المدرسة المتوسطة للانحراف)).
ويؤكِّد أغلب المهتمين بدراسة العلاقة بين برامج العنف في التلفزيون وبين الجنوح والانحراف على المعطيات التالية: أن الأطفال يحاولون التشبّه بالشخصيات التي تمثل دور العنف والجريمة، وان جو البذخ والترف الذي تقدّمه البرامج التلفزيونية عن حياة المجرمين الخاصة يدفع بالأطفال إلى سلوك الجريمة. أما ((التقنيات)) المتبعة في ارتكاب الجرائم فإنها تشكل مفاتيح للأطفال توحي إليهم بأفكار وأساليب جرمية لا يمكن أن تخطر في بالهم ما لم يشاهدوا ((درساً)) عملياً عنها على شاشة التلفزيون.
ولا شك في أن مشاهد العنف والقتل التي يبثّها التلفزيون تؤثِّر سلباً في الأطفال، إذ من الممكن أن تساهم في توجيه الميول والرغبات الكامنة في نفوسهم.
تلك هي مجمل أخطار التلفزيون على الأطفال، أثبتناها باعتبار ما هو كائن ـ لا باعتبار ما يجب أن يكون ـ. فالتلفزيون سلاح ذو حدين.. والسؤال هو إلى أي مدى يمكن له أن يلعب دوراً إيجابياً، أي كوسيلة جادة لنشر المعرفة وكنافذة يمكن للمشاهدين أن يطلّوا منها على العالم؟
د. محمد مهدي الصدر
تعليق