آية الــولاية الحلقة الاولى
السيّد علي الحسيني الميلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله الطيِّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الأوَّلين والآخرين .
قال الله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (المائدة : 55 ).
هذه الآية المباركة تُسمّى في الكتب بـ ( آية الولاية ) ، استدلّ بها الإمامية على إمامة أمير المؤمنين ( سلام الله عليه ) ، وكما ذكرنا من قبل ، لابدّ من الرجوع إلى السنّة لتعيين مَن نزلت فيه الآية المباركة . وبعبارةٍ أُخرى : لمعرفة شأن نزول الآية.
ثمّ بعد معرفة شأن نزول الآية المباركة ، لابدّ من بيان وجه الاستدلال بها على إمامة أمير المؤمنين.
ثمّ يأتي دور الإشكالات والاعتراضات والمناقشات التي نجدها في كتب الكلام والعقائد من قِبل علماء السنّة في الاستدلال
فالبحث ـ إذن ـ يكون في جهات:
الجهة الأُولى : في شأن نزول هذه الآية المباركة
أجمعتْ الطائفة الإمامية ـ ورواياتهم بهذا الأمر متواترة ـ بأنّ الآية المباركة نزلت عندما تصدّق أمير المؤمنين ( سلام الله عليه ) بخاتمه على السائل ، وهو في أثناء الصلاة ، وفي حال الركوع.
فالأمر مفروغ منه من جهة الشيعة الإمامية.
إلاّ أنّ هذا المقدار لا يكفي للاستدلال على الطرف المقابل ـ كما ذكرنا من قبل ـ فله أن يُطالب برواة هذا الخبر من أهل السُّـنَّة ، من المحدّثين والمفسّرين . وله أيضاً أن يُطالب بصحّة سند هذا الخبر في كتب السُّـنَّة ؛ ليكون حجّة عليه.
ونحن على طبق هذه القاعدة المقرّرة في أُصول البحث والمناظرة ، نذكر في الجهة الأُولى أسماء بعض مَن روى هذه القضيّة ، ونزول هذه الآية المباركة في أمير المؤمنين ، في خصوص تصدّقه ، في حال الركوع ، بخاتمه على الفقير ، على السائل ؛ لتتمّ الحجّة حينئذٍ على مَن يرى حجيّة كتبه ، على مَن يرى اعتبار رواياته ، على مَن يلتزم بلوازم مذهبه.
فحينئذٍ تتمّ الجهة الأُولى ، ويتعيّن مَن نزلت فيه الآية المباركة ، ويكون الخبر متّفقاً عليه بين الطرفين ، ومقبولاً بين الخصمين أو المتخاصمين.
قول المفسِّرين:
1 ـ يعترف القاضي الإيجي في كتابه "المواقف في علم الكلام" ، وهو من أهم متون أهل السنّة في علم الكلام وأصول الدين ، فالقاضي الإيجي المتوفّى سنة (756 هـ) يعترف بإجماع المفسّرين على نزول الآية المباركة في هذه القضيّة الخاصّة المتعلّقة بأمير المؤمنين ( عليه السلام )(1).
2 ـ وأيضاً يعترف بهذا الإجماع : الشريف الجرجاني المتوفّى سنة (816 هـ) في كتابه : "شرح المواقف في علم الكلام" . وهذا الكتاب متناً وشرحاً مطبوع وموجود الآن بين أيدينا(2).
3 ـ وممّن يعترف بإجماع المفسّرين على نزول الآية المباركة في شأن علي (عليه السلام) : سعد الدين التفتازاني المتوفّى سنة (793 هـ) في كتابه "شرح المقاصد"(3) . وشرح المقاصد أيضاً من أهم كتب القوم في علم الكلام ، ومن شاء فليرجع إلى كتاب "كشف الظنون" ليجد أهميّة هذا الكتاب بين القوم ، وفي أوساطهم العلميّة ، حيث كان هذا الكتاب من جملة كتبهم التي يتدارسونها في حوزاتهم العلميّة ، لذلك كثر منهم الشرح والتعليق على هذا الكتاب.
4 ـ وممّن يعترف بإجماع المفسّرين من أهل السنّة على نزول الآية المباركة في أمير المؤمنين ، في هذه القضيّة الخاصة : علاء الدين القوشجي السمرقندي في كتابه "شرح التجريد" ، وهذا الكتاب أيضاً مطبوع وموجود بين أيدينا(4).
فعلماء الكلام الذين يبحثون عن أدلة الإمامة ، وعمّا يقول الطرفان في مقام الاستدلال ، وعمّا يحتجّ به كلّ من الطرفين على مدّعاه ، يقولون بنزول الآية المباركة في هذه القضيّة الخاصّة.
إذن ، فالمفسّرون من أهل السنّة مجمعون على نزول الآية المباركة في هذه القضيّة ، والمعترِف بهذا الإجماع كبار علماء القوم في علم الكلام ، الذين يرجع إليهم ويعتمد على أقوالهم ويستند إلى كتبهم.
قول المحدِّثين :
فقد رأيتُ من رواة هذا الحديث في كتبهم :
1 ـ الحافظ عبد الرزّاق الصنعاني ، صاحب كتاب "المصنّف" ، وهو شيخ البخاري صاحب "الصحيح" .
2 ـ الحافظ عبد بن حميد ، صاحب كتاب "المسند".
3 ـ الحافظ رزين بن معاوية العبدري الأندلسي ، صاحب "الجمع بين الصحاح الستّة".
4 ـ الحافظ النسائي ، صاحب "الصحيح" ، روى هذا الحديث في صحيحه.
5 ـ الحافظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، صاحب التاريخ المعروف ، والتفسير المعروف المشهور.
6 ـ ابن أبي حاتم الحافظ الرازي المحدّث المفسّر المشهور ، الذي يعتقد ابن تيميّة في "منهاج السنّة" بأنّ تفسير ابن أبي حاتم خال من الموضوعات.
7 ـ الحافظ أبو الشيخ الأصفهاني.
8 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي
9 ـ الحافظ أبو بكر ابن مردويه الأصفهاني.
10 ـ الحافظ أبو القاسم الطبراني.
11 ـ الحافظ الخطيب البغدادي.
12 ـ الحافظ أبو بكر الهيثمي.
13 ـ الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي.
14 ـ الحافظ المحبّ الطبري ، شيخ الحرم المكّي.
15 ـ الحافظ جلال الدين السيوطي ، المجدّد في القرن العاشر عند أهل السنّة.
16 ـ الحافظ الشيخ علي المتّقي الهندي ، صاحب كتاب "كنز العمّال".
هؤلاء جماعة من أعلام الأئمة في القرون المختلفة ، يروون هذا الحديث في كتبهم.
يقول الآلوسي صاحب التفسير المسمّى بـ "روح المعاني" : غالب الأخباريين على أنّ هذه الآية نزلت في علي ( كرّم الله وجهه )(5).
فالقضيّة بين المفسّرين مُجمَع عليها ، وغالب المحدّثين والأخباريين ينصُّون على هذا ، ويقولون بنزول الآية في علي ويروون هذا الحديث . وذكرتُ لكم أسماء جماعة من أعلامهم ، منذ زمن البخاري إلى القرن الحادي عشر.
ولو أنّك تراجع تفسير ابن كثير في ذيل هذه الآية المباركة(6) ، تجده يعترف بصحّة بعض أسانيد هذه الأخبار . واعتراف ابن كثير بصحّة بعض هذه الأسانيد ، يمكن أن يكون لنا حجة على الخصوم ؛ لأنّ اعتراف مثل ابن كثير بصحّة هذه الروايات ـ وهو ممّن لا نرتضيه نحن ، ونراه رجلاً متعصّباً في تفسيره وتاريخه ـ هذا الاعتراف له قيمته العلميّة.
وأنا شخصيّاً راجعتُ عدّةً من أسانيد هذه الرواية ، ولاحظتُ كلمات علماء الجرح والتعديل من كبار علمائهم في رجال هذه الروايات والأسانيد ، ورأيت تلك الأسانيد صحيحة على ضوء كلمات علمائهم.
منها : هذا الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (7) ، فإنّه يرويه عن أبي سعيد الأشج ، عن الفضل بن دكين ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن سلمة بن كهيل ، قال: تصدّق علي بخاتمه وهو راكع ، فنزلت الآية: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) (المائدة : 55 ) إلى آخرها.
فإذن ، هذا الخبر مجمع عليه بين المفسّرين ، وعليه غالب المحدّثين باعتراف الآلوسي ، وذكرتُ لكم أسامي عدّة من رواته من الأعلام ، وذكرتُ لكم اعتراف ابن كثير بصحّة بعض أسانيده ، كما أنّي شخصيّاً حقّقت بعض الأسانيد على ضوء كلمات علمائهم وصحّحتها على طبق قواعدهم.
وقد اشتهر هذا الخبر وثبت ، بحيث يُروى أنّ حسّان بن ثابت الشاعر الأنصاري الصحابي المعروف ، قد نظم هذه المنقبة وهذه القضيّة في شعر له ـ ومن الناقلين لهذا الشعر هو الآلوسي البغدادي صاحب "روح المعاني"(8) ـ يقول في شعر له :
فأنتَ الذي أعطيتَ إذ كنتَ راكعاً زكاةً فدتك النفسُ يا خيرَ راكعِ
فـأنزل فـيك اللهُ خـيرَ ولايةٍ وأثـبتها أثـنى كتاب الشرايع
إذن ، هذه القضيّة لا يمكن المناقشة في سندها بشكل من الأشكال ، ولا مجال لأن تُكذّب هذه القضيّة ، أو تُضعّف روايات هذه القضيّة.
مع ابن تيمية
وإذا بلغ الأمر إلى هذه المرحلة ، فلا بأس لو أقرأ لكم عبارة ابن تيميّة حول هذا الحديث وهذا الاستدلال ، نصّ عبارته هكذا ، يقول هذا الرجل :
( قد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفترى ، أنّ هذه الآية نزلت في علي لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة ، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل ، وكذبه بيّن ) .
ويضيف هذا الرجل : ( وأجمع أهل العلم بالنقل على أنّها لم تنزل في علي بخصوصه ، وأنّ عليّاً لم يتصدّق بخاتمه في الصلاة . وأجمع أهل العلم بالحديث على أنّ القصّة المروية في ذلك من الكذب الموضوع ، وأنّ جمهور الأُمَّة لم تسمع هذا الخبر )(9) .
فليسمع المقلِّدون لابن تيميّة في بحوثهم العلميّة ، ولينتبه أُولئك الذين يأخذون من مثل هذا الرجل عقائدهم وأحكامهم وسننهم وآدابهم.
فالقاضي الإيجي ، والشريف الجرجاني ، وكبار علماء الكلام ـ وهذه كتبهم موجودة ـ ينصّون على إجماع المفسّرين بنزول الآية المباركة في علي في القصّة الخاصّة هذه ، ويقول هذا الرجل: إنّ بعض الكذّابين قد وضع هذا الخبر المفترى ، وعلي لم يتصدّق بخاتمه ، وأجمع أهل العلم في الحديث !!
أتصوّر أنّه يقصد من أهل العلم ـ حيث يدّعي الإجماع ـ يقصد نفسه فقط ، أو مع بعض الملتفّين حوله ، فإذا رأى نفسه هذا الرأي ، ورأى اثنين أو ثلاثة من الأشخاص يقولون برأيه ، فيدّعي إجماع أهل الحديث وأهل النقل وإجماع الأُمَّة كلّهم
تعليق