آية الولاية الحلقة الثانية
على ما يراه هو ، وكأنّ الإجماع في كيسه ، متى ما أراد أن يخرجه من كيسه ، أخرجه وصرفه إلى الناس ، وعلى الناس أن يقبلوا منه ما يدّعي.
وعلى كلّ حال ، فهذه القضيّة واردة في كتبهم وكتبنا ، في تفاسيرهم وتفاسيرنا ، في كتبهم في الحديث وكتبنا . مثلاً : لو أنّكم تراجعون من التفاسير : تفسير الثعلبي ـ وهو مخطوط ـ تفسير الطبري ، وأسباب النزول للواحدي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير البغوي ، وتفسير النسفي ، وتفسير القرطبي ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير الشوكاني ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير الآلوسي ، والدر المنثور للسيوطي ، لرأيتم كلّهم ينقلون هذا الخبر ، بعضهم يروي بالسند ، وبعضهم يُرسل الخبر(10) ، وكأنّ هؤلاء كلّهم ليسوا من هذه الاُمّة.
وعلى كلّ حال ، فالقضيّة لا تقبل أيّ شك وأيّ مناقشة من جهة السند ومن ناحية شأن النزول ، وحينئذٍ ينتهي بحثنا عن الجهة الأُولى ، أي جهة شأن نزول الآية المباركة وقضيّة أمير المؤمنين وتصدّقه بخاتمه وهو راكع.
الجهة الثانية : وجه الاستدلال بالآية المباركة على الإمامة .
وجه الاستدلال يتوقّف على بيان مفردات الآية المباركة : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ ) (المائدة : 55 ).
فكلمة (إنّما) تدلّ على الحصر ، لم ينكر أحد منهم دلالة إنّما على الحصر.
(وليُّكم) : هذه الولاية بأيّ معنى ؟ سنبحث عن معنى الولاية في حديث الغدير بالتفصيل ، وأيضاً في حديث الولاية . عندنا آية الولاية ، وهي هذه الآية التي هي موضوع بحثنا في هذه الليلة ، وعندنا حديث الولاية ، وهو قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من
بعدي ) ، فكلمة (الولاية) موجودة في هذه الآية المباركة بعنوان (وليّكم) ، وأيضاً في ذلك الحديث بعنوان (وليّكم).
معنى الولاية
الولاية مشترك : إمّا مشترك معنوي ، وإمّا مشترك لفظي . نحن نعتقد بالدرجة الأُولى أن تكون الولاية مشتركاً معنوياً . فمعنى الولاية إذا قيل:
( فلانٌ وليّ فلانٍ ) ، أي فلانٌ هو القائم بأمر فلانٍ . ( فلانٌ وليُّ هذه الصغيرة ) ، أي القائم بشؤون هذه الصغيرة . ( فلانٌ وليّ الأمر ) أي القائم بشؤون هذا الأمر ؛ ولذا يقال للسلطان : وليّ.
هذا المعنى هو واقع معنى الولاية.
ونجد هذا المعنى في كلّ موردٍ ذُكر مورداً للولاية ، مثلاً : الصديق وليّ ، الجار وليّ ، الحليف وليّ ، الأب وليّ ، الله وليّ ، ورسوله وليّ ، وهكذا في الموارد الأخرى من الأولياء.
هذا المعنى موجود في جميع هذه الموارد ، وهو : القيام بالأمر.
هذا هو معنى الولاية على ضوء كلمات علماء اللغة . فلو تراجعون كتب اللغة ، تجدون أنّ هذه الكلمة يذكرون لها هذا المعنى الأساسي ، وهذا المعنى موجود في جميع تلك الموارد المتعدِّدة ، مثلاً : الجار له الولاية ، أي الجار له الأولوية في أن يقوم بأمور جاره ، يعني لو أنّ مشكلة حدثت لشخص ، فأقرب الناس في مساعدته في تلك المشكلة ، والقيام بشؤون هذا الشخص ، يكون جاره ، هذا حقّ الجوار . مثلاً الحليف كذلك ، مثلاً الناصر أو الأخ ، هذه كلّها ولايات ، لكن المعنى الوحداني الموجود في جميع هذه الموارد هو القيام بالامر.
هذا بناءً على أن تكون الولاية مشتركاً معنويّاً.
وأمّا إذا جعلنا الولاية مشتركاً لفظيّاً ، فمعنى ذلك أن يكون هناك مصاديق متعدّدة ، ومعاني متعدّدة ، للّفظ الواحد ، مثل كلمة : العين . كلمة ( العين )مشترك لفظي ، ويشترك في هذا : العين الجارية ، والعين الباصرة ، وعين الشمس ، وغير ذلك كما قرأتم في الكتب الأُصولية.
فالاشتراك ينقسم إلى اشتراك معنوي واشتراك لفظي . في الدرجة الأُولى نستظهر أن تكون الولاية مشتركاً معنوياً ، وعلى فرض كون المراد من الولاية المعنى المشترك بالاشتراك اللفظي ، فيكون من معاني لفظ الولاية : الأحقيَّة بالأمر ، الأولوية بالأمر ، فهذا يكون من جملة معاني لفظ الولاية ، وحينئذٍ لتعيين هذا المعنى نحتاج إلى قرينة معيّنة ، كسائر الألفاظ المشتركة بالاشتراك اللفظي.
حينئذٍ لو رجعنا إلى القرائن الموجودة في مثل هذا المورد ، لرأينا أنّ القرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة ـ وبعبارةٍ أُخرى : القرائن المقاميّة والقرائن اللفظيّة ـ كلّها تدلّ على أنّ المراد من الولاية في هذه الآية ، المعنى الذي تقصده الإمامية ، وهو : الأولوية والأحقيَّة بالأمر.
ومن جملة القرائن اللفظيّة ، نفس الروايات الواردة في هذا المورد.
يقول الفضل بن روزبهان في ردّه(11) على العلاّمة الحلّي ( رحمة الله عليه ) : إنّ القرائن تدلّ على أنّ المراد من الولاية هنا : النصرة . فـ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، أي إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ... إلى آخر الآية المباركة.
فابن روزبهان يجعل الولاية بمعنى النصرة ، والنصرة أحد معاني لفظ الولاية كما في الكتب اللغويّة ، لكن الروايات أنفسها ، ونفس الروايات الواردة في القضيّة ، تنفي أن يكون المراد من الولاية هنا : النصرة.
مثلاً هذه الرواية ـ وهي موجودة في تفسير الفخر الرازي ، موجودة في تفسير الثعلبي ، موجودة في كتب أُخرى(12) ـ : أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا علم بأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه للسائل ، تضرّع إلى الله وقال: ( اللَّهُمَّ إنّ أخي موسى سألك ، فقال: ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (طه : 25 ـ 35) ، فأوحيتَ إليه : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه : 36) ، اللهمّ وإنّي عبدك ونبيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، عليّاً أُشدد به ظهري...) . قال أبو ذر : فوالله ، ما استتمّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الكلمة ، حتّى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) إلى آخر الآية.
فهل يعقل ، وهل يرتضي عاقلٌ فاهمٌ ، له أدنى إلمام بالقضايا ، وباللغة ، وبأُسلوب القرآن ، وبالقضايا الواردة عن رسول الله ، هل يُعقل حمل الولاية في هذه الآية ـ مع هذه القرائن ـ على النصرة ؟ بأن يكون رسول الله يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يُعلن إلى الملأ ، إلى الناس ، بأنّ عليّاً ناصركم ، فيتضرّع رسول الله بهذا التضرّع إلى الله سبحانه وتعالى في هذا المورد ، فيطلب من الله نزول آية تفيد بأنّ عليّاً ناصر المؤمنين ؟
وهل كان من شك في كون عليّاً ناصراً للمؤمنين حتّى يتضرّع رسول الله في مثل هذا المورد ، مع هذه القرائن ، وبهذا الشكل من التضرّع إلى الله سبحانه وتعالى ، وقبل أن يستتمّ رسول الله كلامه تنزل الآية من قبل الله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، أي إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا ، إلى آخر الآية ؟ هل يُعقل أن يكون المراد من ( وَلِيُّكُمُ ) أي ناصركم في هذه الآية ، مع هذه القرائن ؟
إذن ، لو أصبحت (الولاية) مشتركاً لفظيّ ، وكنّا نحتاج إلى القرائن المعيّنة للمعنى المراد ، فالقرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة كلّها تعيّن المعنى ، وتكون كلمة (الولاية) بمعنى: الأولوية . فالأولوية الثابتة لله وللرسول ، ثابتةٌ للذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون.
إذن ، عرفنا معنى (إنّما) ومعنى (الولاية) في هذه الاية.
ثمّ الواو في ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، هذه الواو عاطفة . وأمّا الواو التي تأتي قبل ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، فهذه الواو حاليَّة ؛ ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) : أي في حال الركوع.
حينئذٍ يتمّ الاستدلال ؛ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) ، أي إنّما الأولى بكم : الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة في حال الركوع . والروايات قد عيّنت المراد من الذين آمنوا ، الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون.
فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية وإلى هذه المرحلة وصلنا.
إذن ، تمّ بيان شأن نزول الآية المباركة ، وتمّ بيان وجه الاستدلال بالآية المباركة بالنظر إلى مفرداتها واحدةً واحدةً.
الجهة الثالثة : الاعتراضات والمناقشات .
وحينئذٍ ، يأتي دور الاعتراضات:
أمّا اعتراض شيخ الإسلام ابن تيميّة ، فقد عرفتم أنّه ليس باعتراض ، وإنّما هو افتراء ، لا على الإمامية فقط ، وإنّما افتراءٌ على عموم المفسّرين والمحدّثين من أهل السنّة أيضاً ، افتراءٌ على المتكلّمين من كبار علماء طائفته . وهذا ديدن هذا الرجل في كتابه ، وقد تتبّعتُ كتابه من أوّله إلى آخره ، واستخرجتُ منه النقاط ، التي لو اطّلعتم عليها ، لأيَّدتم مَن قال بكفر هذا الرجل ، لا بكفره ، بل بكفر مَن سمّاه بشيخ الإسلام.
تبقى الاعتراضات الأُخرى :
الاعتراض الأوَّل :
هو الاعتراض في معنى الولاية ، وقد ذكرناه.
وذكرنا أنّ قائله هو : الفضل بن روزبهان ، الذي ردّ على العلاّمة الحلّي بكتابه "إبطال الباطل" ، وردّ عليه السيّد القاضي نور الله التُّستَري بكتاب "إحقاق الحق" ، وأيضاً ردّ عليه الشيخ المظفر في كتاب "دلائل الصدق".
الاعتراض الثاني :
احتمال أن تكون الواو في ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) واو عاطفة ، لا واو حاليّة . وحينئذٍ يسقط الاستدلال ؛ لانّا ـ نحن الطلبة ـ نقول : إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال . الاستدلال يتوقّف على أن تكون الواو هذه حاليّة ، فالذي أعطى الخاتم ، إعطاؤه كان حال كونه راكعاً ، وهو علي (عليه السلام) . أمّا لو كانت الواو عاطفة ، يكون المعنى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) أي : هم يركعون ، يُؤتون الزكاة ، ويصلّون ويركعون . إذن لا علاقة للآية المباركة بالقضيّة ، فهذا الاحتمال إنْ تمّ سقط الاستدلال.
لكنّ هذا الاحتمال يندفع بمجرّد نظرة سريعة إلى الروايات الواردة في القضيّة ، تلك الروايات التي تجدونها ـ بأقل تقدير ـ لو ترجعون إلى "الدر المنثور" ، لوجدتم الروايات هناك ، وهي صريحة في كون الواو هذه حاليّة ... ففي هذا الكتاب ـ وغيره من المصادر ـ عدّة روايات وردت ، تقول: تصدّق علي وهو راكع(13).
حتّى في رواية تجدونها في "الدر المنثور" أيضاً ، هذه الرواية هكذا : إنّ النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) سأل السائل ، سأل ذلك المسكين الذي أعطاه الإمام خاتمه ، سأله قائلاً: (على أيّ حال أعطاكه) ـ أي الخاتم ـ ؟ قال: أعطاني وهو راكع(14).
فالرسول نفسه يسأله: على أيّ حال أعطاكه ؟ يقول: أعطاني وهو راكع ، فالواو حاليّة ، ولا مجال لهذا الاشكال.
الاعتراض الثالث :
هذا الاعتراض فيه أُمور :
الأمر الأوَّل : من أين كان لعلي ذلك الخاتم ؟ من أين حصل عليه ؟
الأمر الثاني : ما قيمة هذا الخاتم ؟ وبأيّ ثمن كان يَسْوَى في ذلك الوقت ؟ ولا يستحقّ شيء من هذا القبيل من الاعتراض أن ينظر إليه ويبحث عنه.
نعم يبقى الأمر الثالث : وله وجه ما ، وهو أنّه يفترض أن يكون علي (عليه السلام) في حال الصلاة منشغلاً بالله سبحانه وتعالى ، منصرفاً عن هذا العالم ، ولذا عندنا في بعض الروايات أنّه لمّا أُصيب في بعض الحروب بسهم في رجله ،
على ما يراه هو ، وكأنّ الإجماع في كيسه ، متى ما أراد أن يخرجه من كيسه ، أخرجه وصرفه إلى الناس ، وعلى الناس أن يقبلوا منه ما يدّعي.
وعلى كلّ حال ، فهذه القضيّة واردة في كتبهم وكتبنا ، في تفاسيرهم وتفاسيرنا ، في كتبهم في الحديث وكتبنا . مثلاً : لو أنّكم تراجعون من التفاسير : تفسير الثعلبي ـ وهو مخطوط ـ تفسير الطبري ، وأسباب النزول للواحدي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير البغوي ، وتفسير النسفي ، وتفسير القرطبي ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير الشوكاني ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير الآلوسي ، والدر المنثور للسيوطي ، لرأيتم كلّهم ينقلون هذا الخبر ، بعضهم يروي بالسند ، وبعضهم يُرسل الخبر(10) ، وكأنّ هؤلاء كلّهم ليسوا من هذه الاُمّة.
وعلى كلّ حال ، فالقضيّة لا تقبل أيّ شك وأيّ مناقشة من جهة السند ومن ناحية شأن النزول ، وحينئذٍ ينتهي بحثنا عن الجهة الأُولى ، أي جهة شأن نزول الآية المباركة وقضيّة أمير المؤمنين وتصدّقه بخاتمه وهو راكع.
الجهة الثانية : وجه الاستدلال بالآية المباركة على الإمامة .
وجه الاستدلال يتوقّف على بيان مفردات الآية المباركة : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ ) (المائدة : 55 ).
فكلمة (إنّما) تدلّ على الحصر ، لم ينكر أحد منهم دلالة إنّما على الحصر.
(وليُّكم) : هذه الولاية بأيّ معنى ؟ سنبحث عن معنى الولاية في حديث الغدير بالتفصيل ، وأيضاً في حديث الولاية . عندنا آية الولاية ، وهي هذه الآية التي هي موضوع بحثنا في هذه الليلة ، وعندنا حديث الولاية ، وهو قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من
بعدي ) ، فكلمة (الولاية) موجودة في هذه الآية المباركة بعنوان (وليّكم) ، وأيضاً في ذلك الحديث بعنوان (وليّكم).
معنى الولاية
الولاية مشترك : إمّا مشترك معنوي ، وإمّا مشترك لفظي . نحن نعتقد بالدرجة الأُولى أن تكون الولاية مشتركاً معنوياً . فمعنى الولاية إذا قيل:
( فلانٌ وليّ فلانٍ ) ، أي فلانٌ هو القائم بأمر فلانٍ . ( فلانٌ وليُّ هذه الصغيرة ) ، أي القائم بشؤون هذه الصغيرة . ( فلانٌ وليّ الأمر ) أي القائم بشؤون هذا الأمر ؛ ولذا يقال للسلطان : وليّ.
هذا المعنى هو واقع معنى الولاية.
ونجد هذا المعنى في كلّ موردٍ ذُكر مورداً للولاية ، مثلاً : الصديق وليّ ، الجار وليّ ، الحليف وليّ ، الأب وليّ ، الله وليّ ، ورسوله وليّ ، وهكذا في الموارد الأخرى من الأولياء.
هذا المعنى موجود في جميع هذه الموارد ، وهو : القيام بالأمر.
هذا هو معنى الولاية على ضوء كلمات علماء اللغة . فلو تراجعون كتب اللغة ، تجدون أنّ هذه الكلمة يذكرون لها هذا المعنى الأساسي ، وهذا المعنى موجود في جميع تلك الموارد المتعدِّدة ، مثلاً : الجار له الولاية ، أي الجار له الأولوية في أن يقوم بأمور جاره ، يعني لو أنّ مشكلة حدثت لشخص ، فأقرب الناس في مساعدته في تلك المشكلة ، والقيام بشؤون هذا الشخص ، يكون جاره ، هذا حقّ الجوار . مثلاً الحليف كذلك ، مثلاً الناصر أو الأخ ، هذه كلّها ولايات ، لكن المعنى الوحداني الموجود في جميع هذه الموارد هو القيام بالامر.
هذا بناءً على أن تكون الولاية مشتركاً معنويّاً.
وأمّا إذا جعلنا الولاية مشتركاً لفظيّاً ، فمعنى ذلك أن يكون هناك مصاديق متعدّدة ، ومعاني متعدّدة ، للّفظ الواحد ، مثل كلمة : العين . كلمة ( العين )مشترك لفظي ، ويشترك في هذا : العين الجارية ، والعين الباصرة ، وعين الشمس ، وغير ذلك كما قرأتم في الكتب الأُصولية.
فالاشتراك ينقسم إلى اشتراك معنوي واشتراك لفظي . في الدرجة الأُولى نستظهر أن تكون الولاية مشتركاً معنوياً ، وعلى فرض كون المراد من الولاية المعنى المشترك بالاشتراك اللفظي ، فيكون من معاني لفظ الولاية : الأحقيَّة بالأمر ، الأولوية بالأمر ، فهذا يكون من جملة معاني لفظ الولاية ، وحينئذٍ لتعيين هذا المعنى نحتاج إلى قرينة معيّنة ، كسائر الألفاظ المشتركة بالاشتراك اللفظي.
حينئذٍ لو رجعنا إلى القرائن الموجودة في مثل هذا المورد ، لرأينا أنّ القرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة ـ وبعبارةٍ أُخرى : القرائن المقاميّة والقرائن اللفظيّة ـ كلّها تدلّ على أنّ المراد من الولاية في هذه الآية ، المعنى الذي تقصده الإمامية ، وهو : الأولوية والأحقيَّة بالأمر.
ومن جملة القرائن اللفظيّة ، نفس الروايات الواردة في هذا المورد.
يقول الفضل بن روزبهان في ردّه(11) على العلاّمة الحلّي ( رحمة الله عليه ) : إنّ القرائن تدلّ على أنّ المراد من الولاية هنا : النصرة . فـ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، أي إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ... إلى آخر الآية المباركة.
فابن روزبهان يجعل الولاية بمعنى النصرة ، والنصرة أحد معاني لفظ الولاية كما في الكتب اللغويّة ، لكن الروايات أنفسها ، ونفس الروايات الواردة في القضيّة ، تنفي أن يكون المراد من الولاية هنا : النصرة.
مثلاً هذه الرواية ـ وهي موجودة في تفسير الفخر الرازي ، موجودة في تفسير الثعلبي ، موجودة في كتب أُخرى(12) ـ : أنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لمّا علم بأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه للسائل ، تضرّع إلى الله وقال: ( اللَّهُمَّ إنّ أخي موسى سألك ، فقال: ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (طه : 25 ـ 35) ، فأوحيتَ إليه : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه : 36) ، اللهمّ وإنّي عبدك ونبيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، عليّاً أُشدد به ظهري...) . قال أبو ذر : فوالله ، ما استتمّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الكلمة ، حتّى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) إلى آخر الآية.
فهل يعقل ، وهل يرتضي عاقلٌ فاهمٌ ، له أدنى إلمام بالقضايا ، وباللغة ، وبأُسلوب القرآن ، وبالقضايا الواردة عن رسول الله ، هل يُعقل حمل الولاية في هذه الآية ـ مع هذه القرائن ـ على النصرة ؟ بأن يكون رسول الله يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يُعلن إلى الملأ ، إلى الناس ، بأنّ عليّاً ناصركم ، فيتضرّع رسول الله بهذا التضرّع إلى الله سبحانه وتعالى في هذا المورد ، فيطلب من الله نزول آية تفيد بأنّ عليّاً ناصر المؤمنين ؟
وهل كان من شك في كون عليّاً ناصراً للمؤمنين حتّى يتضرّع رسول الله في مثل هذا المورد ، مع هذه القرائن ، وبهذا الشكل من التضرّع إلى الله سبحانه وتعالى ، وقبل أن يستتمّ رسول الله كلامه تنزل الآية من قبل الله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، أي إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا ، إلى آخر الآية ؟ هل يُعقل أن يكون المراد من ( وَلِيُّكُمُ ) أي ناصركم في هذه الآية ، مع هذه القرائن ؟
إذن ، لو أصبحت (الولاية) مشتركاً لفظيّ ، وكنّا نحتاج إلى القرائن المعيّنة للمعنى المراد ، فالقرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة كلّها تعيّن المعنى ، وتكون كلمة (الولاية) بمعنى: الأولوية . فالأولوية الثابتة لله وللرسول ، ثابتةٌ للذين آمنوا ، الذين يقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون.
إذن ، عرفنا معنى (إنّما) ومعنى (الولاية) في هذه الاية.
ثمّ الواو في ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، هذه الواو عاطفة . وأمّا الواو التي تأتي قبل ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، فهذه الواو حاليَّة ؛ ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) : أي في حال الركوع.
حينئذٍ يتمّ الاستدلال ؛ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) ، أي إنّما الأولى بكم : الله ورسوله والذين آمنوا ، الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة في حال الركوع . والروايات قد عيّنت المراد من الذين آمنوا ، الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون.
فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية وإلى هذه المرحلة وصلنا.
إذن ، تمّ بيان شأن نزول الآية المباركة ، وتمّ بيان وجه الاستدلال بالآية المباركة بالنظر إلى مفرداتها واحدةً واحدةً.
الجهة الثالثة : الاعتراضات والمناقشات .
وحينئذٍ ، يأتي دور الاعتراضات:
أمّا اعتراض شيخ الإسلام ابن تيميّة ، فقد عرفتم أنّه ليس باعتراض ، وإنّما هو افتراء ، لا على الإمامية فقط ، وإنّما افتراءٌ على عموم المفسّرين والمحدّثين من أهل السنّة أيضاً ، افتراءٌ على المتكلّمين من كبار علماء طائفته . وهذا ديدن هذا الرجل في كتابه ، وقد تتبّعتُ كتابه من أوّله إلى آخره ، واستخرجتُ منه النقاط ، التي لو اطّلعتم عليها ، لأيَّدتم مَن قال بكفر هذا الرجل ، لا بكفره ، بل بكفر مَن سمّاه بشيخ الإسلام.
تبقى الاعتراضات الأُخرى :
الاعتراض الأوَّل :
هو الاعتراض في معنى الولاية ، وقد ذكرناه.
وذكرنا أنّ قائله هو : الفضل بن روزبهان ، الذي ردّ على العلاّمة الحلّي بكتابه "إبطال الباطل" ، وردّ عليه السيّد القاضي نور الله التُّستَري بكتاب "إحقاق الحق" ، وأيضاً ردّ عليه الشيخ المظفر في كتاب "دلائل الصدق".
الاعتراض الثاني :
احتمال أن تكون الواو في ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) واو عاطفة ، لا واو حاليّة . وحينئذٍ يسقط الاستدلال ؛ لانّا ـ نحن الطلبة ـ نقول : إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال . الاستدلال يتوقّف على أن تكون الواو هذه حاليّة ، فالذي أعطى الخاتم ، إعطاؤه كان حال كونه راكعاً ، وهو علي (عليه السلام) . أمّا لو كانت الواو عاطفة ، يكون المعنى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) أي : هم يركعون ، يُؤتون الزكاة ، ويصلّون ويركعون . إذن لا علاقة للآية المباركة بالقضيّة ، فهذا الاحتمال إنْ تمّ سقط الاستدلال.
لكنّ هذا الاحتمال يندفع بمجرّد نظرة سريعة إلى الروايات الواردة في القضيّة ، تلك الروايات التي تجدونها ـ بأقل تقدير ـ لو ترجعون إلى "الدر المنثور" ، لوجدتم الروايات هناك ، وهي صريحة في كون الواو هذه حاليّة ... ففي هذا الكتاب ـ وغيره من المصادر ـ عدّة روايات وردت ، تقول: تصدّق علي وهو راكع(13).
حتّى في رواية تجدونها في "الدر المنثور" أيضاً ، هذه الرواية هكذا : إنّ النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) سأل السائل ، سأل ذلك المسكين الذي أعطاه الإمام خاتمه ، سأله قائلاً: (على أيّ حال أعطاكه) ـ أي الخاتم ـ ؟ قال: أعطاني وهو راكع(14).
فالرسول نفسه يسأله: على أيّ حال أعطاكه ؟ يقول: أعطاني وهو راكع ، فالواو حاليّة ، ولا مجال لهذا الاشكال.
الاعتراض الثالث :
هذا الاعتراض فيه أُمور :
الأمر الأوَّل : من أين كان لعلي ذلك الخاتم ؟ من أين حصل عليه ؟
الأمر الثاني : ما قيمة هذا الخاتم ؟ وبأيّ ثمن كان يَسْوَى في ذلك الوقت ؟ ولا يستحقّ شيء من هذا القبيل من الاعتراض أن ينظر إليه ويبحث عنه.
نعم يبقى الأمر الثالث : وله وجه ما ، وهو أنّه يفترض أن يكون علي (عليه السلام) في حال الصلاة منشغلاً بالله سبحانه وتعالى ، منصرفاً عن هذا العالم ، ولذا عندنا في بعض الروايات أنّه لمّا أُصيب في بعض الحروب بسهم في رجله ،
تعليق