بإمكان المجرم أن يهرب من وجه العدالة و حكم القانون في المحاكم القضائية العالمية بطرق مختلفة ، و ينجو من العقاب في النهاية . و باستطاعته إغفال بعض الحكام عن طريق التهديد أو التطميع ، أو عن طريق اليمين الكاذبة و شهود الزور ... أما حاكم محكمة الوجدان البصير الحاذق فلا يغفل .
قد يتخلص المجرم من العقاب بواسطة الفرار من قاعة المحكمة ، أو الفرار من أرض الوطن ، أما محكمة الوجدان فانها تخضع المجرم لسيطرتها دائماً ، فأينما يذهب تصحبه و تلاحقه ... ذلك أن محكمة الوجدان عبارة عن ضميره الباطن و لا ينفصل عنه ضميره أبداً .
في بعض الأحيان تكون مظاهر تعذيب الضمير ، و ملاحقة محكمة الوجدان للمجرم ، و الضغط الروحي الشديد الذي يلاقيه منها و اللوم القارع الذي يراه في أحكامها ... مؤلمة إلى درجة أنها تبعث كل من يشاهده عن القلق و الاضطراب . و على سبيل المثال نذكر قصة حياة الشاب الضابط الذي دمر ( هيروشيما ) بالقنبلة الذرية في الحرب العالمية الماضية .
جنون ضابط شاب :
إن الوضع المؤلم لهذا الشاب الضابط الذي سبب الفناء و الدمار لعشرات الآلاف من الرجال و النساء ، و الشيوخ الشباب و الأطفال الرضع في لحظات قليلة أصدق شاهد على ما ذهبنا إليه قبل قليل . و إليك بعض الأخبار عن أيامه الأخيرة مقتطفة من الصحف الإيرانية نقلاً عن وكالات الأنباء العالمية .
« وكالة الأنباء الفرنسية . لقد أعلن اليوم اختفاء الضابط الأمريكي الطيار ( كلود إيترلي ) الذي دمر مدينتي هيروشيما و ناغازاكي عام 1945 بأول قنبلة ذرية ، منذ اليوم الثالث و العشرين من شهر تشرين الأول . لقد كان هذا الضابط الطيار مصاباً ببعض الاختلالات العصبية منذ مدة و كان خاضعاً للمعالجة في مستشفى ( فالوا ) . لقد وجد ( كلود ) نفسه بعد انتهاء الحرب أمام الضربات الروحية القاصمة و ذلك بعد اطلاعه على الخسائر التي تسبب فيها بقنبلته ، إنه كان يجد نفسه المسؤول الأول عن قتل أهالي مدينة ( هيروشيما ) . إن معالجة الأطباء كانت عقيمة له ، و أخيراً اضطر إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقيلة » 24 .
« لقد نشرت الصحف الأمريكية الصادرة صباح اليوم في صفحاتها الأواى صورة و مشخصات ( كلود إيترلي ) و لقد طلب البوليس من الملايين من أبناء الشعب الأمريكي في التعاون معه للقبض على كلود إيترلي . و الآن يقضي عشرات الملايين من الأمريكان أوقاتهم في البحث عنه حيث أنه أصيب بالجنون تماماً . إن أكثر العوائل الأمريكية لا تهنأ بالنوم طوال الليل خوفاً من كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي يرى نفسه السبب في مقتل عشرات الآلاف من أبناء الشعب الياباني و لذلك فهو يحاول أن يقوم بعمل خطير كعقاب لنفسه . أعظم وسام حربي : لقد فاز كلو إيترلي بعد تدميره لمدينتي هيروشيما و ناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا . و إن كلود إيترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيارين يوماً ما لمهارته في قيادة الطائرة ، و لأعصابه الفولاذية ، و الذي عهد إليه بإلقاء أول قنبلة ذرية ... قد أصيب الآن بالجنون ».
« إن عمر كلود إيترلي اليوم 40 عاماً . لقد قام في غضون السنوات الأخيرة بأعمال السرقة ومخالفة القانون عدة مرات ، لكنه كان يعفى في كل مرة ، نظراً لكونه في عداد أبطال القوة الجوية الأمريكية في يوم ما » 25 .
« لقد استعانت سلطات البوليس الأمريكي بأبناء الشعب في إجراء التحقيق مع كلود إيترلي ، ذلك أن أطباء الأمراض النفسية كانوا قد أعلنوا : أنه لما كان الطيار الأمريكي السابق مصاباً بمرض روحي شديد ، فمن الممكن أن يقوم بأعمال خطيرة تهدد الأمن العام ، إن الطيار الذي دمر عام 1945 مدينتين يابانيتين كان يردد هذه الجملة منذ مدة : أنا قاتل الـ 150 ألف من الناس ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه . لقد مات في التدمير الذري من المدن اليابانية 150 ألف شخص على الأقل وكلود إيترلي يرى نفسه مسؤولاً عن قتل هؤلاء جميعاً . لقد عثر أحد رجال البوليس على كلود إيترلي في مدينة دالاس من ولاية تكساس عندما كانت سيارته واقفة عند أحد فروع شوارع تلك المدينة ، وذلك لاشارة المرور الحمراء على الطريق ... » 26 .
لقد كان الضابط الأمريكي الشاب ذا أعصاب فولاذية عند القيام بإلقاء القنبلة الذرية . و كان سليماً من حيث المقدرة البدنية ، لقد فاز الضابط الشاب بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا بعد التفجير الذري ، و إن من المحتم أنه لاقى النجاح في مهمته تشجيعاً و تقديراً فائقين من حكومة الولايات لمتحدة الأمريكية ... و لكن هذه العوامل كلها لم تستطع أن تنقذه من السقوط ، و أخيراً أصيب بالجنون ، إن إفناء 150 ألف شخص بين رجل و امرأة ، و طفل و شاب ... مخالفة صريحة للوجدان . إن الأعصاب الفولاذية ، و الطاقات الحيوية ، و أعظم وسام حربي ، و تشجيع واستحسان حكومة الولايات المتحدة و شعبها ... كلها لم تستطع الوقوف أمام قوة الوجدان ، فقد انتصر الأخير عليها جميعاً ، و أصيب الشاب المسكين بالجنون وظهر بصورة موجود مفترس و خطير .
لقد كان البركان الثائر في نفس الشاب من جراء ردود الفعل الناشئة من وجدانه قوياً إلى درجة أن جميع المتخصصين بالعلاجات الروحية عجزوا عن معالجته ، فلقد أخذ الضغط الشديد من قبل الضمير يقض عليه مضجعه يقظة و نوماً ، و ليس من البعيد أن يؤدي إلى موته .
الرشيد و غادر :
و هناك نموذج آخر لمخالفة الوجدان يظهر في قصة هارون الرشيد مع جارية أخيه الهادي ، ننقلها هنا لما فيها من فائدة :
« ... يحكى أن هارون الرشيد حج ماشياً ، و إن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى ( غادر ) و كانت أحظى الناس عنده ، و كانت من أحسن النساء وجهاً و غناء ، فغنت يوماً و هو مع جلسائه على الشراب ، إذ عرض له سهو و فكر و تغير لونه و قطع الشراب ، فقال الجلساء : ما شأنك يا أمير المؤمنين ؟.
قال : لقد وقع في قلبي أن جاريتي ( غادر ) يتزوجها أخي هارون بعدي .
فقالوا : يطيل الله بقاء أمير المؤمنين ، و كلنا فداؤه .
فقال : ما يزيل هذا ما في نفسي ...
و أمر بإحضار هارون و عرفه ما خطر بباله ، فاستعطفه و تكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه ، فلم يقنع بذلك و قال : لا بد أن تحلف لي !
قال : لأفعل ، و حلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق و عتاق و حج و صدقة و أشياء مؤكدة فسكن . ثم قام ، فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك ، ولم يلبث شهراً ثم مات .
فلما أفضت الخلافة إلى هارون ، أرسل إلى الجارية يخطبها ...
فقالت : يا سيدي كيف بإيمانك و إيماني ؟!!
فقال : أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة و العتق و غيرهما إلا تزوجتك ، فتزوجها و حج ماشياً ليمينه ، و شغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره و لا يتحرك حتى تتنبه ، فبينما هي ذات ليلة إذ انتبهت فزعة ...
فقال لها : ما لك ؟!
فقالت : رأيت أخاك في المنام الساعة و هو يقول :
أخلفــت وعـدك بعدمــا *** جـاورت سكـان المقابــر
و نسيتني ، و حنـثـت فــي *** و غـدوت فـي الحور الغرائر
فظللـت في أهـل البــلاد *** ايمانك الكذب الفواجـر الصبا
و نكحــت غـادرة أخـي ! *** صدق الذي سمـاك غــادر
لا يهنـك الإلـف الجديــد *** و لا تـدر عنـك الـدوائــر
و لحقت بي قبـل الصبــاح *** و صرت حيث غدوت صائـر
... والله يا أمير المؤمنين ، فكأنها مكتوبة في قلبي ، ما نسيت منها كلمة .
فقال الرشيد : هذه أضغاث أحلام .
فقالت : كلا والله ما أملك نفسي ... و ما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة » 27 .
هذه الجارية كانت قد أخلفت وعدها مع الهادي ، و بسبب مخالفتها لنداء الفطرة و الوجدان كانت تحس بالاضطراب و القلق دائماً . إن تعذيب الضمير لم يتركها لوحدها ، بل كان يوجه الضربات القاسية نحوها ليلاً و نهاراً ، في اليقظة و الحلم . إلى أن لقيت حتفها على أفظع شكل .
إن الإنسان معرض في كل مرحلة و منزلة إلى الخطر من ناحية ميوله و أهوائه . و إن الغفلة عن نداء الضمير ، و الانقياد التام للرغبات النفسية يمكن أن يؤدي في اللحظة الحاسمة إلى قلب حياة الإنسان رأساً على عقب و يبعث على الانهيار و السقوط الذي لا يمكن أن يعالج بأية قوة .
و بهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « كما من شهوة ساعة ، أورثت حزناً طويلاً » 28 .
على مفترق الطرق :
قد يحتدم النزاع في باطن الإنسان بين الميول النفسانية و الوجدان الأخلاقي ، فان الشهوات و الغرائز تهيج الإنسان من جانب ، و تحثه على تحقيق رغباته اللا مشروعة . بينما يقف الوجدان ـ من الجانب الآخر ـ في أتم القوة و الفعالية مكافحاً و معلناً معارضته الصريحة لارتكاب الجريمة .
أما عباد الشهوة و الأفراد الحقراء الذين لا يهتمون بارتكاب الجرائم ، فإنهم يصممون بسرعة ، و يحققون رغباتهم اللا مشروعة مهملين نداء الوجدان .
و أما المؤمنون و العقلاء فإنهم يسعون للتخفيف من ضراوة الميول اللا مشروعة . و من دون أي تردد يختارون الطريق الصحيح منزهين أذيالهم من التلوث بالجريمة و الفساد ، ملبين نداء الوجدان .
و يقف على مفترق الطريقين طائفة تهتم بشؤونها الدينية و الوجدانية بمقدار ما ، و لكن رصيدها الإيماني ليس بالمقدار الكافي لمواجهة الميول اللا مشروعة . فهؤلاء يقفون مترددين تتملكهم الحيرة ، فلا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن الميول المتطرفة و يتخلوا عن اللذائذ المنافية للدين و الوجدان شانهم في ذلك شأن المؤمنين ، كما لا يستطيعون أن يصمموا بصورة حتمية على ارتكاب الجريمة شأنهم في ذلك شأن المنحرفين .
هؤلاء يتذرعون ببعض المبررات ، و بعض الأدلة الواهية لإسكات ضمائرهم ، و هم يأملون أن يحققوا رغباتهم النفسانية من دون أي اضطراب داخلي أو قلق باطني ... و لكنهم غافلون عن يقظة الوجدان ، و أنه من الذكاء و الفطنة بحيث لا تنطلي عليه التلفيقات و لا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر ، و لا يكف عن واجبه المقدس ، و هو توجيه اللوم إلى المجرم .
« إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير . إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي ، و يستمر في القيام بعمله بكل هدوء و يستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة باشراقة خلابة و غير متوقعة . فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله و عقائده و أفكاره ، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية . إنه يمكن الاستعانة ببعض التعابير التي يستعملها المريض و التي تعد فاقدة للمعنى و جنونية في الظاهر ، كدليل على وجود هذا الثبات . هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء و العقل » .
« إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة و في وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً » 29 .
و في قضية عمر بن سعد ، و قيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد كربلاء أملا في الحصول على حكومة الري ، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه . فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) و ثلة من أصحابه الأبرار و الأبرياء عمل مخالف للوجدان و الدين و العقل . و من جهة أخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري و في ذلك لذة الرياسة ، و الرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمارة . فعندما اقترح عبيد الله بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) اضطرب عمر لذلك و تحير في أمره . فلو كان فرداً مؤمناً و متديناً لكان يرد ذلك الاقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً . و إذا كان إنساناً منحرفاً و بعيداً عن الدين بتمام معنى الكلمة لا يقيم وزناً للوجدان و الإيمان و العقل و الرأي العام ، فانه كان يوافق على الاقتراح بدون ترديد و لا يقول شيئاً أبداً . و لكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب و عدم الارتياح لعمله هذا في ضميره الباطن و لكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة و الجاه . فاستمهل عبيدالله ليأتيه بالجواب النهائي . و حين أقبل عليه المساء تنحى زاوية خلية ، و جسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما الله و الرسول ، و العقل و الشرف ، و الوجدان و الإنسانية ... أما في المعسكر الآخر ، فيقف حب الجاه و الرئاسة ، اللذة و الشهوة ، الحكومة و عبادة الذات , فبقي متحيراً بين ذينك المعسكرين فعندما كان ينظر إلى الله و الوجدان و العقل كان يقول : يجب ألا أرتكب هذه الجريمة الشنيعة ، أن لا أشترك في دم الحسين ( عليه السلام ) أما حين كان يلتفت نحو الشهوة و الرئاسة كان يقول : يجب ألا أترك الفرصة تفوتني ، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً ... و أخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لإقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل إنسان متدين و ملحد . و أخيراً حلل القضايا من الوجهة الدينية ، و كان أن قال :
يقولـون أن الله خالـق جنــة *** و تعـذيـب ، و غــل يديــن
فإن صدقـوا فيما يقولون ، إنني *** أتوب إلى الرحمـان من سنتيـن
و إن كذبوا فزنـا بدنيا عظيمـة *** و ملك عقيم دائــم الحجليــن
فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه و جعلها ملجأ لجنايته ، و تبريراً لخيانته ، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل ، و أنه يستطيع أن يخفيه خلف أستار المغالطات الموهومة ، و يحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع ، و أنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة ، فالوجدان مشعل وضاء موجود في باطن الإنسان . بأمر من الله ، و لا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات . إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي ، و لا يدع المجرم لوحده ، و لا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه و لومه و تقريعه .
و لقد صمم إبن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان ، و يتجاهل وجوده تماماً ، و لكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة .
« إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الإنسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان ، هذا الامتناع هو الذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان . في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول » 30 .
و أخيراً فقد صمم على ارتكاب الجريمة ، و أقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري ... و لكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية ، و هنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة و حز في نفسه انهياره السياسي و فشله الاجتماعي من جهة أخرى ... فوقع في أسر الأمراض الروحية و الاضطراب النفسية و سلبت من راحته فأمر أن يمد فراشه طوال الليل و النهار ، فكان يستلقي في الفراش تارة ، و يتمشى في البيت أخرى و يتخطى في الأزقة بلا إرادة ثالثة ... و كانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوار في ذلك الفراش ، و أنهى حياته المشؤومة بهذا الوضع المزري .
***
الهدوء النفسي :
إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه و يسيطر على رغباته ، لا يحوم حول الذنب ، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان بإذن الذكاء ، يعيش حياة ملؤها الهدوء و الارتياح ، و يغادر الحياة بروح مطمئنة و نفس هادئة ... و لكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع و أمة ... فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء و الميول النفسانية ، و نجد أن الغرائز و الشهوات تسيطر بقوتها القاهرة ، على أكثر طبقات المجتمع و تبعثهم على الإجرام و الدنس !.
لقد فتح الأنبياء عليهم السلام أبواب الاستغفار و التوبة و الكفارات على هؤلاء لإنقاذ المجرمين من الانهيار التام ، و لإرجاعهم مرة أخرى إلى طريق السعادة و الفضيلة و تخليصهم من تعذيب الضمير ... و لذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو و المغفرة و الرحمة من الله العظيم ، و لهذا الإرشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين ، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية .
« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية ، و لهذا فان لغفران الذنوب دوراً كبيراً و أهمية عظيمة في الأديان السماوية » 31 .
إن على المجرمين إما أن يستمروا في انحرافهم و يتمادوا في طغيانهم يعمهون ، و يزجوا بأنفسهم و المجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة ، و النفسية لها و الاجتماعي ، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى الله تعالى أملاً في العفو و المغفرة . و يكفوا عن الذنوب فيصبحوا أناساً طيبين طاهرين تماماً .
يتبع انشاء الله الحلقة الثالثة الاخيرة
قد يتخلص المجرم من العقاب بواسطة الفرار من قاعة المحكمة ، أو الفرار من أرض الوطن ، أما محكمة الوجدان فانها تخضع المجرم لسيطرتها دائماً ، فأينما يذهب تصحبه و تلاحقه ... ذلك أن محكمة الوجدان عبارة عن ضميره الباطن و لا ينفصل عنه ضميره أبداً .
في بعض الأحيان تكون مظاهر تعذيب الضمير ، و ملاحقة محكمة الوجدان للمجرم ، و الضغط الروحي الشديد الذي يلاقيه منها و اللوم القارع الذي يراه في أحكامها ... مؤلمة إلى درجة أنها تبعث كل من يشاهده عن القلق و الاضطراب . و على سبيل المثال نذكر قصة حياة الشاب الضابط الذي دمر ( هيروشيما ) بالقنبلة الذرية في الحرب العالمية الماضية .
جنون ضابط شاب :
إن الوضع المؤلم لهذا الشاب الضابط الذي سبب الفناء و الدمار لعشرات الآلاف من الرجال و النساء ، و الشيوخ الشباب و الأطفال الرضع في لحظات قليلة أصدق شاهد على ما ذهبنا إليه قبل قليل . و إليك بعض الأخبار عن أيامه الأخيرة مقتطفة من الصحف الإيرانية نقلاً عن وكالات الأنباء العالمية .
« وكالة الأنباء الفرنسية . لقد أعلن اليوم اختفاء الضابط الأمريكي الطيار ( كلود إيترلي ) الذي دمر مدينتي هيروشيما و ناغازاكي عام 1945 بأول قنبلة ذرية ، منذ اليوم الثالث و العشرين من شهر تشرين الأول . لقد كان هذا الضابط الطيار مصاباً ببعض الاختلالات العصبية منذ مدة و كان خاضعاً للمعالجة في مستشفى ( فالوا ) . لقد وجد ( كلود ) نفسه بعد انتهاء الحرب أمام الضربات الروحية القاصمة و ذلك بعد اطلاعه على الخسائر التي تسبب فيها بقنبلته ، إنه كان يجد نفسه المسؤول الأول عن قتل أهالي مدينة ( هيروشيما ) . إن معالجة الأطباء كانت عقيمة له ، و أخيراً اضطر إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقيلة » 24 .
« لقد نشرت الصحف الأمريكية الصادرة صباح اليوم في صفحاتها الأواى صورة و مشخصات ( كلود إيترلي ) و لقد طلب البوليس من الملايين من أبناء الشعب الأمريكي في التعاون معه للقبض على كلود إيترلي . و الآن يقضي عشرات الملايين من الأمريكان أوقاتهم في البحث عنه حيث أنه أصيب بالجنون تماماً . إن أكثر العوائل الأمريكية لا تهنأ بالنوم طوال الليل خوفاً من كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي يرى نفسه السبب في مقتل عشرات الآلاف من أبناء الشعب الياباني و لذلك فهو يحاول أن يقوم بعمل خطير كعقاب لنفسه . أعظم وسام حربي : لقد فاز كلو إيترلي بعد تدميره لمدينتي هيروشيما و ناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا . و إن كلود إيترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيارين يوماً ما لمهارته في قيادة الطائرة ، و لأعصابه الفولاذية ، و الذي عهد إليه بإلقاء أول قنبلة ذرية ... قد أصيب الآن بالجنون ».
« إن عمر كلود إيترلي اليوم 40 عاماً . لقد قام في غضون السنوات الأخيرة بأعمال السرقة ومخالفة القانون عدة مرات ، لكنه كان يعفى في كل مرة ، نظراً لكونه في عداد أبطال القوة الجوية الأمريكية في يوم ما » 25 .
« لقد استعانت سلطات البوليس الأمريكي بأبناء الشعب في إجراء التحقيق مع كلود إيترلي ، ذلك أن أطباء الأمراض النفسية كانوا قد أعلنوا : أنه لما كان الطيار الأمريكي السابق مصاباً بمرض روحي شديد ، فمن الممكن أن يقوم بأعمال خطيرة تهدد الأمن العام ، إن الطيار الذي دمر عام 1945 مدينتين يابانيتين كان يردد هذه الجملة منذ مدة : أنا قاتل الـ 150 ألف من الناس ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه . لقد مات في التدمير الذري من المدن اليابانية 150 ألف شخص على الأقل وكلود إيترلي يرى نفسه مسؤولاً عن قتل هؤلاء جميعاً . لقد عثر أحد رجال البوليس على كلود إيترلي في مدينة دالاس من ولاية تكساس عندما كانت سيارته واقفة عند أحد فروع شوارع تلك المدينة ، وذلك لاشارة المرور الحمراء على الطريق ... » 26 .
لقد كان الضابط الأمريكي الشاب ذا أعصاب فولاذية عند القيام بإلقاء القنبلة الذرية . و كان سليماً من حيث المقدرة البدنية ، لقد فاز الضابط الشاب بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا بعد التفجير الذري ، و إن من المحتم أنه لاقى النجاح في مهمته تشجيعاً و تقديراً فائقين من حكومة الولايات لمتحدة الأمريكية ... و لكن هذه العوامل كلها لم تستطع أن تنقذه من السقوط ، و أخيراً أصيب بالجنون ، إن إفناء 150 ألف شخص بين رجل و امرأة ، و طفل و شاب ... مخالفة صريحة للوجدان . إن الأعصاب الفولاذية ، و الطاقات الحيوية ، و أعظم وسام حربي ، و تشجيع واستحسان حكومة الولايات المتحدة و شعبها ... كلها لم تستطع الوقوف أمام قوة الوجدان ، فقد انتصر الأخير عليها جميعاً ، و أصيب الشاب المسكين بالجنون وظهر بصورة موجود مفترس و خطير .
لقد كان البركان الثائر في نفس الشاب من جراء ردود الفعل الناشئة من وجدانه قوياً إلى درجة أن جميع المتخصصين بالعلاجات الروحية عجزوا عن معالجته ، فلقد أخذ الضغط الشديد من قبل الضمير يقض عليه مضجعه يقظة و نوماً ، و ليس من البعيد أن يؤدي إلى موته .
الرشيد و غادر :
و هناك نموذج آخر لمخالفة الوجدان يظهر في قصة هارون الرشيد مع جارية أخيه الهادي ، ننقلها هنا لما فيها من فائدة :
« ... يحكى أن هارون الرشيد حج ماشياً ، و إن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى ( غادر ) و كانت أحظى الناس عنده ، و كانت من أحسن النساء وجهاً و غناء ، فغنت يوماً و هو مع جلسائه على الشراب ، إذ عرض له سهو و فكر و تغير لونه و قطع الشراب ، فقال الجلساء : ما شأنك يا أمير المؤمنين ؟.
قال : لقد وقع في قلبي أن جاريتي ( غادر ) يتزوجها أخي هارون بعدي .
فقالوا : يطيل الله بقاء أمير المؤمنين ، و كلنا فداؤه .
فقال : ما يزيل هذا ما في نفسي ...
و أمر بإحضار هارون و عرفه ما خطر بباله ، فاستعطفه و تكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه ، فلم يقنع بذلك و قال : لا بد أن تحلف لي !
قال : لأفعل ، و حلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق و عتاق و حج و صدقة و أشياء مؤكدة فسكن . ثم قام ، فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك ، ولم يلبث شهراً ثم مات .
فلما أفضت الخلافة إلى هارون ، أرسل إلى الجارية يخطبها ...
فقالت : يا سيدي كيف بإيمانك و إيماني ؟!!
فقال : أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة و العتق و غيرهما إلا تزوجتك ، فتزوجها و حج ماشياً ليمينه ، و شغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره و لا يتحرك حتى تتنبه ، فبينما هي ذات ليلة إذ انتبهت فزعة ...
فقال لها : ما لك ؟!
فقالت : رأيت أخاك في المنام الساعة و هو يقول :
أخلفــت وعـدك بعدمــا *** جـاورت سكـان المقابــر
و نسيتني ، و حنـثـت فــي *** و غـدوت فـي الحور الغرائر
فظللـت في أهـل البــلاد *** ايمانك الكذب الفواجـر الصبا
و نكحــت غـادرة أخـي ! *** صدق الذي سمـاك غــادر
لا يهنـك الإلـف الجديــد *** و لا تـدر عنـك الـدوائــر
و لحقت بي قبـل الصبــاح *** و صرت حيث غدوت صائـر
... والله يا أمير المؤمنين ، فكأنها مكتوبة في قلبي ، ما نسيت منها كلمة .
فقال الرشيد : هذه أضغاث أحلام .
فقالت : كلا والله ما أملك نفسي ... و ما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة » 27 .
هذه الجارية كانت قد أخلفت وعدها مع الهادي ، و بسبب مخالفتها لنداء الفطرة و الوجدان كانت تحس بالاضطراب و القلق دائماً . إن تعذيب الضمير لم يتركها لوحدها ، بل كان يوجه الضربات القاسية نحوها ليلاً و نهاراً ، في اليقظة و الحلم . إلى أن لقيت حتفها على أفظع شكل .
إن الإنسان معرض في كل مرحلة و منزلة إلى الخطر من ناحية ميوله و أهوائه . و إن الغفلة عن نداء الضمير ، و الانقياد التام للرغبات النفسية يمكن أن يؤدي في اللحظة الحاسمة إلى قلب حياة الإنسان رأساً على عقب و يبعث على الانهيار و السقوط الذي لا يمكن أن يعالج بأية قوة .
و بهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « كما من شهوة ساعة ، أورثت حزناً طويلاً » 28 .
على مفترق الطرق :
قد يحتدم النزاع في باطن الإنسان بين الميول النفسانية و الوجدان الأخلاقي ، فان الشهوات و الغرائز تهيج الإنسان من جانب ، و تحثه على تحقيق رغباته اللا مشروعة . بينما يقف الوجدان ـ من الجانب الآخر ـ في أتم القوة و الفعالية مكافحاً و معلناً معارضته الصريحة لارتكاب الجريمة .
أما عباد الشهوة و الأفراد الحقراء الذين لا يهتمون بارتكاب الجرائم ، فإنهم يصممون بسرعة ، و يحققون رغباتهم اللا مشروعة مهملين نداء الوجدان .
و أما المؤمنون و العقلاء فإنهم يسعون للتخفيف من ضراوة الميول اللا مشروعة . و من دون أي تردد يختارون الطريق الصحيح منزهين أذيالهم من التلوث بالجريمة و الفساد ، ملبين نداء الوجدان .
و يقف على مفترق الطريقين طائفة تهتم بشؤونها الدينية و الوجدانية بمقدار ما ، و لكن رصيدها الإيماني ليس بالمقدار الكافي لمواجهة الميول اللا مشروعة . فهؤلاء يقفون مترددين تتملكهم الحيرة ، فلا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن الميول المتطرفة و يتخلوا عن اللذائذ المنافية للدين و الوجدان شانهم في ذلك شأن المؤمنين ، كما لا يستطيعون أن يصمموا بصورة حتمية على ارتكاب الجريمة شأنهم في ذلك شأن المنحرفين .
هؤلاء يتذرعون ببعض المبررات ، و بعض الأدلة الواهية لإسكات ضمائرهم ، و هم يأملون أن يحققوا رغباتهم النفسانية من دون أي اضطراب داخلي أو قلق باطني ... و لكنهم غافلون عن يقظة الوجدان ، و أنه من الذكاء و الفطنة بحيث لا تنطلي عليه التلفيقات و لا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر ، و لا يكف عن واجبه المقدس ، و هو توجيه اللوم إلى المجرم .
« إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير . إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي ، و يستمر في القيام بعمله بكل هدوء و يستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة باشراقة خلابة و غير متوقعة . فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله و عقائده و أفكاره ، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية . إنه يمكن الاستعانة ببعض التعابير التي يستعملها المريض و التي تعد فاقدة للمعنى و جنونية في الظاهر ، كدليل على وجود هذا الثبات . هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء و العقل » .
« إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة و في وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً » 29 .
و في قضية عمر بن سعد ، و قيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد كربلاء أملا في الحصول على حكومة الري ، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه . فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) و ثلة من أصحابه الأبرار و الأبرياء عمل مخالف للوجدان و الدين و العقل . و من جهة أخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري و في ذلك لذة الرياسة ، و الرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمارة . فعندما اقترح عبيد الله بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) اضطرب عمر لذلك و تحير في أمره . فلو كان فرداً مؤمناً و متديناً لكان يرد ذلك الاقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً . و إذا كان إنساناً منحرفاً و بعيداً عن الدين بتمام معنى الكلمة لا يقيم وزناً للوجدان و الإيمان و العقل و الرأي العام ، فانه كان يوافق على الاقتراح بدون ترديد و لا يقول شيئاً أبداً . و لكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب و عدم الارتياح لعمله هذا في ضميره الباطن و لكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة و الجاه . فاستمهل عبيدالله ليأتيه بالجواب النهائي . و حين أقبل عليه المساء تنحى زاوية خلية ، و جسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما الله و الرسول ، و العقل و الشرف ، و الوجدان و الإنسانية ... أما في المعسكر الآخر ، فيقف حب الجاه و الرئاسة ، اللذة و الشهوة ، الحكومة و عبادة الذات , فبقي متحيراً بين ذينك المعسكرين فعندما كان ينظر إلى الله و الوجدان و العقل كان يقول : يجب ألا أرتكب هذه الجريمة الشنيعة ، أن لا أشترك في دم الحسين ( عليه السلام ) أما حين كان يلتفت نحو الشهوة و الرئاسة كان يقول : يجب ألا أترك الفرصة تفوتني ، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً ... و أخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لإقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل إنسان متدين و ملحد . و أخيراً حلل القضايا من الوجهة الدينية ، و كان أن قال :
يقولـون أن الله خالـق جنــة *** و تعـذيـب ، و غــل يديــن
فإن صدقـوا فيما يقولون ، إنني *** أتوب إلى الرحمـان من سنتيـن
و إن كذبوا فزنـا بدنيا عظيمـة *** و ملك عقيم دائــم الحجليــن
فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه و جعلها ملجأ لجنايته ، و تبريراً لخيانته ، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل ، و أنه يستطيع أن يخفيه خلف أستار المغالطات الموهومة ، و يحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع ، و أنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة ، فالوجدان مشعل وضاء موجود في باطن الإنسان . بأمر من الله ، و لا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات . إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي ، و لا يدع المجرم لوحده ، و لا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه و لومه و تقريعه .
و لقد صمم إبن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان ، و يتجاهل وجوده تماماً ، و لكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة .
« إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الإنسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان ، هذا الامتناع هو الذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان . في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول » 30 .
و أخيراً فقد صمم على ارتكاب الجريمة ، و أقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري ... و لكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية ، و هنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة و حز في نفسه انهياره السياسي و فشله الاجتماعي من جهة أخرى ... فوقع في أسر الأمراض الروحية و الاضطراب النفسية و سلبت من راحته فأمر أن يمد فراشه طوال الليل و النهار ، فكان يستلقي في الفراش تارة ، و يتمشى في البيت أخرى و يتخطى في الأزقة بلا إرادة ثالثة ... و كانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوار في ذلك الفراش ، و أنهى حياته المشؤومة بهذا الوضع المزري .
***
الهدوء النفسي :
إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه و يسيطر على رغباته ، لا يحوم حول الذنب ، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان بإذن الذكاء ، يعيش حياة ملؤها الهدوء و الارتياح ، و يغادر الحياة بروح مطمئنة و نفس هادئة ... و لكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع و أمة ... فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء و الميول النفسانية ، و نجد أن الغرائز و الشهوات تسيطر بقوتها القاهرة ، على أكثر طبقات المجتمع و تبعثهم على الإجرام و الدنس !.
لقد فتح الأنبياء عليهم السلام أبواب الاستغفار و التوبة و الكفارات على هؤلاء لإنقاذ المجرمين من الانهيار التام ، و لإرجاعهم مرة أخرى إلى طريق السعادة و الفضيلة و تخليصهم من تعذيب الضمير ... و لذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو و المغفرة و الرحمة من الله العظيم ، و لهذا الإرشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين ، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية .
« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية ، و لهذا فان لغفران الذنوب دوراً كبيراً و أهمية عظيمة في الأديان السماوية » 31 .
إن على المجرمين إما أن يستمروا في انحرافهم و يتمادوا في طغيانهم يعمهون ، و يزجوا بأنفسهم و المجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة ، و النفسية لها و الاجتماعي ، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى الله تعالى أملاً في العفو و المغفرة . و يكفوا عن الذنوب فيصبحوا أناساً طيبين طاهرين تماماً .
يتبع انشاء الله الحلقة الثالثة الاخيرة
تعليق