في الصورة الأولى نجد عوارض وأخطاراً تنتاب الفرد و تعم غيره من جراء الاستمرار في إجرامه نستعرض على سبيل المثال بعضاً منها :
1 ـ خطر اليأس :
إن المجرم الذي يستلذ طعم الإجرام ، و يرى أن القيام به متأصل في نفسه و غير قابل للزوال ، و لا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة الله له يستمر في ارتكاب الجرائم بجسارة و جرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي عمل مخالف ، و بديهي أن إنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه ، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة ، و اليأس من العودة إلى الصواب ، و لجرأته في الذنوب . . . و هكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه .
2 ـ إتهام الأبرياء :
إن المجرم يحاول ـ لتبرئة نفسه ، و بسبب الآلام الوجدانية التي يلاقيها ـ أن يتهم الأبرياء ، و ينسب جرائمه إليهم . . . و هذا العمل بنفسه يعدّ جريمة أكبر من ارتكاب الجريمة ذاتها ، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الاختلالات الاجتماعية ، و المفاسد التي لا تدرأ ، أو أن يعرّض أرواح الناس , أموالهم إلى أخطار شديدة .
« إن الجرائم تضمن أخطاراً كبيرة لمجتمع ، و الإحساس بالإجرام يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسية التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الاجتماعي ، و إذا دققنا في الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشة من حب البراءة ، تقود الإنسان إلى اتهام الآخرين، و أن الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الاتهامات و هكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها . . . و أخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي و القيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه » 32 .
3 ـ غفران الذنوب :
عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً، و لا يملك المذنب أملاً في المغفرة و العفو الإلهي فإن الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون و يبعث به إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة ، و يفقد مجتمع بأسره راحته و هدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد و لا تحصر . أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء ، و يطمئن إلى المغفرة و العفو ، و يظهر ندمه و توبته بلسان لاعتذار إلى المقام الالهي ... حينذاك تحل عقدته الباطنية ، و يهدأ وجدانه ، و يتخلص من اللوم الباطني و يستمر في حياته بروح مطمئنة هادئة و بهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع .
« عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان ، و عندما يقر المجرم بذنبه ، و يستعد لإصلاح نفسه ... فان الأمل في الرحمة و المغفرة يطفئ الإحساس بالجريمة ، و يولد فيه الهدوء و السكينة حيث يستطيع بهما أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الإجرام الفضيع ، و ينسى بذلك ماضيه » 33 .
* * *
على أن التوبة الحقيقية و المغفرة للذنوب و الفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد و الأسس المعنوية و النفسية ، و بدونها لا يمكن الحصول على الاطمئنان النفسي ، و الفرار من دنس الجريمة و هي :
1 ـ الإقرار بالذنب :
على المذنب أن يقر و يعترف بذنبه تجاه المقام الإلهي بصراحة ، و يطلب منه العفو والمغفرة . إن الإقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب ، و يجلب رحمة الله الواسعة ، و يقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع ، و يحل العقدة الباطنية ، و يخلص الإنسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة .
أما الذين يرتكبون الذنوب ، و لا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية و الكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية ، ويكونون مشمولين للعذاب الإلهي و مصابين بمضايقة الوجدان ، و اللوم و التقريع المستمرين منه .
« عن أبي جعفر عليه السلام : والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به » 34 و قد ورد عنه ـ أي الامام الباقر ( ع ) ـ أيضاً : « ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين : أن يقروا له بالنعم فيزيدهم ، و بالذنوب فيغفرها لهم » 35 .
يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : « حسن الاعتراف يهدم الاقتراف » 36 .
* * *
2 ـ رجاء المغفرة :
يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته ، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل و صمة الاجرام بالتوبة و الاعتذار ، و لا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير.
لقد وضع الاسلام الناس في مركز وسط بين الخوف و الرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الاعتداد و العجب بالنفس ، و ان لا يروا أنفسهم بأمن من عذاب الله لحظة واحدة ، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا ، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً.
يقول الامام الصادق ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « إن من الكبائر عقوق الوالدين ، و اليأس من روح الله ، و الأمن لمكر الله » 37 .
إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الاسلامية واسع جداً ، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله . يقول الامام أمير المؤمنين لولده ( عليه السلام ) مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حد ... « وارج الله رجاءً أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك » 38 .
فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله ، مهما عظمت ذنوبه ... ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ 39 .
* * *
الندم و طلب المغفرة :
إن على المذنب بعد الاقرار بالذنب ، و رجاء المغفرة ، أن يطلب العفو و الغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة ، و طبيعي أن يغفر الله الذنب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك ، و هذا هو معنى التوبة الحقيقية . فإذا أظهر شخص الاستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على اعماله البذئية ، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.
يقول الامام الرضا ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه ، فقد استهزأ بنفسه » 40 .
إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية و يخلصون أنفسهم بذلك ـ و في ظل العنايات الالهية ـ من دنس الذنوب ، يحوزون على ضمائر هادئة و أرواح مطمئنة ، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك و لا يسمعون تأنيباً من الضمير ، و يبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً ، يقول الامام الصادق ( عليه السلام ) « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » 41 .
***
الايمان و تدارك الخطأ :
لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة ، و هي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية و غفران الذنب هو الايمان بالله . إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الايمان أو أنه مادي و منكر لله أساساً ، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة و غفران الذنوب ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره ، إن السبب في الاختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الايمان عندهم ، و عدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي . و لذلك فهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة و الاستغفار . و لقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر ، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً .
كيف يستطيع عمر بن سعد ( و هو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته ، و يبدو وتردده في الأصول الاسلامية المسلم بها ) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية ؟!.
و على العكس من ذلك ، فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الايمان والاعتقاد بالله ، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنى التفاتة نحو الله و الاستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية ، و إذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين ، و الله يتقبل توبتهم و يغفر لهم ذنوبهم .
إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك :
« كان علي بن الحسين عليه السلام في الطواف ، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة ، فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : هذا محمد بن شهاب الزهري ، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى عليه السلام طوافه خرج حتى دنا منه ، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه ، فقال له علي بن الحسين عليه السلام : ما لك ؟ قال : وليت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى . فقال له علي بن الحسين : لأنا عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت . ثم قال له : أعطهم الدية . فقال : فعلت فأبوا . قال : إجعلها صرراً ، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم » 42 .
فنجد أن الامام عليه السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون . بعلاج نفسي بسيط ... و لذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات . و في ذلك يقول الأستاذ ( هنري باروك ) فيما مضى من حديث :
« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية . و لهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً و أهمية عظمية في الأديان السماوية » 43 .
1. a. b. القران الكريم : سورة الفرقان ( 25 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 363 .
2. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 242 .
3. القران الكريم : سورة القيامة ( 75 ) ، الآية : 1 و 2 ، الصفحة : 577 .
4. أنديشه هاى فرويد : 51 .
5. اداب النفس للعينائي : 2 / 111 ، نقلاً عن إرشاد المفيد : 142 .
6. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 70 .
7. نهج البلاغة : 105 .
8. الكافي لثقة الإسلام الكليني : 2 / 335 .
9. الكافي : 2 / 336 .
10. سفينة البحار للقمي : 728 مادة هوى .
11. المصدر السابق : 728 .
12. غرر الحكم و درر الكلم للآمدي : 287 ، طبعة إيران .
13. المصدر نفسه : 227 ، طبعة النجف الأشرف .
14. المصدر نفسه : 234 ، طبعة النجف .
15. راه ورسم زندكى تأليف ألكسيس كارل : 39 .
16. الكافي للكليني : 2 / 454 .
17. المحجة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض الكاشاني : 3 / 371 .
18. المحجة البيضاء : 3 / 371 .
19. تحف العقول : 74 .
20. وسائل الشيعة للحر العاملي : 3 / 202 .
21. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 83 ، الصفحة : 12 .
22. أمالي الصدوق : 153 .
23. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 92 .
24. جريدة إطلاعات الايرانية العدد 10377 .
25. جريدة اطلاعات الايرانية العدد 10382.
26. جريدة اطلاعات الايرانية العدد 10392 .
27. ثمرات الأوراق لابن الحموي : 2 / 106 . هامش المستطرف المطبعة الميمنية القاهرة 1314 هـ .
28. الكافي : 2 / 451 .
29. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 63 .
30. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 66 .
31. جه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصب : 66 .
32. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 66.
33. بيمهاريهاي روحي و عصبي : 67 .
34. الكافي 2 / 426 .
35. الكافي : 2 / 426 .
36. الارشاد للمفيد : 142.
37. الكافي للكليني : 2 / 277 .
38. مجموعة ورام : 1 / 50 .
39. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 464 .
40. مجموعة ورام : 2 / 110 .
41. سفينة البحار للقمي / مادة غفر : 322 .
42. مجموعة ورام : 2 / 4 .
43. كتاب الطفل بين الوراثة و التربية للشيخ محمد تقي الفلسفي : المحاضرة الثالثة عشر .
1 ـ خطر اليأس :
إن المجرم الذي يستلذ طعم الإجرام ، و يرى أن القيام به متأصل في نفسه و غير قابل للزوال ، و لا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة الله له يستمر في ارتكاب الجرائم بجسارة و جرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي عمل مخالف ، و بديهي أن إنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه ، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة ، و اليأس من العودة إلى الصواب ، و لجرأته في الذنوب . . . و هكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه .
2 ـ إتهام الأبرياء :
إن المجرم يحاول ـ لتبرئة نفسه ، و بسبب الآلام الوجدانية التي يلاقيها ـ أن يتهم الأبرياء ، و ينسب جرائمه إليهم . . . و هذا العمل بنفسه يعدّ جريمة أكبر من ارتكاب الجريمة ذاتها ، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الاختلالات الاجتماعية ، و المفاسد التي لا تدرأ ، أو أن يعرّض أرواح الناس , أموالهم إلى أخطار شديدة .
« إن الجرائم تضمن أخطاراً كبيرة لمجتمع ، و الإحساس بالإجرام يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسية التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الاجتماعي ، و إذا دققنا في الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشة من حب البراءة ، تقود الإنسان إلى اتهام الآخرين، و أن الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الاتهامات و هكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها . . . و أخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي و القيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه » 32 .
3 ـ غفران الذنوب :
عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً، و لا يملك المذنب أملاً في المغفرة و العفو الإلهي فإن الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون و يبعث به إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة ، و يفقد مجتمع بأسره راحته و هدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد و لا تحصر . أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء ، و يطمئن إلى المغفرة و العفو ، و يظهر ندمه و توبته بلسان لاعتذار إلى المقام الالهي ... حينذاك تحل عقدته الباطنية ، و يهدأ وجدانه ، و يتخلص من اللوم الباطني و يستمر في حياته بروح مطمئنة هادئة و بهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع .
« عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان ، و عندما يقر المجرم بذنبه ، و يستعد لإصلاح نفسه ... فان الأمل في الرحمة و المغفرة يطفئ الإحساس بالجريمة ، و يولد فيه الهدوء و السكينة حيث يستطيع بهما أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الإجرام الفضيع ، و ينسى بذلك ماضيه » 33 .
* * *
على أن التوبة الحقيقية و المغفرة للذنوب و الفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد و الأسس المعنوية و النفسية ، و بدونها لا يمكن الحصول على الاطمئنان النفسي ، و الفرار من دنس الجريمة و هي :
1 ـ الإقرار بالذنب :
على المذنب أن يقر و يعترف بذنبه تجاه المقام الإلهي بصراحة ، و يطلب منه العفو والمغفرة . إن الإقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب ، و يجلب رحمة الله الواسعة ، و يقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع ، و يحل العقدة الباطنية ، و يخلص الإنسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة .
أما الذين يرتكبون الذنوب ، و لا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية و الكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية ، ويكونون مشمولين للعذاب الإلهي و مصابين بمضايقة الوجدان ، و اللوم و التقريع المستمرين منه .
« عن أبي جعفر عليه السلام : والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به » 34 و قد ورد عنه ـ أي الامام الباقر ( ع ) ـ أيضاً : « ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين : أن يقروا له بالنعم فيزيدهم ، و بالذنوب فيغفرها لهم » 35 .
يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : « حسن الاعتراف يهدم الاقتراف » 36 .
* * *
2 ـ رجاء المغفرة :
يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته ، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل و صمة الاجرام بالتوبة و الاعتذار ، و لا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير.
لقد وضع الاسلام الناس في مركز وسط بين الخوف و الرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الاعتداد و العجب بالنفس ، و ان لا يروا أنفسهم بأمن من عذاب الله لحظة واحدة ، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا ، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً.
يقول الامام الصادق ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « إن من الكبائر عقوق الوالدين ، و اليأس من روح الله ، و الأمن لمكر الله » 37 .
إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الاسلامية واسع جداً ، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله . يقول الامام أمير المؤمنين لولده ( عليه السلام ) مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حد ... « وارج الله رجاءً أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك » 38 .
فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله ، مهما عظمت ذنوبه ... ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ 39 .
* * *
الندم و طلب المغفرة :
إن على المذنب بعد الاقرار بالذنب ، و رجاء المغفرة ، أن يطلب العفو و الغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة ، و طبيعي أن يغفر الله الذنب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك ، و هذا هو معنى التوبة الحقيقية . فإذا أظهر شخص الاستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على اعماله البذئية ، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.
يقول الامام الرضا ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه ، فقد استهزأ بنفسه » 40 .
إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية و يخلصون أنفسهم بذلك ـ و في ظل العنايات الالهية ـ من دنس الذنوب ، يحوزون على ضمائر هادئة و أرواح مطمئنة ، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك و لا يسمعون تأنيباً من الضمير ، و يبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً ، يقول الامام الصادق ( عليه السلام ) « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » 41 .
***
الايمان و تدارك الخطأ :
لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة ، و هي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية و غفران الذنب هو الايمان بالله . إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الايمان أو أنه مادي و منكر لله أساساً ، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة و غفران الذنوب ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره ، إن السبب في الاختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الايمان عندهم ، و عدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي . و لذلك فهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة و الاستغفار . و لقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر ، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً .
كيف يستطيع عمر بن سعد ( و هو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته ، و يبدو وتردده في الأصول الاسلامية المسلم بها ) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية ؟!.
و على العكس من ذلك ، فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الايمان والاعتقاد بالله ، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنى التفاتة نحو الله و الاستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية ، و إذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين ، و الله يتقبل توبتهم و يغفر لهم ذنوبهم .
إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك :
« كان علي بن الحسين عليه السلام في الطواف ، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة ، فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : هذا محمد بن شهاب الزهري ، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى عليه السلام طوافه خرج حتى دنا منه ، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه ، فقال له علي بن الحسين عليه السلام : ما لك ؟ قال : وليت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى . فقال له علي بن الحسين : لأنا عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت . ثم قال له : أعطهم الدية . فقال : فعلت فأبوا . قال : إجعلها صرراً ، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم » 42 .
فنجد أن الامام عليه السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون . بعلاج نفسي بسيط ... و لذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات . و في ذلك يقول الأستاذ ( هنري باروك ) فيما مضى من حديث :
« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية . و لهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً و أهمية عظمية في الأديان السماوية » 43 .
1. a. b. القران الكريم : سورة الفرقان ( 25 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 363 .
2. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 242 .
3. القران الكريم : سورة القيامة ( 75 ) ، الآية : 1 و 2 ، الصفحة : 577 .
4. أنديشه هاى فرويد : 51 .
5. اداب النفس للعينائي : 2 / 111 ، نقلاً عن إرشاد المفيد : 142 .
6. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 70 .
7. نهج البلاغة : 105 .
8. الكافي لثقة الإسلام الكليني : 2 / 335 .
9. الكافي : 2 / 336 .
10. سفينة البحار للقمي : 728 مادة هوى .
11. المصدر السابق : 728 .
12. غرر الحكم و درر الكلم للآمدي : 287 ، طبعة إيران .
13. المصدر نفسه : 227 ، طبعة النجف الأشرف .
14. المصدر نفسه : 234 ، طبعة النجف .
15. راه ورسم زندكى تأليف ألكسيس كارل : 39 .
16. الكافي للكليني : 2 / 454 .
17. المحجة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض الكاشاني : 3 / 371 .
18. المحجة البيضاء : 3 / 371 .
19. تحف العقول : 74 .
20. وسائل الشيعة للحر العاملي : 3 / 202 .
21. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 83 ، الصفحة : 12 .
22. أمالي الصدوق : 153 .
23. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 92 .
24. جريدة إطلاعات الايرانية العدد 10377 .
25. جريدة اطلاعات الايرانية العدد 10382.
26. جريدة اطلاعات الايرانية العدد 10392 .
27. ثمرات الأوراق لابن الحموي : 2 / 106 . هامش المستطرف المطبعة الميمنية القاهرة 1314 هـ .
28. الكافي : 2 / 451 .
29. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 63 .
30. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 66 .
31. جه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصب : 66 .
32. جه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي و عصبي : 66.
33. بيمهاريهاي روحي و عصبي : 67 .
34. الكافي 2 / 426 .
35. الكافي : 2 / 426 .
36. الارشاد للمفيد : 142.
37. الكافي للكليني : 2 / 277 .
38. مجموعة ورام : 1 / 50 .
39. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 464 .
40. مجموعة ورام : 2 / 110 .
41. سفينة البحار للقمي / مادة غفر : 322 .
42. مجموعة ورام : 2 / 4 .
43. كتاب الطفل بين الوراثة و التربية للشيخ محمد تقي الفلسفي : المحاضرة الثالثة عشر .
تعليق