مع جوائز الأئمة عليهم السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين
يذكر الرواة و المؤرخون أرقاماً عالية للأموال التي كان يعطيها ، أو يبذلها الأئمة عليهم السلام للشعراء ، إذا ما قالوا فيهم ، أو في قضيتهم شيئاً من الشعر . . و من أمثلة ذلك .
1 ـ إنهم يقولون : إن الإمام زين العابدين عليه السلام ، عندما تجاهله هشام بن عبد الملك في الطواف ، و جرى بين هشام و بين الفرزدق من أجل ذلك ما جرى ، يقولون : إن الإمام ( عليه السلام ) قد أعطى الفرزدق ألف دينار ، أو إثنى عشر ألف درهم على اختلاف النقل ، على قوله الأبيات التي أولها :
هذا الذي تعرف البطحاء وطـأتـه *** و البيت يـعـرفـه و الحل و الحرم
فرفض الفرزدق قبولها ، لأنه إنما قال ذلك غضباً لله و لرسوله ، لكنه عليه السلام أصر عليه بالقبول ، فقبلها . . و القضية أشهر من أن تذكر . .
2 ـ و عندما أنشد الكميت للباقر عليه السلام قصيدته : " من لقلب متيم مستهام . . " قال له : يا كميت ، هذه مئة ألف جمعتها لك من أهل بيتي .
فقال : لا والله ، لا يعلم أحد أني آخذ منها ، حتى يكون الله عز و جل هو الذي يكافيني ، و لكن تكرمني بقميص من قمصك . فأعطاه . . 1
3 ـ و أمر الباقر عليه السلام للكميت مرة بثلاثين أو بخمسين ألف درهم على اختلاف النقل ، لكن الكميت رفض قبولها . . 2
4 ـ و أمر له مرة أخرى بألف دينار و كسوة ، فرفض قبول الدنانير ، لكنه قبل الكسوة لبركاتها . . رفض ذلك معلناً بأنه يحبهم ، و يقول فيهم ما يقول رغبة في الآخرة لا طمعاً بالدنيا . . 3
5 ـ و أعطى الإمام الرضا عليه السلام دعبلاً الخزاعي ستمائة دينار ، أو أقل ، على تائيته المشهورة ، التي يقول فيها :
أرى فيئهم في غيرهمه متقسماً *** و أيـديـهـم مـن فيئهم صفرات
فرفض المال ، و طلب ثوباً من ثيابه عليه السلام يتبرك به ، و لكنه عليه السلام أصر عليه بقبول المال أيضاً فقبله . .
و قال ياقوت في معجم أدبائه ، إنه أعطاه عليها عشرة آلاف درهم ، و خلع عليه بردة من ثبابه ، فأخذها منه أهل قم بثلاثين ألفاً ، ما عدا كماً واحداً منها جعله في أكفانه و القصة أيضاً مشهورة و معروفة . .
و عند ما طلب منه المأمون : أن ينشد هذه التائية جحدها ، فلما أمره الإمام الرضا عليه السلام أنشدها ، فأعطاه المأمون خمسين ألف درهم ، و أعطاه الرضا عليه السلام مثلها ، أو قريباً منها . .
6 ـ و أبو نواس أيضاً قد أعطاه الإمام الرضا عليه السلام أربعمأة دينار ، أو أقل على اختلاف النقل و بغلة ، على أبياته المعدودة .
مطهـرون نقيات ثيابهـم *** تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
7 ـ بل يقولون : إن الإمام زين العابدين عليه السلام قد : " قسط على نفسه و أهله أربعمائة ألف درهم للكميت ، فقال له : خذ هذه يا أبا المستهل ، فقال : لو وصلتني بدانق لكان شرفاً و لكن إن أحببت أن تحسن إلي ، فادفع لي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرك بها الخ . ." 4 .
8 ـ و أهم من ذلك كله أنهم يذكرون : إن الإمام الحسن عليه السلام قد أعطى خراج العراق لمدة سنة ، على ثلاثة أبيات فقط ، و عندما ما عوتب على ذلك قال : " أما سمعتم ما قال :
لا يـكـن جـودك لـي *** بـل يـكـن جـودك لله
فلو كانت الدنيا كلها لي ، و اعطيتها إياه ، كانت في ذات الله قليلاً . ." 5 .
إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه و استقصائه . .
و على كل حال . . و حتى لو فرضنا : أن بعض تلك الأرقام لا يخلو عن مبالغة ، إلا أنه و لا شك يعبر عن النسبة العالية للأموال ، التي كان الأئمة عليهم السلام يخصون الشعراء بها . .
و السؤال الذي يطرح نفسه هو :
ألا يمكن أن يعتبر إعطاء مثل هذه الأموال الطائلة لشاعر ما ، بسبب قوله أبياتاً من الشعر عملاً غير منطقي ؟! بل إسرافاً و تبذيراً لأموال يمكن أن يستفيد منها عشرات ، بل مئات العوائل ، التي قد تكون أحوج ما تكون إلى لقمة العيش ، و ما يحفظ لها نفس الحياة ؟! فليعط الشاعر خمس ، بل عشر هذه المبالغ ، و الباقي فليوزع على المحتاجين و البائسين و ما أكثرهم في ذلك العهد!! .
و بماذا استحق الشاعر هذه المبالغ الطائلة ؟!
و هل نظمه بضعة أبيات من الشعر قد لا تستغرق معه الساعة الواحدة ، أو أقل أو أكثر ، مع إمكان أن يصاحبها أي عمل آخر يدر على ذلك الشاعر المال الذي يغنيه عن استجداء الناس ، و طلب اعطياتهم ؟
هل ذلك يجعله يستحق كل هذه الأموال ، و يحرم الآخرين منها ، مهما بلغ بهم الجهد ، و ألظّ بهم ضيق ذات اليد ؟!
و بعد فهل يمكن أن يكون ثمة فرق بين تصرفاتهم و تصرفات غيرهم من الحكام ؟
و إذا كان ذلك هو الواقع الذي يعيشه الناس في ذلك العهد ، و جرت عليه سيرة الحكام و الناس وقتئذٍ . فهل يفترض بالأئمة ـ الهداة البررة ـ أن يستسلموا لهذا الواقع ؟ أم أن المفروض فيهم أن يغيروه ؟ أو على الأقل أن يعلنوا على الملأ رأيهم فيه ، و رفضهم له ؟!
و ذلك لأن المفروض بالأئمة عليه السلام هو أن يعيشوا آلام الناس ، و آمالهم ، و يشعروا معهم ، و يحاولوا التخفيف من تلك الآلام بكل ما لديهم من قوة و حول . . لا أن يشجعوا استمرار ذلك الواقع بإعطائهم الشعراء تلك الأموال الطائلة ، التي كان من الممكن أن تخفف الكثير من الشقاء و البؤس ، الذي يعاني منه الكثيرون . . .
و الجواب عن ذلك ، بكل بساطة و يسر . . .
لا . . فإن ما فعلوه صلوات الله و سلامه عليهم هو الأمثل و الأفضل ، و لو أنهم فعلوا غير ذلك لكان خطأ فاحشاً ، نربأ بالإمام المعصوم ، بل بأي عاقل أن يرتكبه ، أو أن يفكر فيه . . .
و ذلك :
أولاً : إننا لابد و أن ننظر : هل أعطى هذا الشاعر و بذل ما يستحق به هذا المال و يؤهله لان يستأثر به دون غيره أم لا ؟
الجواب : نعم . . إن الشاعر بمدحه لأهل البيت ، و وقوفه مع قضيتهم يكون قد أعطى و بذل ما هو أعز من المال بكثير ، فكل ما يعطى له يكون قليلاً في جنب ما بذل . لقد أعطى و بذل نفسه و روحه و دمه ، و كل ما في الحياة لا قيمة له في مقابل نفسه ، و روحه التي بين جنبيه . .
لأنه عندما يقول الشعر فيهم عليهم السلام ، فإنه يكون قد عرض نفسه للهلاك ، و أسرته ، بل و كثيرين ممن يرتبطون به و لو من بعيد للعناء و الشقاء و البلاء . . و كلنا يعلم أن الكميت قد أهدر دمه ، و الفرزدق قد سجن ، و أهين . . ولم تكن حياة دعبل بالحياة التي يحسد عليها . .
و يكفي أن نذكر هنا : أن الرشيد بسبب بيتين من الشعر في أهل البيت قد أمر في منصور النمري : أن تقطع يده و رجله ، و يسل لسانه من قفاه ، ثم تضرب عنقه ، و يصلب ، و يحمل إليه رأسه . . . و كم كان غضبه شديداً عندما علم أن منصوراً مات قبل تنفيذ هذه الأوامر . . حتى ليقول الخوارزمي : إنه نبشه ، و أحرقه . .
و أي شيء بعد هذا . . يمكن أن يعتبر مكافأة لشاعر يعرض نفسه لمثل هذا ، و كيف يمكن مقابلة جميلة بالمثل ؟! . .
و ثانياً : إننا من الجهة الأخرى . . حتى لو أردنا أن نزن الأمور بميزان مادي بحيث نجعلها هي المعيار في الربح و الخسران . . . فإننا نجد أنه حتى على هذا المقياس لا يمكن أن نعتبر بذل الأئمة( عليهم السلام ) لتلك الأموال إسرافاً و تبذيراً . . . بل هو في محله ، و لابد منه ، إذ كثيراً ما لا يمكن لهذا الشاعر المسكين أن ينفق هذا المال ، أو أن يستفيد منه بالنحو المقبول و المعقول ، بسبب الحالة التي يواجهها ، و الظروف الطارئة التي أصبح يعاني منها بسبب ما فعله بنفسه . . . لكن أسرته و من له نوع تعلق به قد تكون بأشد الحاجة لهذا المال عندما لا يعود باستطاعة كفيلها ، أن يقوم بشؤونها ، و يؤمّن لها ما تحتاج إليه ، و قد يمتد الأمر إلى سنين عديدة ، و مدة مدّيدة .
و على ضوء كل ما قدمناه يتضح : أنهم عليهم السلام لو لم يبذلوا ، ولم يعطوا ، لكانوا قد أعطوا الناس انطباعاً سيئاً عن أنفسهم ، و أثبتوا و العياذ بالله أن لا عهد ، و لا وفاء لهم ، و أنه لا يصح لأحد أن يعقد عليهم آماله ، و يتوهم أنهم يمكن أن يمدوا له يد العون في وقت ما لأنهم لم يمدّوا يد العون حتى إلى أولئك الذين بذلوا دمائهم ، و تحملوا كل الشقاء و العناء من أجلهم ، و في سبيلهم . . . و ذلك ما يسيء إلى سمعتهم ، و إلى قضيتهم ، و يوجب إنصراف الناس عنهم ، و يقولون : و لماذا إذن نعرض أنفسنا للهلاك بموالاتهم وحبهم . . . و ذلك و لا شك خسارة كبرى ، لا يساوي المال بإزائها أي شيء و لا يكون له أية قيمة . .
ثالثاً : إن كل عمل كيف كان و مهما كان ، إنما يستمد قيمته و شرفه و سمّوه ، من سمّو و قيمة الغاية و الهدف الذي كان من أجله ذلك العمل و في سبيله ، شرط أن يكون في الخط الصحيح ، الذي تتبناه الغاية نفسها و تدعو إليه . .
و إذا كان الهدف هو نصرة رسالة السماء ، و الذي معناه خدمة البشرية جمعاء . . فإن العمل الذي يكون في هذا الخط ، و من أجل هذه الغاية إذا كان صحيحاً و سليماً ـ هذا العمل ـ يزيد في قيمته على كل قيمة ، و يكون عظيماً بمقدار ما تكون تلك الغاية عظيمة . . و في مثل تلك الظروف بالذات ، التي بلغ اضطهاد الأئمة و شيعتهم فيها سياسياً و فكرياً ، و إعلامياً بلغ الغاية و أوفى على النهاية تتأكد القيمة لمثل هذه المواقف و تزداد .
رابعاً : لقد كان الشعر من أهم وسائل الإعلام و أسهلها ، إن لم يكن أهمها على الإطلاق و ذلك لأنه يتلائم مع ذوق العربي و فطرته ، و ينسجم مع طبيعته و سجيته مما يجعله يتفاعل معه بكل عواطفه و جوارحه ، و ما يقوله الشعراء يحفظه الناس ، و يتناقلونه ، و يدون في الكتب ، و يكون الحديث الذي لا يمل و الشغل الشاغل للكبير و الصغير ، و الغني و الفقير ، و العظيم و الحقير على حد سواء . . و له تأثير مهم في مختلف الطبقات ، و عند جميع الفئات . .
و قد يبذل أحدهم الغالي و النفيس ، من أجل أن يقال فيه و لو بيت من الشعر يخلد اسمه بالشرف و الكرامة ، أو أن يقال فيه ما يخلده أبد الدهر بالحقارة و المهانة . . و من هنا نعرف : أنه من الطبيعي جداً بعد هذا أن يكون للشعر دور رئيس في تأييد أية قضية ، و رفع شأنها ، أو الحط منها و تهجينها . .
و لقد رأينا العباسيين يبذلون الأموال الطائلة للشعراء الذين يتبنون وجهة نظرهم السياسية ، و يدافعون عنها في مقابل أعدائهم آل علي عليهم السلام . . حتى لقد أعطى مروان بن أبي حفصة على بعض قصائده مئة ألف درهم ، و كانت مئة بيت ـ لكل بيت ألف درهم ـ أعطي ذلك من قبل المهدي مرة ، و من قبل الرشيد بعد ذلك مرة أخرى . . و أما حفيده مروان بن أبي الجنوب ، فقد فاز بولاية البحرين و اليمامة ، و أربع خلع ، و ثلاثة آلاف دينار نثرت عليه ، و أمر بالتقاطها . . كل ذلك لأنهم قالوا شعراً يؤيدون فيه العباسيين ، و يتحاملون فيه على العلويين . .
و خلاصة القول : إن تأثير الشعر إعلامياً آنذاك ، أكثر من تأثير الجريدة و المجلة و الراديو و التلفزيون ، و غير ذلك من وسائل الإعلام اليوم ، لأن الشعر كان مرتبطاً بروح و عقل و فطرة الإنسان العربي ، و أما وسائل الإعلام اليوم فغاية ما يمكن أن تفعله هو أن تثير في الإنسان بعض المشاعر الوقتية المرتبطة بغريزة الجنس مثلاً أو حب الظهور أو غير ذلك 6 . . الأمر الذي لا يلبث أن يفقد محتواه بالنسبة إلى هذا الإنسان ، و من ثم يتلاشى و ينعدم من دائرة حياته .
نعم لقد كان للشعر تأثير السحر في النفوس . . فلا شيء يمكن أن يؤثر كما كان يؤثر . . و لا يكاد ينتشر شيء كما ينتشر . .
و من هنا . . يتضح لنا : أن من الطبيعي أن يكون الشعر من الوسائل إعلامية لإيصال قضية أهل البيت ، و بالذات قضية الإمام علي عليه السلام التي هي قضية الإسلام و حقه في خلافة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و قيادة الأمة ، و كذلك ولده من بعده إيصالها إلى اكبر عدد ممكن في تلك الفترة ، و نشرها في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف 7 .
و أيضاً من الوسائل الهامة للاحتفاظ بقضيتهم هذه ، و إيصالها إلى الأجيال القادمة . . إذ من الطبيعي : أنه إذا كان الشعر يحفظ و يخلد فإن القضية التي يعالجها تحفظ و تخلد أيضاً . .
و مهما بذل من المال . . فإن خلود القضية ، و إبقاءها حية في ضمير الأمة و وجدانها ، تسير من بلد إلى بلد ، و تتناقلها الأجيال من جيل إلى جيل … أولى و أهم بكثير من اختزان المال ، أو إنفاقه على عدة معدودة ، ليسوا بخالدين و لا باقين ، و يمكنهم الاتجاه إلى مصادر أخرى لتأمين لقمة العيش . . هذا بالإضافة إلى أنهم لا يستطيعون أن ينقلوا عقيدة الأئمة ـ التي هي العقيدة المثلى ، و قضيتهم التي هي قضية الحياة إلى الأجيال القادمة ، التي لها من الحق تماماً كما لأولئك الذين يعيشون في عهد الأئمة ، و بالقرب منهم … أو على الأقل لا تستطيع قضيتهم أن تستقطب مختلف أنحاء و أرجاء الدولة الإسلامية على النحو المطلوب و المرغوب . .
و من هنا . . يتضح لنا الهدف الذي يرمي إليه الإمام الحسن عليه السلام حينما قرر : أن الدنيا كلها لو كانت له ، و أعطاها لذلك الشاعر ، كانت في ذات الله قليلاً . .
إذن : فحتى إعطاء خراج العراق كله ـ لو كان ـ كان الهدف منه هو وجه الله عز وجل ، و جلب مرضاته . .
و بعد هذا . .
فلعل من أهل الملاحظات الجديرة بالتسجيل هنا :
إن هؤلاء الشعراء ، الذين كانوا يتبنون قضية الأئمة ، و يدافعون عنها ، كانوا عموماً يرفضون الأموال ، التي كان الأئمة يبذلونها لهم ، و يؤكدون على أن مواقفهم تلك و أن مدحهم لهم ، و دفاعهم عن قضيتهم لم يقصد به إلا وجه الله تعالى ، و الغضب لله و رسوله ، و للحق ، كما كان الحال بالنسبة للفرزدق مع الإمام زين العابدين ، و الكميت معه أيضاً ، و مع الباقر عليه السلام ، و دعبل مع الرضا عليه السلام ، و غاية ما كانوا يطلبونه منهم هو أن يتكرموا عليهم بثوب لبسوه ، ليتبركوا به ، أو ليجعلوه في أكفانهم . .
مع أن هؤلاء الشعراء . . و كل من يمدح الأئمة عليهم السلام ، و يدافع عن قضيتهم ، التي هي قضية الإسلام و الحياة . . كانوا يتعرضون لأقسى أنواع الاضطهاد و التنكيل ، هذا إن لم تكن نهايتهم هي القتل بالصور البشعة ، و الأساليب القاسية المثيرة !!
و ذلك إن دل على شيء . . فإنما يدل على أن اندفاعهم في مواقفهم تلك كانت نابعة من إحساسهم العقيدي ، المتأصل في نفوسهم ، و اقتناعهم اقتناعاً كاملاً بمبادئ أهل البيت ، و قيمهم ، إلى حد أنهم يتنازلون عن حياتهم ، و وجودهم ، من أجلها و في سبيلها . . تماماً على عكس الشعراء الآخرين المتزلفين و المتسكعين على أعتاب الحكام ، و الذين لم يكن يهمهم غالباً إلا الاستفادة من الحكم القائم ، بأية وسيلة و بأي طريقة كانت ، و لا يؤمنون به إلا بقدر إيمانهم بالطريقة التي يستطيعون أن يحصلوا بها على المال . . حتى إذا ما أحسوا من ذلك خطراً على وجودهم ، أو عرفوا أنه لن يؤمن لهم المبالغ التي يتوقعونها ، أداروا أظهرهم إليه ، و غالباً ما يصيرون حرباً عليه .
و من هنا نستطيع أن نتلمس في تلك القصائد و الأشعار التي تقال في أهل البيت( عليهم السلام ) صورة حقيقية و واقعية لعظمة أهل البيت عليهم السلام . و أنهم كان ينظر إليهم من الكثيرين المغلوبين على أمرهم و الواعين لواقعهم ، و واقع حكامهم ينظر إليهم على أنهم القمة في الكمالات الإنسانية ، و الفضائل الأخلاقية . .
و نستطيع أن نستشف منها أيضاً العاطفة المشبوبة ، التي استطاعت أن تتجاوز كل تلكم الحواجز و العقبات لتتفجر ينبوعاً ثراً من العاطفة الصادقة ، التي لا يشوبها طمع و لا يهيمن عليها رجاء ، إلا رجاء رحمة الله و ثوابه ، و الأمن من جزائه و عقابه . .
إنها العاطفة التي تتفجر بركاناً يجتاح كل ذلك الركام الهائل من الأكاذيب و الأباطيل و الدعايات التي حيكت حول أهل البيت عليهم السلام ، و شيعتهم و محبيهم .
إنها العاطفة الصادقة التي تنبع حقاً من القلب ، و تستمد أصالتها من الواقع الحي . . لا مثل شعر أولئك المتاجرين ، الذي تغمره روح التزيف و التزلف ، و الذي لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يعبر عن واقع حي ، و أصالة راسخة . .
1. مناقب آل أبي طالب : 4 / 197 و قاموس الرجال : 7 / 433 عنه .
2. قاموس الرجال : 7 / 432 عن بصائر الدرجات .
3. الأغاني : 15 / 123 طبعة بولاق .
4. ملحقات إحقاق الحق : 12 / 61 عن تاريخ الإسلام للذهبي : 5 / 126 طبعة مصر .
5. نظم درر السمطين : 197 .
6. و مع ذلك نلاحظ أنهم ينفقون فيها سنوياً على الدعاية لبعض السلع لبضع دقائق يومياً الملايين الكثيرة . . . التي لا تكاد تخطر على بال الإنسان العادي ، أو أن يتوهمها .
7. لقد كان أئمة أهل البيت لا يدخرون وسعاً في التعريف بقضيتهم و رسالتهم ، و محاولة إيصالها بالطرق المشروعة إلى أكبر عدد ممكن . . . و يكفي أن نذكر أن الإمام الباقر( عليه السلام ) قد أوصى بثمانمائة درهم لنوادب يندبنه بمنى أيام الموسم عشر سنين راجع : الكافي : 3 / 217 و التهذيب للطوسي : 6 / 358 و من لا يحضره الفقيه : 1 / 116 و وسائل الشيعة : 12 / 88 و قصار الجمل : 1 / 134 عنه و الذكرى : 72 و مقتل الحسين للمقرم : 103 ـ 104 عن بعض من تقدم و عن منتهى للعلامة : 2 ـ 112 ، و اختيار منى لا مكة ، و لا المدينة ـ حيث يجتمع فيها الناس من مختلف الأنحاء و الأرجاء ، و يرجعون منها إلى بلادهم ، و يتحدثون للناس بما الفت نظرهم ، من الأمور غير العادية ، فيكون ذلك آخر ذكرى يحملونها ، و يتفاعلون معها عاطفياً و اختيار أيام الفرح و الاستبشار للندب و الحزن ليس إلا لإلفات النظر ، و جلب الانتباه من أكبر عدد ممكن ، و تعريف الناس بأهل البيت ، و بقضيتهم و رسالتهم ، و إقامة الحجة عليهم . و لعل التوقيت بعشر سنين ، إنما هو بملاحظة : أن قوة الأمويين بعد عشر سنين من وفاته ستضعف و ستضمحل ، حيث يقتلون زيد بن علي و أصحابه ، الأمر الذي من شانه أن يعيد تعبئة الناس نفسياً ضدهم ، ثم إنهم سوف ينشغلون بحرب الخوارج ، و لا يبقى لهم أي شأن يذكر بعد ذلك .
و ما أشبه هذه القضية بقضية حجة الوداع ، و تنصيب علي( عليه السلام ) يوم الغدير فيها على مفترق الطرق و في حين لابد للناس من مفارقة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و الرجوع إلى بلادهم ، في مناسبة فريدة من نوعها ستبقى ذكرى لكل مسلم لا يمكن أن ينساها بعد أن كانت آخر لحظة يرى فيها النبي ( صلى الله عليه و آله ) . . و ما أشبهها أيضاً بقضية براءة ، و بموقف الإمام الرضا في نيشابور ( راجع : الحياة السياسية للإمام الرضا : 318 )
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين
يذكر الرواة و المؤرخون أرقاماً عالية للأموال التي كان يعطيها ، أو يبذلها الأئمة عليهم السلام للشعراء ، إذا ما قالوا فيهم ، أو في قضيتهم شيئاً من الشعر . . و من أمثلة ذلك .
1 ـ إنهم يقولون : إن الإمام زين العابدين عليه السلام ، عندما تجاهله هشام بن عبد الملك في الطواف ، و جرى بين هشام و بين الفرزدق من أجل ذلك ما جرى ، يقولون : إن الإمام ( عليه السلام ) قد أعطى الفرزدق ألف دينار ، أو إثنى عشر ألف درهم على اختلاف النقل ، على قوله الأبيات التي أولها :
هذا الذي تعرف البطحاء وطـأتـه *** و البيت يـعـرفـه و الحل و الحرم
فرفض الفرزدق قبولها ، لأنه إنما قال ذلك غضباً لله و لرسوله ، لكنه عليه السلام أصر عليه بالقبول ، فقبلها . . و القضية أشهر من أن تذكر . .
2 ـ و عندما أنشد الكميت للباقر عليه السلام قصيدته : " من لقلب متيم مستهام . . " قال له : يا كميت ، هذه مئة ألف جمعتها لك من أهل بيتي .
فقال : لا والله ، لا يعلم أحد أني آخذ منها ، حتى يكون الله عز و جل هو الذي يكافيني ، و لكن تكرمني بقميص من قمصك . فأعطاه . . 1
3 ـ و أمر الباقر عليه السلام للكميت مرة بثلاثين أو بخمسين ألف درهم على اختلاف النقل ، لكن الكميت رفض قبولها . . 2
4 ـ و أمر له مرة أخرى بألف دينار و كسوة ، فرفض قبول الدنانير ، لكنه قبل الكسوة لبركاتها . . رفض ذلك معلناً بأنه يحبهم ، و يقول فيهم ما يقول رغبة في الآخرة لا طمعاً بالدنيا . . 3
5 ـ و أعطى الإمام الرضا عليه السلام دعبلاً الخزاعي ستمائة دينار ، أو أقل ، على تائيته المشهورة ، التي يقول فيها :
أرى فيئهم في غيرهمه متقسماً *** و أيـديـهـم مـن فيئهم صفرات
فرفض المال ، و طلب ثوباً من ثيابه عليه السلام يتبرك به ، و لكنه عليه السلام أصر عليه بقبول المال أيضاً فقبله . .
و قال ياقوت في معجم أدبائه ، إنه أعطاه عليها عشرة آلاف درهم ، و خلع عليه بردة من ثبابه ، فأخذها منه أهل قم بثلاثين ألفاً ، ما عدا كماً واحداً منها جعله في أكفانه و القصة أيضاً مشهورة و معروفة . .
و عند ما طلب منه المأمون : أن ينشد هذه التائية جحدها ، فلما أمره الإمام الرضا عليه السلام أنشدها ، فأعطاه المأمون خمسين ألف درهم ، و أعطاه الرضا عليه السلام مثلها ، أو قريباً منها . .
6 ـ و أبو نواس أيضاً قد أعطاه الإمام الرضا عليه السلام أربعمأة دينار ، أو أقل على اختلاف النقل و بغلة ، على أبياته المعدودة .
مطهـرون نقيات ثيابهـم *** تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
7 ـ بل يقولون : إن الإمام زين العابدين عليه السلام قد : " قسط على نفسه و أهله أربعمائة ألف درهم للكميت ، فقال له : خذ هذه يا أبا المستهل ، فقال : لو وصلتني بدانق لكان شرفاً و لكن إن أحببت أن تحسن إلي ، فادفع لي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرك بها الخ . ." 4 .
8 ـ و أهم من ذلك كله أنهم يذكرون : إن الإمام الحسن عليه السلام قد أعطى خراج العراق لمدة سنة ، على ثلاثة أبيات فقط ، و عندما ما عوتب على ذلك قال : " أما سمعتم ما قال :
لا يـكـن جـودك لـي *** بـل يـكـن جـودك لله
فلو كانت الدنيا كلها لي ، و اعطيتها إياه ، كانت في ذات الله قليلاً . ." 5 .
إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه و استقصائه . .
و على كل حال . . و حتى لو فرضنا : أن بعض تلك الأرقام لا يخلو عن مبالغة ، إلا أنه و لا شك يعبر عن النسبة العالية للأموال ، التي كان الأئمة عليهم السلام يخصون الشعراء بها . .
و السؤال الذي يطرح نفسه هو :
ألا يمكن أن يعتبر إعطاء مثل هذه الأموال الطائلة لشاعر ما ، بسبب قوله أبياتاً من الشعر عملاً غير منطقي ؟! بل إسرافاً و تبذيراً لأموال يمكن أن يستفيد منها عشرات ، بل مئات العوائل ، التي قد تكون أحوج ما تكون إلى لقمة العيش ، و ما يحفظ لها نفس الحياة ؟! فليعط الشاعر خمس ، بل عشر هذه المبالغ ، و الباقي فليوزع على المحتاجين و البائسين و ما أكثرهم في ذلك العهد!! .
و بماذا استحق الشاعر هذه المبالغ الطائلة ؟!
و هل نظمه بضعة أبيات من الشعر قد لا تستغرق معه الساعة الواحدة ، أو أقل أو أكثر ، مع إمكان أن يصاحبها أي عمل آخر يدر على ذلك الشاعر المال الذي يغنيه عن استجداء الناس ، و طلب اعطياتهم ؟
هل ذلك يجعله يستحق كل هذه الأموال ، و يحرم الآخرين منها ، مهما بلغ بهم الجهد ، و ألظّ بهم ضيق ذات اليد ؟!
و بعد فهل يمكن أن يكون ثمة فرق بين تصرفاتهم و تصرفات غيرهم من الحكام ؟
و إذا كان ذلك هو الواقع الذي يعيشه الناس في ذلك العهد ، و جرت عليه سيرة الحكام و الناس وقتئذٍ . فهل يفترض بالأئمة ـ الهداة البررة ـ أن يستسلموا لهذا الواقع ؟ أم أن المفروض فيهم أن يغيروه ؟ أو على الأقل أن يعلنوا على الملأ رأيهم فيه ، و رفضهم له ؟!
و ذلك لأن المفروض بالأئمة عليه السلام هو أن يعيشوا آلام الناس ، و آمالهم ، و يشعروا معهم ، و يحاولوا التخفيف من تلك الآلام بكل ما لديهم من قوة و حول . . لا أن يشجعوا استمرار ذلك الواقع بإعطائهم الشعراء تلك الأموال الطائلة ، التي كان من الممكن أن تخفف الكثير من الشقاء و البؤس ، الذي يعاني منه الكثيرون . . .
و الجواب عن ذلك ، بكل بساطة و يسر . . .
لا . . فإن ما فعلوه صلوات الله و سلامه عليهم هو الأمثل و الأفضل ، و لو أنهم فعلوا غير ذلك لكان خطأ فاحشاً ، نربأ بالإمام المعصوم ، بل بأي عاقل أن يرتكبه ، أو أن يفكر فيه . . .
و ذلك :
أولاً : إننا لابد و أن ننظر : هل أعطى هذا الشاعر و بذل ما يستحق به هذا المال و يؤهله لان يستأثر به دون غيره أم لا ؟
الجواب : نعم . . إن الشاعر بمدحه لأهل البيت ، و وقوفه مع قضيتهم يكون قد أعطى و بذل ما هو أعز من المال بكثير ، فكل ما يعطى له يكون قليلاً في جنب ما بذل . لقد أعطى و بذل نفسه و روحه و دمه ، و كل ما في الحياة لا قيمة له في مقابل نفسه ، و روحه التي بين جنبيه . .
لأنه عندما يقول الشعر فيهم عليهم السلام ، فإنه يكون قد عرض نفسه للهلاك ، و أسرته ، بل و كثيرين ممن يرتبطون به و لو من بعيد للعناء و الشقاء و البلاء . . و كلنا يعلم أن الكميت قد أهدر دمه ، و الفرزدق قد سجن ، و أهين . . ولم تكن حياة دعبل بالحياة التي يحسد عليها . .
و يكفي أن نذكر هنا : أن الرشيد بسبب بيتين من الشعر في أهل البيت قد أمر في منصور النمري : أن تقطع يده و رجله ، و يسل لسانه من قفاه ، ثم تضرب عنقه ، و يصلب ، و يحمل إليه رأسه . . . و كم كان غضبه شديداً عندما علم أن منصوراً مات قبل تنفيذ هذه الأوامر . . حتى ليقول الخوارزمي : إنه نبشه ، و أحرقه . .
و أي شيء بعد هذا . . يمكن أن يعتبر مكافأة لشاعر يعرض نفسه لمثل هذا ، و كيف يمكن مقابلة جميلة بالمثل ؟! . .
و ثانياً : إننا من الجهة الأخرى . . حتى لو أردنا أن نزن الأمور بميزان مادي بحيث نجعلها هي المعيار في الربح و الخسران . . . فإننا نجد أنه حتى على هذا المقياس لا يمكن أن نعتبر بذل الأئمة( عليهم السلام ) لتلك الأموال إسرافاً و تبذيراً . . . بل هو في محله ، و لابد منه ، إذ كثيراً ما لا يمكن لهذا الشاعر المسكين أن ينفق هذا المال ، أو أن يستفيد منه بالنحو المقبول و المعقول ، بسبب الحالة التي يواجهها ، و الظروف الطارئة التي أصبح يعاني منها بسبب ما فعله بنفسه . . . لكن أسرته و من له نوع تعلق به قد تكون بأشد الحاجة لهذا المال عندما لا يعود باستطاعة كفيلها ، أن يقوم بشؤونها ، و يؤمّن لها ما تحتاج إليه ، و قد يمتد الأمر إلى سنين عديدة ، و مدة مدّيدة .
و على ضوء كل ما قدمناه يتضح : أنهم عليهم السلام لو لم يبذلوا ، ولم يعطوا ، لكانوا قد أعطوا الناس انطباعاً سيئاً عن أنفسهم ، و أثبتوا و العياذ بالله أن لا عهد ، و لا وفاء لهم ، و أنه لا يصح لأحد أن يعقد عليهم آماله ، و يتوهم أنهم يمكن أن يمدوا له يد العون في وقت ما لأنهم لم يمدّوا يد العون حتى إلى أولئك الذين بذلوا دمائهم ، و تحملوا كل الشقاء و العناء من أجلهم ، و في سبيلهم . . . و ذلك ما يسيء إلى سمعتهم ، و إلى قضيتهم ، و يوجب إنصراف الناس عنهم ، و يقولون : و لماذا إذن نعرض أنفسنا للهلاك بموالاتهم وحبهم . . . و ذلك و لا شك خسارة كبرى ، لا يساوي المال بإزائها أي شيء و لا يكون له أية قيمة . .
ثالثاً : إن كل عمل كيف كان و مهما كان ، إنما يستمد قيمته و شرفه و سمّوه ، من سمّو و قيمة الغاية و الهدف الذي كان من أجله ذلك العمل و في سبيله ، شرط أن يكون في الخط الصحيح ، الذي تتبناه الغاية نفسها و تدعو إليه . .
و إذا كان الهدف هو نصرة رسالة السماء ، و الذي معناه خدمة البشرية جمعاء . . فإن العمل الذي يكون في هذا الخط ، و من أجل هذه الغاية إذا كان صحيحاً و سليماً ـ هذا العمل ـ يزيد في قيمته على كل قيمة ، و يكون عظيماً بمقدار ما تكون تلك الغاية عظيمة . . و في مثل تلك الظروف بالذات ، التي بلغ اضطهاد الأئمة و شيعتهم فيها سياسياً و فكرياً ، و إعلامياً بلغ الغاية و أوفى على النهاية تتأكد القيمة لمثل هذه المواقف و تزداد .
رابعاً : لقد كان الشعر من أهم وسائل الإعلام و أسهلها ، إن لم يكن أهمها على الإطلاق و ذلك لأنه يتلائم مع ذوق العربي و فطرته ، و ينسجم مع طبيعته و سجيته مما يجعله يتفاعل معه بكل عواطفه و جوارحه ، و ما يقوله الشعراء يحفظه الناس ، و يتناقلونه ، و يدون في الكتب ، و يكون الحديث الذي لا يمل و الشغل الشاغل للكبير و الصغير ، و الغني و الفقير ، و العظيم و الحقير على حد سواء . . و له تأثير مهم في مختلف الطبقات ، و عند جميع الفئات . .
و قد يبذل أحدهم الغالي و النفيس ، من أجل أن يقال فيه و لو بيت من الشعر يخلد اسمه بالشرف و الكرامة ، أو أن يقال فيه ما يخلده أبد الدهر بالحقارة و المهانة . . و من هنا نعرف : أنه من الطبيعي جداً بعد هذا أن يكون للشعر دور رئيس في تأييد أية قضية ، و رفع شأنها ، أو الحط منها و تهجينها . .
و لقد رأينا العباسيين يبذلون الأموال الطائلة للشعراء الذين يتبنون وجهة نظرهم السياسية ، و يدافعون عنها في مقابل أعدائهم آل علي عليهم السلام . . حتى لقد أعطى مروان بن أبي حفصة على بعض قصائده مئة ألف درهم ، و كانت مئة بيت ـ لكل بيت ألف درهم ـ أعطي ذلك من قبل المهدي مرة ، و من قبل الرشيد بعد ذلك مرة أخرى . . و أما حفيده مروان بن أبي الجنوب ، فقد فاز بولاية البحرين و اليمامة ، و أربع خلع ، و ثلاثة آلاف دينار نثرت عليه ، و أمر بالتقاطها . . كل ذلك لأنهم قالوا شعراً يؤيدون فيه العباسيين ، و يتحاملون فيه على العلويين . .
و خلاصة القول : إن تأثير الشعر إعلامياً آنذاك ، أكثر من تأثير الجريدة و المجلة و الراديو و التلفزيون ، و غير ذلك من وسائل الإعلام اليوم ، لأن الشعر كان مرتبطاً بروح و عقل و فطرة الإنسان العربي ، و أما وسائل الإعلام اليوم فغاية ما يمكن أن تفعله هو أن تثير في الإنسان بعض المشاعر الوقتية المرتبطة بغريزة الجنس مثلاً أو حب الظهور أو غير ذلك 6 . . الأمر الذي لا يلبث أن يفقد محتواه بالنسبة إلى هذا الإنسان ، و من ثم يتلاشى و ينعدم من دائرة حياته .
نعم لقد كان للشعر تأثير السحر في النفوس . . فلا شيء يمكن أن يؤثر كما كان يؤثر . . و لا يكاد ينتشر شيء كما ينتشر . .
و من هنا . . يتضح لنا : أن من الطبيعي أن يكون الشعر من الوسائل إعلامية لإيصال قضية أهل البيت ، و بالذات قضية الإمام علي عليه السلام التي هي قضية الإسلام و حقه في خلافة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و قيادة الأمة ، و كذلك ولده من بعده إيصالها إلى اكبر عدد ممكن في تلك الفترة ، و نشرها في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف 7 .
و أيضاً من الوسائل الهامة للاحتفاظ بقضيتهم هذه ، و إيصالها إلى الأجيال القادمة . . إذ من الطبيعي : أنه إذا كان الشعر يحفظ و يخلد فإن القضية التي يعالجها تحفظ و تخلد أيضاً . .
و مهما بذل من المال . . فإن خلود القضية ، و إبقاءها حية في ضمير الأمة و وجدانها ، تسير من بلد إلى بلد ، و تتناقلها الأجيال من جيل إلى جيل … أولى و أهم بكثير من اختزان المال ، أو إنفاقه على عدة معدودة ، ليسوا بخالدين و لا باقين ، و يمكنهم الاتجاه إلى مصادر أخرى لتأمين لقمة العيش . . هذا بالإضافة إلى أنهم لا يستطيعون أن ينقلوا عقيدة الأئمة ـ التي هي العقيدة المثلى ، و قضيتهم التي هي قضية الحياة إلى الأجيال القادمة ، التي لها من الحق تماماً كما لأولئك الذين يعيشون في عهد الأئمة ، و بالقرب منهم … أو على الأقل لا تستطيع قضيتهم أن تستقطب مختلف أنحاء و أرجاء الدولة الإسلامية على النحو المطلوب و المرغوب . .
و من هنا . . يتضح لنا الهدف الذي يرمي إليه الإمام الحسن عليه السلام حينما قرر : أن الدنيا كلها لو كانت له ، و أعطاها لذلك الشاعر ، كانت في ذات الله قليلاً . .
إذن : فحتى إعطاء خراج العراق كله ـ لو كان ـ كان الهدف منه هو وجه الله عز وجل ، و جلب مرضاته . .
و بعد هذا . .
فلعل من أهل الملاحظات الجديرة بالتسجيل هنا :
إن هؤلاء الشعراء ، الذين كانوا يتبنون قضية الأئمة ، و يدافعون عنها ، كانوا عموماً يرفضون الأموال ، التي كان الأئمة يبذلونها لهم ، و يؤكدون على أن مواقفهم تلك و أن مدحهم لهم ، و دفاعهم عن قضيتهم لم يقصد به إلا وجه الله تعالى ، و الغضب لله و رسوله ، و للحق ، كما كان الحال بالنسبة للفرزدق مع الإمام زين العابدين ، و الكميت معه أيضاً ، و مع الباقر عليه السلام ، و دعبل مع الرضا عليه السلام ، و غاية ما كانوا يطلبونه منهم هو أن يتكرموا عليهم بثوب لبسوه ، ليتبركوا به ، أو ليجعلوه في أكفانهم . .
مع أن هؤلاء الشعراء . . و كل من يمدح الأئمة عليهم السلام ، و يدافع عن قضيتهم ، التي هي قضية الإسلام و الحياة . . كانوا يتعرضون لأقسى أنواع الاضطهاد و التنكيل ، هذا إن لم تكن نهايتهم هي القتل بالصور البشعة ، و الأساليب القاسية المثيرة !!
و ذلك إن دل على شيء . . فإنما يدل على أن اندفاعهم في مواقفهم تلك كانت نابعة من إحساسهم العقيدي ، المتأصل في نفوسهم ، و اقتناعهم اقتناعاً كاملاً بمبادئ أهل البيت ، و قيمهم ، إلى حد أنهم يتنازلون عن حياتهم ، و وجودهم ، من أجلها و في سبيلها . . تماماً على عكس الشعراء الآخرين المتزلفين و المتسكعين على أعتاب الحكام ، و الذين لم يكن يهمهم غالباً إلا الاستفادة من الحكم القائم ، بأية وسيلة و بأي طريقة كانت ، و لا يؤمنون به إلا بقدر إيمانهم بالطريقة التي يستطيعون أن يحصلوا بها على المال . . حتى إذا ما أحسوا من ذلك خطراً على وجودهم ، أو عرفوا أنه لن يؤمن لهم المبالغ التي يتوقعونها ، أداروا أظهرهم إليه ، و غالباً ما يصيرون حرباً عليه .
و من هنا نستطيع أن نتلمس في تلك القصائد و الأشعار التي تقال في أهل البيت( عليهم السلام ) صورة حقيقية و واقعية لعظمة أهل البيت عليهم السلام . و أنهم كان ينظر إليهم من الكثيرين المغلوبين على أمرهم و الواعين لواقعهم ، و واقع حكامهم ينظر إليهم على أنهم القمة في الكمالات الإنسانية ، و الفضائل الأخلاقية . .
و نستطيع أن نستشف منها أيضاً العاطفة المشبوبة ، التي استطاعت أن تتجاوز كل تلكم الحواجز و العقبات لتتفجر ينبوعاً ثراً من العاطفة الصادقة ، التي لا يشوبها طمع و لا يهيمن عليها رجاء ، إلا رجاء رحمة الله و ثوابه ، و الأمن من جزائه و عقابه . .
إنها العاطفة التي تتفجر بركاناً يجتاح كل ذلك الركام الهائل من الأكاذيب و الأباطيل و الدعايات التي حيكت حول أهل البيت عليهم السلام ، و شيعتهم و محبيهم .
إنها العاطفة الصادقة التي تنبع حقاً من القلب ، و تستمد أصالتها من الواقع الحي . . لا مثل شعر أولئك المتاجرين ، الذي تغمره روح التزيف و التزلف ، و الذي لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يعبر عن واقع حي ، و أصالة راسخة . .
1. مناقب آل أبي طالب : 4 / 197 و قاموس الرجال : 7 / 433 عنه .
2. قاموس الرجال : 7 / 432 عن بصائر الدرجات .
3. الأغاني : 15 / 123 طبعة بولاق .
4. ملحقات إحقاق الحق : 12 / 61 عن تاريخ الإسلام للذهبي : 5 / 126 طبعة مصر .
5. نظم درر السمطين : 197 .
6. و مع ذلك نلاحظ أنهم ينفقون فيها سنوياً على الدعاية لبعض السلع لبضع دقائق يومياً الملايين الكثيرة . . . التي لا تكاد تخطر على بال الإنسان العادي ، أو أن يتوهمها .
7. لقد كان أئمة أهل البيت لا يدخرون وسعاً في التعريف بقضيتهم و رسالتهم ، و محاولة إيصالها بالطرق المشروعة إلى أكبر عدد ممكن . . . و يكفي أن نذكر أن الإمام الباقر( عليه السلام ) قد أوصى بثمانمائة درهم لنوادب يندبنه بمنى أيام الموسم عشر سنين راجع : الكافي : 3 / 217 و التهذيب للطوسي : 6 / 358 و من لا يحضره الفقيه : 1 / 116 و وسائل الشيعة : 12 / 88 و قصار الجمل : 1 / 134 عنه و الذكرى : 72 و مقتل الحسين للمقرم : 103 ـ 104 عن بعض من تقدم و عن منتهى للعلامة : 2 ـ 112 ، و اختيار منى لا مكة ، و لا المدينة ـ حيث يجتمع فيها الناس من مختلف الأنحاء و الأرجاء ، و يرجعون منها إلى بلادهم ، و يتحدثون للناس بما الفت نظرهم ، من الأمور غير العادية ، فيكون ذلك آخر ذكرى يحملونها ، و يتفاعلون معها عاطفياً و اختيار أيام الفرح و الاستبشار للندب و الحزن ليس إلا لإلفات النظر ، و جلب الانتباه من أكبر عدد ممكن ، و تعريف الناس بأهل البيت ، و بقضيتهم و رسالتهم ، و إقامة الحجة عليهم . و لعل التوقيت بعشر سنين ، إنما هو بملاحظة : أن قوة الأمويين بعد عشر سنين من وفاته ستضعف و ستضمحل ، حيث يقتلون زيد بن علي و أصحابه ، الأمر الذي من شانه أن يعيد تعبئة الناس نفسياً ضدهم ، ثم إنهم سوف ينشغلون بحرب الخوارج ، و لا يبقى لهم أي شأن يذكر بعد ذلك .
و ما أشبه هذه القضية بقضية حجة الوداع ، و تنصيب علي( عليه السلام ) يوم الغدير فيها على مفترق الطرق و في حين لابد للناس من مفارقة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و الرجوع إلى بلادهم ، في مناسبة فريدة من نوعها ستبقى ذكرى لكل مسلم لا يمكن أن ينساها بعد أن كانت آخر لحظة يرى فيها النبي ( صلى الله عليه و آله ) . . و ما أشبهها أيضاً بقضية براءة ، و بموقف الإمام الرضا في نيشابور ( راجع : الحياة السياسية للإمام الرضا : 318 )
تعليق