القضاء و القدر و دوره في تربية الانسان
قال الله تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 1 .
ركنا السعادة :
إن التربية أحد ركني السعادة ، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما : الوراثة و التربية . و فصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضى . و لكنا سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد ، و هو التربية .
إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بامكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما . فتتغلب عليه و تضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها و إصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي ( أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية ) .
ففي هذه الصور ، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً و قدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً .
و لأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح لابد من البحث بصورة موجزة عن القضاء و القدر و المصير ، ثم ندخل إلى صلب الموضوع . فهناك الكثيرون ممن يؤدي بهم الجحود أو الجهل إلى أن ينكروا تاثير القضاء و القدر إنكاراً تاماً زاعمين أنهما أمران وهميان لا أكثر . كما أن هناك طائفة أخرى في قبال هذه الطائفة تخضع جميع الوقائع و الأحداث ـ جهلاً بحقائق الدين و العلم ـ إلى القضاء و القدر الحتميين ، و يرون أن البشر عاجز عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها . و لكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء و القدر و على أساس مقاييس و قوانين دقيقة .
معنى القدر :
يقول الله تعالى في القرآن الحكيم : ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 2
فأصغر الذرات الأرضية و أكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق و تقدير صحيح ، كل قد انتظم في مكانه الخاص به ... و هذا هو معنى القدر . إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم و الحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف و مقداره قبل أشهر عديدة . فإذا لم يكن وضع الشمس و حركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغير ، فانه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ . و بهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس و القمر فيقول : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ 3 .
و هكذا ، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً و ثابتاً ، و إذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض ، و إذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة ، و إذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الانسان فتتحول إلى موجود كامل ... فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الالهية وكلها مظاهر لقضاء الله و قدره . إذن فالعالم يسير بموجب القضاء و القدر و كل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الإلهي .
الجبر و التفويض :
و أحد الموجودات في هذا العالم هو الإنسان ، ترتبط كل قواه و أفعاله ، وجميع حركاته و سكناته بالقضاء و القدر الإلهيين . فدقات القلب و دوران الدم ، و الاحساس في العصب ، و الهضم في المعدة ، و التصفية في الكبد ، و الإبصار بواسطة العين ، و السماع بواسطة الأذن ... كل أولئك يسير حسب قضاء الله و قدره ، و لكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء و القدر ينقسم بالنسبة إلى الانسان إلى قسمين :
فقسم منه يتسم بطابع الحتمية و الجبرية حيث يجري من غير إرادة الإنسان و اختياره ، و قسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا و خاضعاً لاختيارنا .
و لنأخذ مثلاً على ذلك : اللسان ، فهو عضو من أعضائنا و جزء من بدننا و له مقدرات كثيرة . فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه . و منها أيضاً تكلمه . أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا و إختيارنا ، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا . و هنا ( في دوران الدم في اللسان ) قضاءان : الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني جبرية هذا الدوران وحتمية في اللسان بالتقدير الإلهي أيضاً حيث لا مجال لإرادتنا و اختيارنا فيه .
هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان ، و قد عرفنا التقدير الإلهي فيه .
و أما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه . و لكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لإرادتنا ، فبإمكاننا أن نتكلم ، و بإمكاننا أن نسكت . كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا ، و نستطيع أن نكذب . فهنا أيضاً ( في تكلم اللسان ) قضاءان : الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني اختيارية التكلم ، و إراديته أيضاً بالتقدير الإلهي .
و من هنا يتضح جلياً أن القضاء و القدر قد يجريان بصورة جبرية .
و أحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا . فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم و حتمي على جميع البشر بحكم القضاء الإلهي ، و هو صريح قوله تعالى : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ... ﴾ 4 . و لكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي و انقطاع النشاط الحيوي . كما يمكن أن يتم بإرادة و اختيار من قبل شاب يملك من القوة و سلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الانتحار .
و هكذا فالشيخ الذي عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه ، و الشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته و اختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله و قدره ، مع فارق واحد و هو أنه في الصورة الأولى كان القضاء و القدر حتميين غير اختياريين ، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء و القدر و أنهى بذلك حياته .
و على هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا ( عليه السلام ) حيث يقول : « سمعت الرضا عليه السلام يقول : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا ناجى ربه قال : أللهم إني قويت على معاصيك بنعمك » 5 . و معنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية و الاختيار التي وهبها الله له بالقضاء و القدر استغلالاً سيئاً ، فيصاب بالانحراف .
إرادتنا و اختيارنا :
النقطة التي تزل عليها الأقدام ـ غالباً ـ هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء و القدر ظنوا أنه حتمي و جبري . في حين أن الحق ليس كذلك ، فقد يتمثل القضاء و القدر الإلهي في اختيار الناس وإرادتهم . و هناك حديث عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يؤيد هذا الموضوع بوضوح :
« عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل ـ سأله بعد انصرافه من الشام ـ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء و قدر ؟ قال عليه السلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة و لا هبطتم وادياً إلا بقضاء الله و قدره ... فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين ؟ » أي : فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله ... ؟
فيجيب الامام ( عليه السلام ) :
« مه يا شيخ ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم ؟! لو كان ذلك لبطل الثواب و العقاب ، و لسقط الوعد و الوعيد » 6 .
فنجد الامام عليه السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الارادية للبشر إلى القضاء والقدر الالهي . و لكنه مع ذلك يقول : إن هذا القضاء لم يكن حتمياً و القدر لم يكن لازماً . و بنفس المضمون ورد حديث آخر عن الامام الرضا عليه السلام يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول : « فما أمر بين أمرين ؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا و ترك ما نهوا عنه » 7 .
الأمر بين الأمرين 8 :
و هنا يسأل الراوي : « فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك ؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها : الأمر بها ، و الرضا لها ، و المعاونة عليها ، و إرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها ، و السخط لها ، و الخذلان عليها » فهذه الفقرة تبين إرادة الله في أعمال البشر و كيفية التأثير عليها ... « قلت : فلله عز و جل فيها القضاء ؟! قال : نعم ، ما من فعل يفعله العبد من خير و شر إلا و لله فيه قضاء . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟! قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة » 7 .
فنجد أن الامام الرضا عليه السلام يسند جميع الأفعال الصالحة و الطالحة للبشر إلى القضاء الالهي بكل صراحة فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم ... تلك الحرية ، و ذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة و العقاب في المعصية .
القضاء الالهي :
و لأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار . فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام ، و قال في نفسه : لو كان المقدر لي أن أموت فاني ألاقي حتفي و إن لم أرم بنفسي من فوق السطح ، و إن كان المقدر أن أبقى حياً فاني سأستمر على الحياة و إن رميت نفسي من على السطح ... ففي ذلك خطأ فظيع . لأن لله تعالى عدة مقدرات جبرية بهذا الشأن ، و مقدر اختياري واحد . أما المقدرات الجبرية فهي عبارة عن :
1 ـ إن القضاء والقدر الالهيين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً و قوياً .
2 ـ خلقت جمجمة الانسان بموجب القضاء و القدر من عظم دقيق قابل للتهشم .
3 ـ القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية ، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء ، إليها .
4 ـ إن القضاء و القدر الالهيين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته و يتلاشي مخه .
5 ـ القضاء و القدر الالهيين يقضيان بموت الانسان عند تلاشي مخه . هذه هي الأقدار الالهية الحتمية و الجبرية بالنسبة إلى حادثة الانتحار .
6 ـ القضاء و القدر الالهيان يحكمان بأن للانسان الارادة و الاختيار الكاملين ، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة .
إذن ، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض : إن القضاء الالهي بالنسبة إلى موتك و حياتك يتبع إرادتك و اختيارك . فإن اخترت الالقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت . و إن اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لك أن تبقى حياً . و على كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء و القدر .
و من خلال الحديث الثاني ، نتبين حرية الارادة الانسانية ، بالرغم من جريان القضاء و القدر على جميع الأمور ، لأن للانسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر . فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك :
« عن ابن نباتة قال : أن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر . فقيل له يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل » 9 .
حرية البشر :
إن أهم ما يمتاز به الانسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها الله تعالى إياه . فجميع الترقيات و أوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة . تمر قرون مديدة على النحلة و لا تزال تبني بيتها على شكل سداسي و ستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة ، لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً . تقودها غريزتها التي أودعها الله تعالى فيها . و لكن الانسان الحر لا يزال يتكيف لبيئته و ظروف حياته ، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ ، و منها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم . و من المؤمل أن نفصل القول حول الحرية البشرية و الاختيار الفطري للانسان في محاضرة خاصة إن شاء الله .
للانسان أن يقرر مصيره :
إن جانباً من القضاء و القدر يرجع إلى إرادتنا و اختيارنا . و ان الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الارادية . و لهذا فان الثواب و العقاب من قبل الله نظير الجزاء و العقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر و اختيارهم .
و هكذا فإن لكل منا أن يقرر مصيره بيده . و ما أكثر أولئك الذين يدفعهم الكسل و حب الذات إلى التقصير في إداء الواجبات الاجتماعية اللازمة ، ثم ينسبون الشقاء الذي يلاقونه إلى القضاء و القدر ، في حين أنهم كانوا يملكون الحرية الكاملة ، ولم يستغلوا هذه الحرية استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إليها و جلبوا الشقاء لأنفسهم !!.
إن الله تعالى يقرر في القرآن الكريم أن الذين يرثون الأرض ولهم الحق في أن يقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط :
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 10 .
و العباد الصالحون هم الذين وصلوا إلى جميع مدارج الكمال المادي و المعنوي بفضل الايمان و العلم . و في ظل الفضائل الخلقية و الملكات الطاهرة و نتيجة الجهد و الجد ... وبذلك صاروا يستحقون إسم الانسان الحقيقي .
إن القضاء الحتمي والذي لا يقبل التخلف في هؤلاء الرجال الصالحين هو أن يرثوا حكومة الأرض و لكن الوصول إلى مقام الصلاح و استحقاق تلك الدرجة ( قدر ) إختياري يتعلق به ذلك القضاء الحتمي ... و هؤلاء هم الذين يتمكنون أن يتبعوا النبي ( صلى الله عليه و آله ) بإرادتهم و اختيارهم و يصلوا إلى المقام الذين يستحقون معه وراثة الأرض .
نستنتج مما سبق أن العالم كله يدار بواسطة القضاء و القدر . أي أن السنن الآلهية هي التي تحكم في هذا الكون . و كذلك الأمور التي ترتبط بالإنسان . فانها خاضعة للقضاء و القدر ، غاية ما هناك أن جانباً من القضاء و القدر المتعلق بالبشر يكون مصيراً حتمياً لا أثر لاختيارنا و إرادتنا فيه كدقات القلب و دوران الدم ... وجانباً منه تابع لارادتنا و اختيارنا ، و لنا أن نستغله إما استغلالاً حسناً أو سيئاً .
الوراثة و التربية :
و بعد أن تطرقنا بصورة موجزة إلى القضاء و القدر و بيان علاقته بالارادة البشرية ، ندخل إلى صلب الموضوع .
إن الطفل يرث في رحم الأم صفات الآباء و الأمهات ، و هذا الأمر خاضع للقضاء و القدر . و الصفات التي تنتقل بالوراثة تكون على نحوين : فقسم منها يكون على نحو القضاء و القدر الحتمي و المصير . القطعي الذي يبقى مدى الحياة ملازماً للطفل ، و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( علة تامة ) لتلك الصفات . و القسم الثاني ما يكون على نحو العوامل السماعدة في انتقالها إلى الأبناء ، فهي ليست مصيراً حتمياً و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( عاملاً مساعداً ) لها .
« يتحدد مصير أفراد معينين بشكل قاطع في حين يتوقف مصير آخرين ـ إن كثيراً أو قليلاً ـ على أحوال نموهم » 11 .
« من المعروف أن ضعف العقل و الجنون والاستعداد الوراثي للنزف الدمي و الصمم و البكم نقائص وراثية ... كذلك تنتقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء و لكن كاستعداد فقط ، و قد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها ... » 12 .
وكما أن لون البشرة والعين أو قصر النظر في العين من الأمور الوارثية التي لا تقبل التغيير فإن الجنون الوراثي أيضاً من العيوب التي لا تقبل التغيير . فالطفل الذي يولد من أبوين مجنونين يظل مجنوناً مدى الحياة ، و هذا هو مصيره الحتمي .
المصير الحتمي :
هذا المصير الحتمي لا يمكن أن يتبدل بتعاليم الأنبياء الرصينة ، و لا بالوسائل الطبية و التربوية ، فهو مجبر على الجنون ، و هكذا الطفل الذي يولد في رحم الأم أحمقاً بليداً ، ويرث البله والبلادة من أبويه يستمر مدى العمر على ذلك الواضع ، و لن تؤثر الأساليب التربوية فيه .
« إن أحوال النمو لا تستطيع أن تحول الطفل الضعيف البليد الشعور ، المشتت العقل ، الجبان ، الخامل ، إلى رجل نشيط أو زعيم قوي شجاع » 13 .
و بهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : « الحمق داء لا يداوى ومرض لا يبرأ » 14 .
يتبع انشاء الله
منقول
قال الله تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 1 .
ركنا السعادة :
إن التربية أحد ركني السعادة ، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما : الوراثة و التربية . و فصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضى . و لكنا سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد ، و هو التربية .
إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بامكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما . فتتغلب عليه و تضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها و إصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي ( أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية ) .
ففي هذه الصور ، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً و قدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً .
و لأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح لابد من البحث بصورة موجزة عن القضاء و القدر و المصير ، ثم ندخل إلى صلب الموضوع . فهناك الكثيرون ممن يؤدي بهم الجحود أو الجهل إلى أن ينكروا تاثير القضاء و القدر إنكاراً تاماً زاعمين أنهما أمران وهميان لا أكثر . كما أن هناك طائفة أخرى في قبال هذه الطائفة تخضع جميع الوقائع و الأحداث ـ جهلاً بحقائق الدين و العلم ـ إلى القضاء و القدر الحتميين ، و يرون أن البشر عاجز عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها . و لكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء و القدر و على أساس مقاييس و قوانين دقيقة .
معنى القدر :
يقول الله تعالى في القرآن الحكيم : ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 2
فأصغر الذرات الأرضية و أكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق و تقدير صحيح ، كل قد انتظم في مكانه الخاص به ... و هذا هو معنى القدر . إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم و الحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف و مقداره قبل أشهر عديدة . فإذا لم يكن وضع الشمس و حركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغير ، فانه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ . و بهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس و القمر فيقول : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ 3 .
و هكذا ، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً و ثابتاً ، و إذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض ، و إذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة ، و إذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الانسان فتتحول إلى موجود كامل ... فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الالهية وكلها مظاهر لقضاء الله و قدره . إذن فالعالم يسير بموجب القضاء و القدر و كل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الإلهي .
الجبر و التفويض :
و أحد الموجودات في هذا العالم هو الإنسان ، ترتبط كل قواه و أفعاله ، وجميع حركاته و سكناته بالقضاء و القدر الإلهيين . فدقات القلب و دوران الدم ، و الاحساس في العصب ، و الهضم في المعدة ، و التصفية في الكبد ، و الإبصار بواسطة العين ، و السماع بواسطة الأذن ... كل أولئك يسير حسب قضاء الله و قدره ، و لكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء و القدر ينقسم بالنسبة إلى الانسان إلى قسمين :
فقسم منه يتسم بطابع الحتمية و الجبرية حيث يجري من غير إرادة الإنسان و اختياره ، و قسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا و خاضعاً لاختيارنا .
و لنأخذ مثلاً على ذلك : اللسان ، فهو عضو من أعضائنا و جزء من بدننا و له مقدرات كثيرة . فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه . و منها أيضاً تكلمه . أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا و إختيارنا ، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا . و هنا ( في دوران الدم في اللسان ) قضاءان : الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني جبرية هذا الدوران وحتمية في اللسان بالتقدير الإلهي أيضاً حيث لا مجال لإرادتنا و اختيارنا فيه .
هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان ، و قد عرفنا التقدير الإلهي فيه .
و أما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه . و لكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لإرادتنا ، فبإمكاننا أن نتكلم ، و بإمكاننا أن نسكت . كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا ، و نستطيع أن نكذب . فهنا أيضاً ( في تكلم اللسان ) قضاءان : الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني اختيارية التكلم ، و إراديته أيضاً بالتقدير الإلهي .
و من هنا يتضح جلياً أن القضاء و القدر قد يجريان بصورة جبرية .
و أحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا . فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم و حتمي على جميع البشر بحكم القضاء الإلهي ، و هو صريح قوله تعالى : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ... ﴾ 4 . و لكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي و انقطاع النشاط الحيوي . كما يمكن أن يتم بإرادة و اختيار من قبل شاب يملك من القوة و سلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الانتحار .
و هكذا فالشيخ الذي عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه ، و الشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته و اختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله و قدره ، مع فارق واحد و هو أنه في الصورة الأولى كان القضاء و القدر حتميين غير اختياريين ، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء و القدر و أنهى بذلك حياته .
و على هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا ( عليه السلام ) حيث يقول : « سمعت الرضا عليه السلام يقول : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا ناجى ربه قال : أللهم إني قويت على معاصيك بنعمك » 5 . و معنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية و الاختيار التي وهبها الله له بالقضاء و القدر استغلالاً سيئاً ، فيصاب بالانحراف .
إرادتنا و اختيارنا :
النقطة التي تزل عليها الأقدام ـ غالباً ـ هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء و القدر ظنوا أنه حتمي و جبري . في حين أن الحق ليس كذلك ، فقد يتمثل القضاء و القدر الإلهي في اختيار الناس وإرادتهم . و هناك حديث عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يؤيد هذا الموضوع بوضوح :
« عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل ـ سأله بعد انصرافه من الشام ـ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء و قدر ؟ قال عليه السلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة و لا هبطتم وادياً إلا بقضاء الله و قدره ... فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين ؟ » أي : فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله ... ؟
فيجيب الامام ( عليه السلام ) :
« مه يا شيخ ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم ؟! لو كان ذلك لبطل الثواب و العقاب ، و لسقط الوعد و الوعيد » 6 .
فنجد الامام عليه السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الارادية للبشر إلى القضاء والقدر الالهي . و لكنه مع ذلك يقول : إن هذا القضاء لم يكن حتمياً و القدر لم يكن لازماً . و بنفس المضمون ورد حديث آخر عن الامام الرضا عليه السلام يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول : « فما أمر بين أمرين ؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا و ترك ما نهوا عنه » 7 .
الأمر بين الأمرين 8 :
و هنا يسأل الراوي : « فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك ؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها : الأمر بها ، و الرضا لها ، و المعاونة عليها ، و إرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها ، و السخط لها ، و الخذلان عليها » فهذه الفقرة تبين إرادة الله في أعمال البشر و كيفية التأثير عليها ... « قلت : فلله عز و جل فيها القضاء ؟! قال : نعم ، ما من فعل يفعله العبد من خير و شر إلا و لله فيه قضاء . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟! قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة » 7 .
فنجد أن الامام الرضا عليه السلام يسند جميع الأفعال الصالحة و الطالحة للبشر إلى القضاء الالهي بكل صراحة فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم ... تلك الحرية ، و ذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة و العقاب في المعصية .
القضاء الالهي :
و لأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار . فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام ، و قال في نفسه : لو كان المقدر لي أن أموت فاني ألاقي حتفي و إن لم أرم بنفسي من فوق السطح ، و إن كان المقدر أن أبقى حياً فاني سأستمر على الحياة و إن رميت نفسي من على السطح ... ففي ذلك خطأ فظيع . لأن لله تعالى عدة مقدرات جبرية بهذا الشأن ، و مقدر اختياري واحد . أما المقدرات الجبرية فهي عبارة عن :
1 ـ إن القضاء والقدر الالهيين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً و قوياً .
2 ـ خلقت جمجمة الانسان بموجب القضاء و القدر من عظم دقيق قابل للتهشم .
3 ـ القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية ، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء ، إليها .
4 ـ إن القضاء و القدر الالهيين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته و يتلاشي مخه .
5 ـ القضاء و القدر الالهيين يقضيان بموت الانسان عند تلاشي مخه . هذه هي الأقدار الالهية الحتمية و الجبرية بالنسبة إلى حادثة الانتحار .
6 ـ القضاء و القدر الالهيان يحكمان بأن للانسان الارادة و الاختيار الكاملين ، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة .
إذن ، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض : إن القضاء الالهي بالنسبة إلى موتك و حياتك يتبع إرادتك و اختيارك . فإن اخترت الالقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت . و إن اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لك أن تبقى حياً . و على كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء و القدر .
و من خلال الحديث الثاني ، نتبين حرية الارادة الانسانية ، بالرغم من جريان القضاء و القدر على جميع الأمور ، لأن للانسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر . فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك :
« عن ابن نباتة قال : أن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر . فقيل له يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل » 9 .
حرية البشر :
إن أهم ما يمتاز به الانسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها الله تعالى إياه . فجميع الترقيات و أوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة . تمر قرون مديدة على النحلة و لا تزال تبني بيتها على شكل سداسي و ستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة ، لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً . تقودها غريزتها التي أودعها الله تعالى فيها . و لكن الانسان الحر لا يزال يتكيف لبيئته و ظروف حياته ، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ ، و منها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم . و من المؤمل أن نفصل القول حول الحرية البشرية و الاختيار الفطري للانسان في محاضرة خاصة إن شاء الله .
للانسان أن يقرر مصيره :
إن جانباً من القضاء و القدر يرجع إلى إرادتنا و اختيارنا . و ان الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الارادية . و لهذا فان الثواب و العقاب من قبل الله نظير الجزاء و العقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر و اختيارهم .
و هكذا فإن لكل منا أن يقرر مصيره بيده . و ما أكثر أولئك الذين يدفعهم الكسل و حب الذات إلى التقصير في إداء الواجبات الاجتماعية اللازمة ، ثم ينسبون الشقاء الذي يلاقونه إلى القضاء و القدر ، في حين أنهم كانوا يملكون الحرية الكاملة ، ولم يستغلوا هذه الحرية استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إليها و جلبوا الشقاء لأنفسهم !!.
إن الله تعالى يقرر في القرآن الكريم أن الذين يرثون الأرض ولهم الحق في أن يقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط :
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 10 .
و العباد الصالحون هم الذين وصلوا إلى جميع مدارج الكمال المادي و المعنوي بفضل الايمان و العلم . و في ظل الفضائل الخلقية و الملكات الطاهرة و نتيجة الجهد و الجد ... وبذلك صاروا يستحقون إسم الانسان الحقيقي .
إن القضاء الحتمي والذي لا يقبل التخلف في هؤلاء الرجال الصالحين هو أن يرثوا حكومة الأرض و لكن الوصول إلى مقام الصلاح و استحقاق تلك الدرجة ( قدر ) إختياري يتعلق به ذلك القضاء الحتمي ... و هؤلاء هم الذين يتمكنون أن يتبعوا النبي ( صلى الله عليه و آله ) بإرادتهم و اختيارهم و يصلوا إلى المقام الذين يستحقون معه وراثة الأرض .
نستنتج مما سبق أن العالم كله يدار بواسطة القضاء و القدر . أي أن السنن الآلهية هي التي تحكم في هذا الكون . و كذلك الأمور التي ترتبط بالإنسان . فانها خاضعة للقضاء و القدر ، غاية ما هناك أن جانباً من القضاء و القدر المتعلق بالبشر يكون مصيراً حتمياً لا أثر لاختيارنا و إرادتنا فيه كدقات القلب و دوران الدم ... وجانباً منه تابع لارادتنا و اختيارنا ، و لنا أن نستغله إما استغلالاً حسناً أو سيئاً .
الوراثة و التربية :
و بعد أن تطرقنا بصورة موجزة إلى القضاء و القدر و بيان علاقته بالارادة البشرية ، ندخل إلى صلب الموضوع .
إن الطفل يرث في رحم الأم صفات الآباء و الأمهات ، و هذا الأمر خاضع للقضاء و القدر . و الصفات التي تنتقل بالوراثة تكون على نحوين : فقسم منها يكون على نحو القضاء و القدر الحتمي و المصير . القطعي الذي يبقى مدى الحياة ملازماً للطفل ، و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( علة تامة ) لتلك الصفات . و القسم الثاني ما يكون على نحو العوامل السماعدة في انتقالها إلى الأبناء ، فهي ليست مصيراً حتمياً و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( عاملاً مساعداً ) لها .
« يتحدد مصير أفراد معينين بشكل قاطع في حين يتوقف مصير آخرين ـ إن كثيراً أو قليلاً ـ على أحوال نموهم » 11 .
« من المعروف أن ضعف العقل و الجنون والاستعداد الوراثي للنزف الدمي و الصمم و البكم نقائص وراثية ... كذلك تنتقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء و لكن كاستعداد فقط ، و قد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها ... » 12 .
وكما أن لون البشرة والعين أو قصر النظر في العين من الأمور الوارثية التي لا تقبل التغيير فإن الجنون الوراثي أيضاً من العيوب التي لا تقبل التغيير . فالطفل الذي يولد من أبوين مجنونين يظل مجنوناً مدى الحياة ، و هذا هو مصيره الحتمي .
المصير الحتمي :
هذا المصير الحتمي لا يمكن أن يتبدل بتعاليم الأنبياء الرصينة ، و لا بالوسائل الطبية و التربوية ، فهو مجبر على الجنون ، و هكذا الطفل الذي يولد في رحم الأم أحمقاً بليداً ، ويرث البله والبلادة من أبويه يستمر مدى العمر على ذلك الواضع ، و لن تؤثر الأساليب التربوية فيه .
« إن أحوال النمو لا تستطيع أن تحول الطفل الضعيف البليد الشعور ، المشتت العقل ، الجبان ، الخامل ، إلى رجل نشيط أو زعيم قوي شجاع » 13 .
و بهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : « الحمق داء لا يداوى ومرض لا يبرأ » 14 .
يتبع انشاء الله
منقول
تعليق