عليٌّ يخطُب فاطمة
وتحلّ فاطمة بدار هجرتها ، وتنضمّ إلى بيت أبيها المتواضع في أرض الإسلام الجديدة ، فتنعَم بعنايته وحبّه هناك .. .
ذلك الحُبّ ، وتلك الرعاية التي لم يحظَ بها أحدٌ من الناس سواها ، حتى أنّ زوجة أبيها عائشة كانت تتحدّث عن هذه العلاقة الأبوية الفريدة في دنيا الإنسان ، فتقول : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه ، وقعوده ، من فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قالت : وكانت إذا دَخَلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قام إليها ، فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذا دخل عليها قامت من مجلسها ، فقبّلته وأجلسته في مجلِسها .
وفي المدينة استمرّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في رعايته الفائقة لفاطمة ، وعنايته بها ، واكتسبت هي ، من هذه الرعاية والعناية، أدباً نبويّاً رفيعاً ، أهّلها لأن تكون في مستوىً عالٍ من الفضائل والأخلاق ، وهي بنت صغيرة بعد .
فقد رُويَ عن أمّ سَلَمة أنّها قالت : تزوّجني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعدما دخل المدينة ، وفوّض أمر ابنته إليَّ ، فكنت أؤدّبها ، وكانت ـ والله ـ آدب منّي ، وأعرف بالأشياء كلّها .
وها هي فاطمة الشابّة النضِرة ، ذات الشرف والجمال ، والمجد الرفيع ، تعيش في كنف أبيها ، فتتّجه الأنظار إليها ، ويحدّث بعض الصحابة نفسه بأن يحظى بالاقتران بها ، وينال شرف الانتساب إلى أبيها ؛ فهي أعظم امرأة في شرفها ، ودينها ، ومكانتها عند بارئها ، فهذا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الناطق بلسان الوحي يخاطبها ويقول : ( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ يغضبُ لغضَبك ، ويرضى لِرضاك ) .
ويحدّثها في مقامٍ آخر ، فيخبرها : بأنّها سيدة النساء وخيرتهن : ( ... أمَا تَرضَي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمّة ) .
ويخاطب المسلمين في مقام آخر ـ معرّفاً بفاطمة ، ومخبِراً عنها ـ فيقول : ( أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة بنت خُويلد ، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عِمران ، وآسية بنت مُزاحم ) .
فإذا كانت هذه فاطمة ، وهذا مقامها عند بارئها ، وتلك مكانتها في بيت النبوّة ، فمن لا يحبّ شرف الاقتران بها من كبار الصحابة ، ووجهاء المسلمين ، والفوز بمصاهرة أبيها ؟!
لذا ، فقد اتّجهت أنظار البعض منهم إلى فاطمة ، فحدّث نفسه بالمثول بين يدي أبيها ، وإعلان رغبته في التزوّج بها .. فَيُقدِم على ذلك أبو بكر، وعمر بن الخطّاب ، وغيرهما من أكابر قريش ، فيخطب كلّ واحدٍ منهم فاطمة لنفسه ، ولكنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يعتذر عن الاستجابة لطلبهم ؛ ويقول : ( لم ينزل القضاء بعد ) .
وحين اعتذر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن تزويج فاطمة ، لعمر ، أو لأبي بكرٍ ، اتَّجَها إلى الإمام علي ( عليه السلام ) وهو يسقي في بُستان نخلٍ ، فقالاً : ( قد عرفنا قرابتك من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقِدَمك في الإسلام ، فلو أتيت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فخطبت إليه فاطمة لزادك الله فضلاً إلى فضلك ، وشرفاً إلى شرفك ، فإنّا نرجو أن يكون الله ورسوله إنّما يحبسانها عليك .
فانطلق ، فتوضأ ثمّ اغتسل ولَبِس كساءه ، وصلّى ركعتين ، ولبس نعليه ، وأقبل إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكان في منزل أُمّ سَلَمَة ، فسلّم عليه فردّ عليه السلام ، وجلس بين يديه ينظر إلى الأرض ، فقال له النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
( أتيت لحاجةٍ ؟ قال : نعم ، أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة ، فهل أنت مزوّجي يا رسول الله ؟ قالت أُمّ سَلَمَة : فرأيت وجه رسول الله يتهلّل فرحاً وسروراً ، ثمّ يبتسم في وجه عليّ ، ودخل على فاطمة ، فقال لها : إنّ عليّ بن أبي طالب مَن قد عرفت قرابته ، وفضله في الإسلام ، وإنّي سألت ربي أن يزوّجك خير خَلْقِه ، وأحبّهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً ، فما ترين ؟ فسكتت .
فخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يقول : الله أكبر ، سُكُوتُها إقرارها ، فقال : يا عليّ ، هل معك شيءٌ أُزوّجك به ؟ قال : سَيْفِي ، ودِرعي ، وناضحي ، ( وفي رواية : وفرسي ) ، فقال : أمّا سيفك فلا غنى بك عنه ؛ تجاهد به في سبيل الله ، وتقاتل به أعداء الله ، وناضحك تنضح به على نخلك ، وتحمل عليه رحلك في سفرك ، وأمّا دِرعك فشأنك بها ) .
فانطلق علي وباع دِرعه إلى عثمان بن عفّان ، بأربعمئة وثمانين درهماً ، فصبّها بين يدي النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
وبعد أن قرّت عين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بهذه الخطبة السعيدة ، وزوّج الله فاطمة علياً ( عليه السلام ) .. أراد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يُعلن لمجتمع المسلمين ، ولصحابته المحيطين به هذا النبأ ، فيضيف مكرِمة جديدة إلى سجلّ عليٍّ ، وفضيلة أخرى إلى فضائل فاطمة ، فأمر أنس بن مالك أن يجمع فئة من الصحابة (رض) ليعلن عليهم نبأ تزويج فاطمة لعليٍّ ..
قال أنس بن مالك : فدعوتهم ، فلمّا اجتمعوا عنده كلّهم ، وأخذوا مجالسهم ، وكان عليّ غائباً في حاجة للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
( الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقُدرته ، المطاع بسلطانه ، المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، إنّ الله تبارك اسمه ، وتعالت عَظَمتُه ، جعل المصاهرة نسباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، أوشجَ به الأرحام ، وألزم الأنام ، قال عزّ مِن قائلٍ : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) ، فأمر الله يجري إلى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قَدَره ، ولكلٍّ قضاءٍ قَدَر ، ولكلّ قَدر أجل ، ولكلّ أجلٍ كتاب ، يمحو الله ما يشاء ويُثبِت وعنده أمّ الكتاب ، ثمّ إنّ الله تعالى أمرني أن أزوّج فاطمة بنت خديجة من عليٍّ بن أبي طالب ... ) .
ثمّ دعا بطبقٍ من بَسَر فوضعت بين أيدينا ، ثمّ قال : ( انتهبوا ، فانتهبنا ) ، فبينما نحن ننتهب إذ دخل علي ( عليه السلام ) على النبيّ فتبسّم النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في وجهه ، ثمّ قال : ( إنّ الله قد أمرني أن أزوّجك فاطمة على أربعمئةِ مثقالٍ فِضة ، إن رضيت بذلك ، فقال : قد رضيت بذلك يا رسول الله ، قال أنس بن مالك ، فقال النبي : جَمع الله شمْلَكُما ، وأسعد جَدّكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيِّباً ) .
قال أنس : فوالله ، لقد أخرج الله منها الكثير الطيب .
وهذا الموقف النبويّ المرتبط بالمشيئة والوحي ـ الأمر الإلهي ـ يلفت أنظارنا ، ويستوقف خُطانا ، ويلقي سؤالاً هاماً وخطيراً علينا ، وهو :
لماذا لم يرخَّص لفاطمة بتزويج نفسها ؟ بل ، ولِمَ لَمْ يرخّص لرسول الله ، وهو أبوها ، ونبيّها ، بتزويجها ـ والنبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ إلاّ بعد أن نزل القضاء بذلك ؟ ولماذا خُصّ زواج فاطمة بهذه الميزة ؟
فلا بدّ ـ إذن ـ وأن يكون هناك سرٌّ وحِكمةٌ إلهيةٌ ، ترتبط بهذا الزواج ، وتتوقّف على هذه العلاقة الإنسانية الخطيرة ، علاقة فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بابن عمّه وأخيه ، علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كما كان يسمّيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نفسه ، وهو الذي تربّى في بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وعاش معه ، وشبّ في ظِلال الوحي ، ونَما في مدرسة النبوّة حتى حقّ له أن يصف هذه العلاقة بقوله :
( وقد علمتم موضعي من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه ، وما وجد لي كَذبةً في قولٍ ، ولا خَطلةٍ في فعل ) .
( ... ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه ، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور كل سنة بحرّاء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد ـ يومئذٍ ـ في الإسلام غير رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ... ) .
إنّ هذا السرّ والإعداد لم يكن غامضاً ، وهذه العناية لم تكن مجرّد علاقة رَحمٍ وقرابة ، فالأمر ذو علاقةٍ بحياة هذه الأمّة ، والعلاقة ترتبط بامتداد فرع النبوّة ، والإمامة ، فشاء الله أن يزوّج خِيرة نساء هذه الأمّة ـ بِضعة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ بخِيرة رجالها ، فعليّ هو الذي قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيه لفاطمة :
( إنيّ سألت ربّي أن يزوّجك خير خَلَقه ) ، وقال له : ( أَمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ؟! إلاّ إنّه لا نبيَّ بعدي ) . وفاطمة هي التي قال لها : ( أَمَا ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ) .
وبذا ، كانا أحبّ الناس لرسول الله وأقربهم إلى نفسه ، ( سُئِلت عائشة : أيّ الناس أحبّ إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟ قالت : فاطمة . قيل : من الرجال ؟ قالت : زوّجها ، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً ) .
وينعقد الزواج ، ويبنى بيت أهل بيت النبوّة ، ويرعاه رسول الله ، ويعرِّف به ، ويؤكّد أنّ علياً وفاطمة وذرِّيتهما هم أهل بيته ، ومن عليٍّ وفاطمة ذرّيته وأبناؤه ، وعصبته .
روى ابن عبّاس ، قال : كنت أنا والعبّاس جالسين عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ دخل عليّ بن أبي طالب فسلّم فردّ عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) السلام ، وقام إليه وعانقه وقبّله بين عينيه وأجلسه عن يمينه ، فقال العبّاس : يا رسول الله ، أتحبّ هذا ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
( يا عمّ ـ والله ـ الله أشدّ حبّاً له منّي ، إنّ الله جعل ذرّية كلِّ نبيٍّ في صُلبه ، وجعل ذرّيتي في صُلب هذا ) .
وهكذا شاء الله أن تمتدَّ ذرية رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن طريق عليٍّ وفاطمة ، ويكون منهما الحسن والحسين (عليهما السلام) والذرّية الطاهرة ، أئمةً ، وهداةً ، لهذه الأُمّة .. ولهذا الأمر ، والسرّ الخطير ، كان زواج فاطمة أمراً إلهياً لم يَسبق رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إليه ، ولم يتصرّف حتّى نزل القضاء ، كما صرّح هو نفسه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك .
منقـــــــــــــــــول
وتحلّ فاطمة بدار هجرتها ، وتنضمّ إلى بيت أبيها المتواضع في أرض الإسلام الجديدة ، فتنعَم بعنايته وحبّه هناك .. .
ذلك الحُبّ ، وتلك الرعاية التي لم يحظَ بها أحدٌ من الناس سواها ، حتى أنّ زوجة أبيها عائشة كانت تتحدّث عن هذه العلاقة الأبوية الفريدة في دنيا الإنسان ، فتقول : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه ، وقعوده ، من فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قالت : وكانت إذا دَخَلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قام إليها ، فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذا دخل عليها قامت من مجلسها ، فقبّلته وأجلسته في مجلِسها .
وفي المدينة استمرّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في رعايته الفائقة لفاطمة ، وعنايته بها ، واكتسبت هي ، من هذه الرعاية والعناية، أدباً نبويّاً رفيعاً ، أهّلها لأن تكون في مستوىً عالٍ من الفضائل والأخلاق ، وهي بنت صغيرة بعد .
فقد رُويَ عن أمّ سَلَمة أنّها قالت : تزوّجني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعدما دخل المدينة ، وفوّض أمر ابنته إليَّ ، فكنت أؤدّبها ، وكانت ـ والله ـ آدب منّي ، وأعرف بالأشياء كلّها .
وها هي فاطمة الشابّة النضِرة ، ذات الشرف والجمال ، والمجد الرفيع ، تعيش في كنف أبيها ، فتتّجه الأنظار إليها ، ويحدّث بعض الصحابة نفسه بأن يحظى بالاقتران بها ، وينال شرف الانتساب إلى أبيها ؛ فهي أعظم امرأة في شرفها ، ودينها ، ومكانتها عند بارئها ، فهذا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الناطق بلسان الوحي يخاطبها ويقول : ( يا فاطمة ، إنّ الله عزّ وجلّ يغضبُ لغضَبك ، ويرضى لِرضاك ) .
ويحدّثها في مقامٍ آخر ، فيخبرها : بأنّها سيدة النساء وخيرتهن : ( ... أمَا تَرضَي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمّة ) .
ويخاطب المسلمين في مقام آخر ـ معرّفاً بفاطمة ، ومخبِراً عنها ـ فيقول : ( أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة بنت خُويلد ، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عِمران ، وآسية بنت مُزاحم ) .
فإذا كانت هذه فاطمة ، وهذا مقامها عند بارئها ، وتلك مكانتها في بيت النبوّة ، فمن لا يحبّ شرف الاقتران بها من كبار الصحابة ، ووجهاء المسلمين ، والفوز بمصاهرة أبيها ؟!
لذا ، فقد اتّجهت أنظار البعض منهم إلى فاطمة ، فحدّث نفسه بالمثول بين يدي أبيها ، وإعلان رغبته في التزوّج بها .. فَيُقدِم على ذلك أبو بكر، وعمر بن الخطّاب ، وغيرهما من أكابر قريش ، فيخطب كلّ واحدٍ منهم فاطمة لنفسه ، ولكنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يعتذر عن الاستجابة لطلبهم ؛ ويقول : ( لم ينزل القضاء بعد ) .
وحين اعتذر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن تزويج فاطمة ، لعمر ، أو لأبي بكرٍ ، اتَّجَها إلى الإمام علي ( عليه السلام ) وهو يسقي في بُستان نخلٍ ، فقالاً : ( قد عرفنا قرابتك من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقِدَمك في الإسلام ، فلو أتيت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فخطبت إليه فاطمة لزادك الله فضلاً إلى فضلك ، وشرفاً إلى شرفك ، فإنّا نرجو أن يكون الله ورسوله إنّما يحبسانها عليك .
فانطلق ، فتوضأ ثمّ اغتسل ولَبِس كساءه ، وصلّى ركعتين ، ولبس نعليه ، وأقبل إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكان في منزل أُمّ سَلَمَة ، فسلّم عليه فردّ عليه السلام ، وجلس بين يديه ينظر إلى الأرض ، فقال له النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
( أتيت لحاجةٍ ؟ قال : نعم ، أتيتك خاطباً ابنتك فاطمة ، فهل أنت مزوّجي يا رسول الله ؟ قالت أُمّ سَلَمَة : فرأيت وجه رسول الله يتهلّل فرحاً وسروراً ، ثمّ يبتسم في وجه عليّ ، ودخل على فاطمة ، فقال لها : إنّ عليّ بن أبي طالب مَن قد عرفت قرابته ، وفضله في الإسلام ، وإنّي سألت ربي أن يزوّجك خير خَلْقِه ، وأحبّهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً ، فما ترين ؟ فسكتت .
فخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يقول : الله أكبر ، سُكُوتُها إقرارها ، فقال : يا عليّ ، هل معك شيءٌ أُزوّجك به ؟ قال : سَيْفِي ، ودِرعي ، وناضحي ، ( وفي رواية : وفرسي ) ، فقال : أمّا سيفك فلا غنى بك عنه ؛ تجاهد به في سبيل الله ، وتقاتل به أعداء الله ، وناضحك تنضح به على نخلك ، وتحمل عليه رحلك في سفرك ، وأمّا دِرعك فشأنك بها ) .
فانطلق علي وباع دِرعه إلى عثمان بن عفّان ، بأربعمئة وثمانين درهماً ، فصبّها بين يدي النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
وبعد أن قرّت عين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بهذه الخطبة السعيدة ، وزوّج الله فاطمة علياً ( عليه السلام ) .. أراد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يُعلن لمجتمع المسلمين ، ولصحابته المحيطين به هذا النبأ ، فيضيف مكرِمة جديدة إلى سجلّ عليٍّ ، وفضيلة أخرى إلى فضائل فاطمة ، فأمر أنس بن مالك أن يجمع فئة من الصحابة (رض) ليعلن عليهم نبأ تزويج فاطمة لعليٍّ ..
قال أنس بن مالك : فدعوتهم ، فلمّا اجتمعوا عنده كلّهم ، وأخذوا مجالسهم ، وكان عليّ غائباً في حاجة للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
( الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقُدرته ، المطاع بسلطانه ، المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، إنّ الله تبارك اسمه ، وتعالت عَظَمتُه ، جعل المصاهرة نسباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، أوشجَ به الأرحام ، وألزم الأنام ، قال عزّ مِن قائلٍ : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) ، فأمر الله يجري إلى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قَدَره ، ولكلٍّ قضاءٍ قَدَر ، ولكلّ قَدر أجل ، ولكلّ أجلٍ كتاب ، يمحو الله ما يشاء ويُثبِت وعنده أمّ الكتاب ، ثمّ إنّ الله تعالى أمرني أن أزوّج فاطمة بنت خديجة من عليٍّ بن أبي طالب ... ) .
ثمّ دعا بطبقٍ من بَسَر فوضعت بين أيدينا ، ثمّ قال : ( انتهبوا ، فانتهبنا ) ، فبينما نحن ننتهب إذ دخل علي ( عليه السلام ) على النبيّ فتبسّم النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في وجهه ، ثمّ قال : ( إنّ الله قد أمرني أن أزوّجك فاطمة على أربعمئةِ مثقالٍ فِضة ، إن رضيت بذلك ، فقال : قد رضيت بذلك يا رسول الله ، قال أنس بن مالك ، فقال النبي : جَمع الله شمْلَكُما ، وأسعد جَدّكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيِّباً ) .
قال أنس : فوالله ، لقد أخرج الله منها الكثير الطيب .
وهذا الموقف النبويّ المرتبط بالمشيئة والوحي ـ الأمر الإلهي ـ يلفت أنظارنا ، ويستوقف خُطانا ، ويلقي سؤالاً هاماً وخطيراً علينا ، وهو :
لماذا لم يرخَّص لفاطمة بتزويج نفسها ؟ بل ، ولِمَ لَمْ يرخّص لرسول الله ، وهو أبوها ، ونبيّها ، بتزويجها ـ والنبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ إلاّ بعد أن نزل القضاء بذلك ؟ ولماذا خُصّ زواج فاطمة بهذه الميزة ؟
فلا بدّ ـ إذن ـ وأن يكون هناك سرٌّ وحِكمةٌ إلهيةٌ ، ترتبط بهذا الزواج ، وتتوقّف على هذه العلاقة الإنسانية الخطيرة ، علاقة فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بابن عمّه وأخيه ، علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كما كان يسمّيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نفسه ، وهو الذي تربّى في بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وعاش معه ، وشبّ في ظِلال الوحي ، ونَما في مدرسة النبوّة حتى حقّ له أن يصف هذه العلاقة بقوله :
( وقد علمتم موضعي من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه ، وما وجد لي كَذبةً في قولٍ ، ولا خَطلةٍ في فعل ) .
( ... ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه ، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور كل سنة بحرّاء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد ـ يومئذٍ ـ في الإسلام غير رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ... ) .
إنّ هذا السرّ والإعداد لم يكن غامضاً ، وهذه العناية لم تكن مجرّد علاقة رَحمٍ وقرابة ، فالأمر ذو علاقةٍ بحياة هذه الأمّة ، والعلاقة ترتبط بامتداد فرع النبوّة ، والإمامة ، فشاء الله أن يزوّج خِيرة نساء هذه الأمّة ـ بِضعة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ بخِيرة رجالها ، فعليّ هو الذي قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيه لفاطمة :
( إنيّ سألت ربّي أن يزوّجك خير خَلَقه ) ، وقال له : ( أَمَا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ؟! إلاّ إنّه لا نبيَّ بعدي ) . وفاطمة هي التي قال لها : ( أَمَا ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ) .
وبذا ، كانا أحبّ الناس لرسول الله وأقربهم إلى نفسه ، ( سُئِلت عائشة : أيّ الناس أحبّ إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟ قالت : فاطمة . قيل : من الرجال ؟ قالت : زوّجها ، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً ) .
وينعقد الزواج ، ويبنى بيت أهل بيت النبوّة ، ويرعاه رسول الله ، ويعرِّف به ، ويؤكّد أنّ علياً وفاطمة وذرِّيتهما هم أهل بيته ، ومن عليٍّ وفاطمة ذرّيته وأبناؤه ، وعصبته .
روى ابن عبّاس ، قال : كنت أنا والعبّاس جالسين عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ دخل عليّ بن أبي طالب فسلّم فردّ عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) السلام ، وقام إليه وعانقه وقبّله بين عينيه وأجلسه عن يمينه ، فقال العبّاس : يا رسول الله ، أتحبّ هذا ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
( يا عمّ ـ والله ـ الله أشدّ حبّاً له منّي ، إنّ الله جعل ذرّية كلِّ نبيٍّ في صُلبه ، وجعل ذرّيتي في صُلب هذا ) .
وهكذا شاء الله أن تمتدَّ ذرية رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن طريق عليٍّ وفاطمة ، ويكون منهما الحسن والحسين (عليهما السلام) والذرّية الطاهرة ، أئمةً ، وهداةً ، لهذه الأُمّة .. ولهذا الأمر ، والسرّ الخطير ، كان زواج فاطمة أمراً إلهياً لم يَسبق رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إليه ، ولم يتصرّف حتّى نزل القضاء ، كما صرّح هو نفسه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك .
منقـــــــــــــــــول
تعليق