قال الله تعالى في كتابه الكريم:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ، يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.1
معنى النفاق
النفاق مشتقٌّ من مادة (نفقَ) في الأصل، على وزن "نَفَخَ" بمعنى النفوذ والتسرّب، و"نفق" على وزن "شفَقَ" أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض، وتُستغلُّ للتخفّي والتهرّب والاستتار والفرار.
وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي، تتّخذ لها غارَين:
الأول: واضح تدخل وتخرج منه بصورةٍ مستمرّة.
الثاني: غير واضح ومخفيّ تهرع إليه في ساعات الخطر ويُسمّى "النفقاء".
والمنافق هو الذي اختار طريقاً مشبوهاً ومخفيّاً لينفذ من خلاله إلى المجتمع، ويهرب عند الخطر من طريقٍ آخر.
فالنفاق هو الدخول غي الإسلام من وجه والخروج عنه من الآخر، وقد سمّي المنافق منافقاً إقتباساً من المعنى اللغوي للنفق وهو السرب في الأرض.
والمنافق في الإصطلاح الشرعي: هو الذي يسترُ كُفره ويُظهر إيمانه.. وهو السرب الذي يستتر فيه لستره وكفره.2
بداية ظهور النفاق
عندما أعلن النبي(صلى الله عليه وآله) دعوته في مكّة المكرّمة واجه التحديّات من قريش وأعداء الدين بشكلٍ علنيّ، ولم يكن هؤلاء ليستتروا أو ليخفوا عداءهم وحقدهم، وهذا ما جعل ظاهرة النفاق غير ذات أثرٍ، ولا وجود لمعالمها في مكّة، فالأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر، ولا حاجة إلى التخفّي أو اللّجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.
ولكن بعد الهجرة النبويّة المباركة إلى المدينة، وبداية إرساء القواعد الأساسيّة للدين، وتشييد أركانه، ونموّ الكيان الإسلاميّ الوليد وازدياده قوّةً ومنعةً بعد انتصار المسلمين في غزوة "بدر"، وغيرها من الانتصارات التي عرّضت للخطر مصالح زعماء المدينة، وخاصّة اليهود منهم حيث كانوا يتمتّعون في المدينة المنوّرة بمكانة ثقافيّة واقتصاديّة مرموقة وغير ذلك من الأمور..كلّ ذلك شكّل عاملاً مهمّاً وأساسيّاً في بداية ظهور النفاق، ومحاولة الكثيرين التظاهر بالانتماء إلى هذا الدين خوفاً من سقوط عروشهم.
لقد استحكم الإسلام واتّسع في المدينة وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان، ومن هنا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبيّة من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.
وهذا الكلام لا يعني عدم تسرّب النفاق في متّبعي النبيّ (صلى الله عليه وآله) المؤمنين بمكة قبل الهجرة، وهم أولئك الذين كانت لهم مطامح ومطامع دنيويّة من قبيل الطمع بالرئاسة والتقدّم والاستعلاء، والاستفادة من بعض القضايا التي تخدم مصالحهم الشخصيّة. وكذلك الحال في ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنّ حركة النفاق غير محصورة بعصره (صلّى الله عليه وآله)، بل إنّ المجتمع الإسلامي كان ولا يزال عرضةً لخطر المنافقين وأذاهم على الدوام.
القرآن والمنافقين
اهتمّ القرآن الكريم اهتماماً بالغاً، وفضح أحوالهم، وذكر مساوئ أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم، والفتن التي أقاموها على النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى المسلمين، وجاء ذكرهم في العديد من السور القرآنيّة كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم. وكانت الآيات الأولى من سورة البقرة في قوله تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾3 من أوائل الآيات القرآنيّة التي نزلت لبيان حال هؤلاء، وقد نزلت على ما قيل على رأس ستّة أشهر من الهجرة، وبيّنت حقيقة تلوّنهم حسب ما تقتضيه مصالحهم الشخصيّة ومنافعهم الماديّة.
ولأجل بيان خطرهم الدائم والمستمرّ في كلّ زمان وعصر حذّر القرآن الكريم منهم واعتبرهم العدو الأخطر للمؤمنين، فقال تعالى: .. ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾المنافقون ومحاولاتهم القضاء على الإسلام
لقد بذل المنافقون أنواع الدسائس والمكائد في سبيل ضرب الإسلام من أوّل يوم نشأته، وحاولوا مراراً القضاء على الإسلام بشتّى الوسائل في عدة مواقف منها:
1- انسلالهم في جيش المسلمين يوم معركة أحد وكانوا ثلث الجيش تقريبًا.
2- عقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين.
3- بناء مسجد ضرار.
4- إشاعتهم لحديث الإفك.
وغيرها من الأحداث والوقائع التي وصل الأمر معها إلى تهديد القرآن الكريم لهم لكي يتوقّفوا عن الإفساد وتقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال تعالى: ﴿ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾5.
وغزوة تبوك وما جرى فيها تعتبر من الشواهد العظيمة على مؤامرة المنافقين وأساليبهم التي من خلالها حاولوا استغلال الدين.
فقد أوحى الله تعالى إلى نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) أن يسير إلى تبوك بنفسه، ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلى حرب، ولا قتال عدوّ، وأنّ الأمور سوف تنقاد إليه بغير سيف، بل أراد امتحان أصحابه بالخروج معه، واختبارهم ليتميّزوا بذلك.
معنى النفاق
النفاق مشتقٌّ من مادة (نفقَ) في الأصل، على وزن "نَفَخَ" بمعنى النفوذ والتسرّب، و"نفق" على وزن "شفَقَ" أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض، وتُستغلُّ للتخفّي والتهرّب والاستتار والفرار.
وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي، تتّخذ لها غارَين:
الأول: واضح تدخل وتخرج منه بصورةٍ مستمرّة.
الثاني: غير واضح ومخفيّ تهرع إليه في ساعات الخطر ويُسمّى "النفقاء".
والمنافق هو الذي اختار طريقاً مشبوهاً ومخفيّاً لينفذ من خلاله إلى المجتمع، ويهرب عند الخطر من طريقٍ آخر.
فالنفاق هو الدخول غي الإسلام من وجه والخروج عنه من الآخر، وقد سمّي المنافق منافقاً إقتباساً من المعنى اللغوي للنفق وهو السرب في الأرض.
والمنافق في الإصطلاح الشرعي: هو الذي يسترُ كُفره ويُظهر إيمانه.. وهو السرب الذي يستتر فيه لستره وكفره.2
بداية ظهور النفاق
عندما أعلن النبي(صلى الله عليه وآله) دعوته في مكّة المكرّمة واجه التحديّات من قريش وأعداء الدين بشكلٍ علنيّ، ولم يكن هؤلاء ليستتروا أو ليخفوا عداءهم وحقدهم، وهذا ما جعل ظاهرة النفاق غير ذات أثرٍ، ولا وجود لمعالمها في مكّة، فالأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر، ولا حاجة إلى التخفّي أو اللّجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.
ولكن بعد الهجرة النبويّة المباركة إلى المدينة، وبداية إرساء القواعد الأساسيّة للدين، وتشييد أركانه، ونموّ الكيان الإسلاميّ الوليد وازدياده قوّةً ومنعةً بعد انتصار المسلمين في غزوة "بدر"، وغيرها من الانتصارات التي عرّضت للخطر مصالح زعماء المدينة، وخاصّة اليهود منهم حيث كانوا يتمتّعون في المدينة المنوّرة بمكانة ثقافيّة واقتصاديّة مرموقة وغير ذلك من الأمور..كلّ ذلك شكّل عاملاً مهمّاً وأساسيّاً في بداية ظهور النفاق، ومحاولة الكثيرين التظاهر بالانتماء إلى هذا الدين خوفاً من سقوط عروشهم.
لقد استحكم الإسلام واتّسع في المدينة وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان، ومن هنا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبيّة من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.
وهذا الكلام لا يعني عدم تسرّب النفاق في متّبعي النبيّ (صلى الله عليه وآله) المؤمنين بمكة قبل الهجرة، وهم أولئك الذين كانت لهم مطامح ومطامع دنيويّة من قبيل الطمع بالرئاسة والتقدّم والاستعلاء، والاستفادة من بعض القضايا التي تخدم مصالحهم الشخصيّة. وكذلك الحال في ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنّ حركة النفاق غير محصورة بعصره (صلّى الله عليه وآله)، بل إنّ المجتمع الإسلامي كان ولا يزال عرضةً لخطر المنافقين وأذاهم على الدوام.
القرآن والمنافقين
اهتمّ القرآن الكريم اهتماماً بالغاً، وفضح أحوالهم، وذكر مساوئ أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم، والفتن التي أقاموها على النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى المسلمين، وجاء ذكرهم في العديد من السور القرآنيّة كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم. وكانت الآيات الأولى من سورة البقرة في قوله تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾3 من أوائل الآيات القرآنيّة التي نزلت لبيان حال هؤلاء، وقد نزلت على ما قيل على رأس ستّة أشهر من الهجرة، وبيّنت حقيقة تلوّنهم حسب ما تقتضيه مصالحهم الشخصيّة ومنافعهم الماديّة.
ولأجل بيان خطرهم الدائم والمستمرّ في كلّ زمان وعصر حذّر القرآن الكريم منهم واعتبرهم العدو الأخطر للمؤمنين، فقال تعالى: .. ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾المنافقون ومحاولاتهم القضاء على الإسلام
لقد بذل المنافقون أنواع الدسائس والمكائد في سبيل ضرب الإسلام من أوّل يوم نشأته، وحاولوا مراراً القضاء على الإسلام بشتّى الوسائل في عدة مواقف منها:
1- انسلالهم في جيش المسلمين يوم معركة أحد وكانوا ثلث الجيش تقريبًا.
2- عقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين.
3- بناء مسجد ضرار.
4- إشاعتهم لحديث الإفك.
وغيرها من الأحداث والوقائع التي وصل الأمر معها إلى تهديد القرآن الكريم لهم لكي يتوقّفوا عن الإفساد وتقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال تعالى: ﴿ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾5.
وغزوة تبوك وما جرى فيها تعتبر من الشواهد العظيمة على مؤامرة المنافقين وأساليبهم التي من خلالها حاولوا استغلال الدين.
فقد أوحى الله تعالى إلى نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) أن يسير إلى تبوك بنفسه، ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلى حرب، ولا قتال عدوّ، وأنّ الأمور سوف تنقاد إليه بغير سيف، بل أراد امتحان أصحابه بالخروج معه، واختبارهم ليتميّزوا بذلك.
فاستنفرهم النبي (صلى الله عليه وآله) إلى بلاد الروم.. فأبطأ أكثرهم عن طاعته، رغبة في الدنيا، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفًا من شدّة القيظ، وبُعد المسافة، ولقاء العدوّ. ولمّا أراد النبي (صلى الله عليه وآله) الخروج استخلف أمير المؤمنين (عليه السلام)، في أهله وولده، فقال (صلى الله عليه وآله): "يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك"، وقد أراد (صلى الله عليه وآله) الاحتياط خوفًا من هجوم الأعداء غفلةً على المدينة، ولا أحد يستطيع ردّ العدوّ إلّا الإمام علي (عليه السلام). ولـمّا علم أهل النفاق باستخلاف الإمام علي (عليه السلام) على المدينة حسدوه لذلك، وساءهم الأمر.. فأخذوا يبثّون الدعايات الكاذبة والقول بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف عليّاً (عليه السلام) إكرامًا وإجلالًا له.. وإنّما خلّفه استثقالًا له.. فلمّا بلغ الأمر إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) عمل على الفور على فضح أكاذيبهم، فلحق بالنبي(صلى الله عليه وآله) وقال له: "يا رسول الله إنّ المنافقين يزعمون أنّك إنّما خلفتني استثقالاً ومقتاً"، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): "إرجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيت ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟" وتضمّن هذا النص انقلابًا تامًّا لمؤامرة المنافقين، وتثبيت أمير المؤمنين(عليه السلام) بالنصّ عليه بالإمامة، ودلّ على فضلٍ لم يشركه فيه أحدًا سواه.."6. تأمّلات في سورة المنافقين سورة المنافقين هي من بين السور القرآنية التي تضمّنت الحديث عن النفاق وعلامات المنافقين، والمحور الأساس في هذه السورة هو صفات المنافقين والأمور المرتبطة بهم، وتحذير المؤمنين وضرورة الانتباه إلى خطط ومكائد المنافقين، ولأجل ذلك سميّت بسورة المنافقين. وقد ذكر أصحاب التفسير الأسباب الكامنة وراء نزول الآيات القرآنية التي ورد فيها الحديث عن المنافقين في هذه السورة، وممّا جاء: أنّه بعد غزوة بني المصطلق ازدحم النّاس على الماء، وردت وارد الناس ومع عمر بن الخطاب أَجيرٌ له من بني غفار يُقال له: "جهجاه"، فازدحم هو و"سنان الجهني" حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي سلول وعنده رهطٌ من قومه فيهم: "زيد بن أرقم" غلام حدث السنّ فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما والله ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾7، ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال: "هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم". فسمع ذلك زيد فمشى به النبي(صلى الله عليه وآله) وذلك عند فراغ رسول الله من غزوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله مُر به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّدًا قتل أصحابه؟ ولكن أئذن بالرحيل". فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيَه أسيد بن حضير فسلّم عليه، وقال: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال: أو ما بلغك ما قال عبد الله بن أبي؟ قال: وماذا قال؟ قال: قال زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليُخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت، فإنّك العزيز وهو الذليل. ثمّ قال: يا رسول الله، إرفق به فوالله لقد منَّ الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وسمع عبد الله بن أبي أنّ زيداً أعلم النبي(صل الله عليه وآله) قوله، فمشى إلى رسول الله(صل الله عليه وآله) فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلّمت به، وكان عبد الله في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ. وأنزل الله تعالى:﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ..﴾. 8 تصديقًا لزيد. فلمّا نزلت أخذ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بإذن زيد وقال: "هذا الذي أوفى الله بإذنه"، وبلغ ابن عبد الله بن سلول ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنتَ فاعلًا فمُرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال النبي(صلى الله عليه وآله): "بل نرفق به، وتُحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدَثاً عاتبه قومه وعنّفوه"9. وفي خاتمة المطاف نقول: إنّ مؤامرة المنافقين وخداعهم مهما طال، لكن في النهاية لا بدّ من أن تنكشف ألاعيبهم ومؤامراتهم لن تدوم طويلًا، وقد يستطيع المنافقون أن يتمتّعوا لمدّةٍ قصيرة بمصونيّة الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفّار سرًّا، لكن هذه الحالة مثل شعلةٍ ضعيفة معرّضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفئ، ويظهر الوجه الحقيقيّ للمنافقين، ويظلّون حائرين، مثل إنسانٍ يتخبّط في ظلامٍ دامس. ولذلك أخبرنا الله تعالى عن هذه الحالة التي يكون عليها أهل النفاق بقوله الكريم:﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُون، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾10. |
تعليق