بعد أن دفنها هاج به الحزن وحوّل وجهه إلى قبر أبيها (صلّى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَالْعَنْ عَدُوّهُم
روى الشّيخ أبو عبد الله العكبري المفيد بسنده عن عليّ بن محمّد الهرمزاني عن عليّ بن الحسين بن عليّ عن أبيه الحسين (عليهم السّلام) - في حديث دفن السيّدة الزّهراء (عليها السّلام) وأنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) - عفى موضع قبرها؛ فلمّا نفض يده من تراب القبر، هاج به الحزن، فأرسل دموعه على خدّيه، وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال: "السّلام عليك يا رسول الله منّي، والسّلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك والمختار لها الله سرعة اللّحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي، إلّا أنّ في التأسّي لي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي بفراقك موضع التعزّي، فلقد وسّدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمّضتك بيدي، وتولّيت أمرك بنفسي، نعم وفي كتاب الله أنعم القبول: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون). لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزّهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله، أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمُسهّد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار الله لي دارك الّتي أنت فيها مقيم، كمد مقيح، وهمّ مهيج، سُرعان ما فرّق بيننا، وإلى الله أشكو وستُنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك عليَّ وعلى هضمها حقّها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلا، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين.
سلام عليك يا رسول الله سلام مودّع، لا سئم ولا قالٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصّابرين، والصّبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزامًا، وللبثت عنده معكوفًا، ولأعولت إعوال الثّكلى على جليل الرزيّة. فبعين الله تُدفن ابنتك سرًّا، وتُهتضم حقّها قهرًا، وتُمنع إرثها جهرًا، ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذّكر، فإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته". [المفيد، الأمالي، ص144-145، ح7، المجلس(33)؛ وقريب منه: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، 10/ 43، خطبة(195)].
أقول والقول منّي في جميع الأشياء قول آل محمّد (عليهم السّلام) فيما أسرّوا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني، في هذا الحديث الشّريف فوائد وإشارات عديدة وسنتناول إشارة واحدة من هذا الحديث المبارك؛ فأمّا ما يتعلّق بظُلامة سيّدة نساء العالمين (صلوات الله عليها) فالحديث واضح في بيانه، بل أنّ ظُلامتها (عليها السّلام) أضحت بين النّاس بين قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا).[الإسراء:72]، وقوله جلّ وعلا: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).[النّمل:14] صدق الله العليّ العظيم.
فمن أراد معرفة ظُلامة أهل البيت (عليهم السّلام) وأساس ما وقع عليهم فعليه بكتاب (= أصل) التّابعي الجليل سُليْم بن قيْس الهلاليّ (رضوان الله عليه)، وقد قال مولانا الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السّلام): "من لم يعرف سوء ما أُوتي إلينا من ظُلمنا، وذهاب حقّنا، وما نُكبنا به؛ فهو شريك من أتى إلينا فيما ولينا به".[الصّدوق، عقاب الأعمال، ص248، ح6].
يقول مولانا الإمام سيّد الشهداء (عليه السّلام): أنّ سيّد الأوصياء (عليه السّلام) بعد أن دفن سيّدة نساء العالمين (عليهما السّلام) وهاج به الحزن: "حوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)". فلاحظ أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو الّذي لا يعرفه إلّا الله ورسوله الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، يتوجّه إلى نفسه وهو الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله). نعم؛ فهو القائل بأبي هو وأمّي: "إنّما أنا عبد من عبيد محمّد (صلّى الله عليه وآله)".[الكليني، الكافي، 1/ 90، ح5]؛ فالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يعطينا قاعدة شريفة؛ وهي إذا نزلت بنا المصائب واعترتنا الهموم والأحزان، نتوجّه ونلوذ بقبور بأهل بيت العصمة (عليهم السّلام) وهي "بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال".[النور:36] (صلوات الله عليهم)، بل في كلّ أمورنا نتوجّه بهم وإليهم فقد قال الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السّلام): "آخِذٌ بِقَوْلِكُمْ، عامِلٌ بِأمْرِكُمْ، مُسْتَجيرٌ بِكُمْ، زائِرٌ لَكُمْ، لائِذٌ عائِذٌ بِقُبُورِكُمْ، مُسْتَشْفِعٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِكُمْ، وَمُتَقَرِّبٌ بِكُمْ إِلَيْهِ، وَمُقَدِّمُكُمْ أمامَ طَلِبَتِي وَحَوائِجي وَاِرادَتِي فِي كُلِّ أَحْوالي وَأُمُوري".[الزّيارة الجامعة الكبيرة].
فقبور أئمّة الهدى ومصابيح الدُّجى (عليهم السّلام) هي كما قال النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في حديثه لأخيه ووصيّه أمير المؤمنين (عليه السّلام): "يا أبا الحسن، إنّ الله جعل قبرك وقبر ولْدك بقاعًا من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذى فيكم".[الحرّ العاملي، وسائل الشّيعة، 14/ 382-383، ح1، باب26].
فعندما نخاطبهم ونشكو إليهم ونطلب منهم؛ فهم (عليهم السّلام) يسمعون كلامنا ويشهدون مقامنا؛ ففي زيارة أمير المؤمنين (عليه السّلام) المروية عن صادق آل محمّد (عليه السّلام) نقول: "أَشْهَدُ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلامِي وَتَشْهَدُ مَقامِي".[عبّاس القمّي، مفاتيح الجنان، ص458]؛ كما أنّنا نخاطب ونتوسّل بمولانا وإمام زماننا في دعاء النُّدبة الشّريف المروي عنه (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف)، ونقول: "أَيْنَ وَجْهُ الله الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوجَّهُ الأوْلِياء؟ أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّماء؟".[عبّاس القمّي، م.ن، ص613].
يقول الله تعالى في كتابه الصّامت الكريم: "وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".[البقرة:189] وفي تفسير هذه الآية الكريمة عن مختصر بصائر الدّرجات لإبن سليمان الحلّي مُسندًا عن سعد بن طريف عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: "من أتى آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) أتى عينًا صافية تجري بعلم الله ليس لها نفاد ولا انقطاع، ذلك بأنّ الله لو شاء لأراهم شخصه حتّى يأتوه من بابه، ولكن جعل آل محمّد (عليهم السّلام) الأبواب الّتي يُؤتى منها، وذلك قول الله عزّ وجلّ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)".[هاشم البحراني، البُرهان في تفسير القرآن، 1/ 416-417، ح12].
فكلّ عبد خلقه الله تعالى إذا أراد الله تعالى بدأ بمحمّد وآل محمّد (عليهم السّلام) ومن وحّد الله تعالى قَبِلَ عن محمّد وآل محمّد (عليهم السّلام) ومن قصد الله تعالى توجّه إلى محمّد وآل محمّد؛ فليس لنا وراء الله جلّ وعلا ووراء سادة الخلق (عليهم السّلام) مُنتهى.
وأختم قولي بما رواه الشّيخ الجليل فضل الله بن محمود الفارسي بسنده عن جابر بن عبد الله عن النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في حديث بدء خلقته وخلقة آله (صلوات الله عليه وعليهم) أنّه قال: "نحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة والخلافة والهداية، وفينا النبوّة والولاية والإمامة، ونحن معدن الحكمة وباب الرّحمة وشجرة العصمة، ونحن كلمة التّقوى والْمَثَلُ الأعلى، والحُجّة العُظمى، والعُروة الوثقى الّتي من تمسّك بها نجا".[أحمد المستنبط، القطرة، 2/ 20، ح677].
فالحمد لله الّذي أخرجنا من حدّ البهيميّة إلى حدود الإنسانيّة بولاية الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوانه تعالى فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها صلوات الله تعالى عليهم، وعجّل الله تعالى لنورهم وسائقهم والمنتقم بأمر الله من أعدائهم الفرج ونحن معه.
اللّهمّ صلِّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها والعن ظالميها.
تعليق