بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
صفات الناجين من عذاب النار
وَلَيْتَ شِعْرى يا سَيِّدي وَاِلـهي وَمَوْلايَ اَتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلى اَلْسُن نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً، وَعَلى قُلُوب اعْتَرَفَتْ بِاِلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتّى صارَتْ خاشِعَةً، وَعَلى جَوارِحَ سَعَتْ اِلى اَوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً وَاَشارَتْ بِاسْتِغْفارِكَ مُذْعِنَةً، ما هكَذَا الظَّنُّ بِكَ وَلا اُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ يا كَريمُ يا رَبِّ.
1. السجود نتيجة الشعور بالعظمة الإلهيّة.
2. لسان الاعتقاد الصادق المشفوع بالعمل على طبقه.
3. الاعتقاد اليقيني بالألوهيّة.
4. الخشوع والخضوع لله.
5. انعكاس الاعتقاد القلبي عملاً بالجوارح.
6. الاستغفار من التقصير.
7. حسن الظنّ بالله.
شرح المفردات:
ليت شعري: أصلها شَعَرَ: "الشين والعين والراء: أصلان معروفان، يدلّ أحدهما: على ثبات، والآخر: على عِلْم وعَلَم... والثاني...: قولهم شعرت بالشيء؛ إذا علمته وفطنت له. وليت شعري؛ أي ليتني علمت"1. "قوله: ﴿يُشْعِرُكُمْ﴾(الأنعام : 109)
؛ أي يدريكم. وقوله: ﴿لاَّ يَشْعُرُونَ﴾(البقرة: 12)؛ أي لا يفطنون ويعلمون"2.
خرّت: أصلها خَرَّ: "الخاء والراء: أصل واحد؛ وهو: اضطراب وسقوط مع صوت"3. "قال تعالى:﴿فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء﴾(الحج: 31)، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾(سبأ: 14)، فمعنى خَرَّ سقط سقوطاً يسمع منه خرير... وقوله تعالى: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا﴾(السجدة: 15)، فاستعمال الخرّ تنبيه على اجتماع أمرين: السّقوط: وحصول الصّوت منهم بالتّسبيح، وقوله من بعده: ﴿وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾(السجدة: 15)، فتنبيه أنّ ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا بشيء آخر"4.
حوت: أصلها حَوَى: "الحاء والواو وما بعده معتلّ: أصل واحد؛ وهو: الجمع. يقال: حويت الشيء أحويه حيّاً؛ إذا جمعته"5. "وحويت الشيء أحويه حواية؛ إذا ضممته واستوليت عليه. وحويته ملكته وجمعته، وحوى الشيء إذا أحاط به من جهاته. واحتوى الشيء جمعه واشتمل عليه"6.
خاشعة: أصلها خَشَعَ: "الخاء والشين والعين: أصل واحد يدلّ على التطامن. يقال: خشع؛ إذا تطامن وطأطأ رأسه يخشع خشوعاً. وهو قريب المعنى من الخضوع؛ إلا أنّ الخضوع في البدن، والإقرار بالاستخذاء، والخشوع في الصوت والبصر"7. و"الخُشُوع: الضّراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع في ما يوجد على الجوارح. والضّراعة أكثر ما تستعمل في ما يوجد في القلب... قال تعالى: ﴿وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾(الإسراء: 109)، وقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾
خَاشِعُونَ﴾(المؤمنون: 2)"8.
الظنّ: أصلها ظَنَّ: "الظاء والنون: أصل أصيل صحيح يدلّ على معنيين مختلفين: يقين، وشكّ"9. "فقوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾(البقرة: 46)، وكذا: ﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ﴾(البقرة: 249)؛ فمن اليقين، ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾(القيامة: 28)، وقوله: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ﴾(المطففين: 4)؛ وهو نهاية في ذمّهم، ومعناه: ألا يكون منهم ظَنٌّ لذلك؛ تنبيهاً أنّ أمارات البعث ظاهرة... ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا﴾(يونس: 36)"10.
دلالة المقطع:
يشير هذا المقطع إلى حالات الناجين من عذاب النار؛ وهي حالات مُتاحة التحصيل أمام الإنسان في هذه الدنيا، فإذا تمكّن من أن ينالها؛ أَمِنَ من عذاب النار، وهي:
1- السجود نتيجة الشعور بالعظمة الإلهيّة:
أقرب ما يكون الإنسان من الله في حالات السجود، ولكنّ السجود الذي يتحدّث عنه الإمام عليه السلام هنا؛ هو السجود نتيجة الشعور بالعظمة الإلهية؛ أي سجود المذلّة والخضوع والخشوع. وهو لا يتمثّل فقط في الحالة المعروفة في الصلاة. ولذلك عبّر القرآن بقوله: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾11. فقد قرنت الآية سجود هؤلاء بعدم الاستكبار؛ لأنّ سجودهم سجود تذلّل لله. وما تكبَّر عنه إبليس هو السجود، مع أنّ الله أمره بذلك:
عن الإمام علي عليه السلام: "أطيلوا السجود، فما مِنْ عمل أشدّ على إبليس من أن يرى ابن آدم ساجداً؛ لأنّه أُمِرَ بالسجود فعصى"12.
2- لسان الاعتقاد الصادق المشفوع بالعمل على طبقه:
إنّ كلمة التوحيد كلمة مفصليّة في علاقة الإنسان برّبه؛ وذلك إذا كانت صادقة؛ أي مطابقة للاعتقاد القلبي، وناتجة عن معرفة وشعور، وليس مجرّد لقلقة لسان، وغير مقترنة بالشرك الذي قد يكون في بعض مظاهره واضحاً، وفي بعضها خفيّاً؛ أي خالية حتى من الشرك الخفي.
وهذا الموحِّد الحقيقي يتمكّن بالفعل من أن يجعل حياته كلّها في طاعة الله، فالتوحيد الحقيقي يُورِث الإنسان العصمة من ارتكاب الذنوب.
ولذا، ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من شيء أعظم ثواباً من شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأنّ الله عزّ وجلّ لا يعدله شيء، ولا يشركه في الأمر أحد"13.
والموحِّد يتّبع ذلك؛ بالثناء على الله(وبشكرك مادحة)، والقصد من الثناء؛ الشكر لله؛ وهو ينطلق من: الاعتراف بالنعم، وأنّ الله أنعم عليه، وأنّها كلّها من الله. والشكر الحقيقي هذا هو باب الاجتباء والاصطفاء الإلهي. قال تعالى: ﴿شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾14.
كما أنّ الموحِّد يُدرِك تماماً أنّ من النِعَم الإلهية: التوفيق للطاعة، والبعد عن المعصية. ولذا، ورد في الدعاء المروي عن الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف: "اللهمّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية"15.
3- الاعتقاد اليقيني بالألوهيّة:
وهو خصوص المعرفة القلبيّة بالألوهيّة التي يعقبها الاعتراف التامّ الذي لا يقبل الشكّ؛ أي الوصول إلى مقام اليقين في المعرفة.
والإيمان الثابت والمستقرّ هو ما كان قلبيّاً؛ لا ظاهريا فقط:
عن الإمام علي عليه السلام: "فمن الإيمان: ما يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور"16.
4- الخشوع والخضوع لله:
كلّما ازدادت النفس معرفة بالله؛ ازدادت خشوعاً؛ لأنّ المعرفة بحقيقة واجب الوجود باب للخشوع والخضوع لإرادته.
ولهذا الخشوع علامات وردت في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا علامة الخاشع، فأربعة: مراقبة الله في السرّ والعلانية، وركوب الجميل، والتفكّر ليوم القيامة، والمناجاة لله"17.
5- انعكاس الاعتقاد القلبي عملاً بالجوارح:
إنّ المعرفة تنعكس سلوكاً على جوارح الإنسان؛ فيسعى إثرها إلى كلّ موطن فيه عبادة الله؛ وهو في ذلك طَيِّع منقاد بنفسه؛ نتيجة المعرفة الصحيحة واليقينيّة.
ولذا، وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المعرفة التي يظهر أثرها على الجوارح؛ بأنّها: المعرفة العليا، حيث قال عليه السلام: "أوضع العلم: ما وقف على اللسان، وأرفعه: ما ظهر في الجوارح والأركان"18.
6- الاستغفار من التقصير:
ينبغي على الإنسان بعد الإقرار والاعتراف بالذنوب، أن يُذعِنَ بضرورة تدارك الذنب من خلال الاستغفار؛ أي الطلب من الله بأن يغفر له هذه الذنوب.
ولا بدّ من المداومة على الاستغفار، ولا سيّما عند ارتكاب الذنب:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن وُجِدَ في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كلّ ذنب: أستغفر الله"19.
7- حسن الظنّ بالله:
المراد من الظنّ ما نتوقّعه ممَّن يمتاز بصفة الرحمة والرحيميّة (الرحمن الرحيم)، والكرم بالخصوص. ولذا، كان النداء: يا كريم، ليس ظنّنا بك أن تعذِّب من كان حاملاً لهذه الصفات، ولا هذا ما أخبرتنا به في كتابك؛ من سعة رحمتك، وعدلك.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "يُؤتَى بعبد يوم القيامة ظالم لنفسه، فيقول الله ألم آمرك بطاعتي؟ ألم أنهك عن معصيتي؟ فيقول: بلى يا رب، ولكن غلبت عليّ شهوتي، فإن تعذّبني؛ فبذنبي لم تظلمني، فيأمر الله به إلى النار، فيقول: ما كان هذا ظنّي بك، فيقول: ما كان ظنّك بي؟ قال: كان ظنّي بك، أحسن الظنّ، فيأمر الله به إلى الجنّة، فيقول الله تبارك وتعالى: لقد نفعك حسن ظنّك بي الساعة"20.
---------------------------
هوامش
1- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة"شَعَرَ"، ص193-194.
2- الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج3، مادّة"شَعَرَ"، ص346-347.
3- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة"خَرَّ"، ص149.
4- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة"خَرَّ"، ص277.
5- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة"حَوَى"، ص112.
6- الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج1، مادّة "حَوَا"، ص112.
7- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج2، مادّة"خَشَعَ"، ص182.
8- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة"خَشَعَ"، ص283.
9- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة"ظَنَّ"، ص462.
10- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة"ظَنَّ"، ص539-540.
11- النحل:48- 49.
12- ابن بابويه، محمد بن علي بن الحسين: الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، لاط، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم المقدّسة، 1403هـ.ق/ 1362هـ.ش، ج2، حديث أربعمائة، ص616.
13- ابن بابويه، ثواب الأعمال، م.س، ص3.
14- النحل: 121.
15- الكفعمي، المصباح، م.س، ص280.
16- الشريف الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج2، الخطبة189، ص128-129.
17- الحرّاني، تحف العقول، م.س، ص20.
18- الشريف الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج4، الحكمة92، ص20.
19- الطبرسي، مكارم الأخلاق، م.س، ص313.
20- البرقي، أحمد بن محمد بن خالد: المحاسن، تصحيح وتعليق جلال الدين الحسيني، لاط، طهران، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش، ثواب من بلغه ثواب...، ح4، ص25-26.
تعليق