إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

و?ان تقياً... |رواية لــكمال السيد

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #11
    المصاهَرة

    كان بلاط الخلافة في ذلك الضحى يموج بالجماهير.. الجميع يترقّبون اللحظة المصيريّة.. العبّاسيّون كانوا متأكّدين من الفوز الساحق.. الفوز الذي لن يُبقي لمنافسيهم من العلويّين وقواعدهم الشعبيّة أيّة ركيزة في الدفاع بعد اليوم.. الإمام هو أعلم أهل زمانه، فإذا انهارت هذه المقولة عندها سينهار الصرح الإماميّ بأسره..
    كانت هناك عشرات القلوب المتوجّسة من هذا الصراع والنِزال، والأمرّ من كلّ ذلك أن يُهزم هذا الفتى السيّد الوقور على يد رجل لا يستحي من شيبته وهو يقترف أعمال قوم لوط!
    غصّت القاعة بالناس الوافدين وفيهم الكثيرون من أعلام الفكر، كان المأمون قد أمر بان يُفرش لصهره المنتخب دستٌ تحفّه وسائد عن اليمين وعن الشمال، وأخذ الفتى الأسمر مكانه متواضعاً ينظر ببراءة وطُهر إلى الناس.. عيناه تشعّان بالأمل والايمان.. لقد كان منظره آية من آيات الله.
    في هذا العالم الذي يعجّ بالفساد والشرور... تتنفّس روحٌ مسّتها السماء فكانت رمزاً للطُهر والنقاء.
    هيمن صمت مَهيب، وكانت العيون تتّجه نحو نقطة في جوار المأمون.. ونظر ابن أكثم إلى الخليفة، وهزّ المأمون رأسه موافقاً.. لقد بدأت اللحظة المصيريّة، وقال قاضي القضاة بلهجة فيها تكلّف:
    ـ أتأذن لي جُعلت فداك في مسألة ؟
    وأجاب الذي عنده عِلم الكتاب:
    ـ سَل إن شئت.
    وهنا ألقى ابن اكثم سؤاله وحباله:
    ـ ما تقول يا ابا جعفر في مُحرِمٍ قَتَل صيداً.
    ما هو موقف الشريعة من انسان ارتدى لباس الاحرام في الحجّ ثمّ قتل حيواناً ؟
    كان السؤال ذكيّاً جداً، فهو وأن بدا في ظاهره بسيطاً، لكنه ينطوي على مزالق كثيرة، والاجابة عليه تعني السقوط في الفخّ! ومن ثَمّ الانقضاض عليه.
    وحَبست الحشودُ أنفاسها... إنّ مصير الإمامة بل المجد العلوي بأسره كله معلّق بين شفتَي ذلك الفتى الأسمر. وجاء الجواب:
    أسئلةٌ مدوّية تكشف عن عقليّة فذّة وعبقريّة ليست مُستمَدّة من عناصر التراب:
    ـ هل قتله في الحرم المكّي أم خارجه ؟
    هل كان عالماً بحُرمته أم جاهلاً ؟
    قَتَله عَمداً أو خطأ ؟
    هل كان القاتل صغيراً أم كبيراً ؟
    هل كان عبداً أم حُرّاً ؟
    مُبتدئاً بالقتل كان أم مُعيداً ؟
    هل كان الصيد من الطيور أو غيرها ؟
    هل كان الصيد صغيراً أم كبيراً ؟
    أكان القاتل مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟
    هل فعل ذلك ليلاً أم نهاراً ؟
    هل كان مُحرِماً للحجّ أم للعُمرة ؟
    وبُهت القاضي.. كان سيل الاسئلة من القوّة بحيث يكتسح كلّ مَن يحاول الجدل..
    وتألّقت شمس الحقيقة.. الحقيقة التي أُريدَ لها أن تنطفئ.. كان الصمت معبّراً..
    التفت المأمون إلى الفتى السيّد قائلاً:
    ـ أتخطب يا أبا جعفر.
    وأطرق الفتى برأسه حياءً
    أردف المأمون:
    ـ اخطب جُعِلت فداك لنفسك فقد رضيتُك، وأنا مزوّجك ابنتي أمَّ الفضل!.. حتّى لو رُغم قوم لذلك.
    نهض الفتى الأسمر ليقول بصوت هادئ:
    ـ الحمد لله إقراراً بنِعمته، ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوَحدانيّته، وصلّى الله على سيّد بَرِيّته، والأصفياء من عِترته..
    أمّا بعد.. فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: وانكحوا الأيامى منكم والصالحين مِن عبادِكم وإمائِكم إن يكونوا فقراءَ يُغنِهم اللهُ مِن فضله واللهُ واسعٌ عليم ..
    ثمّ إنّ محمّد بن علي بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبدالله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد خمسمائة درهم جياداً...
    والتفت إلى المأمون:
    ـ فهل زوّجتني يا أمير المؤمنين على هذا الصداق ؟
    أجاب المأمون:
    ـ نعم! قد زوّجتُك يا أبا جعفر على الصداق المذكور، فهل قبلتَ النكاح ؟
    ـ قد قبلتُ ذلك ورضيت به
    (22).
    وارتفعت زغاريد الفرح، وأمر المأمون إلاّ يتفرّق الحاضرون، ومرّت لحظات سُمع بعدها أصوات تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، ثمّ ظهر مجموعة من الخدم يسحبون بحبال من الحرير سفينة صِيغت من الفضة الخالصة، وقد مُلئت عطراً غالياً، فخُضبت لحى الحضور، ثمّ نصبت الموائد وتناول الناس طعام الغداء.. وكان يوماً بهيجاً، وكان الشيعة أكثر الناس سعادة فقد سطعت شمس الحقيقة وتمزّقت شِباك العناكب.. ثمّ توّج ذلك كله بأن اصبح إمامهم صهراً للحاكم، وعندها يستطيعون أن يتنفّسوا الصُّعَداء.. وربما أصبح وليّاً للعهد.. مَن يدري ؟ خاصّة وقد تسامع الناس ما قاله الخليفة:
    ـ أحببتُ أن أكون جَدّاً لامرئ وَلَده رسولُ الله وعليُّ بن أبي طالب
    (23).
    اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


    تعليق


    • #12
      يسألونه

      غادر الناس بلاط المأمون ولا حديث لهم سوى هذه المعجزة الانسانيّة.. كيف يمكن لصبيّ لم يبلغ الحُلم أن يكون له كلّ هذا العِلم وهذا المنطق الفيّاض، بل إن بعضهم كان مشدوداً إليه طوال الوقت كما تنجذب فراشة مبهورة بالنور إلى شمعة متوهّجة.. إن سرّاً ما يكمن في هذه النفس الطاهرة.. وتمتم أحدهم بكلمات السماء:
      يا يَحيى خُذِ الكتابَ بقوّةٍ وآتَيناه الحُكْمَ صَبيّاً... .
      كم شكّك الواقفة في إمامة والده إذ اجتاز الاربعين ولم يُرزَق ولداً، حتّى إذا أطلّ هذا الصبي إذا به يكون آية إذ يكلم الناس في المهد صبيّاً!
      لم يبق في البلاط سوى رجال الدولة عندما أمر المأمون كاتبه الخاص أن يستعد لتسجيل ما سيقوله صهره.
      قال المأمون متودداً:
      ـ إن رأيتَ جُعلتُ فداك أن تذكر الفِقه فيما فصّلتَه من وجوه قَتْل الصيد لنعلمه ونستفيده.
      قال الفتى وقد تفجّرت ينابيع الحكمة:
      ـ إنّ المُحرِم إذا قَتَل صيداً في الحِلّ، وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة.
      فإذا أصابه في الحَرَم فعليه الجزاء مضاعفاً.
      فإذا قتل فرخاً في الحِلّ فعليه حمل قد فُطم من اللبن، وليست عليه القيمة لأنّه في الحل.
      وإذا قتله في الحَرَم فعليه الحمل وقيمة الفرخ.
      وان كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة.
      وإن كان نَعامة فعليه « بدنة » (24)، فإن لم يقدر فإطعام ستّين مسكيناً، فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوماً.
      وإن كان بقرة فعليه بقرة، فإذا لم يقدر فليطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يقدر فَلْيصُمْ تسعة أيّام.
      فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هَدْياً بالغ الكعبة.
      وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهَدْي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نَحَرَه بمِنى حيث يَنحر الناس.
      وإن كان احرامه بالعُمرة نَحَره بمكّة في فِناء الكعبة ويتصدّق بمِثل ثمنه حتّى يكون مضاعفاً.
      وكذلك إذا أصاب أرنباً أو ثعلباً فعليه شاة، ويتصدّق بمثل ثَمَن شاة.
      وإن قتل حماماً من حمام الحرم فعليه دِرْهَم يتصدّق به، ودرهم يشتري به عَلَفاً لحمام الحرم، وفي الفرخ نصف درهم، وفي البيضة ربع درهم، وكلّ ما أتى به المُحرِم بجهالة أو خطأ فلا شيء عليه إلاّ الصيد، فإنّ عليه فيه الفداء أكان بجهالة أم عِلم، وبخطأ أم عَمد.
      وجزاء الصيد على العالِم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع ساقط عنه في الخطأ.
      والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده.
      والصغير لا كفّارةَ عليه، وهي على الكبير واجبة.
      والنادم يسقط بندمه عنه عقابُ الآخرة، والمُصِرّ يجب عليه العقاب في الآخرة،وإن دَلَّ على الصيد وهو مُحرِم، وقُتِل الصيد فعليه الفداء.
      وان أصابه ليلاً في أوكارها خطأ فلا شيء عليه إن لم يتصيّد، فإن تصيّد بليل فعليه الفداء.
      وفغر المأمون فاه دهشة تصاعدت من شفاه ابن أكثم كلمات الإكبار: حاشا لله! ما هذا بَشَراً إنْ هذا إلاّ مَلَك كريم!!
      وتنفّس الكاتب الهواء وقد توقّف ينبوع الحكمة عن القرارات، ولحاجةٍ ما قال المأمون:
      ـ ألا تسأله يا أبا جعفر ؟!
      التفت الفتى الأسمر إلى قاضي قضاة الدولة الإسلاميّة.. وقال الجواد بأدب الأنبياء:
      ـ أسألك ؟
      قال ابن اكثم وقد استحال إلى تلميذ لا يفقه من العِلم شيئاً:
      ـ ذاك إليكَ جُعِلت فداك، فإن عرفتُ جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدتُ منك.
      وطرح الإمام سؤالاً ينسجم مع ثقافة بغداد التي بدأت تسطّر حكاياتها الاسطورية.. كان السؤال يشبه لغزاً مثيراً:
      ـ أخبِرني عن رجلٍ نَظَر إلى امرأةٍ في بدء النهار فكانت نظرته إليها حراماً عليه!
      فلما كان الضحى حلّت له!
      فلما حان الظهر حَرُمَت عليه!
      فلما كان وقت العصر حلّت له!
      فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له!
      فلما انتصف الليل حَرُمت عليه!
      فلما طلع الفجر حلّت!
      فما حال هذه المرأة، وبماذا حلّت به ؟ وحرمت عليه ؟
      قال القاضي الكبير مستسلماً:
      ـ واللهِ لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيتَ أن تفيدنا به ؟
      قال الذي أوتي عِلم الكتاب:
      ـ هذه أَمَة لرجل من الناس، نظر إليها رجل أجنبيّ ( نظرة مُريبة ) في أوّل النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه.
      فلما ارتفع النهار ابتاعها من سيدها فحلّت له.
      فلما كان الظهر أعتَقَها فحَرُمت عليه.
      فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له.
      فلما كان وقت المغرب ظاهَرَ منها فحَرُمت عليه.
      فلما كان وقت العشاء الآخر كفّر عن الظِّهار فحلّت له.
      فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فحَرُمت عليه.
      فلما كان الفجر راجعها فحلّت له.
      ودُهِش رجال البيت العبّاسي، وشعروا أنهم أمام ظاهرة هي معجزة خارقة وآية سماويّة تخشع لها القلوب والعقول..
      قال المأمون:
      ـ هل فيكم أحد يُجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو خطر له شيء ممّا قال فيما تقدّم من السؤال ؟!
      قالوا مبهورين:
      ـ لا والله، إن أمير المؤمنين لأعلم.
      واستحال ابن أكثم الذي كان يعدّ نفسه أكبر شخصيّة عِلميّة إلى تلميذ متصاغرٍ أمام بحر العلم الإلهي.. قال متسائلاً:
      ـ ما تقول يا أبا جعفر في رجل نكح امرأة على زنا، هل يحلّ له أن يتزوّجها ؟
      قال الفتى الاسمر:
      يدعها حتى تستبرئ من نُطفته ونطفة غيره، فقد تكون قد فعلت ذلك مع غيره، ثمّ يمكنه أن يتزوّجها إذا أراد ذلك..
      إنّما مَثَلُها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً، ثمّ اشتراها فأكل منها حلالاً.
      هتف المأمون مأخوذاً:
      ـ أحسنتَ يا أبا جعفر، أحسن الله اليك! (25).
      اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


      تعليق


      • #13
        التألّه

        الله! ما هو الله!..
        لماذا يخشع الإنسان للرعد وهو يجلجل في الفضاء اللانهائيّ.. لماذا يعبد الشمس! يظنّها مصدر الحياة.. ولماذا يهيم بالقمر يَعُدّه مصدر الجلال، أو يرنو إلى النجم يظنّه منبع الوجود، ولماذا يعشق النار يرى فيها الإله الذي خلقه.. الله ما هو ؟ أين ؟ كيف هو ؟
        تلك هواجس النفس، وهي تبحث عن مبدأها ومنتهاها.. كانت كلمات محمّد وهو يهبط من فوق سفح الجبل مشرقة كالشمس أضاءت القلوب، جبّارة كالسيل حطّمت في طريقها الأوثان العربيّة.. ولكن لم يكن يمرّ جيل واحد حتّى ضاعت الصلاة التي أضاءت الفكر الانسانيّ... وجاءت أجيال ضائعة لا تكاد تعرف عن عقيدتها شيئاً..
        لم يكن الحسين نبياً.. لقد كان سبط نبيّ هو آخر الأنبياء، وكان يقول وهو يتأمّل السماء:
        ـ كيف يُستَدَلّ عليك بما هو في وجوده مُفتقر إليك ؟!
        متى غِبْتَ حتّى تحتاج إلى دليل يَدُلّ عليك ؟!
        ومتى بَعُدْتَ حتّى تكون الآثارُ هي التي توصل إليك ؟!
        عمِيَت عينٌ لا تراك عليها رقيبا
        (26).
        ولكنّ هذه الامّة التي انطفأت فيها جذوة الحقيقة وهي تلهب الوجدان البشري، قد ضلّت في وساوسها وتصوّراتها البشرية المحدودة..
        وفي وسط هذه الحَيرة وقد هبّت أفكار من الشرق والغرب ومن وساوس النفس الضائعة.. أصبح الله كياناً له هيئة البشر! فلأنّه بصير وجب أن تكون له عين! ولأنه سميع وجب أن يكون له أذن!!
        كان الفتى يستعدّ لسفر العودة إلى مدينة جدّه عندما جاءه رجال سمعوا بالمعجزة..
        السماء مشحونة بالغيوم، والغيوم مخزونة بالبروق والرعود، وجلجل الصوت المهيب صوت الرعد الذي تخشع له القلوب، وتجمّعت في عينَي الفتى الدموع، دموع الخشية والاندكاك بهذا العالم الذي لا يعدو إلاّ أن يكون انعكاساً لمبدأ الوجود، ورتّل بصوت فيه حزن المطر:
        ـ ويُسبّح الرعدُ بحَمْده والملائكةُ من خِيفته ويُرسِل الصواعقَ فيُصيب بها مَن يشاء وهم يُجادلون في الله والله شديدُ المِحال.
        كانوا ثلاثة، قال الأوّل:
        ـ أخبِرني عن الربّ له أسماء وصفات في كتابه ؟ فأسماؤه وصفاته هي هو ؟
        أجاب الذي أوتي العِلم صبياً:
        ـ إنّ بهذا الكلام وجهَين:
        إن كنتَ تقول: هو هي، أي إنّه ذو عدد وكَثرة، فتعالى الله عن ذلك.
        وإن كنت تقول: لم تزل هذه الصفات والأسماء، فإن « لم تزل » يحتمل معنيين:
        لم تزل عنده في عِلمه وهو مستحقّها، فنَعَم.
        وإن كنتَ تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله ولا خلْق، ثمّ خلقها وسيلةً بينه وبين خلقه يتضرّعون بها إليه ويعبدونه، وهي ذِكره.. وكان الله ولا ذِكر.
        والمذكور بالذِّكر هو الله القديم الذي لم يزل، والأسماء والصفات مخلوقات المعاني، والمعنيّ بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف والائتلاف، إنّما يختلف ويأتلف المتجزّئ.
        فلا يُقال: الله مؤتلف، ولا الله كثير، ولا قليل.
        ولكنّه القديم في ذاته لأن ما سوى الواحد متجزّئ، والله واحد لا يتجزّأ ولا يُتَوَهّم بالقلّة والكثرة...
        وكل متجزئ متوهّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالّ على خالق له.
        فقولك: إنّ الله قدير لأنّه لا يُعجِزه شيء، فنفيت بالكلمة العجزَ، وجعلتَ العجز سواه.
        وكذلك قولك: عالِم، إنّما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه، فإذا أفنى الله الاشياء أفنى الصور الهجاء. ولا ينقطع ولا يزال مَن لم يزل عالماً.
        قال الرجل مبهوراً:
        ـ فكيف سُمّي سميعاً ؟
        أجاب محمّد:
        ـ لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأسماع، ولَم نَصِفْه بالسمع المعقول في الرأس.
        وكذلك سمّيناه بصيراً، لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأبصار من لونٍ وشخص وغير ذلك، ولم نصفه بنظر العين.
        وكذلك سمّيناه لطيفاً لعِلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأصغر من ذلك.
        يعلم كلّ شيء فيها... لعِلمنا أنّ خالقها لطيف بلا كَيف، وإنّما الكيفيّة للمخلوق المُكيَّف.
        وكذلك سُمِّي ربُّنا قويّاً لا بقوّة البطش المعروف من المخلوقات، ولو كانت قوته كذلك لوقع التشبيه، ولاحتمل الزيادة. والذي يحتمل الزيادة يحتمل النقصان.
        والناقص لا يكون قديماً، وغير القديم يكون عاجزاً، فتبارك الله ربّنا وتعالى...
        لا شِبْه له ولا ضِدّ، ولا نِدّ، ولا كَيف، ولا نهاية.
        يعجز الفِكر عن تصوّره. والخيال أن يَحُدّه.
        والضمير أن يُكيِّفَه
        (27).
        وطأطأ الرجل رأسه اجلالاً.
        وانبرى الاخر فقال:
        ـ لكنّي أتوهّم شيئاً.
        قال الفتى وقد أضاءت قلبَه آيات السماء:
        ـ لا تحدّه حدود، فكلّما تخيّلتَ شيئاً أو توهّمتَه فهو غيره.. إنّه لا يُشبهه شيء.. لا تُدركه الأوهام، وهو خلاف ما يُتصوَّر في الخيال.
        إنّ تصوّرات الانسان إنّما تشمل الأشياء المتصوَّرة فقط.
        قال الرجل:
        ـ هل يمكننا أن نقول عنه بأنّه شيء.
        ـ نعم.. شَرْطَ تجريده عن حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه.
        فهو شيء ولكن ليس كهذه الاشياء.
        قال الرجل الثالث:
        ـ ما معنى قوله تعالى: لا تُدرِكُه الأبصار، وهو يُدرك الأبصار ؟
        ـ إنّ أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السِّند والهِند، والبُلدان التي لم تدخلها ولم تدركها ببصرك، فأوهام القلوب لا تُدركه، فكيف أبصار العيون ؟!
        إنّ الخيال البشري أكثر انطلاقاً من البَصَر، ومع ذلك فهو عاجز عن تصوّر الله، فكيف بالبصر ؟!
        إنّ الخيال هو الآخر محدود وإن كان أبعد مدىً من العين.
        ـ ما معنى الواحد ؟
        ـ الذي اجتمعت الألسُن عليه بالتوحيد كما قال الله عزّ وجلّ: ولَئِن سألتَهمُ مَن خَلَقَ السماواتِ والأرضَ لَيقولُنّ الله
        (28).
        عندما غادر الرجل مقرّ اقامته على شاطئ دجلة نهض يودّعهم.. ثم انصرف إلى الشاطئ فجلس ينظر إلى المياه المتدافعة عند قدميه، قال رجل جاء يرافقه:
        ـ إنّ شيعتك يدّعون بأنّك تعلم وزنَ مياه دجلة وتعلم ما فيها ؟!
        أجاب وهو يتأمل بعوضةً قريبة منه:
        ـ ألا يَقدِر الله تعالى أن يُفوِّض عِلمَ ذلك إلى بعوضةٍ من خلقه ؟
        قال الرجل:
        ـ نعم، إن الله على كل شيء قدير.
        ـ أنا أكرم عند الله من بعوضة ومِن أكثرِ خلقهِ
        (29).
        وكانت مياه دجلة تلامس قدميه تغسلهما بمحبة.
        اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


        تعليق


        • #14
          في عالَم النور

          عاد الفتى إلى مدينة جدّه.. هناك يستطيع أن يتنفّس مِلء رئتَيه في تلك الرُّبوع الطاهرة.. يشعر أنّ روحه تحلّق في الفضاء الذي كان جبريل يغمره بجناحيه..
          عقد زوجته الصغيرة ومضى.. فبغداد ليست موطنه، إنّه فيها بجسده أمّا قلبه فهناك يخفق.. قرب مرقد الرسول.
          إنّه يختنق في بغداد في قصورها المرمريّة التي تنهض على ضفاف دجلة، بينما بيوت الفقراء الطيّبين ما تزال تُبنى من الطين وجريد النخل.. بغداد مدينة عجيبة.. يشكو فيها الثريُّ بِطنته ويُنفق أموالاً لشراء الدواء الذي يسهّل هضم اللحم المتكدّس في معدته وأمعائه، أمّا الفقراء فيتضوّرون جوعاً قرب الجسور والقناطر وفي ظلال القصور حيث تنهض جدران من الصخور القاسية!
          ودجلة يمضي بين النخيل غير مكترث لما يجري حوله من أهوال، فنار الثورة في أرمينيا وآذربيجان ما تزال تتأجّج.
          وحرب أهلية في مصر، وثورة في اليمن بسبب الظلم.
          وثورات في أفريقيا، وحروب قبليّة في الاندلس.. وأنهار من دماء ودموع...
          في سنة 207 اغتيل فاتح بغداد « طاهر بن الحسين »
          (30) في ظروف غامضة، ولكن الخليفة يعرف كيف يعالج الأمور، فنصب ابنه عبدَالله بن طاهر حاكماً على خراسان مكانه، كما توفي « الفرّاء »(31) « والواقدي »، كما ولقي الأرمنيّ توماس مصرعه، أمّا الفضل بن الربيع فقد تُوفّي بعد سبعين سنة أمضى نصفها في الدسائس والمؤامرات.
          وفي الديار المصريّة تُوفّيت السيّدة نفيسة.. وفي بغداد تُوفّي موسى بن الأمين فبكت من أجله زبيدة، وما انفكّ التاريخ يشعل الحوادث هنا وهناك.. وفي ذلك الزمن الذي يموج بأهله كان محمد يمثّل نقطة السلام الكامل مع أنّه في قلب الاعصار تماماً.
          وإذا كان المأمون قد انتخب طريقه مُقتفياً طريق والده، فدخل هو الآخر عالم ألف ليلة وليلة، فإنّ ذلك الفتى السيّد الذي بلغ من العمر الآن أربع عشرة سنة ما يزال يمضي على خُطى آبائه الطاهرين.. ما يزال هو هو.. يمضي كلّ يوم في طريقه إلى مسجد جدّه الذي ما يزال مُفعَماً بشذى جبريل.. لم يكن يكترث للدنيا التي فتحت أبوابها عليه فقد أصبح صهر الخليفة السابع.. نجل الرشيد، ومرتبه السنوي يكفل له حياة باذخة..
          المأمون يسير في موكبه في شوارع بغداد وساحاتها مزركَشَ الثياب تتصدّر عمامته زمرّدة أو درّة أو حجارة كريمة، بينما اصطفّت الجماهير تهتف مهلّلةً له أنّه يرى الحياة في هذه الدنيا الفاتنة وما عداها فناء وخواء..
          لكن الذين يرون أبعد من ذلك فلن تستهويهم هذه المظاهر، إنّها مجرّد كذب وخداع وسراب يحسبه الظمآن ماء..
          ولقد كان ذلك الفتى الذي بلغ الحُلم قد مستغرقاً في العالم الحقيقي حيث تفور ينابيع الوجود، وتُشرق الأنوار الخالدة.. وقد اتّسقت في نفسه حركة العالم نحو الغاية النهائية، ولذا كان ذلك الفتى السيّد ينبض حناناً للإنسانيّة كلّ الإنسانيّة.. ويرى في الكائنات قلوباً تخفق وروحاً يتنفّس وأنفاساً تتردّد.
          من أجل هذا كان الذين يقابلونه يغمرهم شعور بالسكينة والسلام، والذين تصيبهم مصيبة إليه يُهرَعون.. فكان يحقّق أمل هذا ولا يُخيِّب أمنيات ذاك...
          ما الذي دهى ذلك الرجل ؟..
          ماذا دهاه ؟ يكاد لا يُبصر خطاه.. لكأن أزقّة المدينة متاهات يضيع فيها القلب الذي ينبض بالحب..
          فؤاده يخفق، يكاد يحطّم قُضبان القفص الصدريّ ليتحرّر من هذا السجن.. ليستحيل إلى طائر ابيض يحلّق بين الغيوم.
          الذين يعرفون ذلك العلويّ الشاب، يعرفون حكاية حبّه.. وأصعب شيء على المحبّ أن يهوى حبيباً لا يستطيع له وصلاً.. الذين يعرفونه يعرفون سرّه.. سرّ حبّه لتلك الجارية الوضيئة. لقد خفق قلبه لها، وهو لا يستطيع أن يملكها.. ليس في حوزته مالٌ يكفيه، فقد حطّم هارون الرشيد حياة العلويين، فالعلوي نخلة مِعطاء، فإذا مُنعت الماء تموت، لكنّها تموت واقفة، وقد لا يكتشف المرء ذلك إلاّ فجأة.. لكأنّه « سليمان »
          (32) يموت واقفاً ولا يكشف عن موته سوى دابّة الأرض تأكل مِنسأته..
          كانت سياسة هارون وابنه أن يجوع أبناء عليّ حتّى الموت.. أن يجوعوا فلا هَمّ لهم إلاّ رغيف خبز يتأوّدون به، وأن يَعرَوا حتّى لا يجدوا ثوباً يسترون به أجسادهم.. وأن لا يتزوجوا حتّى ينقطع نسلهم..
          فمن أين لذلك العلويّ ما يمكنه أن يملك تلك الفتاة التي دخلت روحه وخفق لها قلبه ؟
          وفيما كانت قصور الخلافة في بغداد تموج بالجواري الحِسان، كان ذلك الشاب قد خفق قلبه لجارية لا يستطيع أن يتزوّجها، لأنه لا يستطيع أن يملكها فيُعتقها، كان يمرّ في ذلك الزقاق كلّ يوم، وربما تعلّل بما يجعله ينتظر نظرة منها أو إليها ثمّ يعود أدراجه ليذهب مرّة أخرى..
          ولكن ماذا دهاه ذلك الأصيل فأضحى لا يكاد يُبصر طريقه.. لقد أظلمت عليه الدنيا.. أهكذا يفعل الحبّ في النفوس، فإذا غاب وجه الحبيب انطفأت الشمس، وانكدرت النجوم وأَفَل القمر ؟!
          ماذا حصل.. هل وقع لها مكروه ؟.. لم يكن هناك مفرّ من ان يسأل الجيران.
          قالوا له: لقد بِيعت.
          وخفق قلبه كطبلٍ مجنون:
          ـ مَن اشتراها ؟!
          ـ لا نعرف.
          وغامت المرئيّات أمام عينيه، ماذا يفعل ؟ وأين يبحث عنها ؟ وقادته قدماه إلى منزل في المدينة.. فيه قلب ينبض بالحبّ حبّ الناس جميعاً.
          هتف عندما رآه:
          ـ لقد بيعت!!
          كانت صرخة تُلخّص مأساته كلّها، وابتسم محمد قائلاً:
          ـ هل تدري من اشتراها ؟
          قال العاشق بحزن مرير:
          ـ كلا.
          قال الإمام الشاب:
          ـ هَلُمَّ معي.
          فانطلقا.. حتّى إذا وبَلَغا بستاناً مليئاً بالظلال الورافة دخلاه، فإذا منزل مُنيف في وسطه.. منزل يشبه محّارة في الشاطئ.
          ومضى الإمام باتّجاه القصر الجميل.. ظنّ المحبّ أنّ هذه الدار هي لسيّد الجارية الجديد.. فقال:
          ـ وكيف أدخل داراً هي ليست لي ولم يُؤذَن لي ؟!
          ـ أُدخل!
          قالها الإمام بحزم..
          ودخل.. كان المنزل هادئاً، وحانت منه التفاتة فإذا فتاة جالسة كلؤلؤة وخفق قلبه لها، وقال الإمام وقد أشرقت في مُحيّاه ابتسامة:
          ـ أتعرفها ؟
          وأطرق العاشق:
          ـ نعم يا سيدي.
          قال الإمام سعيداً:
          ـ هي لك.. والقصر أيضاً بما فيه وحتّى البستان والغلّة التي فيه... فأقِم هنا
          (33).
          واهتزّ المحبّ.. كمن يخرج من الظلمات إلى النور.. من اليأس القاتل إلى الأمل بالحياة السعيدة.. هتف من أعمق نقطة في قلبه:
          ـ ما أخطأ الذي دعاك جواداً.
          ومضى الإمام خارج القصر وقد تفجّرت ينابيع السعادة في المكان.
          اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


          تعليق


          • #15
            مفاسد الجهاز الحاكم


            بغداد سُكرٌ وعَربَدَة، وقصر الخلافة يموج بالدسائس، والمأمون الذي دانت له الدنيا سكران.. أسكرته السلطة.. كان جالساً وقد حُملت إليه موائد الطعام وفيها ألوان والوان، ومعه وزير مغمور (34)، وقائد الجبهة (35) في معارك أرمينيا.
            المأمون ينظر إلى الحياة كرقعة شطرنج تمتدّ لتشمل كلّ مساحة الأرض يُهيمن عليها، وينظر إلى الناس فيراهم بيادق شطرنج ليس غير.
            أجلس المأمون وزيره الأحول إلى جانبه، فاستعر الحقد في قلب القائد العسكريّ، فقال:
            ـ أنا أكثر من هذا نفعاً لك.. يا أمير المؤمنين!
            قال الأحول وقد تحرك السمّ في داخله هو الآخر:
            ـ يا أمير المؤمنين إنّه يتمنّى خراب مُلكك.
            نهض المأمون وهو ينظر باحتقار، وفي قرارة نفسه أنّ هذا القائد يجب أن يموت... سيُرسل إليه من يُجهض عليه: بختيشوع النصرانيّ
            (36) مختصّ بقبض الأرواح.
            انتقل الخليفة إلى مجلس الشراب وحيداً على غير عادته، وأرسل وراء ابن أكثم.. وما أسرع أن جاء رجل بدَينٌ تفوح منه رائحة الإثم، وتُبرق عينَيه الجاحظتين أشعّة الحمّى.. حمّى الشهوات المحرّمة ـ كان يجتاز أروقة القصر ـ عندما وقعت عيناه على غلام... ضجّت في اعماقه شهوة آثمة، وفَقَد توازنه فاتجه إليه وقرص خدّه بشدّة. وكانت الشهوة تضج في الاعماق المظلمة كشيطان مريد.. وانتبه إلى نفسه فجأة.. ماذا يفعل.. ماذا لو رآه المأمون ؟!
            أسرع الخطى إلى حيث جلس المأمون وأمامه كؤوس الخمر... ودخل الغلام يحمل المزيد.. ورأى المأمون أثر قرصة على الخدّ الأسيل فأدرك القصّة!
            قال مُعرّضاً بابن أكثم:
            ـ أتعرف الذي قال هذا البيت من الشعر:
            قاضٍ يرى الحدَّ في الزناء ولا يرى على مَن يلوط مِن بأسِ!!
            قال القاضي:
            ـ أوَ ما يعرف أمير المؤمنين مَن القائل ؟!
            ـ لا.
            ـ قاله الشاعر أحمد بن نعيم الذي يقول:
            لا احسب الجَور ينقضي وعلى الامة وال من آل عباسِ
            (37).
            وأطرق الخليفة، اشتعلت في أعماقه القصيدة المدوّية:
            أنطقـني الـدهرُ بعـد إخراسِ لـنائبـاتٍ أطلـن وسـواسي
            يا بـؤسَ للـدهر لا يزال كمـا يرفـع ناسـاً يَحُـطّ من نـاسِ
            لا أفـلحـتْ اُمّـة وحُـقّ لهـا بطولِ نُكـس وطـول إنعـاسِ
            ترضى بـ «يَحيى» يكون سائسَها وليــس يحـيـى بـسَـوّاسِ
            قاضٍ يرى الحدَّ في الـزناء ولا يرى على مَن يلـوط مِن باسِ
            يحـكم لـلأمرد الغـريـر على مِثـل جـرير ومثـل عبـّاسِ
            فالحمد لله كيف قد ذهب الـعدلُ وقـلّ الـوفـاء فـي النـاسِ
            أميـرنـا يرتشـي وحاكـمنـا يلوط والـرأس شـرّ من راسِ
            لو صَلُـح الـدين فاستـقام لقـد قام على النـاس كـلُّ مقـياسِ
            لا أحسب الجَور ينقضي وعلى الـ أمـّـةِ والٍ مـن آل عـبّـاسِ
            كان المأمون غارقاً في هواجسه ولكنّه تمتم قائلاً:
            وكنا نُرجّي أن نرى العدل ظاهراً فأعقبـنا بعد الـرجـاء قنـوطُ
            متى تصـلح الدنيا ويصلح أهلُها وقاضي قضاة المسلمين يلوطُ ؟!
            سكت القاضي وفضّل أن ينسحب من المكان، فانحنى مستأذناً، ونظر إليه الخليفة بعينين يطلّ منهما احتقار..
            ومضى ابن أكثم خارجاً، وقعت عيناه على الغلام لكنّه مضى في طريقه ولم يجرؤ على التحرّش به، وكان يلعن في نفسه اللحظة التي دخل فيها قصر المأمون، فهذا الخليفة لا تُعرَف قراراته، والأمور تجري بشكل مرعب، ناس يموتون وناس يُقتلون.. لا يدري أحد كيف ماتوا ولا كيف يُقتلون ؟!
            عندما ولج قصرَ القضاء وجد أُمّة من الناس ينتظرون..
            ابن اكثم يعرف كيف يصرف من لا يريده مذموماً مدحوراً، وطريقته الامتحان أمام الجميع، فإذا وجد الرجل متضلّعاً بالحديث سأله في الفقه، وإذا وجده متعمّقاً بالفقه سأله عن النحو وقواعد اللغة، وهدفه أن يسقط، كان يشعر باللذّة وهو يرى الناس يغادرون المكان وقد دمّرهم اليأس.
            أجال النظر في الرجال وهو يسأل عن الاقليم الذي قدموا منه.. قال أحدهم:
            ـ من خراسان.
            ـ تقدّم للامتحان!
            سأله ابن أكثم عن دقائق اللغة والنحو وكان الخراساني يجيب بطلاقة، وسأله في مشكلات الفقه فألفاه عميق الغور.. لهذا قال له:
            ـ نظرتَ في الحديث ؟
            ـ نعم.
            ـ ما تحفظ من الأصول ؟
            قال الخراساني وهو يسدّد له طعنة نجلاء:
            ـ أحفظ عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث: أن عليّاً رجم لوطيّاً
            (38).
            وشعر القاضي بدويّ الصاعقة... لقد كانت ضربة أقسى مما سمعها اليوم في قصر المأمون.
            وسكت القاضي على مَضَض وانسحب من مجلسه مذموماً مدحوراً!
            اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


            تعليق


            • #16
              من داخل البلاط


              لم يكن يوم « الشَّعانين » (39) عيداً رسميّاً، ولكنّ أكثر أهل بغداد وخاصّة الشباب منهم لا يفوّتون ذلك اليوم، إذ يتوجّه الكثير منهم إلى ضواحي المدينة حيث توجد بعض الأديرة وهناك يستمتعون بمنظر الفتيات وهن يحملن كؤوس الخمرة المُعتّقة ابتهاجاً بذلك اليوم.
              كان الخليفة مأخوذاً هو الآخر بمشهدٍ راقص تؤدّيه عشرون من حسناوات الرومان يحملن أغصان الزيتون وسعفات النخيل، وفي أعناقهن صُلبان ذهبيّة، وكان منظرهن بتلك الثياب الحريرية المزركشة ساحراً.
              المأمون يحتسي منتشياً كؤوس الخمرة، وغمرته حالة النشوة فراح يشدو:
              ظِـباءٌ كالدنـانـيرِ مِلاحٌ في المقاصـيرِ جلاهنّ « السعانين » علينا فـي الزنانـيرِ
              وقد رُزقن أصـداغاً كأذنـاب الزرازيـرِ وأقـبلن بـأوسـاط كأوساط الزنابيرِ (40)
              وانبرى إسحاق الموصليّ فراح يشدو ويداه على الأوتار، فانسابت ألحان طروب وبلغ المأمون ذروة النشوة (41).
              كان المساء قد غمر القصر وقد غادرت الفتيات منذ فترة، ولكن الموسيقى لم تكفّ.. نهض المأمون وهتف بمغنّيه المفضّل:
              ـ هيا يا إسحاق.
              ـ إلى أين يا أمير المؤمنين.
              ـ إلى قصر ابن سهل.
              وادرك إسحاق أنّ الخليفة قد اشتاق إلى زوجته بوران حسناء فارس الفاتنة.
              استوى المأمون على سرير مخمليّ وكان ينتظر بلهفة قدوم بوران، أمّا إسحاق فقد انتحى زاوية وجلس متحفّزاً لتنفيذ أمرٍ ما...
              وجاءت الفتاة الساحرة ترفل بثوب حريريّ شفّاف فبدت كحوريّة.. وجاءت أباريق الخمر المعتّقة وكلّها من مَعاصر « قطربل » المشهورة بالكروم.
              أضاءت وصائف القصر بعض القناديل كما أُضيفت شموع جديدة.. وراحت بوران تتحدّث..بعد أن رحّبت برقّة بالزائر الكريم.. كانت تعرف كيف تُطرب الخليفة لطالما سمعت أباها يوصيها كيف تستأثر بقلب الخليفة من خلال طرائف الأخبار والاشعار، فراحت تروي له حكايات أشبه بالأساطير الجميلة، وتُنشده شعراً رقيقاً.. ربما مسّت أناملها البضّة العود فيتّحد صوتها بالموسيقى المتدفّقة عُذوبة..
              وانتشى المأمون.. حتّى إنّ من يراه يحسبه سعيداً جداً يكاد يطير إلى عالم آخر.
              احتسى ثلاثة أرطال من الخمرة.. هتف..
              ـ يا إسحاق غنِّ لنا لحناً.
              أمّا هو فغاب مع بوران وراء ستائر حريرية ملوّنة.. حاول أن يعانقها ولكنها تملّصت من بين ذراعَيه برشاقة ودلال واختفت وراء أحد الأبواب القريبة..
              ولم يشأ المأمون مطاردتها، لكنه قرّر أن يمتلكها في أوّل فرصة..
              رمى بنفسه فوق سجّادة فارسيّة تشبه مرجاً من الزهور، وسرعان ما راح في نوم عميق..
              رفض إسحاق مغادرة المكان بحجّة ملازمة الخليفة حتّى الصباح.
              وأصدرت عجوز تدير شؤون القصر بعض الأوامر للجواري لترتيب مبيت الخليفة، كما ضوعفت قوّة الحراسة للقصر الذي تشبه جدرانه العالية قلعةً حصينة.
              فُوجئ إسحاق بوصيفة حسناء تقول له:
              ـ إن سيدتي تريدك حالاً.. وتقول لا تنسَ العود.
              ونهض إسحاق مأخوذاً.. سوف يسعد بمنادمة حسناء القصر وزوجة الخليفة..
              ودخل مغنّي الخليفة غرفة واسعة تطلّ على حدائق القصر على ضفاف دجلة.. كانت جالسة كعروس البحر.. بين يديها أطباق فاكهة وباقات الزهور..
              ملأت قدحاً وناولته إسحاق.. وملأت لنفسها قدحاً وقالت: غنِّ يا موصليّ! هذا أوان المذاكرة والأخبار.
              واندفع إسحاق يروي لها الحكايات الممتعة والأخبار الطريفة، وكانت عيدان البخور الهنديّ تعبق برائحة زكيّة..
              أخذت بوران العود وراحت تغنّي بصوت كخرير الجداول، وكانت تمسّ العودَ برقّة فيتدفّق نغم ساحر يتناغم مع صوتها الأخّاذ..
              وفوجئ إسحاق أنّها تحفظ كثيراً من ألحانه، ومرّت ساعات الليل كطيور مسافرة.. وجاءت المرأة العجوز لتقول:
              ـ إنّه الفجر قد طلع.
              ونهضت بوران ثم ألقَتْ نظرة إلى إسحاق وقالت:
              ـ استُر ما كان منا فإنّ المجالس بالأمانات.. ولك مثلها غداً وبعده.
              اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


              تعليق


              • #17
                شاعر ثائر.. وحوار


                دخل الشاعر الثائر ـ وهو يتوجّس خيفة ـ قصرَ الخليفة.. في البهو المؤدّي إلى البلاط صادفه رجل كبير الرأس عيناه تقدحان شرراً، يرتدي لباس الأمراء بالرغم من ملامحه التركيّة، وتساءل: « دِعْبِل » تُرى من يكون ؟
                كان المأمون جالساً عندما دخل الشاعر، ونظر إليه المأمون طويلاً، ولعلّه تساءل عن تلك الروح التي تموج في أهاب هذا الانسان الذي فضّل حياة التشرّد على الدَّعة.. بإمكانه أن يعيش حياة ملؤها الترف والبذخ لو أنّه مدح العبّاسيين..
                التفت المأمون إلى قاضي القضاة وقال له:
                ـ هذا دعبل الخزاعيّ!
                ـ ومن لا يعرفه يا أمير المؤمنين!!
                قال المأمون وهو قد حرص أن تكون لهجته هادئة:
                ـ أما تزال شاكّاً يا دعبل ؟
                ـ ماذا يقصد الخليفة ؟!
                ـ أنسيت قصيدتك بهذه السرعة ؟!
                وتظاهر الشاعر بأنّه لا يدري شيئاً.
                قال المأمون:
                فمن قائل هذا البيت:
                شككتُ فما أدري أمَسقيّ شربةٍ
                فأبكـيكَ أم ريبَ الرَّدى فيهونُ ؟!
                قال دعبل:
                ـ الناس يقولون أشياء كثيرة.
                ـ أي ناس ؟ لعلّك تقصد أهل قُم ؟
                واشتعلت في ذهن الشاعر ذكريات (42) جميلة يوم مرّ بتلك المدينة الطيّبة أهلها..
                أعادت كلمات المأمون إلى نفسه:
                ـ وسيأتيك من أخبارها ما يسرّك.. والآن إليّ برائيّتك. وانتفض دعبل:
                ـ أيّة رائيّة يا أمير المؤمنين ؟!
                ـ أتجحدها يا دعبل وأنا أحفظها بيتاً بيتاً! لكنّي أودّ أن أسمعها منك.
                ـ والأمان ؟
                ـ لقد فعلت ذلك.
                وانطلق الشاعر المشرّد يشدو بقصيدة مطاردة:
                تأسّفَتْ جارتـي لما رأت زَوَري
                وعـدّت الحِـلمَ ذنبـاً غيرَ مُغتفَرِ
                ترجو الصِّبا بعدما شابت دوائبُها
                وقد جرت طلقاً في حَلبة الكِـبَرِ
                أجارتـي إنّ شيب الدهر يعلمني
                ذِكر المَعاد وأرضـاني عن القدرِ
                تعمّد المأمون أن يهتف بالقاضي:
                ـ يا يَحيى، انظر هل وصل صِهري « ابن الرضا »:
                ونهض ابن أكثم مجتازاً الرواق الذي يفضي إلى بهو كبير.. حيث يجلس بعض الشخصيات التي تنتظر إذن الدخول على الخليفة..
                عاد قاضي القضاة أدراجه.. ما تزال هناك فرصة للهجوم على هذا الفتى الذي يهدّد البيت العباسي بأسره.. لقد أصبح مركزه في خطر إذا لم يتلافَ ما حدث قبل سنوات.. ما يزال رجال البيت العبّاسي يعلّقون الآمال، هتف في نفسه:
                ـ يا ويلي إذا لم أغلبه..
                عندما ولج البلاط كان الشاعر ما يزال يترنّم بقصيدته المتأجّجة غضباً:
                لم يبق حيٌّ مـن الأحياء نَعلـمه
                مـن ذي يَمانٍ ولا بَكْر ولا مُضَرِ
                إلاّ وهـم شـركاءٌ فـي دِمائـهمُ
                كـما تشـارك أيسـارٌ على جزرِ
                قَتْلاً وأسـراً وتخـويفـاً ومَنهـبة
                فِعلَ الغُـزاة بأهـل الروم والخَزرِ
                أرى أُميّـةَ معـذورين إن قتـلوا
                ولا أرى لبـني العبّاس من عُـذُرِ
                وتوقّف الشاعر يلتقط أنفاسه، ثمّ هدر قائلاً:
                إربِع بطُوسٍ على قبر الـزكيّ بـها
                إن كنـتَ تـربع من دينٍ على وَطَرِ
                قبران في طوس: خير النـاس كلّهمُ
                وقبر شرّهم.. هـذا من العِبرِ! (43)
                ما ينفع الرِّجسَ من قُرب الزكيّ ولا
                على الزكيّ بقربِ الرِّجس من ضَرَرِ
                هيهاتَ كلُّ امرئٍ رَهْـنٌ بما كسبت
                لـه يـداه.. فخُـذ مـذاك أو فَـذَرِ
                وانفجر المأمون لكنّه عرف كيف يستثمر هذه اللحظات إعلاميّاً.. ضرب بعمامته الأرض وهتف:
                ـ صدقتَ والله يا دعبل! (44)
                وفي ذلك المساء كان القدر ينسج لقاءً آخر بين الفتى المعجزة وبين أعلى شخصية علميّة في البلاد.. ما يزال ابن أكثم يتذكّر كلّ تفاصيل اللقاء الذي حصل قبل سبعة أعوام.. من أجل هذا كان ابن أكثم قاضي القضاة ينتظر يوم الثأر.. لقد أخفق في الفِقه وهُزم هزيمة ساحقة..
                من أجل هذا فكّر في سلاح أمضى... سلاح الحديث... المجلس يكتظّ بشخصيّات الحُكم وأعيان البلد، وقد جلس الإمام في وقار... فتىً امتلأت نفسه بالحقيقة الكبرى.. إنّه لا يرى الأشياء إلاّ على حقيقتها وجوهرها... الظامئون وحدهم يرون السراب فيظنونه ماء.. أمّا الذي ارتوى من الكوثر فلا يخدعه السراب.. والذي اكتشف سرّ الوجود وسمع خُطاه وهو يتحرّك صوب غايته، لن يُصغي إلى ضوضاء الطبول.
                قال الذي أحل ما حرّم الله:
                ـ ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي رُوي: أنّه نزل جبرئيل على رسول الله وقال: يا محمّد إنّ الله عزّوجلّ يقرئك السلام ويقول لك.. سَل أبا بكر هل هو عنيّ راض ؟! فإني عنه راض!
                قال الذي أُوتي علم الكتاب:
                ـ يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مِثال الخبر الذي قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع: « قد كَثُرت عليَّ الكذّابة وستكثر، فمَن كذب علَيَّ متعمّداً فليتبّوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسُنّتي، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخُذوه، وما خالف كتاب الله وسُنّتي فلا تأخذوا به.. ».
                وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله؛ قال الله تعالى: ولقد خلَقْنا الإنسانَ ونعلمُ ما تُوسوسُ به نفسُه، ونحن أقربُ إليه من حَبلِ الوريد » (45)، فالله عزّوجلّ خفي عليه رضى أبي بكر من سخطه حتّى سأل مكنون سرّه! هذا مستحيل في المعقول.
                قال يَحيى: لقد رُوي: « إنّ مَثَل أبي بكر وعمر في الأرض كمَثَل جبرئيل وميكائيل في السماء ».
                قال الإمام:
                ـ وهذا أيضاً يجب أن يُنظَر فيه؛ لأنّ جبرئيل وميكائيل مَلَكان مقرّبان لم يعصيا الله قطّ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، أمّا هما « أبو بكر وعمر » فقد أشركا بالله عزّوجلّ وإن أسلما بعد الشرك، وكان أكثر أيّامهما في الشرك بالله، فمَحالٌ أن يُشبَّها بهما.
                قال يحيى:
                ـ وقد روي: « أنّهما سيّدا كهول أهل الجنة » فما تقول في ذلك ؟
                ـ هذا مستحيل أيضاً، لأن أهل الجنة كلّهم يكونون شباباً ولا يكون فيهما كهل.. وهذا خبر وضعه بنو أمية ضدّ الخبر الذي قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله في الحسن والحسين بأنهما سيّدا شباب أهل الجنة.
                قال يحيى:
                ـ وقد روي أيضاً: « انّ عمر بن الخطاب سراج أهل الجنّة »!
                قال الإمام:
                ـ وهذا أيضاً محال، لأن في الجنة ملائكةَ الله المقرّبين وآدمَ ومحمّداً وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضيء بأنوارهم حتّى تضيء بنور عمر ؟!!
                قال يحيى:
                وقد رُوي « أنّ السَّكينة تنطق على لسان عمر »؟
                قال الإمام:
                ـ لكنّ أبا بكر وهو أفضل من عمر قال على المنبر: « إنّ لي شيطاناً يعتريني فإذا مِلتُ فسَدِّدوني ».
                قال يحيى:
                ـ لقد رُوي أن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: « لو لم أُبعَث لبُعث عمر » ؟
                قال حفيد محمّد:
                ـ كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله سبحانه: وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقَهم ومنك ومن نوح (46) فقد أخذ الله ميثاق النبيّين. فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه ؟!! والأنبياء لم يُشركوا بالله لحظة واحدة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « نُبِّئت وآدمُ بين الروح والجسد ».
                قال يحيى:
                ـ وقد رُوي أيضاً: « ما احتبس الوحيُ عنّي قطّ إلاّ ظننتُه قد نزل على آل الخطاب »!
                قال الذي أتاه الحكم صبيّا:
                ـ هذا محال أيضاً؛ لأنه لا يجوز أن يشكّ النبيّ صلّى الله عليه وآله في نبوّته، قال الله تعالى: الله يصطفي من الملائكة رُسُلاً ومن الناس (47) فكيف يمكن أن تنتقل النبوّة ممّن اصطفاه الله تعالى إلى مَن أشرك به ؟ ؟!
                قال ابن اكثم وهو يلقي آخر حباله:
                ـ روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: « لو نزل العذاب لما نجا منه إلاّ عمر » ؟
                قال الفتى السيّد:
                ـ وهذا محال أيضاً، إنّ الله تعالى يقول: ما كانَ اللهُ ليُعذّبَهم وأنتَ فيهم وما كان اللهُ مُعذّبَهم وهم يستغفرون فأخبر سبحانه أنّه لا يُعذِّب أحداً ما دام رسول الله فيهم، وما داموا يستغفرون الله تعالى.
                وهُزم القاضي.. ليكون هذا اللقاء بداية النهاية لمجدٍ نهض على جرف هارٍ فانهار به.
                اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                تعليق


                • #18
                  العُرس

                  لم تكن بغداد على استعداد أن تشهد مراسم زواج سيّد البيت العلوي من ابنة الخليفة العبّاسي، فمثل هذه الخطوة ستكون مغامرة لا تُعرف عواقبها..
                  العبّاسيون في بغداد ناقمون، والمأمون وحده ينظر إلى الأُفق البعيد فيرى المدن الإسلاميّة تتأهّب للثورة.. وما حصل في قُم قبل أسابيع تطوّرٌ خطير، فهذه المدينة تدين بالولاء لعليّ وأبناء عليّ.
                  ولكن ما الذي جعل هذا السيّد العلويّ الذي تخفق له قلوب الملايين بالحبّ.. ما الذي جعله يوافق على فكرة المصاهرة ؟
                  إنّ هذا الشاب كأسلافه ينظر إلى المَدَيات البعيدة، ولقد آن للجُرح الشيعي النازف أن يهدأ قليلاً.. آن للمشرّدين من أبناء علي أن ينعموا بقِسط من الراحة.. آن لهم أن يلتقطوا أنفاسهم دون خوف.. وهل هناك من يصنع لهم هذه الظِّلالَ الوارفة المفعمة بالأمن والحريّة والسلام غير زواج إمامهم من ابنة الخليفة ؟ سيكون له من النفوذ الرسميّ في الدولة ما يمنع الذئاب العبّاسية من التهام لحوم الأبرياء.
                  ولكن محمّداً ليس من أولئك الذين تبهرهم مظاهر الحكم والسلطة والنفوذ، ولا من الذين يخطف الذهب عيونهم وعقولهم.. فلقد ظلّ هو هو محتفظاً بتوازنه في زمن الويلات والزلازل والانحطاط... ها هو يشقّ طريقه في بغداد متّجهاً إلى تكريت: المكانِ الذي انتخبه الخليفة لزفاف ابنته..
                  الجماهير ـ وخاصّةً الفقراء ـ تحتفّ بهذا الشاب المَدَنيّ الذي لا يرى للذهب ميزة أَعلى من الحجر.. جنود مُسلّحون يحرسون موكبه بناءً على أوامر من الخليفة، فقد يرتكب عباسيٌّ ما حماقةً ويُقدم على اغتياله، أو يدسّ له أحدَ « العيّارين »
                  (48) لاغتياله مقابل مبلغ من المال. وفي مدينة مثل بغداد حيث المال معبود الناس.. كلّ شيء ممكن أن يحصل وفي أيّة لحظة..
                  الشاب العلويّ يَهَب الفقراء المال والأمل.. الأمل بوجود قَدْر من الانسانية في عالم تعوي فيه الذئاب بعد أن غابت شمس المحبّة..
                  وغمغم رجلٌ رأى مجده وهو يراقب موكبه المهيب:
                  ـ لن يعود ابن الرضا إلى وطنه... في هذه النعمة وهذا البذخ ينسى الانسان أشياء كثيرة.
                  وعندما صار العلويّ المدنيّ قريباً من الرجل خاطبه وقد قرأ ما اشتعل في خاطره:
                  ـ يا حسين! خبز الشعير ومِلح الجَريش في حَرِم جدّي رسول الله أحبُّ إليّ مما تراني فيه.
                  وهتف حسين وقد هزّته الكلمات:
                  ـ الله أعلَمُ حيث يجعلُ رسالتَه!
                  السفن الشراعية تمخر مياه دجلة الغِرْيَنيّة باتجاه الشمال وهدفها تكريت. فشخصيّات بغداد وأهل النفوذ فيها ممّن يهمّهم رضى المأمون يحرصون على حضور مراسم الزواج، فقد تقرّرت ساعة الزفاف في قصر على شطآن دجلة.
                  كان قصر أحمد بن يوسف يتألّق تلك الليلة من شهر صَفَر الخير سنة 210 هـ.
                  الصباح يغمر المكان بأشعته الذهبيّة، و « الهاشميّ » الذي وصل تَوّاً يلج القصر لأداء كلمات التهنئة بالزواج.. كان الرجل يشعر بالعطش بعد أن تناول في ليلته الفائتة دواء فجّر في قلبه شعوراً رهيباً بالعطش...
                  ولكن ما باله وقد تيّبست شفتاه يطلب كأساً من المياه الباردة ؟؟
                  إنّه لا يريد أن يموت، فالعريس قد يُدَس له سمّ في أيّة لحظة ويقضي نحبه.. إنّه يعرفَ ألاعيب ساسة بني العبّاس، سوف يتحمّل الظمأ من أجل أن يبقى حيّاً.. عندما يغادر القصر سيشرب دجلة كلّها حتى يرتوي..
                  تأمّل الإمام ضيفه الظامئ وقال:
                  ـ أراك عطشاناً ؟
                  ـ أجاب متوجّساً:
                  ـ أجل.
                  نادى الإمام على غلام:
                  ـ يا غلام، اسقِنا ماءً.
                  قال الرجل في نفسه وقد غمرته حالةٌ من الأسى: سوف يأتون بماء مسموم
                  (49).
                  قرأ الإمام خلجات الرجل الخائف فخاطب الغلامَ الذي جاء يحمل الماء:
                  ـ ناوِلْني الماء.
                  وراح الإمام يرتشف من الماء، ثمّ ناوله لضيفه الذي شعر بالطمأنينة.
                  ومرّ وقت، واشتعل الظمأ مرّة أُخرى فهتف الإمام بالغلام ليأتي بالماء.. فارتشف منه قليلاً وسلّمه إلى ضيف ليشربه بهناء.. وارتوى الضيف ماءً قَراحاً.
                  وكانت نفسه تمتلئ إجلالاً لهذا الشاب العلويّ الذي يضحّي بنفسه حفاظاً على ارواح الآخرين.. ولكنّه ظلّ طوال الوقت يتساءل: هل حقّاً ما يقوله الشيعة بإن الإمام يعرف خلجات النفس ؟! أمر عجيب حقاً!!
                  وفي الأثناء دخل رجل مهنّئاً:
                  ـ لقد عَظُمت علينا بركة هذا اليوم.
                  ردّ الإمام وقد تفجرت الحكمة بين جوانحه:
                  ـ الله وحده مصدر البركات... فقُل: عظمت بركات الله علينا فيه.
                  قال الرجل.
                  ـ والأياّم، ماذا أقول فيها ؟
                  ـ قُل فيها خيراً تلقى خيراً.
                  ـ لن أخالف ذلك يا سيدي.
                  ـ اذن ترشد ولا ترى إلاّ خيراً
                  (50).
                  وغمرت أشعةُ الصباح البهوَ، وكانت مياه دجلة تتألّق تحت الضوء الغامر وهي تندفع باتّجاه بغداد.
                  اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                  تعليق


                  • #19
                    في طريق السفر


                    انصرمت الأيّام والأسابيع والشهور.. مضت تتدافع مع مياه دجلة الغِرْيَنية وهي تنطلق إلى بغداد ومنها إلى البصرة فالخليج. وأطلّ ذو القعدة بهلاله كزورقِ أملٍ، وجاشت في النفوس هواجس الرحيل.. الرحيل إلى البيت العتيق..
                    وشهد دجلة تلك الايام زوارقَ تنساب مع الأمواج من تكريت إلى بغداد، فالإمام ينوي الرحيل.
                    العبّاسيون يتنفسون الصُّعَداء وهم يَرَون محمّد الجواد يغادر العراق.. الشمس تجنح للمغيب وبغداد تودّع ابن الرضا. كان موكبه يسلك سكّة الكوفة المؤدية إلى باب الكوفة، والجماهير تحتفّ به تتطلّع إلى انسان هو ابنٌ لمحمّد صلّى الله عليه وآله، وكان بعضهم يتمتم: حاشا لله، ما هذا بَشَراً إن هذا إلاّ مَلَك كريم..
                    ها هو يمرّ بدار المسيّب.. ويترجّل السيّد العَلَويّ عند المسجد.. يلج بوقار باحَته وما تزال الجماهير تحتف به..
                    كانت شجرةُ نَبْق تنشر أغصانها فوق أرضيّة المسجد الظليل. تقدّم الذي مَسّته السماء إلى جذعها.. ومن كُوزِ مُلئ بمياه دجلة انثالت المياه على الوجه الأسمر وعلى اليدَين إلى المرفقَين، وكانت المياه وهي تتساقط تغور عند جذع النبقة إلى حيث أعراقُها والجذور... ووَلَج السيّد العَلويّ حرمَ المسجد ليؤمّ الجموع التي اصطفّت خلفه. وانبثقت ينابيع الصلاة كما أرادها الله.. وفاحت كلمات الحمد والإخلاص والنصر كعبيرٍ قادم من جنّات الفردوس..
                    انتهت الصلاة وغادر الإمام حرم المسجد، حتّى إذا مرّ بالنبقة اهتزّت ورَبَت وأثمرت نبقاً طيباً!
                    مباركٌ اسمُك يا ابن محمّد، مبارك اسمك يا محمّد، مباركة كفّك والمياه التي تساقط من جبينك تستحيل إلى فاكهة يأكل منها الناس
                    (51).
                    الطريق إلى مكّة يمرّ بأودية كثيرة وقرى، والجادّة التي تنطلق فيها قافلة السيّد العَلويّ هي جادّة الحجّ الاكبر، والنداء الإبراهيمي يدوّي في أُذن الاجيال..
                    وولّى الإمام وجهه شَطر المسجد الحرام وقلبُه يتّجه إلى الفضاء اللامتناهي، وقد اضطرمت الحقيقة الكبرى فيه، وكلمات كنبع يتدفّق بأمل تنساب من فوق الشفاه:
                    ـ يا مَن لا شبيه له ولا مِثال..
                    أنت الله لا اله إلاّ أنت..
                    ولا خالقَ إلاّ أنت..
                    تُفني المخلوقين وتبقى..
                    حَلمتَ عمّن عصاك..
                    وفي المغفرةِ رضاك..
                    (52)
                    القافلة تطوي الأودية في طريقها إلى البيت العتيق، وفي موسم الحجّ الأكبر شوهد الإمام يطوف حول أوّل بيت وُضِع للناس، يستلم الرُّكن اليَمانيّ في كلّ شوط، ثمّ مسّ الحَجر الأسود بكفّه يمسح وجهه بها، حتّى إذا وصل إلى مقام إبراهيم صلّى خلفه ركعتَين، ثمّ قبّل جدران الكعبة الجنوبيّة وكشَف عن صدره وشرع كفّيه إلى السماء، وقد بَدت جدرانُ الكعبة تمسّ السماوات، وكلماتُ الدعاء تنثال كنبعٍ بارد. ثمّ انطلق إلى بئر زمزم فارتشف من مائها، وأرخى الدلو مرّة أخرى ليصبّ على رأسه قدراً من المياه التي نَبَعت عند قدمَي إسماعيل... ثمّ راح يطوف مرّة أخرى كفراشة تدور حول شمعة أو قنديل... زجاجة هي الكعبة فيها مصباح يُوقَدُ من شجرة مباركة لا شرقيّةٍ ولا غربيّة يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار.. نورٌ على نور..
                    انطوى موسم الحجّ وانطلقت القافلة إلى الشمال نحو مدينة النخيل.. حيث تظلّل سعفاتُها ضريحَ آخر الانبياء في تأريخ الإنسان.
                    حطّت القافلة رِحالَها في الطريق.. وبركت النُّوق تلتقط أنفاسها في الصحراء.. صحراء يسيح فيها البصر حتّى تلتقي سُمرة البَيداء مع أفق السماء..
                    أعظم ما في الإنسان أنه يختصر العالم بأسره.. أعجب ما فيه عيناه اللتان تطويان المرئيّات على اتّساعها.. وأسمى ما فيه ذلك الجزء النابض في صدره كيف يتفتّح ليستغرق الوجود، كيف تتفجّر فيه ينابيع الحبّ.. حبّ الحياة والوجود..
                    ومُدّ الخوان ليجلس الجميع إلى المائدة، لا فرق بين عربي وأعجميّ، وبين صهر الخليفة وفتىً أفريقيّ.. لقد وسع الجميع قلبُ الإنسان الذي مسّته السماء.. حتّى إذا شبعوا وأراد الغلام جمع فتات الطعام قال الإمام:
                    ـ ما كان في الصحراء فدَعْه ولو فخذ شاة، وما كان في البيت فتتبّعه والْقَطه
                    (53)..
                    وتعلّم الغلام ثقافة الإسلام، فالطعام في الصحراء يبقى فهناك الطيور والحيوانات التي تبحث عن رزقها..
                    أمّا الطعام في البيت فله آداب غير آداب الأكل في الصحراء..
                    وقال له رجل:
                    ـ إن حاكم سجستان جُعِلتُ فِداك يَتولاّكم أهلَ البيت ويحبّكم..
                    وعلَيَّ في ديوانه خَراج، فإن رأيتَ جَعَلني الله فِداك أن تكتب إليه بالاحسان إلي؟
                    ـ ما اسمه ؟
                    ـ الحسين بن عبدالله النيسابوريّ.
                    ـ إنّني لا أعرفه.
                    ـ جُعِلت فداك، إنّه يعرفكم ومن محبّيكم أهل البيت، وكتابُك ينفعني..
                    وكتب الإمام:
                    بسم الله الرحمن الرحيم

                    « أمّا بعد، فإن مُوصل كتابي هذا ذَكر عنك مذهباً جميلاً.. وإنّ ما لك من عملك إلاّ ما أحسنتَ فيه فأحسِن إلى إخوانك..
                    واعلَمْ أن الله عزّوجلّ سائلك عن مثاقيلِ الذرّة والخَردَل »
                    (54).
                    وانطلقت القافلة تطوي الأودية.. حتّى إذا وصلت إلى المدينة وجد فيها أُمّة يبكون، قال:
                    ـ ما خَطْبُكم ؟
                    أجاب الحجيج بضراعة:
                    ـ نُهِبت أموالنا وأُخِذ متاعنا.. دَهَمنا اللصوص وقطّاع الطرق وجرّدونا من كل شيء.
                    والتف الإمام إلى موفّق:
                    ـ أعطِهم كساءاً وما يحتاجون من المال. وعادت الابتسامة إلى الوجوه الحزينة
                    (55).
                    اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                    تعليق


                    • #20
                      حفلة زواج المأمون

                      أُعلن عن موعد زفاف بُوران حسناءِ فارس وأثرى عروس في بغداد، كان المأمون قد عاد توّاً من الشماسية حيث بدأ العمل في بناء مرصد فَلَكيّ فيها.. وكان يحمل معه رقعة مطويّة.. نشرها وراح يحدّق فيها وقد ظهرت فيها البقاع الواسعة التي تدين له بالطاعة، ولم تكن الرقعة سوى أول خريطة صنعت للعالم حملت اسمه
                      (56)..
                      وُجِّهت الدعوات الرسميّة لعشرات الشخصيّات، وبدأ توافدها من كلّ أنحاء البلاد. وكان قصر المأمون الجديد كصَدَفة عملاقة تتألّق بآلاف اللآلئ.. سبعة آلاف صبيّة وثلاثون ألف صبيّ
                      (57) يدورون ويدورون كالفَراشات على أرض خضراء في قصر مَهيب يحسبه المرء من بِناء الجنّ.
                      وكانت أروقة القصر مزيّنة بتصاوير من الذهب وتماثيل الرخام الشفّاف، وكانت الموسيقى تصدح ذلك المساء، ولم تكفّ إلاّ بعد بدء توافد شخصيات الدولة، وكان الخليفة قد أعدّ استقبالاً خاصاً لصِهره الذي عُرف عنه تقواه حتّى عُرف بالتقيّ..
                      تُرى ما الذي يريده المأمون من وراء ذلك الاستقبال.. كيف يوصد هذا الشاب في مثل هذا السن قلبه أمام الحياة اللاهية ؟!
                      ـ أمر عجيب ؟! لقد حيّرني ابن الرضا..
                      قالها المأمون بعد أن أطربه « مخارق » بصوته الشجيّ.
                      قال المغني:
                      ـ أنا أكفيك أمره!
                      ولمّا أعلن الحاجب عن قدوم صهر الخليفة كان المأمون قد أصدر أوامره باجراء استقبال خاص.. إذ اصطفّت مئة حسناء تبهر العقول بجمال خلاّب وقفن كالزهور وفي أيديهن كؤوس بلوريّة ملأى بالجواهر والأحجار الكريمة..
                      وجاء الشاب الذي اتّقى الله فملأ قلبه بالحبّ الحقيقيّ..
                      اجتاز الطريق ثابتاً قوياً تقياً لا يرى في كلّ هذا الحُسن الخلاّب سوى سراب يحسبه الظمآن ماء، ليس في كل ما يرى جَمال حقيقيّ... ليس هناك من ألق صادقٍ في هذه النفوس المنطفئة..
                      والذين يكتشفون الجمال الحقيقيّ لن يلتفتوا إلى البريق الكاذب مهما خلب الأبصار.
                      وعندما استوى الشاب في مكانه المخصص له أومأ الخليفة لمغنيه: لقد حانت اللحظة المناسبة..
                      جلس مخارق وقد مسّت لحيته الطويلة الشعثاء خيوط عوده الهنديّ..
                      أطلق آهته الآسرة وشهق شهقته المعروفة وانطلق يغنّي بصوته الطروب الذي كان يندمج مع موسيقاه الساحرة.
                      كان الشاب الذي اتّقى فآتاه الله الحكمة يحدّق في نقطة ما على أرضيّة البلاط.. الله وحده الذي يراقب الأعماق.. كان الجميع يتمايلون يميناً وشمالاً وقد أسرتهم الأصوات الساحرة التي تنطلق من الأوتار..
                      أمّا محمّد فقد بدا ساكناً ثابتاً كنقطة معمورة بالطمأنينة الخالدة... رفع الإمام رأسه ونظر إلى تلك اللحية التي بدت كخيوط العنكبوت وقال مخاطباً الساحر:
                      ـ اتّقِ الله ياذا العُثنون!
                      أمر عجيب.. الكلمات الواثقة المفعمة بتقوى الله تنفذ في قلب مخارق... تشلّ كل جوارحه ويديه الشيطانيتَين.. سقط المضراب من يده وسقط العود الهنديّ.. وظل ينظر ببلاهة إلى من حوله.. لقد انقلب السحر على الساحر وتجلّت كرامة الإنسان التقيّ
                      (58).
                      ظلم يسمح المأمون لهذا المشهد المدمّر بالاستمرار، إذ جاء حرس غلاظ حملوا مخارق وخيوطه وعصيّه واستُؤنفت مراسم الزواج، وكانت الجواري كالأقمار والغلمان يدورون كفراشات في يوم ربيعيّ، وقد امتلأ الفضاء بأريج العطور وعبير الأزهار.
                      ولكن ما الذي جعل هذا الشاب المدنيّ يدير وجهه عن هذه الدنيا الزاخرة بالمتع واللذائذ ؟! ما الذي جعله يولّي وجهه شطر المسجد الحرام كلّما وجد فرصة لذلك ؟!
                      لقد ملأت الحقيقة الكبرى وجوده فلم يعد يشاهد غيرها ولا يشعر بالسكينة إلاّ بالاندماج فيها والاندكاك معها.
                      ليس في كلّ هذا البهرج البرّاق من الدنيا سوى الزيف.. سوى زَبَد الحياة.. وإنّ القلب المُفعَم بالحبّ الإلهي لَهُوَ الحياة الحقيقيّة.
                      كان الخليفة غارقاً حتّى هامته بالملذّات.. لقد أسكرته نشوة المُلك وهذه الحسان يرقصن بين يديه..
                      ونهض الذي ناهز الأربعين ليدخل على زوجته الجديدة بوران.
                      كانت حسناء فارس جالسة فوق بساط منسوج من الذهب، فجلس إلى جانبها، وجاء أبوها وقد أوتي من الكنوز ما ضاقت بها خزائنه فنثر عليهما ثلاثمئة لؤلؤة وزن الواحدة منها مثقال، واستقرت اللآلئ المتساقطة فوق البساط الذي تألّقت فيه الألوان، وكان منظراً يخطف بالابصار.. مدّ العريس يده والتقط لؤلؤة وقال:
                      ـ لكأنّ أبا نؤاس شاهد مجلسنا هذا عندما قال يصف الخمر:
                      كأنّ صُغرى وكبرى من فواقعها حَصباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذهبِ
                      وكان جواري القصر يرقصن والسيدات ينظرن إلى بوران العروس التي بلغ مهرها مليون دينار (59).. وفيما كانت ليلة زفاف الخليفة تتوهّج بالذهب وتتألّق باللؤلؤ كانت هناك مدينة في الشرق تئنّ تحت وطأة ضريبة الخراج التي تكاد تحلب دماءهم.
                      اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                      تعليق

                      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                      حفظ-تلقائي
                      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
                      x
                      يعمل...
                      X