المصاهَرة
كان بلاط الخلافة في ذلك الضحى يموج بالجماهير.. الجميع يترقّبون اللحظة المصيريّة.. العبّاسيّون كانوا متأكّدين من الفوز الساحق.. الفوز الذي لن يُبقي لمنافسيهم من العلويّين وقواعدهم الشعبيّة أيّة ركيزة في الدفاع بعد اليوم.. الإمام هو أعلم أهل زمانه، فإذا انهارت هذه المقولة عندها سينهار الصرح الإماميّ بأسره..
كانت هناك عشرات القلوب المتوجّسة من هذا الصراع والنِزال، والأمرّ من كلّ ذلك أن يُهزم هذا الفتى السيّد الوقور على يد رجل لا يستحي من شيبته وهو يقترف أعمال قوم لوط!
غصّت القاعة بالناس الوافدين وفيهم الكثيرون من أعلام الفكر، كان المأمون قد أمر بان يُفرش لصهره المنتخب دستٌ تحفّه وسائد عن اليمين وعن الشمال، وأخذ الفتى الأسمر مكانه متواضعاً ينظر ببراءة وطُهر إلى الناس.. عيناه تشعّان بالأمل والايمان.. لقد كان منظره آية من آيات الله.
في هذا العالم الذي يعجّ بالفساد والشرور... تتنفّس روحٌ مسّتها السماء فكانت رمزاً للطُهر والنقاء.
هيمن صمت مَهيب، وكانت العيون تتّجه نحو نقطة في جوار المأمون.. ونظر ابن أكثم إلى الخليفة، وهزّ المأمون رأسه موافقاً.. لقد بدأت اللحظة المصيريّة، وقال قاضي القضاة بلهجة فيها تكلّف:
ـ أتأذن لي جُعلت فداك في مسألة ؟
وأجاب الذي عنده عِلم الكتاب:
ـ سَل إن شئت.
وهنا ألقى ابن اكثم سؤاله وحباله:
ـ ما تقول يا ابا جعفر في مُحرِمٍ قَتَل صيداً.
ما هو موقف الشريعة من انسان ارتدى لباس الاحرام في الحجّ ثمّ قتل حيواناً ؟
كان السؤال ذكيّاً جداً، فهو وأن بدا في ظاهره بسيطاً، لكنه ينطوي على مزالق كثيرة، والاجابة عليه تعني السقوط في الفخّ! ومن ثَمّ الانقضاض عليه.
وحَبست الحشودُ أنفاسها... إنّ مصير الإمامة بل المجد العلوي بأسره كله معلّق بين شفتَي ذلك الفتى الأسمر. وجاء الجواب:
أسئلةٌ مدوّية تكشف عن عقليّة فذّة وعبقريّة ليست مُستمَدّة من عناصر التراب:
ـ هل قتله في الحرم المكّي أم خارجه ؟
هل كان عالماً بحُرمته أم جاهلاً ؟
قَتَله عَمداً أو خطأ ؟
هل كان القاتل صغيراً أم كبيراً ؟
هل كان عبداً أم حُرّاً ؟
مُبتدئاً بالقتل كان أم مُعيداً ؟
هل كان الصيد من الطيور أو غيرها ؟
هل كان الصيد صغيراً أم كبيراً ؟
أكان القاتل مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟
هل فعل ذلك ليلاً أم نهاراً ؟
هل كان مُحرِماً للحجّ أم للعُمرة ؟
وبُهت القاضي.. كان سيل الاسئلة من القوّة بحيث يكتسح كلّ مَن يحاول الجدل..
وتألّقت شمس الحقيقة.. الحقيقة التي أُريدَ لها أن تنطفئ.. كان الصمت معبّراً..
التفت المأمون إلى الفتى السيّد قائلاً:
ـ أتخطب يا أبا جعفر.
وأطرق الفتى برأسه حياءً
أردف المأمون:
ـ اخطب جُعِلت فداك لنفسك فقد رضيتُك، وأنا مزوّجك ابنتي أمَّ الفضل!.. حتّى لو رُغم قوم لذلك.
نهض الفتى الأسمر ليقول بصوت هادئ:
ـ الحمد لله إقراراً بنِعمته، ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوَحدانيّته، وصلّى الله على سيّد بَرِيّته، والأصفياء من عِترته..
أمّا بعد.. فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: وانكحوا الأيامى منكم والصالحين مِن عبادِكم وإمائِكم إن يكونوا فقراءَ يُغنِهم اللهُ مِن فضله واللهُ واسعٌ عليم ..
ثمّ إنّ محمّد بن علي بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبدالله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد خمسمائة درهم جياداً...
والتفت إلى المأمون:
ـ فهل زوّجتني يا أمير المؤمنين على هذا الصداق ؟
أجاب المأمون:
ـ نعم! قد زوّجتُك يا أبا جعفر على الصداق المذكور، فهل قبلتَ النكاح ؟
ـ قد قبلتُ ذلك ورضيت به (22).
وارتفعت زغاريد الفرح، وأمر المأمون إلاّ يتفرّق الحاضرون، ومرّت لحظات سُمع بعدها أصوات تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، ثمّ ظهر مجموعة من الخدم يسحبون بحبال من الحرير سفينة صِيغت من الفضة الخالصة، وقد مُلئت عطراً غالياً، فخُضبت لحى الحضور، ثمّ نصبت الموائد وتناول الناس طعام الغداء.. وكان يوماً بهيجاً، وكان الشيعة أكثر الناس سعادة فقد سطعت شمس الحقيقة وتمزّقت شِباك العناكب.. ثمّ توّج ذلك كله بأن اصبح إمامهم صهراً للحاكم، وعندها يستطيعون أن يتنفّسوا الصُّعَداء.. وربما أصبح وليّاً للعهد.. مَن يدري ؟ خاصّة وقد تسامع الناس ما قاله الخليفة:
ـ أحببتُ أن أكون جَدّاً لامرئ وَلَده رسولُ الله وعليُّ بن أبي طالب (23).
كان بلاط الخلافة في ذلك الضحى يموج بالجماهير.. الجميع يترقّبون اللحظة المصيريّة.. العبّاسيّون كانوا متأكّدين من الفوز الساحق.. الفوز الذي لن يُبقي لمنافسيهم من العلويّين وقواعدهم الشعبيّة أيّة ركيزة في الدفاع بعد اليوم.. الإمام هو أعلم أهل زمانه، فإذا انهارت هذه المقولة عندها سينهار الصرح الإماميّ بأسره..
كانت هناك عشرات القلوب المتوجّسة من هذا الصراع والنِزال، والأمرّ من كلّ ذلك أن يُهزم هذا الفتى السيّد الوقور على يد رجل لا يستحي من شيبته وهو يقترف أعمال قوم لوط!
غصّت القاعة بالناس الوافدين وفيهم الكثيرون من أعلام الفكر، كان المأمون قد أمر بان يُفرش لصهره المنتخب دستٌ تحفّه وسائد عن اليمين وعن الشمال، وأخذ الفتى الأسمر مكانه متواضعاً ينظر ببراءة وطُهر إلى الناس.. عيناه تشعّان بالأمل والايمان.. لقد كان منظره آية من آيات الله.
في هذا العالم الذي يعجّ بالفساد والشرور... تتنفّس روحٌ مسّتها السماء فكانت رمزاً للطُهر والنقاء.
هيمن صمت مَهيب، وكانت العيون تتّجه نحو نقطة في جوار المأمون.. ونظر ابن أكثم إلى الخليفة، وهزّ المأمون رأسه موافقاً.. لقد بدأت اللحظة المصيريّة، وقال قاضي القضاة بلهجة فيها تكلّف:
ـ أتأذن لي جُعلت فداك في مسألة ؟
وأجاب الذي عنده عِلم الكتاب:
ـ سَل إن شئت.
وهنا ألقى ابن اكثم سؤاله وحباله:
ـ ما تقول يا ابا جعفر في مُحرِمٍ قَتَل صيداً.
ما هو موقف الشريعة من انسان ارتدى لباس الاحرام في الحجّ ثمّ قتل حيواناً ؟
كان السؤال ذكيّاً جداً، فهو وأن بدا في ظاهره بسيطاً، لكنه ينطوي على مزالق كثيرة، والاجابة عليه تعني السقوط في الفخّ! ومن ثَمّ الانقضاض عليه.
وحَبست الحشودُ أنفاسها... إنّ مصير الإمامة بل المجد العلوي بأسره كله معلّق بين شفتَي ذلك الفتى الأسمر. وجاء الجواب:
أسئلةٌ مدوّية تكشف عن عقليّة فذّة وعبقريّة ليست مُستمَدّة من عناصر التراب:
ـ هل قتله في الحرم المكّي أم خارجه ؟
هل كان عالماً بحُرمته أم جاهلاً ؟
قَتَله عَمداً أو خطأ ؟
هل كان القاتل صغيراً أم كبيراً ؟
هل كان عبداً أم حُرّاً ؟
مُبتدئاً بالقتل كان أم مُعيداً ؟
هل كان الصيد من الطيور أو غيرها ؟
هل كان الصيد صغيراً أم كبيراً ؟
أكان القاتل مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟
هل فعل ذلك ليلاً أم نهاراً ؟
هل كان مُحرِماً للحجّ أم للعُمرة ؟
وبُهت القاضي.. كان سيل الاسئلة من القوّة بحيث يكتسح كلّ مَن يحاول الجدل..
وتألّقت شمس الحقيقة.. الحقيقة التي أُريدَ لها أن تنطفئ.. كان الصمت معبّراً..
التفت المأمون إلى الفتى السيّد قائلاً:
ـ أتخطب يا أبا جعفر.
وأطرق الفتى برأسه حياءً
أردف المأمون:
ـ اخطب جُعِلت فداك لنفسك فقد رضيتُك، وأنا مزوّجك ابنتي أمَّ الفضل!.. حتّى لو رُغم قوم لذلك.
نهض الفتى الأسمر ليقول بصوت هادئ:
ـ الحمد لله إقراراً بنِعمته، ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوَحدانيّته، وصلّى الله على سيّد بَرِيّته، والأصفياء من عِترته..
أمّا بعد.. فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: وانكحوا الأيامى منكم والصالحين مِن عبادِكم وإمائِكم إن يكونوا فقراءَ يُغنِهم اللهُ مِن فضله واللهُ واسعٌ عليم ..
ثمّ إنّ محمّد بن علي بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبدالله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد خمسمائة درهم جياداً...
والتفت إلى المأمون:
ـ فهل زوّجتني يا أمير المؤمنين على هذا الصداق ؟
أجاب المأمون:
ـ نعم! قد زوّجتُك يا أبا جعفر على الصداق المذكور، فهل قبلتَ النكاح ؟
ـ قد قبلتُ ذلك ورضيت به (22).
وارتفعت زغاريد الفرح، وأمر المأمون إلاّ يتفرّق الحاضرون، ومرّت لحظات سُمع بعدها أصوات تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، ثمّ ظهر مجموعة من الخدم يسحبون بحبال من الحرير سفينة صِيغت من الفضة الخالصة، وقد مُلئت عطراً غالياً، فخُضبت لحى الحضور، ثمّ نصبت الموائد وتناول الناس طعام الغداء.. وكان يوماً بهيجاً، وكان الشيعة أكثر الناس سعادة فقد سطعت شمس الحقيقة وتمزّقت شِباك العناكب.. ثمّ توّج ذلك كله بأن اصبح إمامهم صهراً للحاكم، وعندها يستطيعون أن يتنفّسوا الصُّعَداء.. وربما أصبح وليّاً للعهد.. مَن يدري ؟ خاصّة وقد تسامع الناس ما قاله الخليفة:
ـ أحببتُ أن أكون جَدّاً لامرئ وَلَده رسولُ الله وعليُّ بن أبي طالب (23).
تعليق