بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
الإمام الحسن (عليه السلام) كلمة على ثغر الزمان.
الحديث عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سرّ الروح في آفاقها الواسعة الصافية النقية، وعمق الإنسانية المتحرّكة بالخير كلّه والحق كله والعدل كله، ومعنى الحكمة في مواجهة حركة الواقع في سلبياته وإيجابياته، وشمولية العطاء في رعاية المحرومين من حوله، وسموّ الأخلاق التي تحتضن كل مشاعر الناس بكل اللهفة الحانية في مشاعرها، وتتحرك في مواقع العصمة في سلوكه في نفسه ومع ربه ومع الناس ومع الحياة.
وها نحن بين يدي الإمام الحسن متحيرون بمن نبدأ؟ وبماذا ننتهي؟ لأنه بحر متلاطم بالفضائل والمكرمات وينبوع جار مدى الحياة. وسوف ننهل مع القارئ من ذلك الينبوع الحسيني سلسبيلاً فراتاً ولو قليلاً.
الإمام الحسن (عليه السلام) في عالم النور:
إن الإمام الحسن (عليه السلام) واحد من عظماء آل محمد (عليهم السلام) وأحد أغصان الدوحة النبوية، وامتدادٌ من الرسالة المحمدية، فهو (عليه السلام) مسارٌ لذلك النور الإلهي المتمثل بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهذا النور كان موجوداً قبل أن يخلق الله الدنيا بسبعة آلاف عام.
هذا المحدث البحراني السيد هاشم (قدس سره) يحدثنا في كتابه (حلية الأبرار: ج1 ص493، ط/ بيروت) معنعناً عن أنس بن مالك، عن معاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله (عز وجل) خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام. قلت: فأين كنتم يا رسول الله؟ قال: قدّام العرش نسبّح الله ونحمده ونقدسه ونمجّده، قال: قلت: على أي مثالٍ؟ قال: أشباح نور، حتى إذا أراد الله (عز وجل) أن يخلق صورنا صيرنا عمود نور ثم قذفنا في صلب آدم، ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ولا يصيبنا نجس الشرك، ولا سفاح الكفر، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون، فلما صيرنا في صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقّه نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب، ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة، والنصف الآخر إلى فاطمة بنت أسد فأخرجتني آمنة، وأخرجت فاطمة علياً (عليه السلام)، ثم أعاد الله (عز وجل) العمود إليّ فخرجت مني فاطمة - أي الزهراء - ثم أعاد الله (عز وجل) العمود إليه فخرج منه الحسن والحسين يعني النصفين جميعاً، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن وما كان من نوري صار في ولد الحسين، فهو ينتقل في الأئمة من ولده إلى يوم القيامة.
ميلاده (عليه السلام):
في الخامس عشر من شهر رمضان نلتقي بالإمام الحسن ابن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الذي ولد في السنة الثانية من الهجرة في المدينة، وكان أول وليد لفاطمة الزهراء وللإمام علي (عليهما السلام).
فروى الشيخ الصدوق (قدس سره) في أماليه (ص116 ح3) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لما ولدت فاطمة الحسن، قالت لعلي (عليه السلام): سمّه. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها، ثم قال لعلي (عليه السلام): هل سميته؟ فقال (عليه السلام): ما كنت لأسبقك باسمه. فقال (صلى الله عليه وآله): وما كنت لأسبق باسمه ربي عز وجل.
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرائيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط فاقرأه السلام وهنّه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرائيل (عليه السلام) فهنأه من الله (عز وجل) ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. قال: وما كان اسمه؟ قال: شبّر، قال: لساني عربي. قال: سمّه الحسن، فسمّاه الحسن (عليه السلام).
وقال عبد الله البحراني في (العوالم: ج16 ص19 ح7): وكانت ولادته (عليه السلام) مثل ولادة جدّه وأبيه (عليهم السلام) وكان طاهراً مطهراً يسبّح ويهلّل في حال ولادته، ويقرأ القرآن، وجبرائيل ناغاه في المهد.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) عقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحسن (عليه السلام) بيده، وقال: بسم الله عقيقة عن الحسن، وقال: اللهم عظمها بعظمه، ولحمها بلحمه ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللهم اجعلها وقاءً لمحمد وآله (البحار:ج43 ص257 ح37).
وقال ابن شهر آشوب في (المناقب: ج3 ص192): كنيته أبو محمد، وأبو القاسم، وألقابه: السيد، والسبط، والأمين، والحجة، والبر، والتقي، والأميرِ، والزكي، والمجتبى، والسبط الأول، والزاهد. وزاد ابن الخشاب (في تاريخه: ج1 ص518): الوزير، والقائم، والولي، والطيب..
لقد كان شبيهاً بجده الرسول (صلى الله عليه وآله):
لقد عاش الإمام الحسن (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طفولته الأولى ليحتضنه الرسول الأكرم، فيلقي إليه في كل يوم من خُلقه خُلقاً ومن هيبته وسؤدده هيبةً وسؤدداً.
جاء في كتب السير والتاريخ أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد غيبته، فإنهم ينظرون إلى الحسن (عليه السلام) ليجدوا فيه شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
روى الأربلي (في كشف الغمة: ج1 ص514): (كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)).
وروى في المصدر نفسه عن أنس قال: (لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلى الله عليه وآله) من الحسن بن علي (عليهما السلام)).
وقال شيخنا المفيد في الإرشاد: (كان الحسن بن علي (عليه السلام) يشبّه بالنبي (صلى الله عليه وآله)).
كان مثالاً في الحلم وحُسن الخلق:
ما يرويه ابن شهرآشوب (في مناقبه: ج3 ص184) عن أخلاقه (عليه السلام): أن شامياً ممن ثقّفهم معاوية (عليه اللعنة) على بغض الإمام علي وأهل بيته (عليهم السلام)، وركّز في نفوسهم سبّ ولعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفرض على أئمة الجمعة أن يبدأوا وينتهوا بسبّ الإمام علي (عليه السلام) ليقتلوا حبّه من قلوب الناس، ولكنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
من هؤلاء المبغضين، هذا الشامي الذي رأى الإمام الحسن (عليه السلام) في الطريق فجعل يلعنه ويشتمه، والإمام الحسن (عليه السلام) لا يردّ عليه، فلما فرغ من سبابه وشتائمه أقبل إليه الحسن (عليه السلام) بخطاب الله: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
فسلّم عليه وتبسّم في وجهه، وقال له: (أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عارياً كسوناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً).
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم.
انظر عزيزي القارئ إلى الإمام (عليه السلام) كيف تعامل مع هذا الرجل، فهو لم ينطلق من موقع ضعف، وعرف الإمام (عليه السلام) أن هذا الرجل هو من الناس الذين غسل دماغهم؛ لأن بعض الناس قد يسبونك ويشتمونك ويعادونك وليس لديهم عداوة شخصية معك، ولكن بعض الناس قد نقلوا لهم كلاماً كاذباً عنك وشوّهوا لهم فكرتهم، كما كان معاوية (لعنه الله) يقول لأهل الشام: نحن نقاتل علياً لأنه لا يصلي.
لذلك كان ديدن الأئمة (عليهم السلام) أن يصبروا على هؤلاء الناس حتى يصححوا لهم الصورة التي في أذهانهم، وعندما يكتشف الناس الصورة جيداً سيتراجعون عن كل سبابهم وحقدهم وعداواتهم.
هذه هي الروح الرسولية النبوية القرآنية: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت: 34).
فلا نرد السباب والشتائم بالسباب والشتائم والمقاطعة قد يكون لك حق في ذلك: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة: 194)، ولكن الله يقول أيضاً: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (البقرة: 237).
كان ذروة في الجود والكرم:
الجود والكرم غريزة مغروسة فيه (عليه السلام)، ونهج ما زال يقتفيه فإيصال صلاته إلى المعوزين من مناقب معانيه، وإبقاء الأموال عنده من مثالب معانديه، ويرى إخراج الدنيا عنه خير ما يجتبيه من عمله ويجنيه.
فهذا ابن طلحة الشافعي ينقل لنا صوراً من كرمه وجوده في كتابه (مطالب السؤول: ج2 ص23، الفصل الثامن، ط1/ أم القرى).
منها: إن الحسن (عليه السلام) سمع رجلاً يسأل ربه تعالى أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف الحسن إلى منزله فبعث بها إليه.
ومنها: إن رجلاً جاء إليه (عليه السلام) وسأله حاجة فقال له: (يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله (عز وجل) قليل، وما في ملكي وفاء بشكرك، فإن قبلت مني الميسور، ورفعت عني مؤونة الاحتفال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت).
فقال: يا ابن رسول الله أقبل القليل، وأشكر العطية، وأعذر على المنع. فدعا الإمام الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: (هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم) فأحضر خمسين ألفاً. قال (عليه السلام): (فما فعل الخمسمائة دينار)؟ قال: هي عندي. قال (عليه السلام): أحضرها، فأحضرها، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل فقال (عليه السلام): (هات من يحملها) فأتاه بحمالين، ودفع إليهم رداءه لكراء الحمل، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم.
فقال (عليه السلام): (لكني أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم).
فهذه قطرتان من بحر جوده نكتفي بهما مثلاً لهذه الإطلالة.
عبادته (عليه السلام):
إن العبادة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بدنية، ومالية، ومركبة منهما. فالبدنية: كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن وأنواع الأذكار، والمالية: كالصدقات والصلات والمبرّات، والمركّب منهما: كالحج والجهاد. وقد كان إمامنا الحسن (عليه السلام) ضارباً في كل واحد من هذه الأنواع بالقدح الفائز، والقدم الحائز.
أما الصلاة والأذكار وما في معناهما: فقيامه بها مشهور، واسمه في أربابها مذكور.
فروى السيد هاشم البحراني (في حلية الأبرار: ج1 ص520): عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا قام إلى صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل).
وأما الصدقات: فقد نقل الحافظ أبو نعيم (في حلية الأولياء: ج2 ص38) - وهو من أكابر علماء العامة -: (إنه (عليه السلام) خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات ويتصدق به حتى أنه كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطيه خفاً ويمسك خفاً).
وقد تقدمت الإشارة إلى جوده وكرمه وعطائه (عليه السلام)، وهذا فرعٌ من ذاك.
وأما العبادة المركبة: أيضاً نقل في المصدر المذكور نفسه: (أنه (عليه السلام) قال: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته، فمشى عشرين مرة من المدينة إلى مكة على رجليه).
وروى في (صفوة الصفوة: ج1 ص760) أنه قال: (حجّ الحسن (عليه السلام) خمس عشرة حجة ماشياً وغن الجنائب لتقاد معه).
وروي: لما حضرت الإمام الحسن (عليه السلام) الوفاة بكى فقيل له: يا ابن رسول الله تبكي ومكانك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أنت به، وقد قال فيك ما قال، حججت عشرين ماشياً وقد قاسمت مالك ثلاث مرات حتى النعل بالنعل، قال (عليه السلام): إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع، وفراق الأحبة.
كان بحراً زاخراً في العلم والمعرفة:
إن الله تعالى قد رزقه الفطرة الثاقبة منذ نعومة أظفاره، وصغر سنّه، فذكر أصحاب السير أن الحسن (عليه السلام) كان يحضر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمره سبع سنين، وكان يستمع إلى جدّه ويحفظ ذلك كله، ويأتي إلى أمه الزهراء (عليها السلام) يحدثها بذلك، وكان الإمام يأتي إلى البيت ويجد كل ما تحدث به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين في المسجد عند فاطمة (عليها السلام)، فيقول لها (عليهما السلام): من أين لك ذلك؟ فكانت تقول: إنه من ولدي الحسن، مما يدل أنه (عليه السلام) كان ينفتح على علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعيش اهتماماته به. وفي هذا المجال نترك القارئ يستمع إلى ما ينقله الواحدي - من أعلام السنة- في تفسيره (المسمى بالوسيط: ج4 ص458): (إن رجلاً قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا أنا برجل يتحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس حوله، فقلت: أخبرني عن (شاهد ومشهود).
فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: أخبرني عن (شاهد ومشهود).
فقال: نعم، أما الشاهد فمحمد (صلى الله عليه وآله)، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وقال تعالى: (وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).
فسألت عن الرجل الأول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان قول الحسن أحسن.
وقيل للإمام الحسن (عليه السلام): (كم بين الحق والباطل، وكم بين المشرق والمغرب؟
فقال (عليه السلام): بين الحق والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو حق وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً.
وقال: بين السماء والأرض دعوة المظلوم ومدّ البصر، فمن قال لك غير هذا فكذّبه.
وقال: وما بين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وتنظر إليها حين تغيب من مغربها.
هذا هو الإمام الحسن (عليه السلام) الذي زُقّ العلم زقاً من جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام). فما بالك بابنهما الحسن (عليه السلام)؟
من معاجزه (عليه السلام):
روى العلامة المجلسي (في البحار: ج43 ص326 ح6) قال: (جاء أبو سفيان إلى الإمام علي (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن جئتك في حاجة. قال: وفيم جئتني؟ قال: تمشي معي إلى ابن عمك محمد فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً.
فقال: يا أبا سفيان، لقد عقد لك رسول الله (صلى الله عليه وآله) عقداً لا يرجع عنه أبداً، وكانت فاطمة من وراء الستر، والحسن يدرج بين يديها وهو طفل من أبناء أربعة عشر شهراً.
فقال لها: يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلّم لي جده فيسود بكلامه العرب والعجم.
فأقبل الحسن (عليه السلام) إلى أبي سفيان وضرب إحدى يديه على أنفه والأخرى على لحيته ثم أنطقه الله (عز وجل) بأن قال: يا أبا سفيان قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى أكون شفيعاً، فقال علي (عليه السلام): الحمد لله الذي جعل في آل محمد من ذرية محمد المصطفى نظير يحيى بن زكريا (وآتيناه الحكم صبياً)).
وروى العلامة البحراني (في العوالم: ج16 ص85) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: جاء الناس إلى الحسن بن علي فقالوا: أرنا عجائب أبيك التي كان يريناها؟ فقال: أتؤمنون بذلك؟ قالوا: نعم نؤمن والله بذلك. قال: أليس تعرفون أبي؟ قالوا جميعاً: بلى نعرفه، فرفع لهم جانب الستر فإذا أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعد، فقال: تعرفونه؟ قالوا بأجمعهم: هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) ونشهد أنك ولي الله حقاً والإمام من بعده، ولقد أريتنا أمير المؤمنين بعد موته كما أرى أبوك أبا بكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جدك في مسجد قبا بعد موته.
فقال (عليه السلام): ما تقولون فينا؟ قالوا: آمنا وصدقنا يا ابن رسول الله.
الإمام الحسن (عليه السلام) في القرآن:
للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) كما لسائر أهل البيت (عليهم السلام) مكانة عظمى في كتاب الله تعالى. فهذا القرآن الكريم، دستور الأمة ومعجزة الإسلام الخالدة، يحمل بين طياته الآيات البينات التي تنطق بمكانة الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) عند الله تعالى، ومنها:
1- آية التطهير: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) (الأحزاب: 33)، فقد ورد في سبب نزولها أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا بعباءة خيبرية، وجلل بها علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)، فنزلت آية التطهير استجابة لدعاء المصطفى (صلى الله عليه وآله).
2- آية المباهلة: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا..) إلى آخر الآية (آل عمران: 61).
قال المفسرون وأولو العلم، منهم السيوطي في الدر المنثور: إنها نزلت عندما اتفق نصارى نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبتهل كلا الطرفين إلى الله أن يهلك من كان على الباطل في دعوته واعتقاده، وخرج رسول الله بأهل بيته: علي وفاطمة والحسن والحسين دون سواهم من البشر بالمباهلة، وحين رأى النصارى الوجوه الزكية التي خرج بها الرسول (صلى الله عليه وآله) لمباهلتهم اعتذروا للرسول (صلى الله عليه وآله) عن مباهلته، وأذعنوا لسلطان دولته بدفعهم الجزية.
وأنت ترى الآية الكريمة عبرت عن الحسنين (عليهما السلام) بالأبناء.
3- آية المودة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) (الشورى: 23).
قال المفسرون، ومنهم الطبري والقرطبي: إن الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). عن ابن عباس قال: لما نزل (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما.
4- روي في تفسير فرات الكوفي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) (الحديد: 28) قال: الحسن والحسين (عليهما السلام)، (ويجعل لكم نوراً تمشون به) قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
5- روى ابن شهرآشوب (في المناقب: ج3 ص163) ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (والتين والزيتون) قال: الحسن والحسين. (وطور سنين) قال: علي بن أبي طالب، (وهذا البلد الأمين) قال: محمد (صلى الله عليه وآله)، (ثم رددناه أسفل سافلين) ببغضه أمير المؤمنين، (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) علي بن أبي طالب (عليه السلام) (فما يكذبك بعد بالدين) يا محمد، ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ونكتفي بهذا القدر اليسير من الآيات، التي تؤكد مكانة الإمام الحسن السبط وأهل البيت (عليهم السلام) جميعاً عند الله تعالى. وبهذا نختم مقالنا الذي اقتطفنا فيه لمحات يسيرة جداً من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، الذي سيرته لا تكتب بوريقات كهذه وإنما اقتبسناه من أشعته الخالدة أضواءً ساطعة.
ونسألكم الدعاء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
الإمام الحسن (عليه السلام) كلمة على ثغر الزمان.
الحديث عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سرّ الروح في آفاقها الواسعة الصافية النقية، وعمق الإنسانية المتحرّكة بالخير كلّه والحق كله والعدل كله، ومعنى الحكمة في مواجهة حركة الواقع في سلبياته وإيجابياته، وشمولية العطاء في رعاية المحرومين من حوله، وسموّ الأخلاق التي تحتضن كل مشاعر الناس بكل اللهفة الحانية في مشاعرها، وتتحرك في مواقع العصمة في سلوكه في نفسه ومع ربه ومع الناس ومع الحياة.
وها نحن بين يدي الإمام الحسن متحيرون بمن نبدأ؟ وبماذا ننتهي؟ لأنه بحر متلاطم بالفضائل والمكرمات وينبوع جار مدى الحياة. وسوف ننهل مع القارئ من ذلك الينبوع الحسيني سلسبيلاً فراتاً ولو قليلاً.
الإمام الحسن (عليه السلام) في عالم النور:
إن الإمام الحسن (عليه السلام) واحد من عظماء آل محمد (عليهم السلام) وأحد أغصان الدوحة النبوية، وامتدادٌ من الرسالة المحمدية، فهو (عليه السلام) مسارٌ لذلك النور الإلهي المتمثل بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهذا النور كان موجوداً قبل أن يخلق الله الدنيا بسبعة آلاف عام.
هذا المحدث البحراني السيد هاشم (قدس سره) يحدثنا في كتابه (حلية الأبرار: ج1 ص493، ط/ بيروت) معنعناً عن أنس بن مالك، عن معاذ بن جبل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله (عز وجل) خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام. قلت: فأين كنتم يا رسول الله؟ قال: قدّام العرش نسبّح الله ونحمده ونقدسه ونمجّده، قال: قلت: على أي مثالٍ؟ قال: أشباح نور، حتى إذا أراد الله (عز وجل) أن يخلق صورنا صيرنا عمود نور ثم قذفنا في صلب آدم، ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ولا يصيبنا نجس الشرك، ولا سفاح الكفر، يسعد بنا قوم ويشقى بنا آخرون، فلما صيرنا في صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقّه نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبي طالب، ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة، والنصف الآخر إلى فاطمة بنت أسد فأخرجتني آمنة، وأخرجت فاطمة علياً (عليه السلام)، ثم أعاد الله (عز وجل) العمود إليّ فخرجت مني فاطمة - أي الزهراء - ثم أعاد الله (عز وجل) العمود إليه فخرج منه الحسن والحسين يعني النصفين جميعاً، فما كان من نور علي فصار في ولد الحسن وما كان من نوري صار في ولد الحسين، فهو ينتقل في الأئمة من ولده إلى يوم القيامة.
ميلاده (عليه السلام):
في الخامس عشر من شهر رمضان نلتقي بالإمام الحسن ابن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الذي ولد في السنة الثانية من الهجرة في المدينة، وكان أول وليد لفاطمة الزهراء وللإمام علي (عليهما السلام).
فروى الشيخ الصدوق (قدس سره) في أماليه (ص116 ح3) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لما ولدت فاطمة الحسن، قالت لعلي (عليه السلام): سمّه. فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها، ثم قال لعلي (عليه السلام): هل سميته؟ فقال (عليه السلام): ما كنت لأسبقك باسمه. فقال (صلى الله عليه وآله): وما كنت لأسبق باسمه ربي عز وجل.
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرائيل أنه قد ولد لمحمد ابن فاهبط فاقرأه السلام وهنّه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرائيل (عليه السلام) فهنأه من الله (عز وجل) ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون. قال: وما كان اسمه؟ قال: شبّر، قال: لساني عربي. قال: سمّه الحسن، فسمّاه الحسن (عليه السلام).
وقال عبد الله البحراني في (العوالم: ج16 ص19 ح7): وكانت ولادته (عليه السلام) مثل ولادة جدّه وأبيه (عليهم السلام) وكان طاهراً مطهراً يسبّح ويهلّل في حال ولادته، ويقرأ القرآن، وجبرائيل ناغاه في المهد.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) عقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الحسن (عليه السلام) بيده، وقال: بسم الله عقيقة عن الحسن، وقال: اللهم عظمها بعظمه، ولحمها بلحمه ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللهم اجعلها وقاءً لمحمد وآله (البحار:ج43 ص257 ح37).
وقال ابن شهر آشوب في (المناقب: ج3 ص192): كنيته أبو محمد، وأبو القاسم، وألقابه: السيد، والسبط، والأمين، والحجة، والبر، والتقي، والأميرِ، والزكي، والمجتبى، والسبط الأول، والزاهد. وزاد ابن الخشاب (في تاريخه: ج1 ص518): الوزير، والقائم، والولي، والطيب..
لقد كان شبيهاً بجده الرسول (صلى الله عليه وآله):
لقد عاش الإمام الحسن (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طفولته الأولى ليحتضنه الرسول الأكرم، فيلقي إليه في كل يوم من خُلقه خُلقاً ومن هيبته وسؤدده هيبةً وسؤدداً.
جاء في كتب السير والتاريخ أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً، وكان الناس إذا اشتاقوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد غيبته، فإنهم ينظرون إلى الحسن (عليه السلام) ليجدوا فيه شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
روى الأربلي (في كشف الغمة: ج1 ص514): (كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)).
وروى في المصدر نفسه عن أنس قال: (لم يكن أحد أشبه برسول الله (صلى الله عليه وآله) من الحسن بن علي (عليهما السلام)).
وقال شيخنا المفيد في الإرشاد: (كان الحسن بن علي (عليه السلام) يشبّه بالنبي (صلى الله عليه وآله)).
كان مثالاً في الحلم وحُسن الخلق:
ما يرويه ابن شهرآشوب (في مناقبه: ج3 ص184) عن أخلاقه (عليه السلام): أن شامياً ممن ثقّفهم معاوية (عليه اللعنة) على بغض الإمام علي وأهل بيته (عليهم السلام)، وركّز في نفوسهم سبّ ولعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفرض على أئمة الجمعة أن يبدأوا وينتهوا بسبّ الإمام علي (عليه السلام) ليقتلوا حبّه من قلوب الناس، ولكنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
من هؤلاء المبغضين، هذا الشامي الذي رأى الإمام الحسن (عليه السلام) في الطريق فجعل يلعنه ويشتمه، والإمام الحسن (عليه السلام) لا يردّ عليه، فلما فرغ من سبابه وشتائمه أقبل إليه الحسن (عليه السلام) بخطاب الله: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
فسلّم عليه وتبسّم في وجهه، وقال له: (أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عارياً كسوناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً).
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم.
انظر عزيزي القارئ إلى الإمام (عليه السلام) كيف تعامل مع هذا الرجل، فهو لم ينطلق من موقع ضعف، وعرف الإمام (عليه السلام) أن هذا الرجل هو من الناس الذين غسل دماغهم؛ لأن بعض الناس قد يسبونك ويشتمونك ويعادونك وليس لديهم عداوة شخصية معك، ولكن بعض الناس قد نقلوا لهم كلاماً كاذباً عنك وشوّهوا لهم فكرتهم، كما كان معاوية (لعنه الله) يقول لأهل الشام: نحن نقاتل علياً لأنه لا يصلي.
لذلك كان ديدن الأئمة (عليهم السلام) أن يصبروا على هؤلاء الناس حتى يصححوا لهم الصورة التي في أذهانهم، وعندما يكتشف الناس الصورة جيداً سيتراجعون عن كل سبابهم وحقدهم وعداواتهم.
هذه هي الروح الرسولية النبوية القرآنية: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت: 34).
فلا نرد السباب والشتائم بالسباب والشتائم والمقاطعة قد يكون لك حق في ذلك: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة: 194)، ولكن الله يقول أيضاً: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (البقرة: 237).
كان ذروة في الجود والكرم:
الجود والكرم غريزة مغروسة فيه (عليه السلام)، ونهج ما زال يقتفيه فإيصال صلاته إلى المعوزين من مناقب معانيه، وإبقاء الأموال عنده من مثالب معانديه، ويرى إخراج الدنيا عنه خير ما يجتبيه من عمله ويجنيه.
فهذا ابن طلحة الشافعي ينقل لنا صوراً من كرمه وجوده في كتابه (مطالب السؤول: ج2 ص23، الفصل الثامن، ط1/ أم القرى).
منها: إن الحسن (عليه السلام) سمع رجلاً يسأل ربه تعالى أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف الحسن إلى منزله فبعث بها إليه.
ومنها: إن رجلاً جاء إليه (عليه السلام) وسأله حاجة فقال له: (يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله (عز وجل) قليل، وما في ملكي وفاء بشكرك، فإن قبلت مني الميسور، ورفعت عني مؤونة الاحتفال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت).
فقال: يا ابن رسول الله أقبل القليل، وأشكر العطية، وأعذر على المنع. فدعا الإمام الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: (هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم) فأحضر خمسين ألفاً. قال (عليه السلام): (فما فعل الخمسمائة دينار)؟ قال: هي عندي. قال (عليه السلام): أحضرها، فأحضرها، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل فقال (عليه السلام): (هات من يحملها) فأتاه بحمالين، ودفع إليهم رداءه لكراء الحمل، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم.
فقال (عليه السلام): (لكني أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم).
فهذه قطرتان من بحر جوده نكتفي بهما مثلاً لهذه الإطلالة.
عبادته (عليه السلام):
إن العبادة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بدنية، ومالية، ومركبة منهما. فالبدنية: كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن وأنواع الأذكار، والمالية: كالصدقات والصلات والمبرّات، والمركّب منهما: كالحج والجهاد. وقد كان إمامنا الحسن (عليه السلام) ضارباً في كل واحد من هذه الأنواع بالقدح الفائز، والقدم الحائز.
أما الصلاة والأذكار وما في معناهما: فقيامه بها مشهور، واسمه في أربابها مذكور.
فروى السيد هاشم البحراني (في حلية الأبرار: ج1 ص520): عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا قام إلى صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل).
وأما الصدقات: فقد نقل الحافظ أبو نعيم (في حلية الأولياء: ج2 ص38) - وهو من أكابر علماء العامة -: (إنه (عليه السلام) خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات ويتصدق به حتى أنه كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطيه خفاً ويمسك خفاً).
وقد تقدمت الإشارة إلى جوده وكرمه وعطائه (عليه السلام)، وهذا فرعٌ من ذاك.
وأما العبادة المركبة: أيضاً نقل في المصدر المذكور نفسه: (أنه (عليه السلام) قال: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته، فمشى عشرين مرة من المدينة إلى مكة على رجليه).
وروى في (صفوة الصفوة: ج1 ص760) أنه قال: (حجّ الحسن (عليه السلام) خمس عشرة حجة ماشياً وغن الجنائب لتقاد معه).
وروي: لما حضرت الإمام الحسن (عليه السلام) الوفاة بكى فقيل له: يا ابن رسول الله تبكي ومكانك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أنت به، وقد قال فيك ما قال، حججت عشرين ماشياً وقد قاسمت مالك ثلاث مرات حتى النعل بالنعل، قال (عليه السلام): إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع، وفراق الأحبة.
كان بحراً زاخراً في العلم والمعرفة:
إن الله تعالى قد رزقه الفطرة الثاقبة منذ نعومة أظفاره، وصغر سنّه، فذكر أصحاب السير أن الحسن (عليه السلام) كان يحضر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمره سبع سنين، وكان يستمع إلى جدّه ويحفظ ذلك كله، ويأتي إلى أمه الزهراء (عليها السلام) يحدثها بذلك، وكان الإمام يأتي إلى البيت ويجد كل ما تحدث به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المسلمين في المسجد عند فاطمة (عليها السلام)، فيقول لها (عليهما السلام): من أين لك ذلك؟ فكانت تقول: إنه من ولدي الحسن، مما يدل أنه (عليه السلام) كان ينفتح على علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعيش اهتماماته به. وفي هذا المجال نترك القارئ يستمع إلى ما ينقله الواحدي - من أعلام السنة- في تفسيره (المسمى بالوسيط: ج4 ص458): (إن رجلاً قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا أنا برجل يتحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس حوله، فقلت: أخبرني عن (شاهد ومشهود).
فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: أخبرني عن (شاهد ومشهود).
فقال: نعم، أما الشاهد فمحمد (صلى الله عليه وآله)، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وقال تعالى: (وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).
فسألت عن الرجل الأول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان قول الحسن أحسن.
وقيل للإمام الحسن (عليه السلام): (كم بين الحق والباطل، وكم بين المشرق والمغرب؟
فقال (عليه السلام): بين الحق والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو حق وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً.
وقال: بين السماء والأرض دعوة المظلوم ومدّ البصر، فمن قال لك غير هذا فكذّبه.
وقال: وما بين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وتنظر إليها حين تغيب من مغربها.
هذا هو الإمام الحسن (عليه السلام) الذي زُقّ العلم زقاً من جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام). فما بالك بابنهما الحسن (عليه السلام)؟
من معاجزه (عليه السلام):
روى العلامة المجلسي (في البحار: ج43 ص326 ح6) قال: (جاء أبو سفيان إلى الإمام علي (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن جئتك في حاجة. قال: وفيم جئتني؟ قال: تمشي معي إلى ابن عمك محمد فتسأله أن يعقد لنا عقداً ويكتب لنا كتاباً.
فقال: يا أبا سفيان، لقد عقد لك رسول الله (صلى الله عليه وآله) عقداً لا يرجع عنه أبداً، وكانت فاطمة من وراء الستر، والحسن يدرج بين يديها وهو طفل من أبناء أربعة عشر شهراً.
فقال لها: يا بنت محمد قولي لهذا الطفل يكلّم لي جده فيسود بكلامه العرب والعجم.
فأقبل الحسن (عليه السلام) إلى أبي سفيان وضرب إحدى يديه على أنفه والأخرى على لحيته ثم أنطقه الله (عز وجل) بأن قال: يا أبا سفيان قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى أكون شفيعاً، فقال علي (عليه السلام): الحمد لله الذي جعل في آل محمد من ذرية محمد المصطفى نظير يحيى بن زكريا (وآتيناه الحكم صبياً)).
وروى العلامة البحراني (في العوالم: ج16 ص85) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: جاء الناس إلى الحسن بن علي فقالوا: أرنا عجائب أبيك التي كان يريناها؟ فقال: أتؤمنون بذلك؟ قالوا: نعم نؤمن والله بذلك. قال: أليس تعرفون أبي؟ قالوا جميعاً: بلى نعرفه، فرفع لهم جانب الستر فإذا أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعد، فقال: تعرفونه؟ قالوا بأجمعهم: هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) ونشهد أنك ولي الله حقاً والإمام من بعده، ولقد أريتنا أمير المؤمنين بعد موته كما أرى أبوك أبا بكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جدك في مسجد قبا بعد موته.
فقال (عليه السلام): ما تقولون فينا؟ قالوا: آمنا وصدقنا يا ابن رسول الله.
الإمام الحسن (عليه السلام) في القرآن:
للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) كما لسائر أهل البيت (عليهم السلام) مكانة عظمى في كتاب الله تعالى. فهذا القرآن الكريم، دستور الأمة ومعجزة الإسلام الخالدة، يحمل بين طياته الآيات البينات التي تنطق بمكانة الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) عند الله تعالى، ومنها:
1- آية التطهير: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) (الأحزاب: 33)، فقد ورد في سبب نزولها أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا بعباءة خيبرية، وجلل بها علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)، فنزلت آية التطهير استجابة لدعاء المصطفى (صلى الله عليه وآله).
2- آية المباهلة: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا..) إلى آخر الآية (آل عمران: 61).
قال المفسرون وأولو العلم، منهم السيوطي في الدر المنثور: إنها نزلت عندما اتفق نصارى نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبتهل كلا الطرفين إلى الله أن يهلك من كان على الباطل في دعوته واعتقاده، وخرج رسول الله بأهل بيته: علي وفاطمة والحسن والحسين دون سواهم من البشر بالمباهلة، وحين رأى النصارى الوجوه الزكية التي خرج بها الرسول (صلى الله عليه وآله) لمباهلتهم اعتذروا للرسول (صلى الله عليه وآله) عن مباهلته، وأذعنوا لسلطان دولته بدفعهم الجزية.
وأنت ترى الآية الكريمة عبرت عن الحسنين (عليهما السلام) بالأبناء.
3- آية المودة: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) (الشورى: 23).
قال المفسرون، ومنهم الطبري والقرطبي: إن الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). عن ابن عباس قال: لما نزل (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما.
4- روي في تفسير فرات الكوفي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) (الحديد: 28) قال: الحسن والحسين (عليهما السلام)، (ويجعل لكم نوراً تمشون به) قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
5- روى ابن شهرآشوب (في المناقب: ج3 ص163) ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (والتين والزيتون) قال: الحسن والحسين. (وطور سنين) قال: علي بن أبي طالب، (وهذا البلد الأمين) قال: محمد (صلى الله عليه وآله)، (ثم رددناه أسفل سافلين) ببغضه أمير المؤمنين، (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) علي بن أبي طالب (عليه السلام) (فما يكذبك بعد بالدين) يا محمد، ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ونكتفي بهذا القدر اليسير من الآيات، التي تؤكد مكانة الإمام الحسن السبط وأهل البيت (عليهم السلام) جميعاً عند الله تعالى. وبهذا نختم مقالنا الذي اقتطفنا فيه لمحات يسيرة جداً من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)، الذي سيرته لا تكتب بوريقات كهذه وإنما اقتبسناه من أشعته الخالدة أضواءً ساطعة.
ونسألكم الدعاء.