بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
عصر الإمام الصادق عليه السّلام:
عاش الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام في مرحلة تعتبر من أدق المراحل التاريخية الإسلامية في نواحيها السياسية والفكرية والاجتماعية.. فقد عاش من الناحية السياسية والاجتماعية مرحلةً مخضرمة تختصر في طياتها كل الظروف والأساليب في تشابهها واختلافها لدولتين لعبتا دوراً حسّاساً وخطيراً في التاريخ الإسلامي، هما دولة بني أمية ثم دولة بني العباس.
ورغم الاختلاف في سنة ولادته بين سنة ثمانين أو ثلاث وثمانين للهجرة فقد عاصر الإمام الصادق عليه السّلام الدولتين في هذه المدة الطويلة: « مع جده وأبيه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه بعد جده تسع عشرة سنة وبعد أبيه أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة، وكان في أيام إمامته بقية ملك هشام بن عبدالملك، وملك الوليد بن يزيد بن عبدالملك، وملك يزيد بن الوليد الناقص، وملك إبراهيم بن الوليد وملك مروان بن محمد الحمار، ثم صارت المسوّدة ( لاتّخاذهم شعار السواد ) مع أبي مسلم سنة اثنتين وثلاثين ومئة فملك أبو العباس الملقب بالسفاح، ثم ملك أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، وتوفي الصادق بعد عشر سنين من ملكه »(1)...
ومهما يكن من أمر فلابد من التوقف عند الحالة السياسية والاجتماعية لتلك المرحلة التي عايشها صادق أهل البيت عليهم السّلام قبل الانتقال لمعرفة الحالة الفكرية ودور الصادق عليه السّلام.
الحالة السياسية العامة:
لقد آلت الخلافة الأموية إلى مُلْك عضوض بعيد عن الإسلام وأحكامه منذ العهد المبكر لمعاوية بن أبي سفيان. ولقد بلغ ـ وكما هو معروف ـ من أمر حكام تلك الدولة أن حوّلوا « الخلافة » من موقع يقود الأمة الإسلامة إلى الله، حوّلوه إلى موقع يقود الأمة إلى خدمة أهوائهم ومصالحهم وسلطانهم بشتى الوسائل غير الشرعية، من قتل ونهب وسبي وظلم وترف واستبداد، وذلك تحت ظلال الشعارات الإسلامية الكبيرة! حتّى أضحى القتل سُنّة، وأضحى التلاعب بالرؤوس بدعة مستساغة، ولم يقف الأمر عند رؤوس الناس الأبرياء ورؤوس الثائرين على النظام الأموي الحاكم حتّى تعدّاه ليتلاعب الحكّام الأمويون برؤوس أهلهم وإخوتهم وبني عمومتهم من الأمويين أيضاً طمعاً بسلطان أو خوفاً من ضياعه.. ولقد تفاقم الأمر كثيراً في السنوات الأخيرة للحكم الأموي وبالتحديد بعد وفاة هشام بن عبدالملك واستيلاء الوليد على الخلافة ثم مقتله، وما حدث من فتن واضطرابات واهتزاز لأركان الحكم الأموي وبالتحديد بعد موت هشام بن عبدالملك واستيلاء الوليد على الخلافة واهتزاز أركان الحكم الأموي وحبل بني مروان حتّى حُكْم آخر ملوكهم « مروان الحمار » وانتصار الحركة العباسية عليهم في خراسان والعراق(2).
فآخر عهد بني أمية وبني مروان إذاً كان عهد فتن واضطرابات وثورات تضاف إلى حالة تهتك سياسي وخُلُقي بلغ حداً من الاستهتار والسقوط تخجل منه صفحات التاريخ الإسلامي نفسها، حتى بلغ الأمر بالطبري في تاريخه إلى أن يقول: « تركتُ الأخبار الواردة عنه ( الوليد ) بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها » وعبّر أخوه عنه بعد قتله: « بعداً له! أشهد أنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً... »(3).
ولم تكن بداية دولة بني العباس إلا مرحلة أخرى من الحروب والاضطرابات والثورات والعمليات العسكرية المتنقلة للقضاء على آخر ذيول الحكم البائد وتثبيت المواقع السياسية والعسكرية للعهد الجديد. ويلازم ذلك بالطبع ـ مع عدم قداسة الغاية ـ البطش بكل مكامن الخطر ورموزه المُحتمَلين على الدولة الفتية في المدَيَين القريب والبعيد. وهو هنا الخطر الشيعي العلوي على الدولة التي قامت وانتصرت في ظل شعار دغدغ مشاعر الناس خصوصاً الخراسانيين « الدعوة للرضا من أهل البيت »(4). ولذلك فقد كان يرى العباسيون أن المنافس الأساسي لهم بعد عدوهم المشترك « بني أمية » هم أبناء عمهم العلويون من أبناء الحسن والحسين وخصوصاً في شخصية جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام ومحمد بن عبدالله بن الحسن المثنّى الذي كان قد بايعه السفّاح والمنصور في عهد بني أمية(5) و ( يُروى ذلك مرتين ).
ومما لا شك فيه أن الوضع السياسي والعسكري المضطرب والمتردي يترك أثره الخطير على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية أيضاً، فعدم انسجام الناس الكلي مع حكامهم إلا بالترهيب والترغيب، وكثرة الفتوحات الإسلامية في هذا القرن الهجري الأول، أدّيا معاً إلى اضطراب وتداخل فكري خطير تناول الجوانب الفقهية والعقلية والروائية والتفسيرية والمفهومية الإسلامية وغيرها.
الحالة الفكرية والعلمية:
لقد بقي الحكام غير منسجمين ولا مهتمّين أصلاً بالقضايا الفكرية والعلمية والأدبية إلا بما يخدم سلطانهم ويثبّت زعامتهم، ولذا خلا العهد الأموي في غالبه من نمو وتطور للفكر والعلم الديني وغيره، إلا أن الفتوحات الإسلامية التي أدخلت عناصر جديدة غير عربية وغير مسلمة إلى الإسلام أحوجت المسلمين الجدد والمترجمين إلى البدء بأعمال التدريس والتعليم، وبدأت حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية وغيرهما.. فانصرف الناس عن الحكام وانشغل الحكام الأمويون بأنفسهم وبسلطانهم في آخر عهدهم ـ كما أشرنا ـ فبرزت بوادر نهضة فكرية وعلمية وحركة فلسفية خطيرة، ولذا فإن: « الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية في آخر الدولة الأموية أرقى من أولها... »(6) و « قد ساعد على التحرك الفكري السريع في مطلع الدولة العباسية قيام الفترة ما بين الدولتين التي حررت الفكر من رقابة الحكم وقيوده، بتأثير انصراف الحكم لترميم مواقعه، في محاولة لاستعادة السيطرة الشاملة... »(7).
ولقد تلخصت خطوات الحركة الفكرية عامة في تلك الحقبة الزمنية بالأمور التالية:
1 ـ بدء حركة الترجمات المختلفة وإدخالها مواضيع جديدة وخطيرة على المجتمع الإسلامي.
2 ـ إقبال المسلمين الجدد إلى التعرف على الإسلام والقرآن وتعلمه ومعرفة أسراره ومعانيه وبالتالي استدعاء ذلك لوجود علماء وقرّاء.
3 ـ البدء بمرحلة تدوين الحديث، بعدما داخله التشويه والدسّ خصوصاً في العصر الأموي، ومن ثم بُعد الشقّة عن مرحلة الإسلام في سنينه الأولى.
4 ـ كثرة المحدّثين والرواة حيث امتدت الحركة العلمية لتشمل سائر الحواضر الإسلامية الكبرى في انطلاقة فريدة(8).
5 ـ انتشار الفلسفة بمواضيعها وشخصياتها ومفاهيمها ومصطلحاتها الجديدة: « ولا مشاحّة أن انتشار العلم في ذلك الحين، قد ساعد على فك الفكر من عقاله، فأصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الإسلامي... »(9).
ولا نغفل هنا عن أن الحكام العباسيين ـ بخلاف الحكام الأمويين ـ قد نشأوا في بيت علمي عريق حيث يعود نسبهم إلى عبدالله بن عباس المشهور بأنه حبر هذه الأمة، ويعني ذلك تشجيعهم لحركة العلم والفكر الديني بالأساس ولو كان ذلك لغايات في نفوس العباسيين..
دور الإمام الصادق عليه السّلام:
أمام هاتين الحالتين الخطيرتين للأمة الإسلامية في المرحلة التي عاشها صادق أهل البيت عليهم السّلام كان لابد من موقف واضح وحاسم وحازم يتخذه الصادق عليه السّلام على الصعيد الفكري والعملي..
أولاً: موقفه من السلطة: أدرك الإمام الصادق عليه السّلام أن الظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية المحيطة به لم تكن لتساعده للقيام بأي ثورة أو انتفاضة عسكرية أو سياسية، وهو قد رأى وعلم ما جرى لجده الحسين عليه السّلام وقبله لأخيه الحسن عليه السّلام ولأبيهما علي عليه السّلام، وما جرى بعد ذلك من تجديد للموقف العاطفي والانفعالي مع عمه زيد بن علي عليه السّلام حيث أيّده المحبّون لأهل البيت ثم خذلوه كما خذلوا أجداده، وأدرك أيضاً أن أيّ ثورة تنتهي لا بفشل صاحبها فقط وإنما بضياع الخط والرسالة والمذهب أيضاً، ولذا فقد كان يعلم، وهو وريث الأوصياء، بفشل حركة ابن عمه محمّد بن عبدالله المحض، وأدرك كذلك أنّ المرحلة تقتضي منه كما اقتضت من أبيه الباقر عليه السّلام شقّ طريق العلم وسبر أغواره وتبيان خفاياه ورسم معالمه. ومن أجل ذلك أي لعدم وجود بديل آخر إن هو قُتل ليؤدي الدور العلمي الأساسي المطلوب في تلك المرحلة، وحيث إن السلطان والثورة وسائل لخدمة الدين، فمع تعسرّهما هناك الوسائل الأُخرى المهيّأة لخدمة دين الله. وهذا ما وجده وقام به الإمام الصادق عليه السّلام خير قيام.
ثانياً: من مواقفه الشجاعة: قبل الحديث عن الجهاد العلمي والفكري للإمام الصادق عليه السّلام لابد من الإشارة والتوقف عند شجاعة وجرأة الإمام الصادق عليه السّلام في مواقف شهد له التاريخ بها.. نشير لبعضها حتّى لا تذهبنّ المذاهب والأهواء بأفكار أحد، فمن ذلك:
أ) حكمة بسيطة واجه بها المنصور العباسي عندما تسلّط عليه الذباب بشكل متكرر فتضايق المنصور وسأل الصادق: لأي شيء خلق الله الذباب ؟ فكانت وبشكل غير مباشر كلمة حق في وجه سلطان جائر: « ليذلّ به الجبّارين »(10).
ب) موقفه من والي المنصور على المدينة شيبة بن غفال الذي مدح الحاكم العباسي وأهل بيته وشتم علياً وأهل بيته عليهم السّلام من على منبر مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فكان مما قاله الصادق عليه السّلام: « أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك ( المنصور ) به أَولى، فاختبرْ يا من ركب غير راحلته وأكل غير زاده، ارجع مأزوراً »(11).
ج ) كلامه للمنصور في مجلسه بعد أن قصد إحراجه بكلمات، فكان الرد الحاسم من الإمام الصادق عليه السّلام: « أنا فرع من فُرُع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت النبوّة، وأديب السَّفَرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفَين إلى يوم الحشر » وكان من جواب المنصور: «... هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء... »(12).
د) كان مما يُعلّم به الصادق عليه السّلام أصحابه رفض الارتباط بالسلطان الظالم بأي نوع من أنواع الارتباط، ولم يَرِد عن الصادق عليه السّلام حضوره عند حاكم إلا عندما كان يستدعيه هؤلاء بالقوة إلى قصورهم، كما فعل به السفّاح والمنصور حين استقدماه مرات عديدة من المدينة إلى العراق. وكان مما يقول لأصحابه: « إن أعوان الظَلَمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد.. »(13). وردّ على المنصور مرة بقوله: «... من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك.. »(14).
هـ) إن علاقة الصادق عليه السّلام بالحكام ـ العباسيين بالخصوص ـ كانت علاقة الندّ للندّ، فلم يُؤْثَر عنه مبايعته لأحد منهم، ولم يوجس منهم خيفة أبداً ولم يخضع لهم، بل ظلّت العلاقة سلبية خصوصاً من جانبهم خوفاً من دوره وخطره عليهم ومعرفتهم بحقه وفضله ودوره بين الناس، ولذا لم يتجرأوا على قتله علناً بل دسّ له المنصور السمّ سراً حتّى استُشهد. ولقد همّ المنصور بقتله غير مرة، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله نظر إليه وهابه ولم يقتله(15)، ولقي جعفر بن محمد أبا جعفر ( المنصور ): فقال: «... رُدّ علي قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها، قال: إيّاي تكلم بهذا الكلام! والله لأزهقنَّ نفسك »(16). وقال مرة للمنصور: « إنه لم ينل أحد منا أهل البيت دماً إلا سلبه الله مُلكه، فغضب لذلك واستشاط... »(17).
وهناك مواقف أخرى كثيرة تدل على شجاعته وجرأته واستعداده للجهاد لو كانت هناك إمكانية وظروف مهيأة.
ثالثاً: الدور العلمي الأساسي للصادق عليه السّلام: قبل التطرق إلى الجوانب الأساسية في دور الإمام الصادق عليه السّلام الفكري نقتطف بعض الأقوال والشواهد على أهمية دوره وموقعه ونشاطه العلمي آنذاك.
لقد كان الإمام الصادق عليه السّلام « يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائلها عمل الحكام في الإسلام.. وهو بوجه خاص حجر الزاوية من صرح ( أهل البيت ).. وهو مقيم في المدينة.. يتحلّق فيها المتفقهة، حول علماء الإسلام في مسجد الرسول.. »(18) و « ينقل عن الصادق من العلوم ما لا يُنقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة ( الذين حدّثوا عنه ) على اختلافهم في الآراء والمقالات، وكانوا أربعة آلاف رجل »(19). و « لا يفوتنا أن نشير إلى أن الذي تزعم تلك الحركة هو المسمى بالإمام الصادق، وهو رجل رحب أفق الفكر، بعيد أغوار العقل، ملمّ كل الإلمام بعلوم عصره، ويعتبر في الواقع أول من أسّس المدارس الفقهية المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء القاصية »(20) حتّى قال قائلهم: « أدركت في هذا المسجد ـ يعني الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمّد... »(21). ولقد نقل عن ابن خلدون قوله: « ولو صحّ السند إلى جعفر الصادق لكان نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات، وقد صحّ أنه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول »(22). وعن تلامذة الصادق يُنقل: « كان تلاميذ الصادق مدوّنين كباراً.. ومن بعد وفاة الصادق في عام 148 دوّن أربعة آلاف من التلاميذ في كل علومه، ومن جملتها ما يسمّى بالأصول الأربعمائة.. وتلاميذ الصادق المشهورون من كبار أهل السنة أشياخ للفقهاء في جميع المذاهب وشُرّفوا بالرواية عنه، ووقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال له.. »(23).
وعن زمان الإمام الصادق عليه السّلام يُنقل: « وقد ظهرت فجأة حركة علمية غير عادية، والأرض تهيّأت لأن يعرض كل إنسان ما يملك من أفكار »، و « برزت سوق لمعركة عقائدية حامية €»، و « شُرع في البحوث حول تفسير القرآن وقراءة آياته » و « ظهرت طبقات منتشرة باسم الفقهاء »، و « كل هؤلاء قد واجَهَهم الإمام عليه السّلام: « جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه »(24).
نكتفي بما نقلنا عن مصادر مختلفة لنكتشف أهمية الدور الفكري والعلمي الريادي للصادق عليه السّلام.
ولا شك أن الخطوات التي سعى الصادق عليه السّلام بها لتأدية دوره الأساسي لم تقتصر على أسلوب واحد في تبليغ رسالة جده صلّى الله عليه وآله، بل لم يترك الصادق فرصة سانحة ولا وسيلة ممكنة أو مناسبة إلا واتّبعها لتحقيق ذلك الغرض. ويكفينا دليلاً على ذلك مناظراته مع العلماء ومع المبتدعين من الزنادقة والملحدين والمشككين بدين الله، وجلساته الوعظية والتبليغية من على منبر جده صلّى الله عليه وآله ليُعلّم الناس علوم الإسلام والقرآن من فقه ورواية وحديث وتفسير وبيان وأخلاق وعرفان، وكل ما يحتاجه المسلم في حياته، إلى إرشاداته العلمية المحضة كالطب والكيمياء وغيرهما، فكان بعض تلامذته أن برع به واشتهر كهشام بن الحكم وجابر بن حيّان وغيرهما كثير.
فيمكننا إذاً مما تقدّم من الأخبار وغيرها من الأحاديث التي تبدي الإعجاب، استنتاج النقاط التالية عن الصادق عليه السّلام ودوره وعصره وشخصيته:
1 ـ شخصية الصادق عليه السّلام مرموقة عند كل المسلمين وكان منهم حترامهم وتقديرهم له.
2 ـ إن الصادق ما كان ليؤدي هذا الدور لكونه شخصية عادية ولا لكونه صاحب مذهب نسب إليه، وإنما هو حلقة في سلسلة الأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهم السّلام. ولو نُسب له المذهب الجعفري فإنّ النسبة مجازية لأنه أكمل دور آبائه وأجداده.
3 ـ إن الصادق عليه السّلام بحر من العلوم بمختلف أنواعها، ولذا كانت الروايات المستفيضة عن تعليمه ومناظراته ورسائله في مختلف المجالات.
4 ـ لم يقتصر دور الصادق عليه السّلام العلمي على تلامذته من أتباع مذهبه، وإنما كان همه إيصال الفكر الرسالي إلى الأمّة جمعاء.
5 ـ إن فضله العلمي البارز لواضح من حاجة الكل إليه واستغنائه عن الكل، فلم يتتلمذ الصادق عند أحد من علماء عصره سوى ما أخذه عن أبيه الباقر وجده زين العابدين عليه السّلام.
6 ـ إن روايته كانت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله مباشرة دون أن يحتاج لأن يُسأل عن السند، لأن سنده في الروايات ( إن احتاج إلى سند ) هم آباؤه المعصومون؛ أبوه محمد عن جده زين العابدين عن الحسين عن علي أو الزهراء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
7 ـ إن الصادق عليه السّلام قد أمر بتدوين الحديث، فكان بحق أوّل من أمر بالتدوين(25).
8 ـ لقد أعاد الصادق عليه السّلام بدوره العلمي والفكري ـ وإكمالاً لنهج أبيه الباقر ـ الاعتبار لموقعية أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ودورهم الطبيعي في الحياة الإسلامية العامة، بعد فترة من الظلم والاضطهاد والإجحاف والإبعاد والإلغاء امتدت طيلة العهد الأموي ( كما تجددت محاولات أخرى قام بها العباسيون لإلغاء دورهم لاحقاً ).
وبالخلاصة: جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام عَلَم آخر من أعلام الهدى، قاد سفينة النجاة في بحر الفتن رغم تلاطم أمواج الظلم والاستبداد والانحراف عند الحكام والضياع عند الأمّة المسلمة.
وقف صادحاً بالحق من على منبر جده صلّى الله عليه وآله مجاهداً بالكلمة شاهداً على الأمّة والحكام، غير بعيد عن الجهاد، مُلقياً الحجة ليكون شهيداً آخر مع قافلة الشهداء الأولياء بسمّ دسّه إليه المنصور ظنّاً منه أنه يخرس صوت الحق، ولكن المنصور رغم دهائه غفل عن أن الحق لا يقتله السمّ.. رحل الصادق عليه السّلام إلى ربه بعد أن أدّى الأمانة وقال بصدق: « الحمد لله الذي لم يُخرجني من الدنيا حتّى بيّنتُ للناس جميع ما تحتاج إليه »(26).
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
عصر الإمام الصادق عليه السّلام:
عاش الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام في مرحلة تعتبر من أدق المراحل التاريخية الإسلامية في نواحيها السياسية والفكرية والاجتماعية.. فقد عاش من الناحية السياسية والاجتماعية مرحلةً مخضرمة تختصر في طياتها كل الظروف والأساليب في تشابهها واختلافها لدولتين لعبتا دوراً حسّاساً وخطيراً في التاريخ الإسلامي، هما دولة بني أمية ثم دولة بني العباس.
ورغم الاختلاف في سنة ولادته بين سنة ثمانين أو ثلاث وثمانين للهجرة فقد عاصر الإمام الصادق عليه السّلام الدولتين في هذه المدة الطويلة: « مع جده وأبيه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه بعد جده تسع عشرة سنة وبعد أبيه أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة، وكان في أيام إمامته بقية ملك هشام بن عبدالملك، وملك الوليد بن يزيد بن عبدالملك، وملك يزيد بن الوليد الناقص، وملك إبراهيم بن الوليد وملك مروان بن محمد الحمار، ثم صارت المسوّدة ( لاتّخاذهم شعار السواد ) مع أبي مسلم سنة اثنتين وثلاثين ومئة فملك أبو العباس الملقب بالسفاح، ثم ملك أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، وتوفي الصادق بعد عشر سنين من ملكه »(1)...
ومهما يكن من أمر فلابد من التوقف عند الحالة السياسية والاجتماعية لتلك المرحلة التي عايشها صادق أهل البيت عليهم السّلام قبل الانتقال لمعرفة الحالة الفكرية ودور الصادق عليه السّلام.
الحالة السياسية العامة:
لقد آلت الخلافة الأموية إلى مُلْك عضوض بعيد عن الإسلام وأحكامه منذ العهد المبكر لمعاوية بن أبي سفيان. ولقد بلغ ـ وكما هو معروف ـ من أمر حكام تلك الدولة أن حوّلوا « الخلافة » من موقع يقود الأمة الإسلامة إلى الله، حوّلوه إلى موقع يقود الأمة إلى خدمة أهوائهم ومصالحهم وسلطانهم بشتى الوسائل غير الشرعية، من قتل ونهب وسبي وظلم وترف واستبداد، وذلك تحت ظلال الشعارات الإسلامية الكبيرة! حتّى أضحى القتل سُنّة، وأضحى التلاعب بالرؤوس بدعة مستساغة، ولم يقف الأمر عند رؤوس الناس الأبرياء ورؤوس الثائرين على النظام الأموي الحاكم حتّى تعدّاه ليتلاعب الحكّام الأمويون برؤوس أهلهم وإخوتهم وبني عمومتهم من الأمويين أيضاً طمعاً بسلطان أو خوفاً من ضياعه.. ولقد تفاقم الأمر كثيراً في السنوات الأخيرة للحكم الأموي وبالتحديد بعد وفاة هشام بن عبدالملك واستيلاء الوليد على الخلافة ثم مقتله، وما حدث من فتن واضطرابات واهتزاز لأركان الحكم الأموي وبالتحديد بعد موت هشام بن عبدالملك واستيلاء الوليد على الخلافة واهتزاز أركان الحكم الأموي وحبل بني مروان حتّى حُكْم آخر ملوكهم « مروان الحمار » وانتصار الحركة العباسية عليهم في خراسان والعراق(2).
فآخر عهد بني أمية وبني مروان إذاً كان عهد فتن واضطرابات وثورات تضاف إلى حالة تهتك سياسي وخُلُقي بلغ حداً من الاستهتار والسقوط تخجل منه صفحات التاريخ الإسلامي نفسها، حتى بلغ الأمر بالطبري في تاريخه إلى أن يقول: « تركتُ الأخبار الواردة عنه ( الوليد ) بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها » وعبّر أخوه عنه بعد قتله: « بعداً له! أشهد أنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً... »(3).
ولم تكن بداية دولة بني العباس إلا مرحلة أخرى من الحروب والاضطرابات والثورات والعمليات العسكرية المتنقلة للقضاء على آخر ذيول الحكم البائد وتثبيت المواقع السياسية والعسكرية للعهد الجديد. ويلازم ذلك بالطبع ـ مع عدم قداسة الغاية ـ البطش بكل مكامن الخطر ورموزه المُحتمَلين على الدولة الفتية في المدَيَين القريب والبعيد. وهو هنا الخطر الشيعي العلوي على الدولة التي قامت وانتصرت في ظل شعار دغدغ مشاعر الناس خصوصاً الخراسانيين « الدعوة للرضا من أهل البيت »(4). ولذلك فقد كان يرى العباسيون أن المنافس الأساسي لهم بعد عدوهم المشترك « بني أمية » هم أبناء عمهم العلويون من أبناء الحسن والحسين وخصوصاً في شخصية جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام ومحمد بن عبدالله بن الحسن المثنّى الذي كان قد بايعه السفّاح والمنصور في عهد بني أمية(5) و ( يُروى ذلك مرتين ).
ومما لا شك فيه أن الوضع السياسي والعسكري المضطرب والمتردي يترك أثره الخطير على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية أيضاً، فعدم انسجام الناس الكلي مع حكامهم إلا بالترهيب والترغيب، وكثرة الفتوحات الإسلامية في هذا القرن الهجري الأول، أدّيا معاً إلى اضطراب وتداخل فكري خطير تناول الجوانب الفقهية والعقلية والروائية والتفسيرية والمفهومية الإسلامية وغيرها.
الحالة الفكرية والعلمية:
لقد بقي الحكام غير منسجمين ولا مهتمّين أصلاً بالقضايا الفكرية والعلمية والأدبية إلا بما يخدم سلطانهم ويثبّت زعامتهم، ولذا خلا العهد الأموي في غالبه من نمو وتطور للفكر والعلم الديني وغيره، إلا أن الفتوحات الإسلامية التي أدخلت عناصر جديدة غير عربية وغير مسلمة إلى الإسلام أحوجت المسلمين الجدد والمترجمين إلى البدء بأعمال التدريس والتعليم، وبدأت حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية وغيرهما.. فانصرف الناس عن الحكام وانشغل الحكام الأمويون بأنفسهم وبسلطانهم في آخر عهدهم ـ كما أشرنا ـ فبرزت بوادر نهضة فكرية وعلمية وحركة فلسفية خطيرة، ولذا فإن: « الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية في آخر الدولة الأموية أرقى من أولها... »(6) و « قد ساعد على التحرك الفكري السريع في مطلع الدولة العباسية قيام الفترة ما بين الدولتين التي حررت الفكر من رقابة الحكم وقيوده، بتأثير انصراف الحكم لترميم مواقعه، في محاولة لاستعادة السيطرة الشاملة... »(7).
ولقد تلخصت خطوات الحركة الفكرية عامة في تلك الحقبة الزمنية بالأمور التالية:
1 ـ بدء حركة الترجمات المختلفة وإدخالها مواضيع جديدة وخطيرة على المجتمع الإسلامي.
2 ـ إقبال المسلمين الجدد إلى التعرف على الإسلام والقرآن وتعلمه ومعرفة أسراره ومعانيه وبالتالي استدعاء ذلك لوجود علماء وقرّاء.
3 ـ البدء بمرحلة تدوين الحديث، بعدما داخله التشويه والدسّ خصوصاً في العصر الأموي، ومن ثم بُعد الشقّة عن مرحلة الإسلام في سنينه الأولى.
4 ـ كثرة المحدّثين والرواة حيث امتدت الحركة العلمية لتشمل سائر الحواضر الإسلامية الكبرى في انطلاقة فريدة(8).
5 ـ انتشار الفلسفة بمواضيعها وشخصياتها ومفاهيمها ومصطلحاتها الجديدة: « ولا مشاحّة أن انتشار العلم في ذلك الحين، قد ساعد على فك الفكر من عقاله، فأصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كل حاضرة من حواضر العالم الإسلامي... »(9).
ولا نغفل هنا عن أن الحكام العباسيين ـ بخلاف الحكام الأمويين ـ قد نشأوا في بيت علمي عريق حيث يعود نسبهم إلى عبدالله بن عباس المشهور بأنه حبر هذه الأمة، ويعني ذلك تشجيعهم لحركة العلم والفكر الديني بالأساس ولو كان ذلك لغايات في نفوس العباسيين..
دور الإمام الصادق عليه السّلام:
أمام هاتين الحالتين الخطيرتين للأمة الإسلامية في المرحلة التي عاشها صادق أهل البيت عليهم السّلام كان لابد من موقف واضح وحاسم وحازم يتخذه الصادق عليه السّلام على الصعيد الفكري والعملي..
أولاً: موقفه من السلطة: أدرك الإمام الصادق عليه السّلام أن الظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية المحيطة به لم تكن لتساعده للقيام بأي ثورة أو انتفاضة عسكرية أو سياسية، وهو قد رأى وعلم ما جرى لجده الحسين عليه السّلام وقبله لأخيه الحسن عليه السّلام ولأبيهما علي عليه السّلام، وما جرى بعد ذلك من تجديد للموقف العاطفي والانفعالي مع عمه زيد بن علي عليه السّلام حيث أيّده المحبّون لأهل البيت ثم خذلوه كما خذلوا أجداده، وأدرك أيضاً أن أيّ ثورة تنتهي لا بفشل صاحبها فقط وإنما بضياع الخط والرسالة والمذهب أيضاً، ولذا فقد كان يعلم، وهو وريث الأوصياء، بفشل حركة ابن عمه محمّد بن عبدالله المحض، وأدرك كذلك أنّ المرحلة تقتضي منه كما اقتضت من أبيه الباقر عليه السّلام شقّ طريق العلم وسبر أغواره وتبيان خفاياه ورسم معالمه. ومن أجل ذلك أي لعدم وجود بديل آخر إن هو قُتل ليؤدي الدور العلمي الأساسي المطلوب في تلك المرحلة، وحيث إن السلطان والثورة وسائل لخدمة الدين، فمع تعسرّهما هناك الوسائل الأُخرى المهيّأة لخدمة دين الله. وهذا ما وجده وقام به الإمام الصادق عليه السّلام خير قيام.
ثانياً: من مواقفه الشجاعة: قبل الحديث عن الجهاد العلمي والفكري للإمام الصادق عليه السّلام لابد من الإشارة والتوقف عند شجاعة وجرأة الإمام الصادق عليه السّلام في مواقف شهد له التاريخ بها.. نشير لبعضها حتّى لا تذهبنّ المذاهب والأهواء بأفكار أحد، فمن ذلك:
أ) حكمة بسيطة واجه بها المنصور العباسي عندما تسلّط عليه الذباب بشكل متكرر فتضايق المنصور وسأل الصادق: لأي شيء خلق الله الذباب ؟ فكانت وبشكل غير مباشر كلمة حق في وجه سلطان جائر: « ليذلّ به الجبّارين »(10).
ب) موقفه من والي المنصور على المدينة شيبة بن غفال الذي مدح الحاكم العباسي وأهل بيته وشتم علياً وأهل بيته عليهم السّلام من على منبر مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فكان مما قاله الصادق عليه السّلام: « أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك ( المنصور ) به أَولى، فاختبرْ يا من ركب غير راحلته وأكل غير زاده، ارجع مأزوراً »(11).
ج ) كلامه للمنصور في مجلسه بعد أن قصد إحراجه بكلمات، فكان الرد الحاسم من الإمام الصادق عليه السّلام: « أنا فرع من فُرُع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت النبوّة، وأديب السَّفَرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفَين إلى يوم الحشر » وكان من جواب المنصور: «... هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء... »(12).
د) كان مما يُعلّم به الصادق عليه السّلام أصحابه رفض الارتباط بالسلطان الظالم بأي نوع من أنواع الارتباط، ولم يَرِد عن الصادق عليه السّلام حضوره عند حاكم إلا عندما كان يستدعيه هؤلاء بالقوة إلى قصورهم، كما فعل به السفّاح والمنصور حين استقدماه مرات عديدة من المدينة إلى العراق. وكان مما يقول لأصحابه: « إن أعوان الظَلَمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد.. »(13). وردّ على المنصور مرة بقوله: «... من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك.. »(14).
هـ) إن علاقة الصادق عليه السّلام بالحكام ـ العباسيين بالخصوص ـ كانت علاقة الندّ للندّ، فلم يُؤْثَر عنه مبايعته لأحد منهم، ولم يوجس منهم خيفة أبداً ولم يخضع لهم، بل ظلّت العلاقة سلبية خصوصاً من جانبهم خوفاً من دوره وخطره عليهم ومعرفتهم بحقه وفضله ودوره بين الناس، ولذا لم يتجرأوا على قتله علناً بل دسّ له المنصور السمّ سراً حتّى استُشهد. ولقد همّ المنصور بقتله غير مرة، فكان إذا بعث إليه ودعاه ليقتله نظر إليه وهابه ولم يقتله(15)، ولقي جعفر بن محمد أبا جعفر ( المنصور ): فقال: «... رُدّ علي قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها، قال: إيّاي تكلم بهذا الكلام! والله لأزهقنَّ نفسك »(16). وقال مرة للمنصور: « إنه لم ينل أحد منا أهل البيت دماً إلا سلبه الله مُلكه، فغضب لذلك واستشاط... »(17).
وهناك مواقف أخرى كثيرة تدل على شجاعته وجرأته واستعداده للجهاد لو كانت هناك إمكانية وظروف مهيأة.
ثالثاً: الدور العلمي الأساسي للصادق عليه السّلام: قبل التطرق إلى الجوانب الأساسية في دور الإمام الصادق عليه السّلام الفكري نقتطف بعض الأقوال والشواهد على أهمية دوره وموقعه ونشاطه العلمي آنذاك.
لقد كان الإمام الصادق عليه السّلام « يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائلها عمل الحكام في الإسلام.. وهو بوجه خاص حجر الزاوية من صرح ( أهل البيت ).. وهو مقيم في المدينة.. يتحلّق فيها المتفقهة، حول علماء الإسلام في مسجد الرسول.. »(18) و « ينقل عن الصادق من العلوم ما لا يُنقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقاة ( الذين حدّثوا عنه ) على اختلافهم في الآراء والمقالات، وكانوا أربعة آلاف رجل »(19). و « لا يفوتنا أن نشير إلى أن الذي تزعم تلك الحركة هو المسمى بالإمام الصادق، وهو رجل رحب أفق الفكر، بعيد أغوار العقل، ملمّ كل الإلمام بعلوم عصره، ويعتبر في الواقع أول من أسّس المدارس الفقهية المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء القاصية »(20) حتّى قال قائلهم: « أدركت في هذا المسجد ـ يعني الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمّد... »(21). ولقد نقل عن ابن خلدون قوله: « ولو صحّ السند إلى جعفر الصادق لكان نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه، فهم أهل الكرامات، وقد صحّ أنه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول »(22). وعن تلامذة الصادق يُنقل: « كان تلاميذ الصادق مدوّنين كباراً.. ومن بعد وفاة الصادق في عام 148 دوّن أربعة آلاف من التلاميذ في كل علومه، ومن جملتها ما يسمّى بالأصول الأربعمائة.. وتلاميذ الصادق المشهورون من كبار أهل السنة أشياخ للفقهاء في جميع المذاهب وشُرّفوا بالرواية عنه، ووقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال له.. »(23).
وعن زمان الإمام الصادق عليه السّلام يُنقل: « وقد ظهرت فجأة حركة علمية غير عادية، والأرض تهيّأت لأن يعرض كل إنسان ما يملك من أفكار »، و « برزت سوق لمعركة عقائدية حامية €»، و « شُرع في البحوث حول تفسير القرآن وقراءة آياته » و « ظهرت طبقات منتشرة باسم الفقهاء »، و « كل هؤلاء قد واجَهَهم الإمام عليه السّلام: « جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه »(24).
نكتفي بما نقلنا عن مصادر مختلفة لنكتشف أهمية الدور الفكري والعلمي الريادي للصادق عليه السّلام.
ولا شك أن الخطوات التي سعى الصادق عليه السّلام بها لتأدية دوره الأساسي لم تقتصر على أسلوب واحد في تبليغ رسالة جده صلّى الله عليه وآله، بل لم يترك الصادق فرصة سانحة ولا وسيلة ممكنة أو مناسبة إلا واتّبعها لتحقيق ذلك الغرض. ويكفينا دليلاً على ذلك مناظراته مع العلماء ومع المبتدعين من الزنادقة والملحدين والمشككين بدين الله، وجلساته الوعظية والتبليغية من على منبر جده صلّى الله عليه وآله ليُعلّم الناس علوم الإسلام والقرآن من فقه ورواية وحديث وتفسير وبيان وأخلاق وعرفان، وكل ما يحتاجه المسلم في حياته، إلى إرشاداته العلمية المحضة كالطب والكيمياء وغيرهما، فكان بعض تلامذته أن برع به واشتهر كهشام بن الحكم وجابر بن حيّان وغيرهما كثير.
فيمكننا إذاً مما تقدّم من الأخبار وغيرها من الأحاديث التي تبدي الإعجاب، استنتاج النقاط التالية عن الصادق عليه السّلام ودوره وعصره وشخصيته:
1 ـ شخصية الصادق عليه السّلام مرموقة عند كل المسلمين وكان منهم حترامهم وتقديرهم له.
2 ـ إن الصادق ما كان ليؤدي هذا الدور لكونه شخصية عادية ولا لكونه صاحب مذهب نسب إليه، وإنما هو حلقة في سلسلة الأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهم السّلام. ولو نُسب له المذهب الجعفري فإنّ النسبة مجازية لأنه أكمل دور آبائه وأجداده.
3 ـ إن الصادق عليه السّلام بحر من العلوم بمختلف أنواعها، ولذا كانت الروايات المستفيضة عن تعليمه ومناظراته ورسائله في مختلف المجالات.
4 ـ لم يقتصر دور الصادق عليه السّلام العلمي على تلامذته من أتباع مذهبه، وإنما كان همه إيصال الفكر الرسالي إلى الأمّة جمعاء.
5 ـ إن فضله العلمي البارز لواضح من حاجة الكل إليه واستغنائه عن الكل، فلم يتتلمذ الصادق عند أحد من علماء عصره سوى ما أخذه عن أبيه الباقر وجده زين العابدين عليه السّلام.
6 ـ إن روايته كانت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله مباشرة دون أن يحتاج لأن يُسأل عن السند، لأن سنده في الروايات ( إن احتاج إلى سند ) هم آباؤه المعصومون؛ أبوه محمد عن جده زين العابدين عن الحسين عن علي أو الزهراء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
7 ـ إن الصادق عليه السّلام قد أمر بتدوين الحديث، فكان بحق أوّل من أمر بالتدوين(25).
8 ـ لقد أعاد الصادق عليه السّلام بدوره العلمي والفكري ـ وإكمالاً لنهج أبيه الباقر ـ الاعتبار لموقعية أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ودورهم الطبيعي في الحياة الإسلامية العامة، بعد فترة من الظلم والاضطهاد والإجحاف والإبعاد والإلغاء امتدت طيلة العهد الأموي ( كما تجددت محاولات أخرى قام بها العباسيون لإلغاء دورهم لاحقاً ).
وبالخلاصة: جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام عَلَم آخر من أعلام الهدى، قاد سفينة النجاة في بحر الفتن رغم تلاطم أمواج الظلم والاستبداد والانحراف عند الحكام والضياع عند الأمّة المسلمة.
وقف صادحاً بالحق من على منبر جده صلّى الله عليه وآله مجاهداً بالكلمة شاهداً على الأمّة والحكام، غير بعيد عن الجهاد، مُلقياً الحجة ليكون شهيداً آخر مع قافلة الشهداء الأولياء بسمّ دسّه إليه المنصور ظنّاً منه أنه يخرس صوت الحق، ولكن المنصور رغم دهائه غفل عن أن الحق لا يقتله السمّ.. رحل الصادق عليه السّلام إلى ربه بعد أن أدّى الأمانة وقال بصدق: « الحمد لله الذي لم يُخرجني من الدنيا حتّى بيّنتُ للناس جميع ما تحتاج إليه »(26).
-------------------------------------------
1 ـ راجع بحار الأنوار / العلامة المجلسي 6:47 طـ مؤسسة الوفاء / بيروت / 1983مـ / 1403هـ. راجع كذلك: الطبري / تاريخ الأمم والملوك / محمد بن جرير / طـ دار سويدان / بيروت / ج 7 / ص 23 ـ 24.
2 ـ راجع بالتحديد تاريخ الطبري بخصوص زوال الحكم الأموي بدءاً بأحداث سنة 126هـ وما بعدها.
3 ـ المصدر نفسه ص 230 و 251.
4 ـ راجع المصدر نفسه في الخبر عن دعاة بني العباس والتقائهم بـ « الشيعة » في خراسان واستلام أموال الخمس والزكاة منهم، والدعوة للثأر للمظلومين من أهل البيت كالإمام الحسين وزيد ويحيى وغيرهم... ص 30 ـ 49 ـ 88 ـ 107 ـ 109 ـ 141 ـ 198 ـ 329 ـ 344 ـ 353 ـ 360 ـ 366 وغيرها.
5 ـ راجع في هذا الموضوع سيرة الأئمّة الأطهار / مرتضى مطهري / ترجمة مالك وهبي / طـ دار الهادي / بيروت 1991م / ص 109.
6 ـ ضحى الإسلام / أحمد أمين / ج 1 ص 2 ـ 3.
7 ـ الإمام الصادق / خصائصه / مميزاته / محمد جواد فضل الله / طـ 1، 1981م / دار الزهراء / بيروت / ص 118.
8 ـ المصدر نفسه / ص 126.
9 ـ مختصر تاريخ العرب / السيّد مير علي الهندي / ص 179.
10 ـ راجع البحار / مصدر سابق / ص 166.
11 ـ المصدر نفسه / ص 165 / وكذلك: مجالس الشيخ الطوسي / المجلس الثاني.
12 ـ المصدر نفسه / ص 167.
13 ـ راجع في هذه الروايات كتاب الكافي للكليني ج 5 / ص 106 ـ 107.
14 ـ البحار / مصدر سابق / ص 184.
15 ـ المصدر نفسه / ص 180.
16 ـ الطبري / مصدر سابق / ص 603.
17 ـ الكافي للكليني / كتاب الدعاء / باب الدعاء للكرب والهم والحزن.
18 ـ الإمام جعفر الصادق / المستشار عبدالحليم الجندي / مطابع الأهرام التجارية / القاهرة / طـ 1977م / ص 63.
19 ـ البحار / مصدر سابق / ص 28.
20 ـ مختصر تاريخ العرب / الهندي / ص 179.
21 ـ الإمام الصادق محمد جواد مصدر سابق / ص 129.
22 ـ الإمام جعفر الصادق / الجندي / مصدر سابق / ص 206.
23 ـ المصدر نفسه / ص 207 ـ 244 ـ 235.
24 ـ سيرة الأئمّة الأطهار / المطهري / ص 109 ـ 114 ـ 120 ـ 124 ـ 125 ـ 126.
25 ـ الإمام جعفر الصادق الجندي / ص 206 ـ 207.
26 ـ المصدر نفسه / ص 367.
1 ـ راجع بحار الأنوار / العلامة المجلسي 6:47 طـ مؤسسة الوفاء / بيروت / 1983مـ / 1403هـ. راجع كذلك: الطبري / تاريخ الأمم والملوك / محمد بن جرير / طـ دار سويدان / بيروت / ج 7 / ص 23 ـ 24.
2 ـ راجع بالتحديد تاريخ الطبري بخصوص زوال الحكم الأموي بدءاً بأحداث سنة 126هـ وما بعدها.
3 ـ المصدر نفسه ص 230 و 251.
4 ـ راجع المصدر نفسه في الخبر عن دعاة بني العباس والتقائهم بـ « الشيعة » في خراسان واستلام أموال الخمس والزكاة منهم، والدعوة للثأر للمظلومين من أهل البيت كالإمام الحسين وزيد ويحيى وغيرهم... ص 30 ـ 49 ـ 88 ـ 107 ـ 109 ـ 141 ـ 198 ـ 329 ـ 344 ـ 353 ـ 360 ـ 366 وغيرها.
5 ـ راجع في هذا الموضوع سيرة الأئمّة الأطهار / مرتضى مطهري / ترجمة مالك وهبي / طـ دار الهادي / بيروت 1991م / ص 109.
6 ـ ضحى الإسلام / أحمد أمين / ج 1 ص 2 ـ 3.
7 ـ الإمام الصادق / خصائصه / مميزاته / محمد جواد فضل الله / طـ 1، 1981م / دار الزهراء / بيروت / ص 118.
8 ـ المصدر نفسه / ص 126.
9 ـ مختصر تاريخ العرب / السيّد مير علي الهندي / ص 179.
10 ـ راجع البحار / مصدر سابق / ص 166.
11 ـ المصدر نفسه / ص 165 / وكذلك: مجالس الشيخ الطوسي / المجلس الثاني.
12 ـ المصدر نفسه / ص 167.
13 ـ راجع في هذه الروايات كتاب الكافي للكليني ج 5 / ص 106 ـ 107.
14 ـ البحار / مصدر سابق / ص 184.
15 ـ المصدر نفسه / ص 180.
16 ـ الطبري / مصدر سابق / ص 603.
17 ـ الكافي للكليني / كتاب الدعاء / باب الدعاء للكرب والهم والحزن.
18 ـ الإمام جعفر الصادق / المستشار عبدالحليم الجندي / مطابع الأهرام التجارية / القاهرة / طـ 1977م / ص 63.
19 ـ البحار / مصدر سابق / ص 28.
20 ـ مختصر تاريخ العرب / الهندي / ص 179.
21 ـ الإمام الصادق محمد جواد مصدر سابق / ص 129.
22 ـ الإمام جعفر الصادق / الجندي / مصدر سابق / ص 206.
23 ـ المصدر نفسه / ص 207 ـ 244 ـ 235.
24 ـ سيرة الأئمّة الأطهار / المطهري / ص 109 ـ 114 ـ 120 ـ 124 ـ 125 ـ 126.
25 ـ الإمام جعفر الصادق الجندي / ص 206 ـ 207.
26 ـ المصدر نفسه / ص 367.
تعليق