شعار العتبة العباسية المقدسة
معانٍ ودلالات ،
قراءةٌ بأبعاد فنية ذات عمق
تاريخي ورمزية عالية ..
الشعار هو رسمٌ يعبّر عن ذاتية صاحب الشعار
( شركة ، مؤسسة ، قطاع ، وغيرها ) وهو يتكوّن
في العادة من رمزٍ أو صورة أو خط ( خط الشعار الخاص )
يعكس بشكل عام طبيعة عمل الجهة التي يمثّلها ويعزّز
الشعور بالأصالة والاحترافية في تنفيذه وعناصره ويجذب الانتباه ،
ويترك انطباعاً لدى المتلقي ويعمل
على تشكّل نظره بأنّه فريد ومتميز ،
وهو بمثابة الشعلة في رأس الجبل يجعل الناس
أو المجتمع المحيط يهتدون إلى المُنشأة أو المؤسسة
أو أي خدمة مقدّمة من صاحب الشعار ،
هذا بالنسبة للشعار الاعتيادي فما بالك بشعارٍ ينتسب
الى عتبة أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) .
الأستاذ الشاعر علي الصفار معاون نائب الأمين
للعتبة العباسية المقدسة كانت له قراءة لشعار
العتبة المقدسة وأطلَعَنا عليها ،
حيث بيّن : " كثرٌ هم المبدعون الذين يعملون
في خدمة أبي الفضل العباس ( عليه السلام )
وأغلب هؤلاء يعملون دون أن يعلم بهم أحد ،
إمّا لكونهم ليسوا بالواجهة مباشرة ،
أو لأنّهم لا يريدون الظهور والشهرة من تلقاء أنفسهم ،
ويعتبرون عملهم مع المولى الذي يتشرّفون بخدمته دائماً ،
وقليلٌ منهم يظهر للعيان شخصاً ،
بالرغم من أنّه ظاهر بلمساته الفنية وإبداعه وعمله ،
جزى الله الجميع خيراً وأجرهم على المولى أبي
الفضل العباس ( عليه السلام) ومن هؤلاء الإخوة الأعزاء
- الذين تركوا بصمة فنية رائعة لا تُنسى ،
حيث نجدها في كلّ كتاب من كتب العتبة المقدسة ،
وعلى أوراق المخاطبات الداخلية منها والخارجية -
مصمِّم شعار العتبة المقدسة الأستاذ حيدر طالب عبد الأمير
مسؤول شعبة الأنترنت في العتبة العباسية المقدسة .
هذا الشعار الرائع بأبعاده الفنية وعمقه التاريخي ورمزيته العالية ،
ولا أدري هل أنّ الأخ المصمم الذي نعتزّ به كان يدرك تمام
فنية وعمق ورمزية ما جادت به مخيلته ورسمت أنامله ؟
أو أنّه للحظة إبحار فكري في بحر الجود والفضائل أُلهم ذلك ؟
وفي كلّ الأحوال ،
فقد وُفِّق بذلك توفيقاً كبيراً جداً ،
وهنيئاً له ما قدّم من إيحاء عظيم في مدار الخدمة وفلك
هذا الوجود ليكتب في سفر الإبداع والخلود .
ولأنني أدرك عمق هذا الشعار ،
وأمعن النظر فيه دائما ،
وأقرأه من كلّ جوانبه ،
وأغور في عمق معانيه ،
وأتفحّص مفرداته وأستعين بالخيال الفني والبعد التاريخي
في بعض خطوطه الهندسية ،
فإنني أرى في هذا الشعار رمزية عالية وكما سأبيّن :
أولاً : رمزية الكف :
وضع المُصمّمُ الكفَّ أساساً لشعار العتبة المقدسة ،
وهذا يلفت انتباه الناظر إليه ،
ولا يستطيع أن يتصوّر أمراً غير أبي الفضل العباس
( عليه السلام ) وهو قطيع الكفين .
إذن ،رَسْمُ الكفّ أساساً في هذا الشعار له مدلولُهُ الواضح ،
وإشارته إلى العباس ( عليه السلام ) وهو المركز والمرتكز
وهو الأساس الذي أقيم عليه الشعار ،
لذا لم يكن له منافس من المفردات الأُخَر المتمّمة للشعار .
ثانياً : الرسم الهندسي للكفّ والمدلولات الأُخَر :
لم يكن رسم الكفّ رسماً يحاكي الكفّ الواقعية أو ما يقرب منها ،
بل هو رسم هندسي له دلالات عدة ،
حسب قراءتي وهي : 1- كلمة " عباس " : وهذه الكلمة ،
وإن لم تكن كما يكتبها الخطاط ،
أو يوزّع حروفها الكاتب ،
إلّا أنّها تُقرأ برمزيتها ( عباس ) بلا أدنى شك بوجود :
• حرف العين المتمثّل بالإبهام المعقوف إلى اليمين .
• النقطة البارزة والواضحة والمتمركزة وسط الكف ،
وهي إشارة لحرف الباء ،
وبهاتين الحركتين ( العين والنقطة ) ،
ترسم مخيلة الناظر حروف السين المتمثلة برؤوس الأصابع ،
والنهاية السفلى المعقوفة من الخنصر إلى الإبهام ،
وكذا الألف ما فوق النقطة ،
وهذا تعبيرٌ فني رائد يجعلنا نقرأ الكلمة دون العود
إلى ترتيبها المعتاد ،
وخطّها المألوف ،
وهذه هي الرمزية ..
ولا ننسى ما للنقطة من معان ،
وأن وجودها في المركز له مدلولات لا مجال لذكرها .
2- طائر الحمام : ولو نظرنا إلى الكف أيضاً ،
نجده رسماً هندسياً لطائر ، وهو حمامة السلام ،
حيث يظهر الإبهامُ منقاراً ،
والأصابع الباقية جناحاً مرفوعاً ،
وهذه رمزية أخرى للتصميم ،
ولها مدلول رفيع يعني :
أنّ الكفّ التي قُطعت قد حققت السلام والأمن لنا
من خلال تضحيتها العظيمة .
ثالثاً : النجمة الثمانية :
أنا لا أدري ،
هل أنّ المصمّم المبدع يدرك ماهية اختيار
هذا الشكل الهندسي ،
وعمقه التاريخي ،
ومدلوله العقائدي عند العراقيين القدامى أم لا ؟
ولكنه بكلّ الأحوال وُفّق بهذا الاختيار ،
فمن الناحية الفنية الشكل جميل ،
وقد ملأ به الفراغ الواقع يسار الكفّ ،
وأضاف لمسة فنية حول الكفّ أيضاً ،
وخلق تدرّج ألوان النجمة صورة رائعة ،
وإنّ عدم تمامية الرؤوس الثلاثة المتبقية للنجمة
من الجهة الأخرى له دلالتان هما :
• عدم إحاطة الكفّ - وهو الرمز الأساس -
بالكامل ليكون البروز التام له .
• بقاء البحث مستمراً بالنسبة للناظر عن الأجزاء
الأُخَر المتمّمة للنجمة ،
وإعادة رسمها في المخيلة لمعرفة :
هل النجمة ثمانية أم ... أم ؟
وهذا بحد ذاته إخفاء ممنهج ،
يُبقي الناظر في حالة بحثٍ واستقصاء ،
وقد أجاد المصمّم بذلك .
البعد التاريخي والعقائدي للنجمة الثمانية :
إن اختيار النجمة الثمانية موفَّقٌ جداً من الناحية
الهندسية والتاريخية والعقائدية .
أما من الناحية الهندسية : فشَكْلُ النجمة الثمانية عبارة
عن مربعين متقابلين بمركز واحد، يؤلّف اجتماعهما شكلاً
هندسياً جميلاً فاق ما سواه من النجوم ،
سواء أكانت الخماسية أو السداسية أو العشرية أو غيرها .
أما من الناحية التاريخية :
فإنها متعلّقة بتاريخ العراق القديم ،
حيث تمّ استخدامها في إقليم بابل منذ عهد الكتابة الصورية ،
وهو عصر سيادة الكلدان الأوائل ( هم بناة أريدو )
في الألف السادس قبل الميلاد ،
حيث كانت ترسم بشكل أربعة خطوط متقاطعة ،
ينتج عنها نجمة بثمانية رؤوس ،
ثم صارت تُكتب منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد
بشكل أربعة مسامير متقاطعة ،
وظهرت هذه العلامة على الفخاريات الرافدينية
منذ ( 5500 ق.م ) ونقشت على المسلّات ،
ومنها مسلّة الملك الكلداني نرام سين ( 2254-2218 ق.م )
حفيد مؤسس الامبراطورية الأكدية شروكين ( 2334-2279 ق.م )
وهي أيضاً موجودة في مسلّة أورنمو الشهيرة ،
لذا فهي أقدم نجمة استُخدِمت في بلاد وادي الرافدين ،
وهذا هو بعدها التاريخي ،
وبقيت حتى آخر رقيم طيني بابلي عُثِر عليه يؤرّخ
بسنة ( 80م ) ثم أصبح رمزاً إسلامياً شهيراً ،
يملأ فضاءات المساجد والقصور والحوافر والكتب والمزخرفات ،
وأُعيد استخدام هذا الرمز شعاراً للجمهورية العراقية
سنة ( 1958م ) إذ اعتمده الفنان جواد سليم وأعاد تصميمه ،
فيما نفّذه عيسى حنا دايش ،
وأعيد اليوم في شعار العتبة ،
ممّا يُعطي الشعار بُعْداً تاريخياً حضارياً وإسلامياً ضارباً
في جذور هذا البلد المعطاء .
البعد العقائدي : رمز النجمة الثمانية مرتبط بالعراق
القديم منذ آلاف السنين ،
وهو إشارة الى نجمة الصباح عند العراقيين ( نجمة الزهرة ) ،
وله مدلول توحيدي أكبر من أن يتصوّره البعض ،
فإنّ هذا الرمز كان يُكتب بشكل أربعة مسامير متقاطعة ،
مشكّلاً ثمانية رؤوس ،
ويُقرأ هذا الرمز بالسومرية ( دنكر ) – Dinger -
وهذه العلامة تعني بالسومرية ( آنو ) وهو إله السماء وإله الآلهة ،
وبتعبيرنا ( ربّ الأرباب ) ،
لا كما ذهب إليه المستشرقون ومن تبعهم من كونه
إلهاً وثنياً عبده الرافديون الأوائل ،
والدليل على ما نقول هو أنّ هذا الرمز بالأكدية يلفظ ( إيلو )
–ilu- وهو ( الله ) وما زال أبناء الرافدين الجنوبيين ينطقون
لفظ الجلاله ( الله ) بطريقة مقاربة للّفظ الأكدي ( إيلو )
حيث يقولون ( ألله ) بدون لفظ الألف بعد اللام
مع قطع صوت الهاء ،
فلاحظ ذلك .
نعم ، شابَ هذه العقيدةَ التوحيدية الرافدينية
فيما بعد اعتقاداتٌ وثنية ،
جرّت المعتقد الصحيح إلى صنمية وعبادة أوثان وآلهة مبتكرة ،
فهو ممّا لاشكّ فيه كمشركي قريش ،
حيث اتّخذوا من الأصنام آلهة تقرّبهم الى الله زلفى ،
ولم ينكروا ( الله ) ولكنّهم أشركوا به .
فـ( آنوا ) عند السومريين وهو إله السماء وإله الآلهة ،
لا يمكن أن ينصرف لعشتار وغيرها أبداً ،
يعضد ذلك اللفظ الأكدي ( إيلو ) للرمز نفسه .
مع ملاحظة أن لهذا الرمز أبعاداً أُخَرى تتعلّق
بالاتجاهات الكونية والأبعاد ،
وغيرها ممّا لا مجال لذكرها هنا .
الخلاصة :
إنّ شعار العتبة العباسية المقدّسة له
أبعاده التاريخية والعقائدية ،
وله رمزيته العالية في كلّ جوانبه ،
ابتداءً من اختيار الكفّ أصلاً وأساساً للتصميم ،
مع وجود مدلولات أُخَر في الكف أهمها كتابة اسم ( عباس )
بشكل لا يؤثّر على رمزية الكف ،
بل يضيف اليها ،
ومنها شكل الحمامة التي ترمز الى السلام ،
وختاماً بالنجمة الثمانية الرافدينية الأصيلة ،
وعلقتها بمعتقد التوحيد .
لمزيد من التفاصيل عن الموضوع
اضغط هنا