الشعر السياسي عند علماء الشيعة 1914 ـ 1970
خضير الركابي
اشتهر علماء الدين الشيعة الى جانب نشاطهم العلمي في حقول المعرفة الإسلامية، بإهتمامهم الكبير بالشعر والأدب. فقد كانت النجف الأشرف مركز الحوزة العلمية، منطلق الشعراء ومستقرهم، ففيها حدثت أضخم وأكثف ولادات شعرية، بحيث نستطيع القول ان أي مدينة أخرى لم تقترب منها ولو نسبيا في هذه الظاهرة التي ميزت النجف عن غيرها، فكانت إحدى معالم حياتهما البارزة. وهذا ما يمكن رصده بسهولة من خلال الحشد الكبير من الأسماء اللامعة في عالم الشعر العربي، وللدرجة التي صنفت فيها موسوعات رجالية ضخمة، ترجمت شعراء النجف الأشرف.
ولقد أثّر الإهتمام النجفي بالشعر على بقية المراكز الشيعية المقدّسة، فظهر فيها بعض الشعراء المبدعين، لكن نسبتهم العددية لم ترق الى مستوى الكثافة العددية للشعراء العلماء في حوزة النجف الأشرف. ولا نشك بأن الخصوصية الدينية والعلمية والإجتماعية لها هي التي كانت وراء تحولها الى قاعدة إنطلاقة للشعر العربي في دائرته الإسلامية الشيعية.
ولأن الحوزة العلمية في هذه المدينة المقدّسة، تستقطب طلبة العلوم الدينية من مختلف البلدان الإسلامية. كما إنها تشكل موطناً دائماً او شبه دائم لكبار الفقهاء والعلماء ولا سيما الايرانيين. لذلك كان من الطبيعي ان نجد بين قائمة كبار الشعراء، أسماء لشخصيات علمية من الايرانيين واللبنانيين والخليجيين وغيرهم.
لكن عراقة المدرسة الشعرية لعلماء الشيعة، وضخامة نتاجها الأدبي، لم يحض بالإهتمام المطلوب من قبل النقاد. وإن ما سلط من أضواء عليها لا يعدو ان يكون نوراً خافتا إذا ما اعتمدنا القياس الموضوعي الذي يتناسب مع ضخامة الحركة الشعرية لعلماء الشيعة.
وهناك ملاحظة أُخرى تلك هي: إن الدراسات الأدبية التي تناولت الشعر الشيعي، تركزت على بيان الجو الشعري في النجف الأشرف، باعتباره أحد مظاهرها الحضارية، كما كانت هناك تأكيدات متكررة على الجوانب الطريفة في الشعر الشيعي من قبيل الرسائل الشعرية والجلسات العامة والمناظرات والتواريخ وما الى ذلك من مواقف أدبية. فيما أُغفل الجانب النقدي الذي يتناول القيم الأدبية والموضوعية لشعر علماء الشيعة.
إن إستعراض حركة الشعر السياسي عند علماء الشيعة طوال الفترة الممتدة بين عامي 1914 و1970، يمكننا من تثبيت الحقائق التالية:
أولاً:
كانت أجواء الحوزة العلمية في النجف الأشرف هي المصدر الأول لشعراء العراق. وقد إحتل الشعر فيها مكانة متميزة. حيث شغل إهتمام العلماء وملأ مساحة واسعة من الجو العلمي. وكان الشعر بمثابة الرصيد الإضافي لعلماء الدين، لذلك نجد ان الكثير من العلماء الذين فرضوا وجودهم من خلال المنزلة العلمية والموقع الديني، إهتموا بنظم الشعر وسجلوا حضورهم في الميدان الأدبي، وظلوا يواكبون حركته باستمرار.
وقد ساهم هذا الإهتمام في بروز أسماء لامعة كبيرة في ساحة الشعر العربي بأسره، كالسيد محمد سعيد الحبوبي والسيد محمد جمال الهاشمي والسيد مصطفى جمال الدين والسيد محمد حسين فضل الله، بل إن الشاعر محمد مهدي الجواهري إنطلق في مسيرته الشعرية الضخمة من أجواء الحوزة العلمية في النجف الأشرف، قبل ان يتخلى عن زيه الديني ويبتعد عن الجو الإسلامي.
وحين نؤكد على أهمية النجف في حياة الشعر، فان ذلك لا يعني عدم بروز شعراء أسلاميين في المدن المقدسة الأُخرى. لكن ذلك لم يصل الى مستوى الظاهرة كما هو في النجف. فلقد كان شعراء المدن الأُخرى يمثلون نماذج شعرية محدودة العدد.
ان حركة الشعر في النجف الأشرف كانت من القوة والكثافة بحيث أنها أثرت على الاتجاه الشعري في العراق كله، ثم امتدت بعد ذلك لتؤثر في العديد من البلدان الإسلامية. وذلك نتيجة إنتشار قصائد الشعراء في تلك البلدان، ونتيجة عودة بعض العلماء الشعراء الى أوطانهم بعد إكمال دراستهم في الحوزة العلمية كالسيد محمد حسين فضل الله الذي تكونت شخصيته الشعرية في نوادي الأدب في مدينة النجف.
ثانياً:
فرضت طبيعة الأحداث التي مرت على الساحة العراقية ان يكون لعلماء الدين موقفاً أزاء كل حدث. فالإحتلال البريطاني للعراق، ومقاومة هذا الإحتلال عن طريق الثورة المسلحة، وتحديد شكل الحكم، وغير ذلك من القضايا السياسية المهمة، كانت تفرض على علماء الدين ان يحددوا الموقف الشرعي للأُمة، في كل واحد من تلك الأحداث، ولقد دخل علماء الدين في ضوء التطورات الحساسة والمتلاحقة، ساحة الأحداث كطرف قيادي ومحرك للأُمة ضد الإنجليز او ضد الحكومة. بحيث أصبح وجودهم في المعترك السياسي هو الوجود المتميز. مما أفرز بطبيعة الحال ان يكونوا وسط الأحداث وان يسجلوا حضورهم الدائم فيها.
إن هذه المواكبة السياسية جعلتهم يتفهمون أبعاد الحدث بتفصيلاته وجزئياته. كما إنها كانت تحتم عليها ان يعرفوا الأُمة بما يدور من مواقف وتطورات سياسية. وهذا ما كان ينعكس من خلال الخطاب المباشر مع الجمهور. فكان خطاب الشعراء منهم، يتمثل بالقصيدة السياسية التي تلقى في المهرجان الجماهيري، او تكتب في صحف المعارضة.
ولقد إستثمر علماء الشيعة الشعراء أية فرصة ومناسبة ليعبروا عن آرائهم السياسية وليطرحوا وجهات نظرهم تجاه حركات الأحداث السياسية في العراق. واستطاعوا بالفعل ان يغطوا الأحداث بدقة وكفاءة. بل إنهم تخطوا إطار الفعل السياسي باستكشاف الأبعاد الخفية للسياسات الإستعمارية او للاتجاه السلطوي الحاكم. وكانت حصيلة ذلك كله، نتاجا شعريا كبيرا شارك فيه معظم الشعراء من علماء الشيعة.
ثالثاً:
من خلال رصدنا للنتاج الشعري لعلماء الشيعة بشكل عام، وجدنا (كما سيتبين) ان الفترة الاولى(1918 ـ 1939) والفترة الثانية (1939 ـ 1945) غطاها نفس الشعراء، فقد ظلت الأسماء متكررة في الفترتين مثل الشيخ محمدرضا الشبيبي والشيخ محمد باقر الشبيبي والشيخ محمد علي قسام والشيخ محمد علي اليعقوبي والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد جواد الجزائري.
ان بقاء الشخصيات الشعرية بنفسها على امتداد هاتين الفترتين، جعل الإتجاهات العامة للشعر تظل متشابهة بينهما. وإذا ما تجاوزنا التقسيم الزمني الخاضع للمرحلة السياسية فإننا لا نستطيع ان نتبين وجود حركتين شعريتين خلال تلك السنوات الطويلة، إنما حركة شعرية واحدة لها خصائصها الفنية المتميزة ولها شخصياتها الثابتة على الأغلب، ما عدا بعض الإستثناءات التي لا يمكن ان تشكل خللا لها التقويم. وكان من نتيجة هذا الثبوت في الشخصيات الشعرية، عدم حدوث تطور في الخصائص الأدبية والفنية للشعر الشيعي خلال السنوات الممتدة من عام 1918 الى 1945م.
رابعاً:
في الفترة الثالثة(1945 ـ 1970) برزت طاقات شعرية جديدة وسط علماء الدين الشيعة، وقد تميز هذا الجيل من الشعراء بقدرته على تطوير الشعر الإسلامي، حيث كانت لهم نظريتهم الواضحة للأدب الإسلامي ودوره في الحياة السياسية. ولعل تطور حركة الأدب العربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد فرضت نفسها على جيل الشعراء بأسره، كما إن مواكبة هذه الطبقة من شعراء الشيعة للتطور الأدبي، وإدراكهم بأهمية إدخال عناصر التطور في الشعر الشيعي قد ساهم في تجاوز الشعر للصيغ التقليدية التي كانت سائدة في ما سبق وهذا ما نلاحظه في دخول بعض الشعراء كالسيد محمد حسين فضل الله مجال الشعر الحر. وهو إتجاه لم يكن مألوفا في الحياة الأدبية عند علماء الشيعة حتى عقد الخمسينات من القرن العشرين.
كما إن شعراء هذه الفترة وسعوا من دائرة الاغراض الشعرية السياسية حيث عالجوا شؤون المسلمين بنفس حركي وسلطوا الأضواء على الأبعاد الحضارية للهجمة الإستعمارية، وبذلك كان نتاجهم الشعري السياسي يتناول القضايا الإجتماعية والحركية والطائفية وغيرها من المسائل التي تتصل بحركة السياسة أيامذاك. وقد برز في هذا الإتجاه السيد محمد جمال الهاشمي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ أحمد الوائلي والشيخ جعفر الهلالي. واستطاع هؤلاء الشعراء وغيرهم من إثراء الشعر الشيعي في بعده السياسي، إضافة الى مواجهة الأساليب المضادة بتصور إسلامي واضح.
خامساً:
لم يكن الشعر هو الهوية التي تعرف العالم الشيعي او تطرحه جماهيريا، إنما كان الشعر هو العنوان الثاني لشعراء الشيعة من علماء الدين. فلقد عرفتهم الأوساط العلمية والمثقفة والجماهيرية من خلال نشاطاتهم الإسلامية ونتاجاتهم الفكرية. ولو إنهم تحركوا من خلال الشعر وحده، لاستطاعوا ان يكسبوا السمعة والمنزلة الإجتماعية أيضاً. حيث كان شعرهم من القوة للدرجة التي يعتبر فيها عنواناً عريضاً. ونقصد من وراء هذه الملاحظة إنهم أثبتوا جدارتهم في الميدانين الشعري وغيره، وإن كان الآخر قد سبق الأول فالسيد محمد جمال الهاشمي عرف أولا كعالم ديني ذي منزلة رفيعة، وكذلك الشيخ أحمد الوائلي عرفته الأوساط الجماهيرية خطيباً بارعاً، والسيد محمد حسين فضل الله عرفه القراء مفكراً كبيراً. وذلك قبل ان يتعرف عليهم الوسط الإسلامي على أنهم شعراء. وهذه ظاهرة تميز حركة الشعر الشيعي وتميز كذلك علماء الدين الشيعة من الشعراء.
سادساً:
رغم المكانة العالية لشعراء الشيعة في عالم الأدب، ورغم نتاجاتهم الغزيرة، إلا إنهم لم يحضوا بالقسط العادل من الإهتمام. وكانت هناك محاولات لطمس معالم شخصياتهم الشعرية. ولعل من الاسباب الرئيسية وراء ذلك، سيطرة الحسابات السياسية على الدوافع الموضوعية، فلقد وجدت الأجهزة الحكومية ووسائل الإعلام المرتبطة بها إن تسليطها الضوء على شعراء الشيعة إبرز لدور علماء الدين وهو ما يتعارض مع السياسات الحكومية المعادية للإسلام. كما ان الطائفية هي الأُخرى وقفت عائفا دون بروز شعراء الشيعة على صورتهم الحقيقية، ومع ذلك فقد فرضوا أنفسهم على الحياة الأدبية.
سابعاً:
مع نهاية عقد الستينات تعرضت حركت الشعر عند علماء الشيعة الى الضعف، فلم تبرز أسماء جديدة بالشكل الذي كان يحدث سابقاً. وهي ظاهرة لا تنسجم مع المسار الطبيعي التاريخي لتطور الحياة الأدبية في الأوساط العلمية الشيعية. فالمفروض ان يتزايد عدد الشعراء مع تقدم الزمن بفعل تراكم التجارب الشعرية وتعاظم التراث الأدبي. لكن الذي حدث خلاف ذلك تماما حيث أصبحت الولادات الشعرية قليلة ومتباعدة. وفي إعتقادنا ان سبب ذلك يعود الى أن جو الحوزة العلمية بدأ يميل الى الأبحاث الأُصولية والفقهية وبشكل متسع بحيث إستغرق إهتمام طلبة الحوزة وعلمائها. كما ان سيطرة التقاليد والأعراف على الجو الحوزوي كانت تؤثر كثيراً في مسارات الحياة داخلها. وقد ظهر إتجاه عرفي مع نهاية الخمسينات، يعارض الشعر في الوسط العلمي مما أضعف إهتمام العلماء بالشعر ونظمه.
ثامناً:
في الشعر السياسي عند علماء الشيعة كانت المباشرة والخطابة هي الصفة البارزة على قصائدهم. مما أفقدها الكثير من جماليتها. فلقد كان الشاعر الشيعي بصدد خطاب جماهيري يستعرض الظروف السياسية ويعالج واقع الأُمة عبر أبيات قصيدته. لذلك كان يهتم بالحدث أكثر من إهتمامه بالناحية الفنية كما إنه كان يحاول لفت أنظار الأُمة الى حقيقة ما يدور في الساحة بأقصى درجات الوضوح لذلك إبتعد عن الأُسلوب الرمزي قدر الإمكان. وراح أكثر من ذلك يحاول الإحاطة بالموقف السياسي من جميع جوانبه على حساب المعيار الفني للقصيدة. على أن من الضروري القول إن شعراء الشيعة لم يكونوا يفتقرون الى القدرة الفنية والجمالية في نظم الشعر. وهذا ما نلاحظه واضحا في قصائدهم الوجدانية والأخوانية والرثائية. حيث كانت على درجة متقدمة من النواحي النقدية.
الشعر الشيعي بين عامي 1918 ـ 1939
في مطلع عام 1918م تمت سيطرة القوات الإنجليزية على العراق وبذلك يدخل العراق مرحلة جديدة من حياته السياسية حيث بدأ يواجه لونا جديدا من الإحتلال ما كان يألفه في الأزمنة السابقة، لأن الدول العثمانية كانت فيما سبق تضفى على عرشها جلباب التدين والإسلام وإن كانت هويتها الإسلامية موضع شك وريبة في نفوس الأُمة آذاك.
وعلى أي حال ان المسألة بدأت بغاية الصعوبة عند ما دخلت القوات البريطانية الى العراق. وفي خضم هذه الأجواء الملبدة بغيوم الفتك والدمار وإزهاق أرواح الناس الآمنين كان الكثير من أبناء الأُمة ومعهم علماء النجف يدركون إن الوقوف الى جانب الصف العثماني في مواجهة الإنجليز هو الموقف المطلوب إسلاميا ووطنيا آنذاك. لا لأن العثمانيين هم أصحاب القرار الشرعي في العراق وإنما المسألة كانت من أهون الشرين، وحتى العثمانيين أنفسهم ما كانوا يتوقعون من شيعة الجنوب والفرات الاوسط والنجف موقفا متضامنا في ساحات المواجهة المسلحة على جبهات القتال.
وحقيقة الأمر ان العلماء في النجف كانوا على قدر كبير من الوعي والتفهم لسير الأحداث السياسية والمخاطر الكبيرة التي تحيط بالأُمة، مما جعلهم أمام التكليف الشرعي بشكل لا يقبل التسامح والتراخي. ومن هذا المنطلق نراهم قد تناسوا كل خلافاتهم مع العثمانيين، ولكن شاءت الأقدار تجهيض كل محاولات المواجهة مع القوات الغازية، ويهزم الثوار ومعهم القوات العثمانية وتكتب الغلبة للجيوش البريطانية التي حشدت الأُولوف من القوات الهندية لتقاتل معها. وفي عام 1918م بسط الإنجليز هيمنتهم على جميع الأراضي العراقية ولم يبق شيء للقوات التركية. وفي هذا العام يسجل المؤرخون حدثا كبيرا كان له الأثر الكبير في تاريخ العراق السياسي وهو ثورة النجف في مطلع هذا العام.
ثورة النجف
إن الواقع السياسي الجديد الذى فرضه الإحتلال البريطاني على العراق جعل علماء النجف يشعرون بجسامة الخطر الذي بات يهدد العراق من أقصاه الى أقصاه. وفي الوقت الذي أصبح فيه علماء النجف أمام مواجهة حقيقية كانوا يقدرون حجم الامكانات الهائلة التي تملكها القوات الغازية وضعف القدرات التي تجعلهم في مستوى المواجهة مع الإنجليز. ومن هذا المنطلق بدأت بوادر التفكير الجدي في ترتيب وبناء الصف الإسلامي في إطار من العمل المنظم الذي يجعل المقاومة مع الإنجليز بشكل يحسم الأُمور لصالح فصائل الأُمّة. وفي تلك الفترة كانت قد تأسست جمعية النهضه الإسلامية على يد شخصيات عرفت بمنزلتها العلمية والإجتماعية، وهم: الشيخ الشاعر محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم.
ان الهدف الذي آمنت به الجمعية وعملت على تثقيف الأُمة به هو تخليص العراق من هيمنة الإنجليز على مقدراته وثرواته وكان نشاط الجمعية الثقافي والفكري يتمثل بكتابة المنشورات والإعلانات على أبواب الصحن العلوي الشريف، وكذلك كانت تهيىء الأجواء والأذهان في تقبل فكرة الثورة ضد الإنجليز. لقد اعتمدت الجمعية اسلوبا تنظيميا ينحصر في توزيع أعضائها على جناحين رئيسيين: جناح عسكري وجناح تنظيمي، وعلى رأس هذين الجناحين عضو الإرتباط يشرف عليهما. وقد توزع العمل العسكري على عدة فروع في الكوفة وأبى صخير والحيرة والشامية.
إن هذا التوزيع للعمل الحركي بين صفوف الجمعية جعل نشاطها بشكل نجاجا كبيراً وملحوظاً في الأُمة حيث بدأت أعداد كبيرة من المتطوعين تنظم الى صفوف الجناح العسكري الذي استطاع توزيع المقاتلين الى ثلاثة مجاميع:
الاولى: بقيادة كاظم صبي وعباس علي الرماحي.
الثانية: بقيادة الحاج نجم البقال.
الثالثة: كريم الحاج سعد راضي.
إن الفتيل الذي أشعل نار الثورة بالنجف الأشرف هو العملية الجديدة التي قام بها الحاج نجم البقال على مقر الحاكم العسكري البريطاني في جامعة النجف وتمكن هو ومجموعة من إقتحامها وقتل الحاكم، مما جعل الأجواء في النجف الأشرف متوترة بشكل لا يؤمن معه حماية البلدة من هجوم محتمل تقوم به القوات الإنجليزية إنتقاما للحادث. وبذلك كان لابد للجمعية من اتخاذ التدابير اللازمة لرد الفعل الإنجليزي. فعقد رجال الجمعية اجتماعاً اتخذوا فيه قرار اعلان الثورة ضد الاحتلال.
واصدرت تعليماتها الى كافة الاعضاء بالمهام الواجب اتخاذها استعداداً لخوض المواجهة المسلحة مع الانجليز. فقسمت افرادها الى قسمين:
الاول: يعمل في النهار، والثاني في الليل كسباً للوقت لاسيما وان القوات البريطانية بدأت تتحشد حول مدينة النجف.
لقد اشتعلت نار الثورة بعد ان دار قتال ضار بين الثوار والقوات البريطانية ابدى فيه المجاهدون صموداً وشجاعة فائقة، ولكن النجف التي تعد من المدن الصغيرة في العراق وذات امكانات وقدرات محدودة بدت عاجزة في مواجهة الانجليز بعد ان فرضوا عليها حصاراً قاسيا استمر 46 يوماً. بعد ان قمعت الثورة القي القبض على الثوار واعدم 11 مجاهداً وسجن سبعة اخرون فيما نفي حوالي مائة مجاهد الى الهند. لقد كانت نهاية الثورة والاحكام التي صدرت بحق ابنائها انتكاسة كبيرة للجمعية، اذ خسرت الكثير من اعضائها الذين توزعت عليهم الاحكام بين نفي وسجن واعدام، فقادة الجناح العسكري اُعدموا، والكادر المتقدم زج في غياهب السجون او ابعد خارج العراق، ومنهم قادة الجمعية، فلقد نفت سلطات الانجليز الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد بحر العلوم الى خرم شهر وبقيا هناك حتى نهاية الحرب العالمية الاولى.
لقد كانت الاحداث في مدينة النجف لها الاثر البالغ في نفوس الناس وضمائرهم ولاسيما بعد انهيار العمل التنظيمي في جمعية النهضة وزج رجالها في غياهب السجون والشاعر الكبير محمد جواد الجزائري مؤسس الجمعية بعد ان اودع السجن ببغداد في شهر رجب من عام 1336هـ ق كان يتحسس آلام الناس والمحنة التي حلّت بهم وكان روح النداء والتضحية تجري في عروقه وهذا المعنى تجسده واضحاً في قصيدة البصائر التي نظمها في السجن:
مدونا بصائرنا لا العيونا***وفزنا غداة عشقنا المنونا
عشقنا المنون وهمنا بها***وعفنا أباطحنا والمجونا
وقمنا بها عزمات مضاة***أبت ان تسيس الردى او تلينا(1)
_______________________________
1- محمد كمال الدين، الثورة العراقية الكبرى.
ومن خلال دراسة الاحداث السياسية التي مر بها العراق وما رافقتها من تطورات هامة في معظم البلاد الاسلامية التي كانت تحت نير الاحتلال وكيفية تعامل القوات الغازية مع رجال الثورة وقمع الناس بالنار والحديد وزجّ رجالها وعلمائها في غياهب السجون كل ذلك ما كان ليثني العلماء الاحرار من مواصلة جهدهم وجهادهم لاجل تخليص البلاد من وطأة الغزو والعدوان، حيث كان يظن حالة الاعدام والسجن التي أعقبت مرحلة ما بعد الثورة هي النهاية التي لا عودة معها للحياة المستقلة الكريمة، ولكننا نجد المسألة على خلاف ذلك تماماً حيث كان رجال الثورة الاوائل يتحينون الفرص ويغتنمون الاوقات من اجل الرجوع من منفاهم او فكّ اسرهم لاجل مواصلة العمل الاسلامي المقدس. وليس هذا الكلام محض ادّعاء، وانما الادب الذي عاش في اجواء تلك المرحلة كان يعكس هذه المعاني بشكل واضح وجلي بحيث اننا يمكن ان نعتبر التراث الادبي والقصائد الشعرية التي قيلت آنذاك وثيقة سياسية هامة في تلك المرحلة.
ويمكننا قراءة هذا المعنى في القصيدة التي بعثها الشيخ الجزائري وهو في سجنه ببغداد الى العلاّمة السيد عيسى كمال الدين:
خطب كما تعلمونه صعب***يربو عليه الهم والكرب
خطب تطير له العدى فرحا***ويهيم من اطرائه الصحب
تجري له عين الخليل دما***ويذوب منه لوقعه القلب
ثورة عام 1920 الكبرى
بعد ان تم اجهاض ثورة النجف بطريقة ارهابية وقاسية تنبه الثوار انهم فيما سبق لم يدخلوا ساحة المواجهة بالشكل الذي ينبغي، حيث كان الضعف بادياً في طريقة التخطيط والاعداد للمواجهة. فكانت الهدنة التي أعقبت ثورة النجف بمثابة كسب الوقت لاعادة ترتيب الصفوف الاسلامية ودخول المواجهة بصورة اخرى. وهذه النقطة تعد من اهم نقاط القوة التي كان يتمتع بها الثوار آنذاك، حيث ان الطبيعي في كل تجربة تتحرك في ساحة الصراع، بعد فشلها واجهاضها لا يمكنها الاستئناف والمواصلة ثانية، وذلك لم يجر بالفشل من احباطات نفسية وسياسية كبيرة. ان من العوامل المهمة التي ساهمت في اشتعال فتيل الثورة هي حالة التماسك والتضامن بين علماء الدين والامّة مما ساهم في توفير غطاء شرعي ومعنوي للثورة.
ومن هنا نستطيع القول ان الثورة لم تكن حدثاً عفوياً وانما جاءت عن وعي وادراك وتخطيط دقيق تمكن من خلاله العلماء تعبئة كل فصائل الشعب من فلاحين وعمّال وزعماء العشائر من السنّة والشيعة وحتى فصائل الشعب الكردي في شمال العراق. لقد اصدر الميرزا الشيرازي فتواه الشهيرة التي كانت تمثل الشرارة التي اشعلت نار الثورة الكبرى التي غيرت مسار الاحداث في كل المنطقة، وكان نص الفتوى ما يلي:
«بسم الله الرحن الرحيم، مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والامن، ويجوز لهم التوسّل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الانجليز عن قبول مطالبهم».
وعلى اثر ذلك، عقد علماء الدين والشخصيات المهمة في النجف الاشرف اجتماعاً حضره الشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ جواد الجوهري، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبدالرضا الشيخ راضي والشيخ جواد الشبيبي ونجل شيخ الشريعة الاصفهاني وقرروا توجيه رسائل الى رؤساء العشائر وخاصة رؤساء الرميثة والسماوة يحثونهم فيها على الثورة، كما وجهوا رسالة عامة لكل المسلمين ناشدوهم فيها مقاومة الانجليز وطردهم من بلاد الاسلام. لقد جاءت جميع هذه الوقائع والاحداث على ألسنة الشعراء والادباء العلماء بشكل ينحصر في اثارة همم الناس وحثهم على القيام بواجبهم الاسلامي.
فهذا الشاعر الشيخ محمد علي اليعقوبي يرسل هذه القصيدة الى جبهة الثوّار في السماوة والرميثة وعنوانها تحيّة الثوّار:
أحبتنا بساحات الكفاح***ثقوا بالنصر فيها والنجاح
نفرتهم للوغى لما دعاكم***لها الداعي بشوق وارتياح(1)
وللشاعر الشيخ محمد حسن ابو المحاسن قصائد كثيرة في الثورة، ومنها هذه القصيدة التي اُلقيت في الاجتماع الذي عُقِد في صحن الامام الحسين «ع» بكربلاء بتاريخ 26 رمضان 1338 هـ ق، وقد طالب فيها باستقلال العراق:
وثق العراق بزاهر استقلاله***والشعب متّفق على استقلاله
اضحى يؤمل نيل الشرف غاية***يارب اوصله مدى آماله(2)
_______________________________
1- ديوان اليعقوبي، ص 165.
2- محمد كمال الدين، الثورة العراقية الكبرى.
لقد انحصرت الاغراض الشرعية في هذه الحقبة على الادب الحماسي الذي يلهب مشاعر الناس وعواطفهم وهذا اللون من الشعر يمتاز باللغة السهلة التي يفهمها كافة الناس دون ان يلتجأ الى الصور البلاغية المعقدة فنجده خالياً من الاستعارات والكنايات الاّ بشكل محدود.
ومن العوامل التي جعلت هذا النمط من الشعر بسيطاً خالياً من الصور الجمالية رغم ان ناظميه من فحول الشعراء في النجف هو الوسط الذي نشأ ونما حيث اننا نجده شعر مناسبات ومهرجانات عامة او شعر رسائل ومخاطبات. ومن الطبيعي ان يكون هكذا، ولا نستطيع ان نعتبر الشعر السياسي في هذه المرحلة قد مرّ بفترة انحطاط وتخلف وانما المرحلة التي ولد فيها ومعطيات الواقع الموضوعي هي التي فرضت على الادب التخلي عن لباس الصور الجماليّة والابداعات الفنية، ولعل الشاعر الكبير الشيخ محمد مهدي البصير الذي يعد من اكثر شعراء الثورة انتاجاً واقواهم ادباً هو خير دليل ومصداق على ما نقول.
وهذا مطلع من قصيدته العصماء التي ألقاها في مسجد الحيدر خانه ببغداد عند امتداد الثورة الى مختلف الولايات والبلدان:
بين الاسنّة والقواضب***شرف المبادىء والعواقب
إبغ السلام فان، تخب***فيما قصدت له محارب
ودع المقال الى المصال***بملتقى القُب السلاهب(1)
_______________________________
1- المصدر السابق.
استمرت الثورة حوالي خمسة اشهر وشملت مناطق واسعة من العراق، وكانت العمليات العسكرية على قدر كبير من الضراوة، تحدثت عنها الكثير من المصادر التاريخية.
وخلال الثورة وفي شهر آب 1920م تعرّضت الثورة الى انتكاسة كبيرة حين توفّى قائدها الميرزا الشيرازي، فتولى القيادة المرجعية بعده شيخ الشريعة الاصفهاني، الذي وجه نداءه الى الامة يحثهم على مواصلة الجهاد، وقد بذل جهوده من اجل تحقيق استقلال العراق، حتى توقفت العمليات العسكرية التي قام بها الانجليز بامكاناتهم العسكرية الضخمة التي عززها من الهند ضد الثوار، والتي كانت ارهابية حيث انهم كانوا يحرقون المنازل والقرى والمحاصيل بواسطة الطائرات. ورغم نهاية الثورة قبل الوصول الى نتائجها الحاسمة في تأسيس الحكومة الاسلامية. فانها استطاعت ان تجبر الانكليز على تغيير سياستهم وبرنامجهم بشأن العراق.
ثورة العشرين في ذاكرة الشعر
لقد تنبه العراقيون بسرعة الى حقيقة ما يريد الانجليز، فهبوا في وجوههم ثائرين بما لديهم من سلاح وقوة وايمان، حتى اذا اصاب ثورة العشرين ما اصابها من اخفاق، ولم يلق العراقيون سلاحهم ولم يسكت الشعراء على واقع المستعمرين. وصار الشعر العراقي في طليعة المناضلين ضد الانجليز، وضد الحاكمين الذين نصبهم الانجليز حين اقاموا في العراق دولة ملكها فيصل بن الحسين.
يقول الشاعر محمد صالح بحر العلوم:
أيرفع هذا الشعب بنيان حكمه***صحيحاً ورأس الحاكمين يخرب
وهل يعذب الورد الذي منه ترتدي***بلادي وفيها ابن البلاد معذّب
صحيح ان القصائد التي ذكرت بعد احداث الثورة الكبرى تنطوي على شيء من السرد التاريخي لوقائع الاحداث الاّ انها تندرج تحت بواعث الشعر السياسي من شعور بالقضية الوطنية هذا الشعور الذي كثيراً ما يكون منحازاً لنيل الامة حريتها واستقلالها.
ومن ناحية اخرى نجد ان هذا الشعر وفي كثير من حالته واشكاله يذكر الامة بماضيها الجهادي المقدس ويستنهضها في مقارعة المستعمرين والشاعر المبدع الشيخ علي الباري:
قف بالرميثة واسأل ما جرى فيها***غداة ثارت بشوال ضواريها
وعن سواعدها قد ثمرت وقضت***ان تستعيد بماضي العزم ماضيها
ثم ان الثورة تعد في الحسابات العسكرية قد خسرت الجولة ولكن قادة الثورة وزعمائها يعطون لحركة الثورة بعداً آخر غير مقروء في الحسابات العسكرية حيث ان الثورة قد بلغ صداها الى جميع انحاء العالم وبدأت الصحف والمجلات في جميع اقطار الدنيا تردد صداها مما سبب حرجاً سياسياً كبيراً للحكومة البريطانية مما جعلها تفكر باعادة النظر في رسم الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الاوسط وفعلاً كان التحوّل سريعاً وملحوظاً في المراحل التي اعقبت الثورة. ومن هنا يمكن القول ان هذا كان يمثل الحد الادنى من الاهداف المرسومة لهذه النهضة فاعتبرها بعض الادباء ان نجحت فيما تصبو اليه من استقلال وحرية واعتبرها البعض الآخر بمثابة مرحلة تحضيرية لثورة اخرى تكون على المستعمرين اشد وأنكى.
لقد كانت احداث الثورة ثقيلة الوطىء على الادارة البريطانية حيث الحقت بها هزيمة سياسية كبرى مما جعل الانجليز يفكرون باعادة بناء الخارطة السياسية في جميع المستعمرات البريطانية لانهم كانوا يصورون للرأي العام بأن الشعب العراقي كان يرغب بادارة الحكومة البريطانية.
وبعد هذا المسلسل الثقيل من الاحداث التي ذاق منها الشعب العراقي الوان القمع والارهاب حيث كانت الطائرات البريطانية تصب جام غضبها على الاهالي الآمنين دون رحمة فكانت تحرق بيوتهم وقراهم ومحاصيلهم، فبعد هذا كله فكر الانجليز في الخداع والتظاهر بأنهم سيحققون للشعب مطاليبه ورغباته في تشكيل حكومة مستقلة تحت قيادة ملك عربي هو من ابناء الشريف حسين، وكان هذا أحد المطالب التاريخية التي نادى بها رجال العراق من علماء دين ورؤساء عشائر وقادة محليين. فبعد سلسلة من الاحداث والمتغيرات قرر الانجليز تنصيب فيصل ملكاً على العراق. كانت قيادة الثورة المتمثلة بعلماء الدين واعية للمخطط الانجليزي، وأدركت ان الانجليز بصدد القيام بحركة التفاف حول الثورة ومصادرة جهود الثوّار وحرف مسيرتها عن اهدافها الحقيقية، لذلك حذرت الهيئة العلمية التي كانت تقود الثورة من المخاطر التي تنطوي عليه عملية ابدال الحاكم العسكري «ولسن» واعادة «كوكس» الى العراق.
وكانت الهيئة برئاسة شيخ الشريعة الاصفهاني باعتباره المرجع الاعلى بعد وفاة الميرزا وعضوية السيد ابو القاسم الكاشاني والميرزا عبدالحسين نجل الميرزا الشيرازي والشيخ أحمد نجل الآخوند الخراساني والسيد نور الياسري، وراحت اللجنة تحذر العراقيين من مغبة سياسة كوكس الماكرة، وتطلب اليهم بالحاح واصرار ألاّ يسرعوا في اعطاء الوعود وقطع العهود على أنفسهم الاّ بعد الرؤية والتفكير الرصين. وعلى أيّ حال نستطيع ان نجمل القول بأن المعارضة الاسلامية التي كانت محكمة ومتماسكة في وجه الانجليز قد بان فيها التباين والتصدع في هذه المرحلة حيث كانت آراء العلماء منقسمة بين مؤيد لتنصيب فيصل ملكاً على العراق ومعارض لذلك.
ولقد كانت النجف تمثل الصف المعارض الذي يرفض اي لون من الوان الالتفاف حول قضية الشعب في العراق بينما نجد ان علماء الكاظمية قد تعاملوا مع الموقف بشيء من التفاؤل والايجابية. ان الصف النجفي الذي كان بزعامة كبار مراجع التقليد امثال السيد ابو الحسن الاصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني كان يتمتع بتأثير كبير على الوسط الشعبي في العراق.
لقد كان مسار الاحداث فيما بعد يكشف عن الورطة السياسية التي عانى منها علماء الكاظمية امثال محمد الصدر والشيخ مهدي الخالصي والسيد عبدالمحسن الكاظمي رغم اقامته في مصر من عدم معارضتهم لترشيح فيصل، مما اضطر البعض منهم ان يتراجع عن مواقفه فيما بعد، ولعلنا نقرأ هذا المعنى في قصائد الشاعر السياسي الكبير عبدالمحسن الكاظمي الذي كان له حضوراً مشهوداً في ساحات الصراع الاسلامي.
ففي هذه القصيدة تقرأه متفائلاً بقدوم فيصل ويصوره الرجل الذي يحقق امال ورغائب الشعب في العراق بحيث يشبه منهله اكثر عطاءاً من الفرات ودجلة والنيل وهو من ضروب المغالبة التي اعتمدها:
فليس الفرات ولا دجلة*** ولا النيل مثلك إذ ننهل
وأجدر بالملك ذو فطنة***اذا غفل الدهر لا يغفل
ولا يأمن المكر ما لم تكن***جراثيمه لعد لم تؤصل(1)
وهذا القصيدة تكشف قوة الشاعرية التي يتمتع بها الشاعر، وقدرته في اختيار الالفاظ والمفردات الجزلة دون سابق اعداد. وليس هذا المعنى غريباً في الحياة السياسية والأدبية للشاعر، فهو الذي اصبحت كلماته انشودة الشعب المصري الذي قاوم الغزاة:
سلام يا سنا القمرين يوحي***عليك به من الله السلام
سلام كله أمل ووجد***وتعظيم لقدرك واحترام(2)
_______________________________
1- ديوان عبدالمحسن الكاظمي.
2- المصدر السابق.
وبعد ان استتب الامر لفيصل وتربع على عرش العراق بدأت تتضح للامة حقيقة ارتباطه بالانجليز ولم يكن الاّ دمية يحركونه كيفما يشاؤون وحقيقة الامر ان العراق لم يتخذ استقلاله بعد وانما بدأت معه مرحلة جديدة حيث الانجليز فرضوا على فيصل عدة امور من شأنها ان تحكم السيطرة البريطانية على العراق حيث ان المندوب السامي قدم للملك بعد بضعة ايام من حفلة التتويج مسودة لمعاهدة كصيغة اولية تدور حولها المناقشات، وتضمنت 15 مادة نذكر منها ما يلي:
المادة الثانية: «على الملك فيصل ان يستعين بالمشورة البريطانية ولا يعين موظفين بدون موافقتها».
المادة الثالثة: «تمثل حكومة بريطانية بمندوب سام وحاشية استشارية ويطلع المندوب السامي على القضايا المهمة».
المادة الخامسة: «أن تمثل بريطانيا العراق في الخارج».
المادة السادسة: «ان تحتفظ بريطانية في العراق بجيش للدفاع عن التجاوز الخارجي وتأييد الامن في الداخل وتستخدم الطرق والسكك الحديدية والموانىء لحركة هذه القوات ونقل الوقود والذخيرة».
المادة العاشرة: «عدم عرقلة شؤون المبشرين».
المادة الرابعة عشرة: «استشارة المندوب السامي في القضايا المالية».
ان هذه العهود والمواثيق التي اتخذها الانجليز على فيصل سيكون لها انعكاسات مباشرة في الواقع العملي الامر الذي جعل حقيقة الامر منكشفة للعلماء والامة فيما بعد بحيث جعل شعبية الملك تنحسر بشكل ملحوظ وسحب علماء الدين الذين استبشروا بقدومه كل دعمهم وتأييدهم له امثال الشيخ مهدي الخالصي والسيد عبدالمحسن الكاظمي الذي بعث له هذه القصيدة التي يعرب فيها عن خيبة امله بها ويسخر منه ومن أفعاله:
قل للذي ظن العلى كل العلى***تكحيلة عينيه والتسويك
انت الذي خسر الحياة بغيه***ان الحياة وساوس وشكوك(1)
_______________________________
1- المصدر السابق.
ان المرحلة التي اعقبت سحب تأييد العلماء من الملك فيصل بعد ان تزعزت ثقتهم به كانت المعارضة الاسلامية لازالت قائمة وترصد مستقبل البلاد بدقة.
ويمكننا القول هنا ان حركة الادب بشكل عام والادب السياسي بشكل خاص كانت تتأثر بشكل مباشر في تطورات الاحداث على الساحة السياسية، فعندما نرصد التراث الشعري في رحلة الثورة نجده ثميناً ومتنوعاً ووفيراً بخلافه في المراحل التي اعقبت الثورة حيث مرت فترة من الخمول والركود في اسواق الشعر والادب لان هذه المرحلة كانت مرحلة ترقّب وحذر ورصد لما سيقوم به الانجليز واختبار لمصداقية الملك فيصل فيما اعطى للامة من عهود ومواثيق.
ان الملك فيصل كان يسعى لان يكون موقعه في العراق يتمتع بغطاء دستوري، وهذا بدوره يحتاج الى وجود مجلس تأسيسي منتخب يصوب على ذلك.
ومن جهة اخرى: كان الانجليز يفكرون بإبرام معاهدة مع العراق تضمن هيمنتهم الاستعمارية على اراضي العراق ومقدراته وهذا كذلك بدوره يستلزم وجود مجلس تأسيسي يوافق على ذلك، وهنا كان المجلس يمثل الجامع المشترك بين فيصل والحكومة البريطانية غير ان المعارضة عادت لتواجه هذه الخطوة بقوة، حتى ان الانجليز والحكومة والملك يتوقعوا قوة موقف المعارضة بعد ان تعرضت الى ضربة قوية في شهر آب على يد المندوب السامي، وكان العامل الاكبر في قوة المعارضة هو تصدّي علماء الدين للانتخابات، حيث اعتبروا ان اجراء الانتخابات المزورة سيصادق على المعاهدة، وبذلك تترسم سياسة العراق ومستقبله بشكل نهائي، ومن هنا كان تصديهم قوياً لمنع هذه الخطوة الخطيرة التي تعتبر حداً فاصلاً في التاريخ العراقي وفي مصيره السياسي، وهنا برز الدور القيادي لثلاثة من كبار المجتهدين في الدعوة لمقاطعة الانتخابات وهم: السيد أبو الحسن الاصفهاني والميرزا حسين النائيني والشيخ مهدي الخالصي مالم تحقق للشعب مطالبه التالية:
1ـ الغاء الادارة العراقية.
2ـ اطلاق حرية المطبوعات والاجتماعات.
3ـ سحب المستشارين من الالوية.
4ـ اعادة المنفيين السياسيين.
5ـ السماح بتأليف الجمعيات.
لقد جاء رأي علماء النجف في مسألة الانتخابات على اثر سؤال قدم اليهم بنص ما يلي:
«هل يجوز المداخلة ببعض الوجوه في انتخابات المجلس التأسيسي العراقي ام لا يجوز لكل احد من العراقيين، افتونا ادام الله ظلّكم على العالمين».
وأجاب على هذه الفتوى اربعة عشر عالماً مؤكدين حرمة الانتخابات واعتبار الاشتراك فيها بمثارة الخروج عن الدين، ووزعت في شتى انحاء العراق، نصت فتوى المرجع الاعلى السيد ابو الحسن الاصفهاني على ما يلي:
«الى اخواننا المسلمين... ان هذا الانتخاب يميت الامة الاسلامية، فمن انتخب بعد علم بحرمة الانتخاب، حرمت عليه زوجته وزيارته، ولا يجوز رد السلام عليه، ولا يدخل حمام المسلمين».
وهنا يتحدث الشاعر باقر الشيبي في وضع الوزارات المتردي وكيف ان الحكام لا حرص عندهم على هذه الامة التي قدمت الكثير في سبيل نير كرامتها:
هذه البلاد وهذا حكمها الذاتي***فلا يغرنّك لطف العبارات
رؤى رأوها فخالوها محققة***وكيف يأمن قوم بالمنافات
ليت البلاد التي ثارت مجاهدة***قامت على الهيكل البالي بثورات(1)
الخاسر الاول في هذه التشكيلات البعيدة عن ارادة الامة وطموحاتها هو الشعب العراقي لان الغنائم السياسية سيحصل عليها ضعفاء النفوس الذين باعوا ضمائرهم للاجنبي. وكل هذه الاشكال والتقلبات كانت حاضرة في أذهان الشعراء حيث كانوا يصبون جام غضبهم وحمم بنيرانهم بقصائد ذات كلمات فصاح هي كالرصاص في وقعها وتأثيرها وهذا ما نحسّه واضحاً في كلمات الشبيبي:
أين الرجال التي أضحت جهودهم***مضاعة عند اشباه الرجالات
ما مزّق الشعب الاّ ضعف قادته***على الخطوب ونقض في المفادات(2)
_______________________________
1- يوسف عزالدين، الشعر العراقي الحديث، ص 413.
2- نفس المصدر السابق.
وقد انفرد محمد مهدي البصير برأي الاكثرية الساحقة من الشعراء فهو لا يلق التبعة على الانجليز او المستشارين وانما القاها على كاهل الوزارات العراقية، فمن المفروض ان يكون الوزير مالكاً زمام امور وزارته ومتصرّفا بشؤونها قادراً على الهيمنة التامة وبذلك لن يكون للمستشار قيمة في الوزارة ولن يتدخل في اموره، والرأي خيالي لا يمكن ان ينطبق على وزارات هذا العهد، لامور منها ان الذين جاءوا الى الوزارة هم من ذوي المصالح المشتركة مع الانجليز او انهم بحاجة الى العون الاقتصادي او من الضعاف الذين خبرهم الانجليز وسبروا انفسهم.
لكن البصير اراد ان يدفع الوزراء الى العمل، ويخلق منهم القوة والعزة والكرامة، فاذا اتفق هؤلاء الوزراء - وهذا خيال شاعر - فقد يأخذون الحكم بأيديهم وسعيهم الى الاصلاح في العراق والبصير أخذ يرد على الذين يعترضون عليه بأن سوف يضطرهم بقوته الى الرضوخ لاوامره ونواهيه ولكن لم يجد برهاناً واحداً على وقوف الوزراء امام رغبات المستشار والحد منها فلو اجمع ابناء الامة على مقاطعة الوظائف وصمدوا امام التهديد والسجون والموت لما تمكن الانجليز من تطبيق خططهم الاستعمارية في استقلال العراق.
ان اكثر ابناء الامة مسؤولون امام التاريخ في تشجيع المستعمر في امور بلادهم، وهم احرى باللوم واجدر بالتقريع لانهم لا يستأنفوا نضالهم وضعفت معنوياتهم مع نفع زائل ونعيم حائل فقد قال البصير:
ما رسمنا للاستشارة حدّا***فلها العذر ان تجوز الحدودا
شغلت مركز القيادة منّا***اذ رضينا فكنا لها جنودا
أتقولون انها اكرهتنا***فعلنا ما نواه سديا
شكر الله سعيكم خبروني***كم بذلتم في كبحها مجهودا(1)
وقد عكست الجرائد العراقية الحيرة والوجوم اللذين هيمنا على ربوع العراق من الوضع الشاذ في الدولة الجديدة المستقلّة وذات السيادة والتي لها برلمان ولكن لا يمكن لأبنائها ان يديروا دفة الامور فيها مع ان الوزراء مسؤولين امام البرلمان فهم لا يصدرون امراً الاّ بموافقة المستشارين.
وقد قالت جريدة الزمان بصراحة ان البلاد مستعمرة وذلك بقولها (يقولون ان البلاد مستقلة وان شؤونها تديرها حكومة وطنية.. والله يعلم ان البلاد مستعمرة لا مستقلة وكيف لا تكون كذلك وهذه جنود الانجليز فيها وهذي طياراتهم محلقة في سماء العراق صباحاً ومساءا.. وكيف تكون مستقلة وكلمة الانجليز هي العليا في الصغيرة والكبيرة» وتفند الجريدة المزاعم بقولها (ومن الخطل في الرأي العليا ان تستمر على التغرير بأنفسنا فنزعم مخالفة الانجليز لنا انّما هي مستندة الى الاخلاص المتبادل، فالمعروف الذي لا يمكن تجاهله ان القوي اذا خالف ضعيفاً، فهو انما يسعى الى مغنم يلبسه ثوب الحق وينفي عنه تهمة الغصب والاعتداء، بغير ذلك لا يمكن تعليل هذا، ولو بحثنا الحالات المتعددة التي سلمت فيها الوزارة العراقية لوجدنا ان اساس التسليم للانجليز في هذه البلاد انما يرتكز على الافراط في الحذر لئلا يصطدم هذا الاستقلال بسيطرة الانجليز، وقد هاجم محمد صالح بحر العلوم كل وزير وكل نائب واعتبره جاسوساً يخدم الاجنبي، وما الراتب الاّ اجرة عمله هذا فقال:
تجسس البعض منكم بجرأة ومهارة
ونال منا اجوراً عن جهده بجدار
ففي النيابة أجر وآخر في الوزارة(2)
_______________________________
1- جريدة العراق، العدد 2571 السنة التاسعة 1928م.
2- يوسف عزالدين، الشعر العراقي الحديث.
والطريف ان يجعل المستشار اباً لهؤلاء و«المس بيل» امهم، ويحدثنا عن نتيجة الذين لا يتفقون معهم في الرأي فهي امّا السجن او النفي او الشنق وذلك يظهر لنا التعصب الاعمى من الاجانب ضد ابناء الامة الذين لا يوالونهم ولا يرضون بحكمهم البغيض، وقد جعل أوّل العقوبات السجن والنفي والاعتقال، اما اولئك الذين يصرون على موقفهم فجزاؤهم الموت.
وحكم من يتوخى طرق الحماية خنق***نفي وحجر وسجن وان امر فشنق
وقد سخر علي الشرقي من المجلس ولم ير فيه سوى المظاهر الكاذبة وترك امره للايام فهي كفيلة ببيان قيمته.
صوروا مجلساً بهيّاً أنيقا***شيخه واقف ويلقي خطابه
لوسألتم منه سؤالا دقيقا***سوف تعطيكم الليالي جوابه
كانت احدى بلايا الامة في هذه الفترة، الحكم الاجنبي الذي ليس وجهاً وطنياً، فالظاهر تدل على وجود حكم وطني ولكن الاجنبي هو الذي كان يحرك ذمة الامور بواسطة المستشارين الذين دسهم في ارجاء هذا الحكم لذلك لم يكن للوزراء او النواب او جميع ابناء الامة من رأي، وانما هم آلات في الدولة يحركها المستشارون، فحيل بين الشعب وبين المستعمر بستار وزارة عراقية لا تقدر ان تنفع البلاد وما دام المستشارون لا يريدون ذلك، فوجّه الشعراء اهتمامهم الى هؤلاء المستشارين وسخروا من الوزراء الذين تعرف لهم امور البلاد ويحل قضاياهم الاجنبي، كانت سخرية الشعراء لاذعة وتهكمهم مريراً موجعاً على هؤلاء الذين اصبحوا مطايا للمستعمر. وتزيد في تعقيد الامور. فجعلت البلد عبداً تسخره كيفما تريد. باسم هؤلاء الوزراء الذين صدّقوا انّهم الحاكم فقال محمد باقر الشبيبي:
الحكم حكمهم بغير منازع***والأمر مصدره والمورد
المستشار هو الذي طلى***فعلام يا هذا الوزير تعربد(1)
__________________
1- جريدة النهضة، العدد 297.
خضير الركابي
اشتهر علماء الدين الشيعة الى جانب نشاطهم العلمي في حقول المعرفة الإسلامية، بإهتمامهم الكبير بالشعر والأدب. فقد كانت النجف الأشرف مركز الحوزة العلمية، منطلق الشعراء ومستقرهم، ففيها حدثت أضخم وأكثف ولادات شعرية، بحيث نستطيع القول ان أي مدينة أخرى لم تقترب منها ولو نسبيا في هذه الظاهرة التي ميزت النجف عن غيرها، فكانت إحدى معالم حياتهما البارزة. وهذا ما يمكن رصده بسهولة من خلال الحشد الكبير من الأسماء اللامعة في عالم الشعر العربي، وللدرجة التي صنفت فيها موسوعات رجالية ضخمة، ترجمت شعراء النجف الأشرف.
ولقد أثّر الإهتمام النجفي بالشعر على بقية المراكز الشيعية المقدّسة، فظهر فيها بعض الشعراء المبدعين، لكن نسبتهم العددية لم ترق الى مستوى الكثافة العددية للشعراء العلماء في حوزة النجف الأشرف. ولا نشك بأن الخصوصية الدينية والعلمية والإجتماعية لها هي التي كانت وراء تحولها الى قاعدة إنطلاقة للشعر العربي في دائرته الإسلامية الشيعية.
ولأن الحوزة العلمية في هذه المدينة المقدّسة، تستقطب طلبة العلوم الدينية من مختلف البلدان الإسلامية. كما إنها تشكل موطناً دائماً او شبه دائم لكبار الفقهاء والعلماء ولا سيما الايرانيين. لذلك كان من الطبيعي ان نجد بين قائمة كبار الشعراء، أسماء لشخصيات علمية من الايرانيين واللبنانيين والخليجيين وغيرهم.
لكن عراقة المدرسة الشعرية لعلماء الشيعة، وضخامة نتاجها الأدبي، لم يحض بالإهتمام المطلوب من قبل النقاد. وإن ما سلط من أضواء عليها لا يعدو ان يكون نوراً خافتا إذا ما اعتمدنا القياس الموضوعي الذي يتناسب مع ضخامة الحركة الشعرية لعلماء الشيعة.
وهناك ملاحظة أُخرى تلك هي: إن الدراسات الأدبية التي تناولت الشعر الشيعي، تركزت على بيان الجو الشعري في النجف الأشرف، باعتباره أحد مظاهرها الحضارية، كما كانت هناك تأكيدات متكررة على الجوانب الطريفة في الشعر الشيعي من قبيل الرسائل الشعرية والجلسات العامة والمناظرات والتواريخ وما الى ذلك من مواقف أدبية. فيما أُغفل الجانب النقدي الذي يتناول القيم الأدبية والموضوعية لشعر علماء الشيعة.
إن إستعراض حركة الشعر السياسي عند علماء الشيعة طوال الفترة الممتدة بين عامي 1914 و1970، يمكننا من تثبيت الحقائق التالية:
أولاً:
كانت أجواء الحوزة العلمية في النجف الأشرف هي المصدر الأول لشعراء العراق. وقد إحتل الشعر فيها مكانة متميزة. حيث شغل إهتمام العلماء وملأ مساحة واسعة من الجو العلمي. وكان الشعر بمثابة الرصيد الإضافي لعلماء الدين، لذلك نجد ان الكثير من العلماء الذين فرضوا وجودهم من خلال المنزلة العلمية والموقع الديني، إهتموا بنظم الشعر وسجلوا حضورهم في الميدان الأدبي، وظلوا يواكبون حركته باستمرار.
وقد ساهم هذا الإهتمام في بروز أسماء لامعة كبيرة في ساحة الشعر العربي بأسره، كالسيد محمد سعيد الحبوبي والسيد محمد جمال الهاشمي والسيد مصطفى جمال الدين والسيد محمد حسين فضل الله، بل إن الشاعر محمد مهدي الجواهري إنطلق في مسيرته الشعرية الضخمة من أجواء الحوزة العلمية في النجف الأشرف، قبل ان يتخلى عن زيه الديني ويبتعد عن الجو الإسلامي.
وحين نؤكد على أهمية النجف في حياة الشعر، فان ذلك لا يعني عدم بروز شعراء أسلاميين في المدن المقدسة الأُخرى. لكن ذلك لم يصل الى مستوى الظاهرة كما هو في النجف. فلقد كان شعراء المدن الأُخرى يمثلون نماذج شعرية محدودة العدد.
ان حركة الشعر في النجف الأشرف كانت من القوة والكثافة بحيث أنها أثرت على الاتجاه الشعري في العراق كله، ثم امتدت بعد ذلك لتؤثر في العديد من البلدان الإسلامية. وذلك نتيجة إنتشار قصائد الشعراء في تلك البلدان، ونتيجة عودة بعض العلماء الشعراء الى أوطانهم بعد إكمال دراستهم في الحوزة العلمية كالسيد محمد حسين فضل الله الذي تكونت شخصيته الشعرية في نوادي الأدب في مدينة النجف.
ثانياً:
فرضت طبيعة الأحداث التي مرت على الساحة العراقية ان يكون لعلماء الدين موقفاً أزاء كل حدث. فالإحتلال البريطاني للعراق، ومقاومة هذا الإحتلال عن طريق الثورة المسلحة، وتحديد شكل الحكم، وغير ذلك من القضايا السياسية المهمة، كانت تفرض على علماء الدين ان يحددوا الموقف الشرعي للأُمة، في كل واحد من تلك الأحداث، ولقد دخل علماء الدين في ضوء التطورات الحساسة والمتلاحقة، ساحة الأحداث كطرف قيادي ومحرك للأُمة ضد الإنجليز او ضد الحكومة. بحيث أصبح وجودهم في المعترك السياسي هو الوجود المتميز. مما أفرز بطبيعة الحال ان يكونوا وسط الأحداث وان يسجلوا حضورهم الدائم فيها.
إن هذه المواكبة السياسية جعلتهم يتفهمون أبعاد الحدث بتفصيلاته وجزئياته. كما إنها كانت تحتم عليها ان يعرفوا الأُمة بما يدور من مواقف وتطورات سياسية. وهذا ما كان ينعكس من خلال الخطاب المباشر مع الجمهور. فكان خطاب الشعراء منهم، يتمثل بالقصيدة السياسية التي تلقى في المهرجان الجماهيري، او تكتب في صحف المعارضة.
ولقد إستثمر علماء الشيعة الشعراء أية فرصة ومناسبة ليعبروا عن آرائهم السياسية وليطرحوا وجهات نظرهم تجاه حركات الأحداث السياسية في العراق. واستطاعوا بالفعل ان يغطوا الأحداث بدقة وكفاءة. بل إنهم تخطوا إطار الفعل السياسي باستكشاف الأبعاد الخفية للسياسات الإستعمارية او للاتجاه السلطوي الحاكم. وكانت حصيلة ذلك كله، نتاجا شعريا كبيرا شارك فيه معظم الشعراء من علماء الشيعة.
ثالثاً:
من خلال رصدنا للنتاج الشعري لعلماء الشيعة بشكل عام، وجدنا (كما سيتبين) ان الفترة الاولى(1918 ـ 1939) والفترة الثانية (1939 ـ 1945) غطاها نفس الشعراء، فقد ظلت الأسماء متكررة في الفترتين مثل الشيخ محمدرضا الشبيبي والشيخ محمد باقر الشبيبي والشيخ محمد علي قسام والشيخ محمد علي اليعقوبي والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد جواد الجزائري.
ان بقاء الشخصيات الشعرية بنفسها على امتداد هاتين الفترتين، جعل الإتجاهات العامة للشعر تظل متشابهة بينهما. وإذا ما تجاوزنا التقسيم الزمني الخاضع للمرحلة السياسية فإننا لا نستطيع ان نتبين وجود حركتين شعريتين خلال تلك السنوات الطويلة، إنما حركة شعرية واحدة لها خصائصها الفنية المتميزة ولها شخصياتها الثابتة على الأغلب، ما عدا بعض الإستثناءات التي لا يمكن ان تشكل خللا لها التقويم. وكان من نتيجة هذا الثبوت في الشخصيات الشعرية، عدم حدوث تطور في الخصائص الأدبية والفنية للشعر الشيعي خلال السنوات الممتدة من عام 1918 الى 1945م.
رابعاً:
في الفترة الثالثة(1945 ـ 1970) برزت طاقات شعرية جديدة وسط علماء الدين الشيعة، وقد تميز هذا الجيل من الشعراء بقدرته على تطوير الشعر الإسلامي، حيث كانت لهم نظريتهم الواضحة للأدب الإسلامي ودوره في الحياة السياسية. ولعل تطور حركة الأدب العربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد فرضت نفسها على جيل الشعراء بأسره، كما إن مواكبة هذه الطبقة من شعراء الشيعة للتطور الأدبي، وإدراكهم بأهمية إدخال عناصر التطور في الشعر الشيعي قد ساهم في تجاوز الشعر للصيغ التقليدية التي كانت سائدة في ما سبق وهذا ما نلاحظه في دخول بعض الشعراء كالسيد محمد حسين فضل الله مجال الشعر الحر. وهو إتجاه لم يكن مألوفا في الحياة الأدبية عند علماء الشيعة حتى عقد الخمسينات من القرن العشرين.
كما إن شعراء هذه الفترة وسعوا من دائرة الاغراض الشعرية السياسية حيث عالجوا شؤون المسلمين بنفس حركي وسلطوا الأضواء على الأبعاد الحضارية للهجمة الإستعمارية، وبذلك كان نتاجهم الشعري السياسي يتناول القضايا الإجتماعية والحركية والطائفية وغيرها من المسائل التي تتصل بحركة السياسة أيامذاك. وقد برز في هذا الإتجاه السيد محمد جمال الهاشمي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ أحمد الوائلي والشيخ جعفر الهلالي. واستطاع هؤلاء الشعراء وغيرهم من إثراء الشعر الشيعي في بعده السياسي، إضافة الى مواجهة الأساليب المضادة بتصور إسلامي واضح.
خامساً:
لم يكن الشعر هو الهوية التي تعرف العالم الشيعي او تطرحه جماهيريا، إنما كان الشعر هو العنوان الثاني لشعراء الشيعة من علماء الدين. فلقد عرفتهم الأوساط العلمية والمثقفة والجماهيرية من خلال نشاطاتهم الإسلامية ونتاجاتهم الفكرية. ولو إنهم تحركوا من خلال الشعر وحده، لاستطاعوا ان يكسبوا السمعة والمنزلة الإجتماعية أيضاً. حيث كان شعرهم من القوة للدرجة التي يعتبر فيها عنواناً عريضاً. ونقصد من وراء هذه الملاحظة إنهم أثبتوا جدارتهم في الميدانين الشعري وغيره، وإن كان الآخر قد سبق الأول فالسيد محمد جمال الهاشمي عرف أولا كعالم ديني ذي منزلة رفيعة، وكذلك الشيخ أحمد الوائلي عرفته الأوساط الجماهيرية خطيباً بارعاً، والسيد محمد حسين فضل الله عرفه القراء مفكراً كبيراً. وذلك قبل ان يتعرف عليهم الوسط الإسلامي على أنهم شعراء. وهذه ظاهرة تميز حركة الشعر الشيعي وتميز كذلك علماء الدين الشيعة من الشعراء.
سادساً:
رغم المكانة العالية لشعراء الشيعة في عالم الأدب، ورغم نتاجاتهم الغزيرة، إلا إنهم لم يحضوا بالقسط العادل من الإهتمام. وكانت هناك محاولات لطمس معالم شخصياتهم الشعرية. ولعل من الاسباب الرئيسية وراء ذلك، سيطرة الحسابات السياسية على الدوافع الموضوعية، فلقد وجدت الأجهزة الحكومية ووسائل الإعلام المرتبطة بها إن تسليطها الضوء على شعراء الشيعة إبرز لدور علماء الدين وهو ما يتعارض مع السياسات الحكومية المعادية للإسلام. كما ان الطائفية هي الأُخرى وقفت عائفا دون بروز شعراء الشيعة على صورتهم الحقيقية، ومع ذلك فقد فرضوا أنفسهم على الحياة الأدبية.
سابعاً:
مع نهاية عقد الستينات تعرضت حركت الشعر عند علماء الشيعة الى الضعف، فلم تبرز أسماء جديدة بالشكل الذي كان يحدث سابقاً. وهي ظاهرة لا تنسجم مع المسار الطبيعي التاريخي لتطور الحياة الأدبية في الأوساط العلمية الشيعية. فالمفروض ان يتزايد عدد الشعراء مع تقدم الزمن بفعل تراكم التجارب الشعرية وتعاظم التراث الأدبي. لكن الذي حدث خلاف ذلك تماما حيث أصبحت الولادات الشعرية قليلة ومتباعدة. وفي إعتقادنا ان سبب ذلك يعود الى أن جو الحوزة العلمية بدأ يميل الى الأبحاث الأُصولية والفقهية وبشكل متسع بحيث إستغرق إهتمام طلبة الحوزة وعلمائها. كما ان سيطرة التقاليد والأعراف على الجو الحوزوي كانت تؤثر كثيراً في مسارات الحياة داخلها. وقد ظهر إتجاه عرفي مع نهاية الخمسينات، يعارض الشعر في الوسط العلمي مما أضعف إهتمام العلماء بالشعر ونظمه.
ثامناً:
في الشعر السياسي عند علماء الشيعة كانت المباشرة والخطابة هي الصفة البارزة على قصائدهم. مما أفقدها الكثير من جماليتها. فلقد كان الشاعر الشيعي بصدد خطاب جماهيري يستعرض الظروف السياسية ويعالج واقع الأُمة عبر أبيات قصيدته. لذلك كان يهتم بالحدث أكثر من إهتمامه بالناحية الفنية كما إنه كان يحاول لفت أنظار الأُمة الى حقيقة ما يدور في الساحة بأقصى درجات الوضوح لذلك إبتعد عن الأُسلوب الرمزي قدر الإمكان. وراح أكثر من ذلك يحاول الإحاطة بالموقف السياسي من جميع جوانبه على حساب المعيار الفني للقصيدة. على أن من الضروري القول إن شعراء الشيعة لم يكونوا يفتقرون الى القدرة الفنية والجمالية في نظم الشعر. وهذا ما نلاحظه واضحا في قصائدهم الوجدانية والأخوانية والرثائية. حيث كانت على درجة متقدمة من النواحي النقدية.
الشعر الشيعي بين عامي 1918 ـ 1939
في مطلع عام 1918م تمت سيطرة القوات الإنجليزية على العراق وبذلك يدخل العراق مرحلة جديدة من حياته السياسية حيث بدأ يواجه لونا جديدا من الإحتلال ما كان يألفه في الأزمنة السابقة، لأن الدول العثمانية كانت فيما سبق تضفى على عرشها جلباب التدين والإسلام وإن كانت هويتها الإسلامية موضع شك وريبة في نفوس الأُمة آذاك.
وعلى أي حال ان المسألة بدأت بغاية الصعوبة عند ما دخلت القوات البريطانية الى العراق. وفي خضم هذه الأجواء الملبدة بغيوم الفتك والدمار وإزهاق أرواح الناس الآمنين كان الكثير من أبناء الأُمة ومعهم علماء النجف يدركون إن الوقوف الى جانب الصف العثماني في مواجهة الإنجليز هو الموقف المطلوب إسلاميا ووطنيا آنذاك. لا لأن العثمانيين هم أصحاب القرار الشرعي في العراق وإنما المسألة كانت من أهون الشرين، وحتى العثمانيين أنفسهم ما كانوا يتوقعون من شيعة الجنوب والفرات الاوسط والنجف موقفا متضامنا في ساحات المواجهة المسلحة على جبهات القتال.
وحقيقة الأمر ان العلماء في النجف كانوا على قدر كبير من الوعي والتفهم لسير الأحداث السياسية والمخاطر الكبيرة التي تحيط بالأُمة، مما جعلهم أمام التكليف الشرعي بشكل لا يقبل التسامح والتراخي. ومن هذا المنطلق نراهم قد تناسوا كل خلافاتهم مع العثمانيين، ولكن شاءت الأقدار تجهيض كل محاولات المواجهة مع القوات الغازية، ويهزم الثوار ومعهم القوات العثمانية وتكتب الغلبة للجيوش البريطانية التي حشدت الأُولوف من القوات الهندية لتقاتل معها. وفي عام 1918م بسط الإنجليز هيمنتهم على جميع الأراضي العراقية ولم يبق شيء للقوات التركية. وفي هذا العام يسجل المؤرخون حدثا كبيرا كان له الأثر الكبير في تاريخ العراق السياسي وهو ثورة النجف في مطلع هذا العام.
ثورة النجف
إن الواقع السياسي الجديد الذى فرضه الإحتلال البريطاني على العراق جعل علماء النجف يشعرون بجسامة الخطر الذي بات يهدد العراق من أقصاه الى أقصاه. وفي الوقت الذي أصبح فيه علماء النجف أمام مواجهة حقيقية كانوا يقدرون حجم الامكانات الهائلة التي تملكها القوات الغازية وضعف القدرات التي تجعلهم في مستوى المواجهة مع الإنجليز. ومن هذا المنطلق بدأت بوادر التفكير الجدي في ترتيب وبناء الصف الإسلامي في إطار من العمل المنظم الذي يجعل المقاومة مع الإنجليز بشكل يحسم الأُمور لصالح فصائل الأُمّة. وفي تلك الفترة كانت قد تأسست جمعية النهضه الإسلامية على يد شخصيات عرفت بمنزلتها العلمية والإجتماعية، وهم: الشيخ الشاعر محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم.
ان الهدف الذي آمنت به الجمعية وعملت على تثقيف الأُمة به هو تخليص العراق من هيمنة الإنجليز على مقدراته وثرواته وكان نشاط الجمعية الثقافي والفكري يتمثل بكتابة المنشورات والإعلانات على أبواب الصحن العلوي الشريف، وكذلك كانت تهيىء الأجواء والأذهان في تقبل فكرة الثورة ضد الإنجليز. لقد اعتمدت الجمعية اسلوبا تنظيميا ينحصر في توزيع أعضائها على جناحين رئيسيين: جناح عسكري وجناح تنظيمي، وعلى رأس هذين الجناحين عضو الإرتباط يشرف عليهما. وقد توزع العمل العسكري على عدة فروع في الكوفة وأبى صخير والحيرة والشامية.
إن هذا التوزيع للعمل الحركي بين صفوف الجمعية جعل نشاطها بشكل نجاجا كبيراً وملحوظاً في الأُمة حيث بدأت أعداد كبيرة من المتطوعين تنظم الى صفوف الجناح العسكري الذي استطاع توزيع المقاتلين الى ثلاثة مجاميع:
الاولى: بقيادة كاظم صبي وعباس علي الرماحي.
الثانية: بقيادة الحاج نجم البقال.
الثالثة: كريم الحاج سعد راضي.
إن الفتيل الذي أشعل نار الثورة بالنجف الأشرف هو العملية الجديدة التي قام بها الحاج نجم البقال على مقر الحاكم العسكري البريطاني في جامعة النجف وتمكن هو ومجموعة من إقتحامها وقتل الحاكم، مما جعل الأجواء في النجف الأشرف متوترة بشكل لا يؤمن معه حماية البلدة من هجوم محتمل تقوم به القوات الإنجليزية إنتقاما للحادث. وبذلك كان لابد للجمعية من اتخاذ التدابير اللازمة لرد الفعل الإنجليزي. فعقد رجال الجمعية اجتماعاً اتخذوا فيه قرار اعلان الثورة ضد الاحتلال.
واصدرت تعليماتها الى كافة الاعضاء بالمهام الواجب اتخاذها استعداداً لخوض المواجهة المسلحة مع الانجليز. فقسمت افرادها الى قسمين:
الاول: يعمل في النهار، والثاني في الليل كسباً للوقت لاسيما وان القوات البريطانية بدأت تتحشد حول مدينة النجف.
لقد اشتعلت نار الثورة بعد ان دار قتال ضار بين الثوار والقوات البريطانية ابدى فيه المجاهدون صموداً وشجاعة فائقة، ولكن النجف التي تعد من المدن الصغيرة في العراق وذات امكانات وقدرات محدودة بدت عاجزة في مواجهة الانجليز بعد ان فرضوا عليها حصاراً قاسيا استمر 46 يوماً. بعد ان قمعت الثورة القي القبض على الثوار واعدم 11 مجاهداً وسجن سبعة اخرون فيما نفي حوالي مائة مجاهد الى الهند. لقد كانت نهاية الثورة والاحكام التي صدرت بحق ابنائها انتكاسة كبيرة للجمعية، اذ خسرت الكثير من اعضائها الذين توزعت عليهم الاحكام بين نفي وسجن واعدام، فقادة الجناح العسكري اُعدموا، والكادر المتقدم زج في غياهب السجون او ابعد خارج العراق، ومنهم قادة الجمعية، فلقد نفت سلطات الانجليز الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد بحر العلوم الى خرم شهر وبقيا هناك حتى نهاية الحرب العالمية الاولى.
لقد كانت الاحداث في مدينة النجف لها الاثر البالغ في نفوس الناس وضمائرهم ولاسيما بعد انهيار العمل التنظيمي في جمعية النهضة وزج رجالها في غياهب السجون والشاعر الكبير محمد جواد الجزائري مؤسس الجمعية بعد ان اودع السجن ببغداد في شهر رجب من عام 1336هـ ق كان يتحسس آلام الناس والمحنة التي حلّت بهم وكان روح النداء والتضحية تجري في عروقه وهذا المعنى تجسده واضحاً في قصيدة البصائر التي نظمها في السجن:
مدونا بصائرنا لا العيونا***وفزنا غداة عشقنا المنونا
عشقنا المنون وهمنا بها***وعفنا أباطحنا والمجونا
وقمنا بها عزمات مضاة***أبت ان تسيس الردى او تلينا(1)
_______________________________
1- محمد كمال الدين، الثورة العراقية الكبرى.
ومن خلال دراسة الاحداث السياسية التي مر بها العراق وما رافقتها من تطورات هامة في معظم البلاد الاسلامية التي كانت تحت نير الاحتلال وكيفية تعامل القوات الغازية مع رجال الثورة وقمع الناس بالنار والحديد وزجّ رجالها وعلمائها في غياهب السجون كل ذلك ما كان ليثني العلماء الاحرار من مواصلة جهدهم وجهادهم لاجل تخليص البلاد من وطأة الغزو والعدوان، حيث كان يظن حالة الاعدام والسجن التي أعقبت مرحلة ما بعد الثورة هي النهاية التي لا عودة معها للحياة المستقلة الكريمة، ولكننا نجد المسألة على خلاف ذلك تماماً حيث كان رجال الثورة الاوائل يتحينون الفرص ويغتنمون الاوقات من اجل الرجوع من منفاهم او فكّ اسرهم لاجل مواصلة العمل الاسلامي المقدس. وليس هذا الكلام محض ادّعاء، وانما الادب الذي عاش في اجواء تلك المرحلة كان يعكس هذه المعاني بشكل واضح وجلي بحيث اننا يمكن ان نعتبر التراث الادبي والقصائد الشعرية التي قيلت آنذاك وثيقة سياسية هامة في تلك المرحلة.
ويمكننا قراءة هذا المعنى في القصيدة التي بعثها الشيخ الجزائري وهو في سجنه ببغداد الى العلاّمة السيد عيسى كمال الدين:
خطب كما تعلمونه صعب***يربو عليه الهم والكرب
خطب تطير له العدى فرحا***ويهيم من اطرائه الصحب
تجري له عين الخليل دما***ويذوب منه لوقعه القلب
ثورة عام 1920 الكبرى
بعد ان تم اجهاض ثورة النجف بطريقة ارهابية وقاسية تنبه الثوار انهم فيما سبق لم يدخلوا ساحة المواجهة بالشكل الذي ينبغي، حيث كان الضعف بادياً في طريقة التخطيط والاعداد للمواجهة. فكانت الهدنة التي أعقبت ثورة النجف بمثابة كسب الوقت لاعادة ترتيب الصفوف الاسلامية ودخول المواجهة بصورة اخرى. وهذه النقطة تعد من اهم نقاط القوة التي كان يتمتع بها الثوار آنذاك، حيث ان الطبيعي في كل تجربة تتحرك في ساحة الصراع، بعد فشلها واجهاضها لا يمكنها الاستئناف والمواصلة ثانية، وذلك لم يجر بالفشل من احباطات نفسية وسياسية كبيرة. ان من العوامل المهمة التي ساهمت في اشتعال فتيل الثورة هي حالة التماسك والتضامن بين علماء الدين والامّة مما ساهم في توفير غطاء شرعي ومعنوي للثورة.
ومن هنا نستطيع القول ان الثورة لم تكن حدثاً عفوياً وانما جاءت عن وعي وادراك وتخطيط دقيق تمكن من خلاله العلماء تعبئة كل فصائل الشعب من فلاحين وعمّال وزعماء العشائر من السنّة والشيعة وحتى فصائل الشعب الكردي في شمال العراق. لقد اصدر الميرزا الشيرازي فتواه الشهيرة التي كانت تمثل الشرارة التي اشعلت نار الثورة الكبرى التي غيرت مسار الاحداث في كل المنطقة، وكان نص الفتوى ما يلي:
«بسم الله الرحن الرحيم، مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والامن، ويجوز لهم التوسّل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الانجليز عن قبول مطالبهم».
وعلى اثر ذلك، عقد علماء الدين والشخصيات المهمة في النجف الاشرف اجتماعاً حضره الشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ جواد الجوهري، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبدالرضا الشيخ راضي والشيخ جواد الشبيبي ونجل شيخ الشريعة الاصفهاني وقرروا توجيه رسائل الى رؤساء العشائر وخاصة رؤساء الرميثة والسماوة يحثونهم فيها على الثورة، كما وجهوا رسالة عامة لكل المسلمين ناشدوهم فيها مقاومة الانجليز وطردهم من بلاد الاسلام. لقد جاءت جميع هذه الوقائع والاحداث على ألسنة الشعراء والادباء العلماء بشكل ينحصر في اثارة همم الناس وحثهم على القيام بواجبهم الاسلامي.
فهذا الشاعر الشيخ محمد علي اليعقوبي يرسل هذه القصيدة الى جبهة الثوّار في السماوة والرميثة وعنوانها تحيّة الثوّار:
أحبتنا بساحات الكفاح***ثقوا بالنصر فيها والنجاح
نفرتهم للوغى لما دعاكم***لها الداعي بشوق وارتياح(1)
وللشاعر الشيخ محمد حسن ابو المحاسن قصائد كثيرة في الثورة، ومنها هذه القصيدة التي اُلقيت في الاجتماع الذي عُقِد في صحن الامام الحسين «ع» بكربلاء بتاريخ 26 رمضان 1338 هـ ق، وقد طالب فيها باستقلال العراق:
وثق العراق بزاهر استقلاله***والشعب متّفق على استقلاله
اضحى يؤمل نيل الشرف غاية***يارب اوصله مدى آماله(2)
_______________________________
1- ديوان اليعقوبي، ص 165.
2- محمد كمال الدين، الثورة العراقية الكبرى.
لقد انحصرت الاغراض الشرعية في هذه الحقبة على الادب الحماسي الذي يلهب مشاعر الناس وعواطفهم وهذا اللون من الشعر يمتاز باللغة السهلة التي يفهمها كافة الناس دون ان يلتجأ الى الصور البلاغية المعقدة فنجده خالياً من الاستعارات والكنايات الاّ بشكل محدود.
ومن العوامل التي جعلت هذا النمط من الشعر بسيطاً خالياً من الصور الجمالية رغم ان ناظميه من فحول الشعراء في النجف هو الوسط الذي نشأ ونما حيث اننا نجده شعر مناسبات ومهرجانات عامة او شعر رسائل ومخاطبات. ومن الطبيعي ان يكون هكذا، ولا نستطيع ان نعتبر الشعر السياسي في هذه المرحلة قد مرّ بفترة انحطاط وتخلف وانما المرحلة التي ولد فيها ومعطيات الواقع الموضوعي هي التي فرضت على الادب التخلي عن لباس الصور الجماليّة والابداعات الفنية، ولعل الشاعر الكبير الشيخ محمد مهدي البصير الذي يعد من اكثر شعراء الثورة انتاجاً واقواهم ادباً هو خير دليل ومصداق على ما نقول.
وهذا مطلع من قصيدته العصماء التي ألقاها في مسجد الحيدر خانه ببغداد عند امتداد الثورة الى مختلف الولايات والبلدان:
بين الاسنّة والقواضب***شرف المبادىء والعواقب
إبغ السلام فان، تخب***فيما قصدت له محارب
ودع المقال الى المصال***بملتقى القُب السلاهب(1)
_______________________________
1- المصدر السابق.
استمرت الثورة حوالي خمسة اشهر وشملت مناطق واسعة من العراق، وكانت العمليات العسكرية على قدر كبير من الضراوة، تحدثت عنها الكثير من المصادر التاريخية.
وخلال الثورة وفي شهر آب 1920م تعرّضت الثورة الى انتكاسة كبيرة حين توفّى قائدها الميرزا الشيرازي، فتولى القيادة المرجعية بعده شيخ الشريعة الاصفهاني، الذي وجه نداءه الى الامة يحثهم على مواصلة الجهاد، وقد بذل جهوده من اجل تحقيق استقلال العراق، حتى توقفت العمليات العسكرية التي قام بها الانجليز بامكاناتهم العسكرية الضخمة التي عززها من الهند ضد الثوار، والتي كانت ارهابية حيث انهم كانوا يحرقون المنازل والقرى والمحاصيل بواسطة الطائرات. ورغم نهاية الثورة قبل الوصول الى نتائجها الحاسمة في تأسيس الحكومة الاسلامية. فانها استطاعت ان تجبر الانكليز على تغيير سياستهم وبرنامجهم بشأن العراق.
ثورة العشرين في ذاكرة الشعر
لقد تنبه العراقيون بسرعة الى حقيقة ما يريد الانجليز، فهبوا في وجوههم ثائرين بما لديهم من سلاح وقوة وايمان، حتى اذا اصاب ثورة العشرين ما اصابها من اخفاق، ولم يلق العراقيون سلاحهم ولم يسكت الشعراء على واقع المستعمرين. وصار الشعر العراقي في طليعة المناضلين ضد الانجليز، وضد الحاكمين الذين نصبهم الانجليز حين اقاموا في العراق دولة ملكها فيصل بن الحسين.
يقول الشاعر محمد صالح بحر العلوم:
أيرفع هذا الشعب بنيان حكمه***صحيحاً ورأس الحاكمين يخرب
وهل يعذب الورد الذي منه ترتدي***بلادي وفيها ابن البلاد معذّب
صحيح ان القصائد التي ذكرت بعد احداث الثورة الكبرى تنطوي على شيء من السرد التاريخي لوقائع الاحداث الاّ انها تندرج تحت بواعث الشعر السياسي من شعور بالقضية الوطنية هذا الشعور الذي كثيراً ما يكون منحازاً لنيل الامة حريتها واستقلالها.
ومن ناحية اخرى نجد ان هذا الشعر وفي كثير من حالته واشكاله يذكر الامة بماضيها الجهادي المقدس ويستنهضها في مقارعة المستعمرين والشاعر المبدع الشيخ علي الباري:
قف بالرميثة واسأل ما جرى فيها***غداة ثارت بشوال ضواريها
وعن سواعدها قد ثمرت وقضت***ان تستعيد بماضي العزم ماضيها
ثم ان الثورة تعد في الحسابات العسكرية قد خسرت الجولة ولكن قادة الثورة وزعمائها يعطون لحركة الثورة بعداً آخر غير مقروء في الحسابات العسكرية حيث ان الثورة قد بلغ صداها الى جميع انحاء العالم وبدأت الصحف والمجلات في جميع اقطار الدنيا تردد صداها مما سبب حرجاً سياسياً كبيراً للحكومة البريطانية مما جعلها تفكر باعادة النظر في رسم الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الاوسط وفعلاً كان التحوّل سريعاً وملحوظاً في المراحل التي اعقبت الثورة. ومن هنا يمكن القول ان هذا كان يمثل الحد الادنى من الاهداف المرسومة لهذه النهضة فاعتبرها بعض الادباء ان نجحت فيما تصبو اليه من استقلال وحرية واعتبرها البعض الآخر بمثابة مرحلة تحضيرية لثورة اخرى تكون على المستعمرين اشد وأنكى.
لقد كانت احداث الثورة ثقيلة الوطىء على الادارة البريطانية حيث الحقت بها هزيمة سياسية كبرى مما جعل الانجليز يفكرون باعادة بناء الخارطة السياسية في جميع المستعمرات البريطانية لانهم كانوا يصورون للرأي العام بأن الشعب العراقي كان يرغب بادارة الحكومة البريطانية.
وبعد هذا المسلسل الثقيل من الاحداث التي ذاق منها الشعب العراقي الوان القمع والارهاب حيث كانت الطائرات البريطانية تصب جام غضبها على الاهالي الآمنين دون رحمة فكانت تحرق بيوتهم وقراهم ومحاصيلهم، فبعد هذا كله فكر الانجليز في الخداع والتظاهر بأنهم سيحققون للشعب مطاليبه ورغباته في تشكيل حكومة مستقلة تحت قيادة ملك عربي هو من ابناء الشريف حسين، وكان هذا أحد المطالب التاريخية التي نادى بها رجال العراق من علماء دين ورؤساء عشائر وقادة محليين. فبعد سلسلة من الاحداث والمتغيرات قرر الانجليز تنصيب فيصل ملكاً على العراق. كانت قيادة الثورة المتمثلة بعلماء الدين واعية للمخطط الانجليزي، وأدركت ان الانجليز بصدد القيام بحركة التفاف حول الثورة ومصادرة جهود الثوّار وحرف مسيرتها عن اهدافها الحقيقية، لذلك حذرت الهيئة العلمية التي كانت تقود الثورة من المخاطر التي تنطوي عليه عملية ابدال الحاكم العسكري «ولسن» واعادة «كوكس» الى العراق.
وكانت الهيئة برئاسة شيخ الشريعة الاصفهاني باعتباره المرجع الاعلى بعد وفاة الميرزا وعضوية السيد ابو القاسم الكاشاني والميرزا عبدالحسين نجل الميرزا الشيرازي والشيخ أحمد نجل الآخوند الخراساني والسيد نور الياسري، وراحت اللجنة تحذر العراقيين من مغبة سياسة كوكس الماكرة، وتطلب اليهم بالحاح واصرار ألاّ يسرعوا في اعطاء الوعود وقطع العهود على أنفسهم الاّ بعد الرؤية والتفكير الرصين. وعلى أيّ حال نستطيع ان نجمل القول بأن المعارضة الاسلامية التي كانت محكمة ومتماسكة في وجه الانجليز قد بان فيها التباين والتصدع في هذه المرحلة حيث كانت آراء العلماء منقسمة بين مؤيد لتنصيب فيصل ملكاً على العراق ومعارض لذلك.
ولقد كانت النجف تمثل الصف المعارض الذي يرفض اي لون من الوان الالتفاف حول قضية الشعب في العراق بينما نجد ان علماء الكاظمية قد تعاملوا مع الموقف بشيء من التفاؤل والايجابية. ان الصف النجفي الذي كان بزعامة كبار مراجع التقليد امثال السيد ابو الحسن الاصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني كان يتمتع بتأثير كبير على الوسط الشعبي في العراق.
لقد كان مسار الاحداث فيما بعد يكشف عن الورطة السياسية التي عانى منها علماء الكاظمية امثال محمد الصدر والشيخ مهدي الخالصي والسيد عبدالمحسن الكاظمي رغم اقامته في مصر من عدم معارضتهم لترشيح فيصل، مما اضطر البعض منهم ان يتراجع عن مواقفه فيما بعد، ولعلنا نقرأ هذا المعنى في قصائد الشاعر السياسي الكبير عبدالمحسن الكاظمي الذي كان له حضوراً مشهوداً في ساحات الصراع الاسلامي.
ففي هذه القصيدة تقرأه متفائلاً بقدوم فيصل ويصوره الرجل الذي يحقق امال ورغائب الشعب في العراق بحيث يشبه منهله اكثر عطاءاً من الفرات ودجلة والنيل وهو من ضروب المغالبة التي اعتمدها:
فليس الفرات ولا دجلة*** ولا النيل مثلك إذ ننهل
وأجدر بالملك ذو فطنة***اذا غفل الدهر لا يغفل
ولا يأمن المكر ما لم تكن***جراثيمه لعد لم تؤصل(1)
وهذا القصيدة تكشف قوة الشاعرية التي يتمتع بها الشاعر، وقدرته في اختيار الالفاظ والمفردات الجزلة دون سابق اعداد. وليس هذا المعنى غريباً في الحياة السياسية والأدبية للشاعر، فهو الذي اصبحت كلماته انشودة الشعب المصري الذي قاوم الغزاة:
سلام يا سنا القمرين يوحي***عليك به من الله السلام
سلام كله أمل ووجد***وتعظيم لقدرك واحترام(2)
_______________________________
1- ديوان عبدالمحسن الكاظمي.
2- المصدر السابق.
وبعد ان استتب الامر لفيصل وتربع على عرش العراق بدأت تتضح للامة حقيقة ارتباطه بالانجليز ولم يكن الاّ دمية يحركونه كيفما يشاؤون وحقيقة الامر ان العراق لم يتخذ استقلاله بعد وانما بدأت معه مرحلة جديدة حيث الانجليز فرضوا على فيصل عدة امور من شأنها ان تحكم السيطرة البريطانية على العراق حيث ان المندوب السامي قدم للملك بعد بضعة ايام من حفلة التتويج مسودة لمعاهدة كصيغة اولية تدور حولها المناقشات، وتضمنت 15 مادة نذكر منها ما يلي:
المادة الثانية: «على الملك فيصل ان يستعين بالمشورة البريطانية ولا يعين موظفين بدون موافقتها».
المادة الثالثة: «تمثل حكومة بريطانية بمندوب سام وحاشية استشارية ويطلع المندوب السامي على القضايا المهمة».
المادة الخامسة: «أن تمثل بريطانيا العراق في الخارج».
المادة السادسة: «ان تحتفظ بريطانية في العراق بجيش للدفاع عن التجاوز الخارجي وتأييد الامن في الداخل وتستخدم الطرق والسكك الحديدية والموانىء لحركة هذه القوات ونقل الوقود والذخيرة».
المادة العاشرة: «عدم عرقلة شؤون المبشرين».
المادة الرابعة عشرة: «استشارة المندوب السامي في القضايا المالية».
ان هذه العهود والمواثيق التي اتخذها الانجليز على فيصل سيكون لها انعكاسات مباشرة في الواقع العملي الامر الذي جعل حقيقة الامر منكشفة للعلماء والامة فيما بعد بحيث جعل شعبية الملك تنحسر بشكل ملحوظ وسحب علماء الدين الذين استبشروا بقدومه كل دعمهم وتأييدهم له امثال الشيخ مهدي الخالصي والسيد عبدالمحسن الكاظمي الذي بعث له هذه القصيدة التي يعرب فيها عن خيبة امله بها ويسخر منه ومن أفعاله:
قل للذي ظن العلى كل العلى***تكحيلة عينيه والتسويك
انت الذي خسر الحياة بغيه***ان الحياة وساوس وشكوك(1)
_______________________________
1- المصدر السابق.
ان المرحلة التي اعقبت سحب تأييد العلماء من الملك فيصل بعد ان تزعزت ثقتهم به كانت المعارضة الاسلامية لازالت قائمة وترصد مستقبل البلاد بدقة.
ويمكننا القول هنا ان حركة الادب بشكل عام والادب السياسي بشكل خاص كانت تتأثر بشكل مباشر في تطورات الاحداث على الساحة السياسية، فعندما نرصد التراث الشعري في رحلة الثورة نجده ثميناً ومتنوعاً ووفيراً بخلافه في المراحل التي اعقبت الثورة حيث مرت فترة من الخمول والركود في اسواق الشعر والادب لان هذه المرحلة كانت مرحلة ترقّب وحذر ورصد لما سيقوم به الانجليز واختبار لمصداقية الملك فيصل فيما اعطى للامة من عهود ومواثيق.
ان الملك فيصل كان يسعى لان يكون موقعه في العراق يتمتع بغطاء دستوري، وهذا بدوره يحتاج الى وجود مجلس تأسيسي منتخب يصوب على ذلك.
ومن جهة اخرى: كان الانجليز يفكرون بإبرام معاهدة مع العراق تضمن هيمنتهم الاستعمارية على اراضي العراق ومقدراته وهذا كذلك بدوره يستلزم وجود مجلس تأسيسي يوافق على ذلك، وهنا كان المجلس يمثل الجامع المشترك بين فيصل والحكومة البريطانية غير ان المعارضة عادت لتواجه هذه الخطوة بقوة، حتى ان الانجليز والحكومة والملك يتوقعوا قوة موقف المعارضة بعد ان تعرضت الى ضربة قوية في شهر آب على يد المندوب السامي، وكان العامل الاكبر في قوة المعارضة هو تصدّي علماء الدين للانتخابات، حيث اعتبروا ان اجراء الانتخابات المزورة سيصادق على المعاهدة، وبذلك تترسم سياسة العراق ومستقبله بشكل نهائي، ومن هنا كان تصديهم قوياً لمنع هذه الخطوة الخطيرة التي تعتبر حداً فاصلاً في التاريخ العراقي وفي مصيره السياسي، وهنا برز الدور القيادي لثلاثة من كبار المجتهدين في الدعوة لمقاطعة الانتخابات وهم: السيد أبو الحسن الاصفهاني والميرزا حسين النائيني والشيخ مهدي الخالصي مالم تحقق للشعب مطالبه التالية:
1ـ الغاء الادارة العراقية.
2ـ اطلاق حرية المطبوعات والاجتماعات.
3ـ سحب المستشارين من الالوية.
4ـ اعادة المنفيين السياسيين.
5ـ السماح بتأليف الجمعيات.
لقد جاء رأي علماء النجف في مسألة الانتخابات على اثر سؤال قدم اليهم بنص ما يلي:
«هل يجوز المداخلة ببعض الوجوه في انتخابات المجلس التأسيسي العراقي ام لا يجوز لكل احد من العراقيين، افتونا ادام الله ظلّكم على العالمين».
وأجاب على هذه الفتوى اربعة عشر عالماً مؤكدين حرمة الانتخابات واعتبار الاشتراك فيها بمثارة الخروج عن الدين، ووزعت في شتى انحاء العراق، نصت فتوى المرجع الاعلى السيد ابو الحسن الاصفهاني على ما يلي:
«الى اخواننا المسلمين... ان هذا الانتخاب يميت الامة الاسلامية، فمن انتخب بعد علم بحرمة الانتخاب، حرمت عليه زوجته وزيارته، ولا يجوز رد السلام عليه، ولا يدخل حمام المسلمين».
وهنا يتحدث الشاعر باقر الشيبي في وضع الوزارات المتردي وكيف ان الحكام لا حرص عندهم على هذه الامة التي قدمت الكثير في سبيل نير كرامتها:
هذه البلاد وهذا حكمها الذاتي***فلا يغرنّك لطف العبارات
رؤى رأوها فخالوها محققة***وكيف يأمن قوم بالمنافات
ليت البلاد التي ثارت مجاهدة***قامت على الهيكل البالي بثورات(1)
الخاسر الاول في هذه التشكيلات البعيدة عن ارادة الامة وطموحاتها هو الشعب العراقي لان الغنائم السياسية سيحصل عليها ضعفاء النفوس الذين باعوا ضمائرهم للاجنبي. وكل هذه الاشكال والتقلبات كانت حاضرة في أذهان الشعراء حيث كانوا يصبون جام غضبهم وحمم بنيرانهم بقصائد ذات كلمات فصاح هي كالرصاص في وقعها وتأثيرها وهذا ما نحسّه واضحاً في كلمات الشبيبي:
أين الرجال التي أضحت جهودهم***مضاعة عند اشباه الرجالات
ما مزّق الشعب الاّ ضعف قادته***على الخطوب ونقض في المفادات(2)
_______________________________
1- يوسف عزالدين، الشعر العراقي الحديث، ص 413.
2- نفس المصدر السابق.
وقد انفرد محمد مهدي البصير برأي الاكثرية الساحقة من الشعراء فهو لا يلق التبعة على الانجليز او المستشارين وانما القاها على كاهل الوزارات العراقية، فمن المفروض ان يكون الوزير مالكاً زمام امور وزارته ومتصرّفا بشؤونها قادراً على الهيمنة التامة وبذلك لن يكون للمستشار قيمة في الوزارة ولن يتدخل في اموره، والرأي خيالي لا يمكن ان ينطبق على وزارات هذا العهد، لامور منها ان الذين جاءوا الى الوزارة هم من ذوي المصالح المشتركة مع الانجليز او انهم بحاجة الى العون الاقتصادي او من الضعاف الذين خبرهم الانجليز وسبروا انفسهم.
لكن البصير اراد ان يدفع الوزراء الى العمل، ويخلق منهم القوة والعزة والكرامة، فاذا اتفق هؤلاء الوزراء - وهذا خيال شاعر - فقد يأخذون الحكم بأيديهم وسعيهم الى الاصلاح في العراق والبصير أخذ يرد على الذين يعترضون عليه بأن سوف يضطرهم بقوته الى الرضوخ لاوامره ونواهيه ولكن لم يجد برهاناً واحداً على وقوف الوزراء امام رغبات المستشار والحد منها فلو اجمع ابناء الامة على مقاطعة الوظائف وصمدوا امام التهديد والسجون والموت لما تمكن الانجليز من تطبيق خططهم الاستعمارية في استقلال العراق.
ان اكثر ابناء الامة مسؤولون امام التاريخ في تشجيع المستعمر في امور بلادهم، وهم احرى باللوم واجدر بالتقريع لانهم لا يستأنفوا نضالهم وضعفت معنوياتهم مع نفع زائل ونعيم حائل فقد قال البصير:
ما رسمنا للاستشارة حدّا***فلها العذر ان تجوز الحدودا
شغلت مركز القيادة منّا***اذ رضينا فكنا لها جنودا
أتقولون انها اكرهتنا***فعلنا ما نواه سديا
شكر الله سعيكم خبروني***كم بذلتم في كبحها مجهودا(1)
وقد عكست الجرائد العراقية الحيرة والوجوم اللذين هيمنا على ربوع العراق من الوضع الشاذ في الدولة الجديدة المستقلّة وذات السيادة والتي لها برلمان ولكن لا يمكن لأبنائها ان يديروا دفة الامور فيها مع ان الوزراء مسؤولين امام البرلمان فهم لا يصدرون امراً الاّ بموافقة المستشارين.
وقد قالت جريدة الزمان بصراحة ان البلاد مستعمرة وذلك بقولها (يقولون ان البلاد مستقلة وان شؤونها تديرها حكومة وطنية.. والله يعلم ان البلاد مستعمرة لا مستقلة وكيف لا تكون كذلك وهذه جنود الانجليز فيها وهذي طياراتهم محلقة في سماء العراق صباحاً ومساءا.. وكيف تكون مستقلة وكلمة الانجليز هي العليا في الصغيرة والكبيرة» وتفند الجريدة المزاعم بقولها (ومن الخطل في الرأي العليا ان تستمر على التغرير بأنفسنا فنزعم مخالفة الانجليز لنا انّما هي مستندة الى الاخلاص المتبادل، فالمعروف الذي لا يمكن تجاهله ان القوي اذا خالف ضعيفاً، فهو انما يسعى الى مغنم يلبسه ثوب الحق وينفي عنه تهمة الغصب والاعتداء، بغير ذلك لا يمكن تعليل هذا، ولو بحثنا الحالات المتعددة التي سلمت فيها الوزارة العراقية لوجدنا ان اساس التسليم للانجليز في هذه البلاد انما يرتكز على الافراط في الحذر لئلا يصطدم هذا الاستقلال بسيطرة الانجليز، وقد هاجم محمد صالح بحر العلوم كل وزير وكل نائب واعتبره جاسوساً يخدم الاجنبي، وما الراتب الاّ اجرة عمله هذا فقال:
تجسس البعض منكم بجرأة ومهارة
ونال منا اجوراً عن جهده بجدار
ففي النيابة أجر وآخر في الوزارة(2)
_______________________________
1- جريدة العراق، العدد 2571 السنة التاسعة 1928م.
2- يوسف عزالدين، الشعر العراقي الحديث.
والطريف ان يجعل المستشار اباً لهؤلاء و«المس بيل» امهم، ويحدثنا عن نتيجة الذين لا يتفقون معهم في الرأي فهي امّا السجن او النفي او الشنق وذلك يظهر لنا التعصب الاعمى من الاجانب ضد ابناء الامة الذين لا يوالونهم ولا يرضون بحكمهم البغيض، وقد جعل أوّل العقوبات السجن والنفي والاعتقال، اما اولئك الذين يصرون على موقفهم فجزاؤهم الموت.
وحكم من يتوخى طرق الحماية خنق***نفي وحجر وسجن وان امر فشنق
وقد سخر علي الشرقي من المجلس ولم ير فيه سوى المظاهر الكاذبة وترك امره للايام فهي كفيلة ببيان قيمته.
صوروا مجلساً بهيّاً أنيقا***شيخه واقف ويلقي خطابه
لوسألتم منه سؤالا دقيقا***سوف تعطيكم الليالي جوابه
كانت احدى بلايا الامة في هذه الفترة، الحكم الاجنبي الذي ليس وجهاً وطنياً، فالظاهر تدل على وجود حكم وطني ولكن الاجنبي هو الذي كان يحرك ذمة الامور بواسطة المستشارين الذين دسهم في ارجاء هذا الحكم لذلك لم يكن للوزراء او النواب او جميع ابناء الامة من رأي، وانما هم آلات في الدولة يحركها المستشارون، فحيل بين الشعب وبين المستعمر بستار وزارة عراقية لا تقدر ان تنفع البلاد وما دام المستشارون لا يريدون ذلك، فوجّه الشعراء اهتمامهم الى هؤلاء المستشارين وسخروا من الوزراء الذين تعرف لهم امور البلاد ويحل قضاياهم الاجنبي، كانت سخرية الشعراء لاذعة وتهكمهم مريراً موجعاً على هؤلاء الذين اصبحوا مطايا للمستعمر. وتزيد في تعقيد الامور. فجعلت البلد عبداً تسخره كيفما تريد. باسم هؤلاء الوزراء الذين صدّقوا انّهم الحاكم فقال محمد باقر الشبيبي:
الحكم حكمهم بغير منازع***والأمر مصدره والمورد
المستشار هو الذي طلى***فعلام يا هذا الوزير تعربد(1)
__________________
1- جريدة النهضة، العدد 297.
تعليق