اللهم صل على محمد وآل محمد
التوبة والاستغفار
بسمهِ تعالى
حكمة تشريع التوبة والاستغفار1: التوبة والاستغفار
بسمهِ تعالى
للرجاء دورٌ مهمٌ في إبقاء الحيوية المعنوية في الفرد المسلم، فالشريعة لم تقطع رجاءه على أثر ارتكابه بعض الذنوب، بل فتحت مصراعيها للمذنبين كي يعودوا، وجعلت لذلك طرقاً، منها: الشفاعة، والتوبة، والاستغفار.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحيماً﴾2، وقال أيضاً: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلين﴾3.
روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجلّه الله سبع ساعات، فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كُتِبت عليه سيئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه من ساعته"4.
لذا رغّبت الشريعة المؤمنين وحثّتهم على الاستغفار، والنصوص الواردة في ذلك مستفيضة جداً، كتاباً وسنة.
273 |
حقيقة المغفرة والتوبة:
"المغفرة هي الستر، بمعنى أن يستر القادرُ القبيحَ الصادرَ ممن تحت قدرته"6.
فالمغفرة إذن هي التغطية على الذنوب والعفو عنها، وهي من أسماء الله عزّ وجلّ، الغفور، والغفّار، بمعنى الساتر لذنوب عباده، وعيوبهم، المتجاوز عن خطاياهم، وذنوبهم.
التوبة: "الرجوع من الذنب. وفى الحديث: " الندم توبة "، وكذلك التوب مثله. وقال الأخفش: التوب جمع توبة، مثل عومة وعوم. وتاب إلى الله توبة ومتاباً"7.
أمّا شرعاً، فهي الرُّجوع إلى صراط الله المستقيم بعد الانحراف عنه8.
وقد عرَّفها علماء الأخلاق بأنّها ترك المعاصي في الحال، والعزم على الابتعاد عنها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في حقّ الله وحقوق الآخرين.
قال الإمام الخميني بشأنها: "التوبة من المنازل المهمّة الصعبة، وهي عبارة عن الرجوع عن عالم المادة إلى روحانية النفس، بعد أن حُجبت هذه الروحانية ونور الفطرة بغشاوات ظلمانية من جرّاء الذنوب والمعاصي"9.
فحقيقة التوبة إذن، هي الرجوع الاختياري عن المعصية إلى الطاعة والعبودية لله وحده لا شريك له،﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾10. وتوبة العبد إلى الله ورجعوه بتركه للمعصية - وهو توفيق إلهي محض -؛ لان الإنسان
274 |
حكم التوبة:
إذا أقدم الإنسان على المعصية، وكان بالغاً عاقلاً عالماً بحرمة ما ارتكبه، غير مضطّر إليه، وليس مجبراً عليه، يعتبر حينئذٍ عاصياً، وتصبح التوبة واجبةً عليه.
وقد أفتى الفقهاء بوجوبها، فذكر الإمام الخميني في تحرير الوسيلة: "من الواجبات التوبة من الذنب، فلو ارتكب حراماً أو ترك واجباً تجب التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه وجب أمره بها، وكذا لو شُكّ في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنسبة إلى سائر المعاصي، فلو شُكّ في كونه مقصِّراً، أو عُلم بعدمه، لا يجب الإنكار بالنسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنسبة إلى ترك التوبة"11.
ويعتبر الإنسان مذنباً، وتجب عليه التوبة، إذا تحقّقت أربعة شروط:
1- أن يكون المذنب قد بلغ سن التكليف الشرعي؛ لأن غير المكلّف ليس مخاطباً بالأحكام الشرعية، وإن ترتّب على بعض أفعاله حقوق قضائية، فيما يتعلّق بحماية الفرد والمجتمع.
2- أن يكون المذنب عالماً بحرمة ما ارتكبه من جرم، وما اقترفه من معصية، أي غير جاهلٍ أو مخطئ به.
3- أن يكون المذنب عاقلاً حين إقدامه على المعصية، وقد ارتكبها بكامل وعيه (أي ارتكبها مع سبق الإصرار).
4- أن لا يكون المذنب مضطّراً إلى ارتكاب المعصية والتلبّس بالجريمة ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾12.
فإذا تمّت هذه الشروط في مرتكب الجرم، وقد تلبَّس به، يصبح مذنباً من جهة شرعية، وتجب عليه المبادرة إلى التوبة.
275 |
حثّ القرآن الكريم على التوبة في مواضع، كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُود﴾13، ﴿...وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾14، ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾15، فهذه الآيات فيها حثّ على التوبة والاستغفار، مهما كَبُر الذنب أو صَغُر، ومهما كان الإنسان، عادياً أو من الأولياء الصالحين، وغيرهم. وآيات التوبة التي وردت في القرآن كثيرة وعديدة، نقتصر منها على أربع آيات؛ لأهميّتها، ووجود نكات دقيقة فيها:
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيما﴾16.
والجهالة المقصودة بالآية ليست هي عدم العلم بالمعصية، وإنّما طغيان الغريزة، وسيطرة الأهواء الجامحة، والحقيقة نفسها بيّنها الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة: "إلهي لم أعصِك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفس، وغلبني هواي"17.
الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾18.
رُوِي عن الإمام الصادق عليه السلام: لمّا نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً...﴾، صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لست لها، فقام آخر، فقال: مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس
276 |
الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾21.
والآية تدلّ على عظمة الرحمة الإلهية؛ فهي تصرّح بأنّ الله تعالى لن يكتفي بمغفرة ذنوب المذنبين، بل سيبدّل سيئاتهم إلى حسنات.
الآية الرابعة: قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾22.
حذّر الله تعالى عباده من اليأس والقنوت، وبشّرهم في هذه الآية الكريمة بأنّه تعالى يغفر جميع الذنوب دون استثناء، إلا الشِرك به تعالى كما صرّح القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾23، إلا إذا تاب من الشرك وعاد إلى الإسلام. فلا مغفرة -كما صرّح القرآن- دون توبةٍ من الشِّرك، والآية المذكورة ناظرةٌ إلى المغفرة من دون التَّوبة.
آثار التوبة والاستغفار:
إنّ للاستغفار والتوبة آثاراً عظيمةً على الإنسان، تؤثّر عليه من خلال مجريات حياته، نشير فيما يأتي إلى بعضها:
1. الخير والبركة: هناك ارتباطٌ قويٌ بين الاستغفار وبين صلاح المجتمع ونزول البركات والحياة الطيبة، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
277 |
وعن الإمام الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه واله: من أنعم الله عزّ وجلّ عليه نعمة فليحمد الله، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله"26.
2. دفع العذاب: من آثار الاستغفار الطيبة رفع العذاب عن هذه الأمة، وعن الإمام علي عليه السلام قال: "كان في الأرض أمانان من عذاب الله سبحانه، وقد رُفِع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفِع فهو رسول الله صلى الله عليه واله، وأما الأمان الباقي فالاستغفار، قال الله عزّ من قائل: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾27"28.
3. طرد الشيطان: الاستغفار يبعد الشيطان ويحبط مؤامراته، عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه واله لأصحابه: ألا أخبركم بشيءٍ إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق عن المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه"29.
4. تكفير السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾30.
5. تبدّل السيئات حسنات: فإذا حَسُنت التوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات، قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾31. وهذا من أعظم البِشارة
278 |
6. طهارة القلوب: الاستغفار كما ورد في النصوص الشريفة يجلي القلوب، ويطهّرها من كل خبث ونجس، قال رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ للقلوب صداء كصداء النحاس، فأجلوها بالاستغفار"32، لقد عبّر رسول الله صلى الله عليه واله عن الذنوب بالصدأ، التي لا يمكن جلاؤها إلا بالاستغفار.
مراتب التوبة ودرجاتها:
ذَكَر الشهيد دستغيب أربع مراتب للتوبة33:
1- العودة من الكفر إلى الإيمان، ومن الشِرك إلى اليقين، وهكذا الرجوع من أيّ عقيدةٍ باطلةٍ إلى الحقّ.
2- العودة من المعصية - صغيرةً كانت أو كبيرة - إلى الطاعة، ومن المخالفة إلى الامتثال والموافقة.
3- العودة من القصور أو التقصير في معرفة الخالق تعالى، أو أداء وظائف العبودية بالنحو المناسب.
4- العودة من الغفلة عنه تعالى إلى ذكره، والبُعد عنه إلى التقرّب منه، والعودة من الجفاء معه تعالى إلى الوفاء، وهذه درجة خاصّة يدركها القليلون.
أركان التوبة وشرائطها:
حقيقة التوبة - كما ذكرنا - هي رجوع العبد إلى الله تعالى، وإقلاعه عن المعاصي، ولا يتحقّق ذلك إلا بمراعاة شروط التوبة والالتزام بأركانها؛ فالتوبة ما لم تقترن بندمٍ حقيقيٍ على الفعل الذي هو حاجب بين العبد وربّه، وتصميمٍ على عدم العودة إليه أصلاً، وسعيٍ لمحو كلّ آثاره الباطنية والخارجية، من خلال إفراغ ذمّته من أيّ حقّ متعلّق فيها، سواء الحقّ الإلهي أو حقّ الناس، فإنّ التوبة تبقى ناقصةً وغير مكتملةٍ، ولا يتوقّع منها أن تؤتي ثمارها الطيبة والمرجوّة، قال تعالى: ﴿
279 |
جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لقائل قال بحضرته أستغفر الله: "ثكلتك أمّك، أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستّة معان:
أوّلها: الندم على مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم؛ حتى تلقى الله أملس ليس عليك تَبِعة.
والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضةٍ عليك ضيعتها، فتؤدّي حقّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت، فتذيبه بالأحزان، حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينها لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة، كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك نقول: أستغفر الله"35.
ومما تقدّم في كلام الإمام علي عليه السلام، نستنتج أنّ للتوبة ركنين وأربعة شروط.
1. الركن الأول: الندم على الذنب.
2. الركن الثاني: العزم على ترك الذنب وعدم العود إليه، ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الندم على الشرّ، يدعو إلى تركه"36.
وأمّا الشروط، فهي على قسمين:
- شروط القبول:
1. تأدية حقوق المخلوقين بإرجاعها إلى أهلها: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيّها الناس، إنّ الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه، ونخاف عليه. قيل: يا أمير المؤمنين عليه السلام فبيّنها لنا، قال: نعم.
أمّا الذنب المغفور، فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين. وأمّا الذنب الذي لا يُغفر، فمظالم العباد
280 |
وأمّا الذنب الثالث، فذنب ستره الله على خلقه، ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة، ونخاف عليه العذاب"37.
2. تأدية حقوق الخالق سبحانه وتعالى: يجب على التائب تدارك ما فوّته من حقوق الله تعالى، وأن يعود فيتداركها كلّها حسب ما قرّرت الشريعة الإسلامية، فيقضي الصلاة، ويقضي الصوم، ويكفّر عما فاته أيضاً، إلى غير ذلك من الأمور المتعلّقة بحقوق الله تعالى.
- شروط الكمال:
1. إذابة اللحم الذي نبت على الحرام (كأكل الربا).
2. إذاقة الجسم ألم الطاعة.
التوبة النصوح:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾38.
في الآية حثّ على التوبة النصوح، والتوبة النصوح أعلى درجات التوبة أو التائبين، بعد الدرجات الأولى للتوبة، من ترك الذنوب مدّة، أو ترك الكبائر فقط.
المعنى: "النصح لغةً، بمعنى الإخلاص، نحو نصحت له الودّ، أي أخلصته"39، فالتوبة النصوح هي التي تصرف صاحبها عن المعصية، وتخلِّصه من الرجوع إلى الذنب، وذلك بتحري جميع الطرق التربوية التي تصدّه عن المعصية.
ومعناها شرعاً: هي التوبة التي لا يعود فيها التائب إلى الذنب الذي تاب عنه، على ما ورد عن الصادق عليه السلام، حيث سَئِل عليه السلام عن معنى قول الله تعالى:
281 |
وإذا رجعنا إلى روايات أهل البيت عليهم السلام نجد التوبة النصوح قد فُسّرت بثلاثة تفاسير:
1. أن يتوب العبد من الذنب، ولا يعود إليه أصلاً، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾، قال عليه السلام: "هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً"41.
2. أن يكون باطن التائب كظاهره، عن الإمام الصادق عليه السلام: "التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضل"42.
3. أن النصوح ما كانت خالصةً لوجه الله سبحانه، من قولهم: عسلٌ نصوح، إذا كان خالصاً من الشمع، بأن يندم على الذنوب لقبحها، وكونها خلاف رضا الله تعالى، لا لخوف النار مثلاً.
4. منها: أنّ المراد توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها؛ لظهور آثارها الجميلة في صاحبها، أو ينصح صاحبها فيقلع عن الذنوب، ثمّ لا يعود إليها أبداً.
فالتوبة النصوح إذن، هي إنابة صادقة تنصح القلب، وتخلِّصه من رواسب المعاصي، وتظلّ تنصح صاحبها؛ لئلا يعود إلى الذنب مرة أخرى، ويواظب على الطاعات، ويجتنب المحرمات مراقباً نفسه في كل الحالات.
رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه خطب يوماً بالمسلمين، فقال: "أيها الناس، توبوا إلى الله توبةً نصوحاً قبل أن تموتوا، بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا..."43.
وعن أبي بصير قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ قال: هو الذنب (أي التوبة من الذنوب) الذي
282 |
ولهذا، فإنّ التوبة النصوح منهج تربوي متكامل، يبدأ بالتخطيط للتوبة إلى إعلانها، إلى تطبيق الخطط العملية للتوبة، وصولاً إلى المراقبة الذاتية، فالمحاسبة اليومية.
283 |
1. الحكمة من تشريع التوبة والاستغفار، فتح باب الرجوع إلى الله أمام العصاة المقرّين بخطئهم، وهو من أعظم أبواب الرحمة الإلهية والتجلي العملي لاسم الرحمن.
2. المغفرة هي التغطية على الذنوب والعفو عنها، والغفور من أسماء الله الحسنى، أمّا التوبة، فتعني الإنابة والرجوع الاختياري عن المعصية إلى الطاعة والعبودية لله.
3. التوبة من الذنب من الواجبات الإلهية، وإذا ارتكب إنسان ما حراماً أو ترك واجباً وجب عليه التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه وجب أمره بها.
4. للتوبة والاستغفار آثار إيجابية عظيمة، فهي تجلب الخير والرحمة الإلهية، وتدفع العذاب والنقمة، وتطرد الشيطان وأعوانه، وتبدّل السيئات حسنات، وتطهّر القلوب.
5. للتوبة أركان وشروط تجب مراعاتها والالتزام بها حتى تصبح توبة العبد مقبولة، وأفضل أنواع التوبة هي التوبة النصوح، وهي التي لا يعود العبد بعدها إلى الذنب.
....
23 ـ باب استحباب الاكثار من الاستغفار
[ 9046 ] 1 ـ محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، ( عن أبيه ) (1) ، عن ياسر الخادم ، عن الرضا ( عليه السلام ) قال : مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فيتناثر ، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزىء بربه .
[ 9047 ] 2 ـ وعنه ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خير الدعاء الاستغفار .
[ 9048 ] 3 ـ وعن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن حسين بن سيف ، عن أبي جميلة ، عن عبيد بن زرارة قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : إذا أكثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته وهي تتلألأ .
[ 9049 ] 4 ـ أحمد بن محمد البرقي في ( المحاسن ) : عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، عن آبائه ـ في حديث ـ قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من كثرت همومه فعليه بالاستغفار .
[ 9050 ] 5 ـ أحمد بن فهد في ( عدة الداعي ) : قال : قال ( عليه السلام ) : إن للقلوب صدأ كصدأ النحاس فاجلوها بالاستغفار .
____________
الباب 23
فيه 12 حديث
1 ـ الكافي 2 : 366 | 3 .
كتب المصنف على ما بين القوسين علامة نسخة .
2 ـ الكافي 2 : 365 | 1 .
3 ـ الكافي 2 : 366 | 2 .
4 ـ المحاسن : 42 | 56 تقدم صدره في الحديث 1 من الباب 22 ، ويأتي ذيله في الحديث 8 من الباب 47 من هذه الابواب .
5 ـ عدة الداعي : 249 .
( 177 )
[ 9051 ] 6 ـ قال : وقال ( عليه السلام ) : من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب .
[ 9052 ] 7 ـ الحسن بن محمد الطوسي في ( الأمالي ) عن أبيه ، عن المفيد ، عن محمد بن الحسن (1) المقري ، عن عبدالله بن محمد البصري ، عن عبد العزيز بن يحيى ، عن موسى بن زكريا ، عن أبي خالد ، عن العتبي ، عن الشعبي قال : سمعت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يقول : العجب ممن يقنط ومعه الممحاة ، قيل : وما الممحاة ؟ قال : الاستغفار .
[ 9053 ] 8 ـ محمد بن الحسن في ( المجالس والأخبار ) : باسناده عن علي بن عقبة ، عن أبي كهمس (1) ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : من اعطي أربعا لم يحرم أربعا : من اعطي الدعاء لم يحرم الاجابة ، ومن اعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة ، ومن اعطي التوبة لم يحرم القبول منه ، ومن اعطي الشكر لم يحرم الزيادة ، وذلك في كتاب الله عز وجل .
[ 9054 ] 9 ـ وعن علي بن عقبة ، عن رجل ، عن أيوب بن الحر ، عن معاذ بن ثابت ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : إن المؤمن ليذنب الذنب فيذكره بعد عشرين سنة فيستغفر منه فيغفر له ، وإنما ذكره ليغفر له ، وإن الكافر ليذنب الذنب فينساه من ساعته .
[ 9055 ] 10 ـ الفضل بن الحسن الطبرسي في ( مجمع البيان ) عن الربيع بن
____________
6 ـ عدة الداعي : 249 .
7 ـ أمالي الطوسي 1 : 86 .
(1) في المصدر : الحسين .
8 ـ أمالي الطوسي 2 : 304 .
(1) في المصدر : ابي كهمش .
9 ـ أمالي الطوسي 2 : 305 .
10 ـ مجمع البيان 5 : 361 .
( 178 )
صبيح ، أن رجلا أتى الحسن ( عليه السلام ) فشكا إليه الجدوبة ، فقال له الحسن : استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له : استغفر الله ، وأتاه آخر فقال له : ادع الله أن يرزقني ابنا ، فقال : استغفر الله ، فقلنا له : أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار ؟! فقال : ما قلت ذلك من ذات نفسي ، إنما اعتبرت فيه قول الله : ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا ) (1) الآيات .
[ 9056 ] 11 ـ وعن علي بن مهزيار ، عن حماد بن عيسى ، عن محمد بن يوسف ، عن أبيه قال : سأل رجل أبا جعفر ( عليه السلام ) وأنا عنده فقال : إني كثير المال وليس يولد لي ولد ، فهل من حيلة ؟ قال : استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة ، فإن ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار ، فإن الله يقول : ( استغفروا ربكم ) (1) الآية .
[ 9057 ] 12 ـ ورام بن أبي فراس في كتابه قال : قال ( عليه السلام ) : أكثروا الاستغفار ، إن الله لم يعلمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر لكم .
أقول : ويأتي ما يدل على ذلك هنا (1) ، وفي جهاد النفس (2) ، وغير ذلك (3).
____________
(1) نوح 71 : 10 .
11 ـ مجمع البيان 5 : 361 .
(1) نوح 71 : 10 .
12 ـ تنبيه الخواطر 1 : 5 .
(1) يأتي في الابواب الآتية ، وفي الحديث 3 من الباب 29 ، وفي الحديث 2 من الباب 44 ، وفي الحديثين 20 و 21 من الباب 48 من هذه الابواب .
(2) يأتي في الباب 85 ، وفي الحديث 21 من الباب 49 ، وفي الابواب 89 و 93 من أبواب جهاد النفس .
(3) يأتي في الحديث 21 من الباب 3 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، وفي الباب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان ، وفي الحديثين 2 و 35 من الباب 1 من أبواب الصوم المندوب ، =
( 179 )
24 ـ باب استحباب الاستغفار خمسا وعشرين مرة في كل
مجلس وإن خف
[ 9058 ] 1 ـ محمد بن يعقوب ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان لا يقوم من مجلس وإن خف حتى يستغفر الله خمسا وعشرين مرة .
أقول : وتقدم ما يدل على ذلك (1) ، ويأتي ما يدل عليه (2).
25 ـ باب استحباب الاستغفار في كل يوم سبعين مرة ولو من
غير ذنب
[ 9059 ] 1 ـ محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستغفر الله عز وجل كلّ يوم سبعين مرة ، ويتوب إلى الله عز وجل سبعين مرة ، قال : قلت :
____________
=
ويأتي ما يدل عليه في الحديث 4 من الباب 8 وفي الباب 10 من أبواب أحكام الاولاد ، تقدم ما يدل على ذلك في الحديث 3 من الباب 10 ، وفي الحديث 5 من الباب 30 ، وفي الحديث 7 من الباب 31 من أبواب الدعاء .
الباب 24
فيه حديث واحد
1 ـ الكافي 2 : 366 | 4 .
(1) تقدم ما يدل على ذلك بإطلاقه في الحديثين 4 و 6 من الباب 16 ، وفي الحديث 4 من الباب 24 من أبواب التعقيب وفي الباب 23 من هذه الابواب .
(2) يأتي بإطلاقه في الابواب الآتية من هذه الابواب .
الباب 25
فيه حديث واحد
1 ـ الكافي 2 : 366 | 5 .
( 180 )
كان يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ؟ قال : كان يقول : أستغفر الله ، أستغفر الله ، سبعين مرة ، ويقول : وأتوب إلى الله ، أتوب إلى الله ، سبعين مرة .
أقول : وفي أحاديث اخر أنه كان يستغفر الله ويتوب إليه من غير ذنب .
ويأتي ما يدل على ذلك في جهاد النفس (1).
26 ـ باب استحباب الاستغفار والتهليل
[ 9060 ] 1 ـ محمد بن يعقوب ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن حسين بن زيد (1) ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاستغفار وقول : لا إله إلا الله خير العبادة ، وقال الله العزيز الجبار : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) (2) .
أقول : وتقدم ما يدل على ذلك (3) ، ويأتي ما يدل عليه (4).
____________
(1) يأتي في الباب 92 من أبواب جهاد النفس وفي الحديث 5 من الباب 27 وفي الباب 30 من أبواب الصوم المندوب وتقدم في الباب 27 من أبواب التعقيب .
الباب 26
فيه حديث واحد
1 ـ الكافي 2 : 366 | 6 .
(1) في هامش المخطوط عن نسخة : يزيد .
(2) سورة محمد ( صلى الله عليه وآله ) 47 : 19 .
(3) تقدم في الحديث 1 من الباب 34 من أبواب التعقيب ، وفي الابواب 23 ، 24 ، 25 من هذه الابواب .
(4) يأتي في الابواب الآتية وفي الباب 18 من أبواب أحكام شهر رمضان ، وفي البابين 27 ، 30 من أبواب الصوم المندوب .
( 181 )
27 ـ باب استحباب الاستغفار في السحر وفي الوتر
[ 9061 ] 1 ـ محمد بن علي بن الحسين قال : روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إن الله إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب قال : لولا الذين يتحابون بجلالي ويعمرون مساجدي ويستغفرون بالأسحار ، لولاهم لأنزلت عذابي .
وفي ( ثواب الأعمال ) عن أبيه ، عن علي بن الحسن الكوفي ، عن أبيه ، عن عبدالله بن المغيرة ، عن السكوني ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه ( عليهم السلام ) ، مثله (1).
أحمد بن محمد البرقي في ( المحاسن ) : عن العباس بن الفضيل (2) ، عن إبراهيم بن محمد ، عن موسى بن سابق ، عن جعفر ، عن أبيه ، مثله (3).
أقول : وتقدم ما يدل على ذلك في الدعاء والقنوت (4) وغير ذلك (5).
28 ـ باب حكم الاستغفار للابوين الكافرين ، والدعاء لهما
وللكافر
[ 9062 ] 1 ـ عبدالله بن جعفر في ( قرب الاسناد ) : عن عبدالله بن
____________
الباب 27
فيه حديث واحد
1 ـ الفقيه 1 : 300 | 1372 .
(1) ثواب الاعمال : 211 .
(2) في المصدر ( الفضل ) وقد كتبه المصنف ثم صوبه الى ( الفضيل ) .
(3) المحاسن : 53 | 81 .
(4) تقدم في الباب 10 من أبواب القنوت .
(5) تقدم في الباب 25 وفي الحديث 5 من الباب 30 من أبواب الدعاء ، ويأتي ما يدل عليه في الباب 94 من أبواب جهاد النفس .
الباب 28
فيه حديث واحد
1 ـ قرب الإسناد : 120 .
تعليق