اللهم صل على محمد وآل محمد
بسمهِ تعالى :
( هجر القران )
قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم: ﴿ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾[1] .بسمهِ تعالى :
( هجر القران )
لا شيء أهم من أن يعيش الإنسان في مجتمعه آمناً على نفسه وماله وعرضه، ذلك لأن الإنسان شخصٌ وشخصية. وإذا كانت سلامته الجسمية والمالية هي قوام شخصه ووجوده المادي، فإن سلامته المعنوية وحفظ سمعته هي قوام شخصيته المعنوية والاجتماعية، لذلك فإن الإسلام بقدر ما يشدد على حرمة الإنسان فيما يرتبط بجسمه وماله فإنه أكثر تشدداًً بالنسبة لما يرتبط بحرمة مكانته وجاهه وسمعته.
إن الإنسان إذا كان يعيش في مجتمع يواجه فيه اعتداء جسمياً فإنه بالتأكيد لا يحس بالأمن والاستقرار، وكذلك لو تعرض إلى اعتداء على مكاسبه المادية كنهب منزله، أو سلب أرضه، أو سرقة أمواله فلن يحس بالأمن والاستقرار، وكذلك الحال لو انتهكت كرامته وسمعته، بمعنى انه يتعرض للتجريح والتشهير فهذا أيضاً لا يحس بالأمن في ذلك المجتمع، ومجتمعات كهذه لا تجذب من يعيش فيها ولا ترغبهم في حبها والانتماء إليها.
المجتمعات الغربية بالرغم من أن الفلسفة السائدة فيها هي فلسفة مادية لكنها وضعت قوانين تحفظ حقوق الناس في بعديها المادي والمعنوي، فكما أنه لا يستطيع أن يعتدي على مال الآخر لأنه سيكون تحت طائلة القانون، كذلك فإنه لا يستطيع أن يعتدي على سمعة الآخر لأنه سوف يكون تحت طائلة القانون أيضاً، ولذلك عندما ترفع دعوى على شخص ما، ويثبت بعدها أن الحق معه، فإنه يقوم برفع دعوى يطالب فيها بالتعويض وإعادة الاعتبار عن الأذى المعنوي الذي تعرض له.
الغِيبة:
تؤكد تعاليم الإسلام على هذا الجانب بصورة كبيرة، فاحترام أموال الناس وممتلكاتهم وأعراضهم وسمعتهم على حد سواء، تقول الآية الكريمة ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ نهي صريح عن الاعتداء على شخصية الآخر بالتحدث عنه بما يسوء إليه ويشوه سمعته وهو ما يسمى بالغيبة.
من ضروريات الدين كما يتفق على ذلك جميع المسلمين حرمة الغيبة، والقول بأنها عمل محرم، وأنها من كبائر الذنوب والتي ورد التشديد على تركها، وتوعد من يقوم بها ويفعلها بالنار والعذاب الشديد، فالآية الكريمة تؤكد ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ أي لا يمارس بعضكم هذا العدوان على الآخر، فالغيبة حرام في المجتمع المسلم، بل يمكن القول في المجتمع الإنساني بشكل عام، ثم تأتي الآية الكريمة بمثال يوضح بشاعة الغيبة، وهي تشبيه من يغتاب غيره بأكل لحم أخيه ميتاً، أرأيت الإنسان الذي يجلس أمام جنازة أخيه ثم يتناول منه لحماً ويأكله! هل تحس وتشعر ببشاعة هذا المنظر؟ هكذا هو حال من يذكر غيره بسوء في ظهر الغيب، والصورة واضحة لأن أكل لحم الميت هو اعتداء على من لا يقدر الدفاع عن نفسه، وذكر الغير بسوء في غير محضرهم حيث لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، يشبه ذلك تماماً. فالغيبة – باعتبار أنها مأخوذة من الغياب – هي التحدث عن عيوب الشخص في غيابه، وهنا لن يستطيع الدفاع عن نفسه. أي كأنها حالة انتهاز غياب الغير بالتحدث عنه بما يكره دون أن يدافع عن نفسه، كانتهاز جسد الميت وأكله وهو لا يستطيع المقاومة.
الآثار السيئة للغيبة:
يعرف العلماء والفقهاء الغيبة بتعريفات عديدة لعل أرجحها: ذكر عيوب مستورة لإنسان غائب. أحياناً يتجاهر الإنسان ببعض الصفات السيئة فذكره بها لا يعد غيبة، لأنه لم يستر عيبه. وأحياناً يكون للإنسان عيب وبالرغم من ممارسته له، إلا أنه لا يحب أن يظهره، ولا يحب أن يذكره أحد به، فإذا ما أعبته بما يكره في ظهر الغيب فقد اغتبته، وهذا لا يجوز لما يترتب على ذلك من أمور:
ـ إن هذا الأمر يعد عدواناً على سمعة وشخصية المذكور.
ـ تعود الإنسان على هذا الأمر، إذا ذكرت شخصاً ما بسوء، ستذكر آخر، وهكذا سيكون الأمر مستساغاً عندك، وكما في تشبيه الآية الكريمة، لو أكلت لحم ميت مرة، سيكون أكله مستساغاً في غيرهن من المرات، يقول أمير المؤمنين علي

ـ تلويث أجواء المجتمع بما هو سلبي، والمساعدة على انتشاره، فعندما تتحدث عن عيب فلان من الناس فإن حديثك عن عيبه يرسخ العيب في أسماع الناس فيتطبعوا به، حتى تسمع عمن يغتابك، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق

ـ التسبب في رد فعل الآخر، فمن يُغتب قد يصله الكلام بشكل أو بآخر، فيسعى للانتقام، أو الدفاع عن نفسه، مما يجعل المجتمع ساحة للصراع والعداوات وانتشار البغضاء.
ـ معصية الله، وحرق الحسنات بالسيئات، والتنازل عن أعمالك الحسنة لغيرك في يوم أنت بأشد الحاجة إلى تلك الأعمال لتثقل بها ميزان أعمالك، فقد ورد حديث عن رسول الله

حديثهم نور:
يتعجب الإنسان من تشديد النصوص الدينية على مسألة الغيبة، وهنا يدرك اهتمام الشرع بحفظ سمعة الآخرين ومكانتهم المعنوية في المجتمع، ولذلك نجد روايات كثيرة عن النبي


رسول الله



ويروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب





مجالس الغيبة:
ما هو واجب المؤمن عندما يحضر مجلساً يسمع فيه غيبة للآخرين؟
هناك مجالس سمتها غيبة الآخرين، كأن شغلهم الشاغل تتبع عثرات الغير، ومع الأسف أنك تجد مثل هذا الأمر في الأوساط الدينية وذلك بسبب اختلافاتهم في الرأي، أو تضارب مصالحهم، فيقوم البعض بذكر معايب الآخرين وكأنما غاب عن بالهم أن هذا الأمر من أعظم المحرمات.
بعض المتدينين يرى في نفسه زهواً لأنه لا يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يمارس أياً من الكبائر، وعندما يرى أو يسمع عن غيره أنه ابتلى بمثل هذه المعاصي، يحمد الله أن نجاه منها، ولكنه يذكر مساوئ الآخرين ويشبعُ غيبة لهم، وما كأن هذا الأمر من الكبائر، وأنه لا يقل عن الذنوب الأخرى، بل كما يقول رسول الله في الحديث الذي ذكرناه سابقاً: «الغيبة أشد من الزنا».
إذا حضرت مجلساً كهذا فما هو واجبك؟
قد تكون منزهاً عن ممارسة الغيبة، ولكنك الآن تعرضت لاستماع الغيبة من الغير، فما يكون موقفك؟
الفقهاء يؤكدون أن استماع الغيبة إثم كقولها، إذا استمعت إلى من يستغيب شخصاً ما، وسكت على ذلك، ولم تدافع عن أخيك المؤمن، كنت شريكاً في هذه الغيبة.
ولذا يتوجب عليك أن ترد الغيبة، وأن لا تقبل بها، البعض يتعذر بالحياء، وهو عذر غير مقبول، إذا دعيت على شرب كأس من الخمر، فهل يكون الحياء مبرراً لك لشربه؟ وإذا ما رأيت من يأكل لحم ميت ودعاك لمشاركته، فهل يكون الحياء مبرراً لك لتشاركه، أو تسكت عنه؟
البعض إذا نهيته عن ذكر الآخرين بسوء، ودفعت الغيبة التي يلهج بها، يقول لك: إن ما أقوله صحيح! وهذا ليس مبرراً للغيبة، فالغيبة ذكر الشخص بما هو فيه، في ظهر الغيب.
جاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: «من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة»[10] وعنه قال: «إذا وُقع في الرجل وأنت في ملأ فكن للرجل ناصراً وللقوم زاجراً وقم عنهم»[11] . لا ترض لنفسك أن تجلس في مجلس الغيبة، لأنه مجلس منكر.
حكى لي بعض الأصدقاء أنه كان قبل أيام في مجلس أحد العلماء الأجلاء، فتحدث أحد الحاضرين عن عالم من العلماء بسوء، فغضب ذلك العالم، ونهره عن مثل هذا الحديث، وقال له: إذا كنت تتحمل عقاب مثل هذا الأمر فأنت حر، لكنا لا نتحمل ذلك، فلا تعد إلى مثل هذا الأمر في مجلسنا. وهذا هو الموقف الصحيح.
نسأل الله تعالى أن يجملنا بالخلق الحسن، وأن يمّن علينا باحترام حقوق الآخرين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
[1] الحجرات، آية 12.
[2] التميمي: عبدالواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ج2، ص327، ط1، 1407هـ، مؤسسة الأعلمي للطباعةـ بيروت.
[3] المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص249، ط3، 1403هـ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.
[4] المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص259.
[5] المصدر السابق، ج23، ص165.
[6] غرر الحكم، ج1، ص195.
[7] العاملي: محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج12، ص281، ط1، 1413هـ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ بيروت.
[8] الملا يري: اسماعيل المعزي، ج20، ص528، قم ـ إيران 1413هـ.
[9] بحار الأنوار، ج72، ص261.
[10] الري شهري: محمدي، ميزان الحكمة، ج7، ص353، إيران ـ قم 1403هـ.
[11] الهندي: علاء الدين علي المتقي، كنز العمال، ج3، ص586، ط5، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1405هـ.