بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1)
قال الإمام الرضا(عليه السلام): (يا بن أبي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإنّ الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، فأفضل على إخوانك في هذا اليوم وسرّ فيه كل مؤمن ومؤمنة... والله، لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كلّ يوم عشر مرّات)(2).
يحار المرء من أين يبدأ لينهل من بحر الإمام عليّ المتدفق باستمرار، ووجوده المشع في سماء الإنسانية وهو يزيّن دنيا الأحرار وعباد الله الصالحين بالأنوار الساطعة من السماحة والشجاعة والكرم والتضحية والفتوّة والحنان. إنّ الإنسانية بكلّ معانيها وتجلّياتها وقفت خاضعة منحية أمام علي؛ لأنّه حاز قصب سبقها، ونال غرضها البعيد.
وقد أحسن المتنبي حين أعلن العجز في جنب الوصي قائلاً:
وتركت مدحي للوصي تعمّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً شاملاً
وإذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً(3)
ولا نريد هنا أن نتعمق في الكلام حول شخصية علي(عليه السلام)؛ لأنّ ذلك يعقب الذهول ويوجب الدهشة والحيرة أمام قدسيته وعظمته؛ ولكن نستعرض المفاهيم التي ترتبط بمناسبة الغدير العظيمة؛ إذ إنّ هذا اليوم اعتبر من أهم الأعياد الإسلامية في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، لذا فإنّ المحطات التي يستوقفنا بها يوم الغدير كثيرة وعظيمة؛ لأنّنا في مثل هذا اليوم نعيش حادثة تجسيد القيم الدينية والإسلامية بكلّ تجلياتها ومفاهيمها ومعانيها الإنسانية في شخصية رجل واحد، وهذا الرجل هو علي ابن أبي طالب(عليه السلام).
صحيح أنّ القيم الدينية والإنسانية التي دعا إليها الإسلام هي قيم مطلقة تتجاوز مسألة الزمان والمكان وحدود النسبية والشخصية، لكنّ هذه القيم ما لم تتجسد واقعاً وخارجاً فإنّها تفقد تأثيرها وفاعليتها في الوجود الإنساني على مستوى الإيمان والاعتقاد الداخلي، وكذا على مستوى السلوك الخارجي. ورؤيتنا ليوم الغدير وحادثته أنّها واقعة بهذا الحجم، فهي تعني أنّ علياً جسّد المثل والقيم حتى أصبح قدوة وأسوة بعد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، بما كان يحمله رسول الله من إنسانية وأخلاق مثالية أعلنت السماء مدحها والثناء عليها: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4)، وعلي هو وريث النبي المصطفى في شخصيته المعنوية والأخلاقية؛ لكونهما من أصل واحد اصطفاه الله وطهره وأعلى شأنه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).
محطة الأخوّة في عيد الغدير
للأخوّة وقع خاصّ في يوم الغدير والذي يسمّى بعيد الولاية، فهو اليوم الذي آخى به رسول الله علياً دون غيره من الناس. ولم تكن تلك الأخوّة التي عقدت بين خير الأنبياء وخير الأوصياء أخوّة قائمة على رابطة العصبية أو رابطة الدم وما شاكلهما، بل هي أخوّة المبادئ والتضحية في سبيل الله، لذا بارك الله ـ جلّ وعلا ـ لهما أخوّتهما واعتبرهما نفساً واحدة قائلاً في كتابه الكريم: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}(6).
وكذا نقرأ الإشارة إلى تلك الأخوّة في دعاء الندبة الوارد عن الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف: (ثم أودعه علمه وحكمته، فقال: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها، ثم قال له: أنت أخي ووصيي ووارثي، لحمك من لحمي، ودمك من دمي، وسلمك سلمي، وحربك حربي، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنت غداً على الحوض معي، وأنت خليفتي، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي، وشيعتك على منابر من نور مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة وهم جيراني، ولولا أنت يا علي لم يعرف المؤمنون بعدي. فكان بعده هدىً من الضلالة، ونوراً من العمى، وحبل الله المتين وصراطه المستقيم)(7).
عقد الأخوّة
قال الشيخ النوري في (المستدرك): (وينبغي عقد الأخوّة في هذا اليوم مع الإخوان، بأن يضع يده اليمنى على يمنى أخيه المؤمن، ويقول: وآخيتك في الله، وصافيتك في الله، وصافحتك في الله، وعاهدت الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأنبياءه، والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، على أنّي إن كنت من أهل الجنة والشفاعة، وأذن لي بأن أدخل الجنّة، لا أدخلها إلا وأنت معي. فيقول الأخ المؤمن: قبلت. فيقول: أسقطت عنك جميع حقوق الأخوّة، ما خلا الشفاعة والدعاء والزيارة)(8).
ومن خلال هذه الكلمات نريد أن نتأمّل في الأخوّة التي دعينا لإقرارها، ومعنى التسامح الذي أكّدت عليه الروايات في هذا العيد المبارك، والتفكير في دلالاته الروحية والإنسانية العظيمة.
ولا شكّ أنّ هذه الأخوّة هي الأخوّة الحقيقية التي أساسها وركيزتها ما يلي:
أولاً: الأخوّة المبنية على الإيمان
إنّ الكلام عن مفهوم الأخوّة ومنزلتها هو كلام عن الأخوّة المثالية المنطلقة من أسس رصينة في التعامل والارتباط، وهي لا تكون بهذا المعنى إلاّ إذا كانت منطلقة من الإيمان، وهذا ما تمتاز به الأخوّة الحقيقة الإيمانية عن سائرها من العلاقات الاعتبارية كالعلاقات الاجتماعية المبتنية على تبادل الصفقات، كأخوّة الأموال، أو أخوّة المصالح، أو العلاقات النسبية العرقية القائمة على طرفين؛ إذ مهما تكن الروابط والوشائج بين هذين الطرفين فإنّ هذه الأخوّة التي بينهما تبقى مهدّدة بالزوال والبرود والتشظي.
أمّا أخوّة الإيمان فإنّها أخوّة رصينة؛ لأنّها لا تقوم على طرفين تربطهما مصلحة معينة، بل تقوم على طرف ثالث هو الضامن لها بأن تسير على الصراط المستقيم والمشاعر الإنسانية المتدفّقة في كلّ حين، وذلك الطرف الضامن هو الله تعالى.
إنّ الأخ المؤمن إنّما يتآخى مع أخيه المؤمن من خلال العقيدة الإلهية التي يشتركان فيها، المتمثلة بعنصر الإيمان بالله والتعلّق به جلّ وعلا، فالله تعالى هو الذي يتكفّل بناء الثقة والاندماج بين الأخوين بعد أن يكون الإيمان هو المحور في حركتهما ونشاطهما ومشاريعهما، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(9).
ثانياً: الإخلاص في المودّة
الركيزة الأخرى التي تبتني عليها الأخوة المثالية الحقيقية هي ركيزة المودّة والحبّ الخالص للأخ المؤمن، فالحبّ أساس المشاعر الإنسانية، وأساس العواطف الصادقة التي تقوي الإنسان على التضحية في سبيل مَن يحب، والمثابرة من أجل إسعاد الآخر المحبوب والتقليل من أزماته وهمومه التي تواجهه في ساحة الصراع مع الحياة. يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (وهل الدين إلاّ الحب؟!)(10).
فالحبّ الصادق هو الذي يترجم الإيمان والقيم التي يؤمن بها الإنسان إلى الواقع، فلا إيمان ولا دين حقيقيين يقومان على الصلابة والجفاء، ولا إيمان لمَن يعيش الجفاف في عواطفه وأحاسيسه الإنسانية ومن أجمل الأحاسيس الإنسانية هي إحساس الأخوّة.
لكن لا بد لنا من التفريق بين نحويين من إخلاص المودّة والحبّ، فالبعض يرى أنّ المودة الحقيقية هي أن توافقه في كلّ شيء، وتنصره في كل شيء، سواء كان في حقّ أم في باطل، وهذا الشيء ليس من الأخوّة الحقيقية، بل هو من مزالق الأخوّة وعثراتها التي ربما تهوي بالإنسان إلى ما لا يحمد عقباه. والنحو الثاني من الإخلاص معناه حب الخير والصلاح لأخيك بما يرضي الله، بأن تنصره على الحق وتزجره عن الباطل.
ثالثاً: التسامح والعفو عن الأخطاء
العفو والتجاوز هما الدعامة المهمّة في بناء الأخوّة الحقيقية والعلاقة الإنسانية المتينة، ولا شكّ أنّ التسامح يمثّل جانب التضحية والإيثار في شخصية الإنسان المسامح والمتجاوز. لكن هل يمثّل ذلك السلوك ضعفاً في الشخصية أو خطأ في القرار أو تصاغراً أمام الآخر؟
هذا المنطق هو ما يتحكّم ببعض الناس ويهيمن على طريقة تفكيرهم في التعامل مع الآخرين، لذا فإنّ التصوّر السائد عند هذا النمط من الناس هو التعامل بالشدّة والردّ بالمثل هو الأسلوب الأمثل في التناصف والانتصار للذات في مقابل الآخرين، ولأجل هذا التصوّر الخاطئ انعدمت في قاموس هؤلاء معاني غضّ الطرف والتسامح والتسامي والتعالي فوق الأخطاء والهفوات والزلات. إنّهم ذوو الأفق الضيق والأخلاقية الهابطة والأنفس الضعيفة في دائرة التقييم الأخلاقي والإنساني.
النبي مأمور بالعفو
ولمّا كان العفو والمسامحة من الأساليب البنّاءة في ديمومة العلاقات الاجتماعية والفاعلة في تربية الآخرين على الروح الخيّرة والروح السامية بأهدافها وقيمها، فإنّ النبيَّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) قد أمر بالعفو والتسامح في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شكّ عندنا أنّه المظهر الحقيقي لروح التسامح ولأخلاقية العفو والتجاوز في دنيا المثل الإنسانية والبشرية، ولذا نرى أنّ الخطاب الإلهي جاء على شكل قانون يرسم حركة النبي الأكرم في ترسيخ القيم الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية المتربية على أخلاقية حبّ الذات والأنانية والثأر: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(11).
وفي خطاب إلهي آخر يؤمر النبيَّ الأكرم بالصفح: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(12)، فرغم الأذى والعداء الذي تلقّاه النبي الأكرم من ذلك المجتمع الجاهل المتعنت، فإنّ روح المحبّة ترتفع عن الواقع المادي والحسّي وتتعلق بعالم القيم والمثل فتطبع على سلوك النبي الأكرم حسن معاملته مع مَن عادوه وآذوه وشرّدوه من وطنه ودياره.
وعندما نأتي إلى علاقة الأخوّة القائمة على الرابطة التصالحية وليست على رابطة تضادية وندّية، نجد أنّ الأخوين يعيشان الهمّ الواحد ويحسّان الشعور المتقارب بينهما، لذا فإنّ كثيراً من معاني الضدّية والندّية تتلاشى بينهما.
ومن أبرز مظاهر انعدام الندّية أن يعيش الأخ تجاه أخيه سجية العفو وغفران الزلّة والتغطية على الخطأ والخلل. يقول النبي الأكرم في وصف الأخ المؤمن: (لطيف على أخيه بزلّته، ويرعى ما مضى من قديم صحبته)(13).
ويقول الإمام علي(عليه السلام): (احتمل أخاك على ما فيه، ولا تكثر العتاب فإنّه يورث الضغينة، واستعتب مَن رجوت عتباه)(14).
والمعاتبة إذا كانت ممّا يجلب المحبّة والتقارب فهي ممّا يجب فعله والقيام به، لكنها في كثير من الأحيان تثير في النفس الحقد والتباعد والحزن، وفي هذه الأثناء يتحرّك الشيطان في أجواء العصبية وساعة الغضب في الإنسان، فيتحوّل العتاب إلى سُباب أو شتيمة أو سجالات عنيفة جارحة لمشاعر الآخرين، ممّا قد يسبّب الفرقة وتنافر القلوب.
فلذا نجد أنّ الأحاديث الشريفة توصي في أحيان كثيرة في ترك أسلوب المعاتبة والملامة؛ لأنّ بعض الأخوان لا يطيقون ذلك.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (الاحتمال زين الرفاق)(15).
وعنه(عليه السلام) أيضاً: (من لم يحتمل زلل الصديق مات وحيداً)(16).
وفي بعض الأخبار أنّ رجلاً شكا للإمام الرضا(عليه السلام) بعض إخوانه، فأجابه الإمام(عليه السلام) بأبيات من الشعر:
اعذر أخاك على ذنوبه *** واستر وغطِّ على عيوبه
واصبر على بهت السفيه *** وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلاً *** وكِلْ الظلوم إلى حسيبه(17)
وكلّما كثرت الوصايا والمواعظ من أهل البيت(عليهم السلام) في هذا المعنى نجد أنفسنا قد ازدادت حبّاً ومعرفة بهم(عليهم السلام)، فتزداد تمسكاً بأقوالهم وأفعالهم في الجانب العملي الذي يكشف عنه سلوكنا الخارجي، فهل يا ترى أنّ السلوك الصادر عنّا نحن أتباع أهل البيت هو تطبيق لهذه الأقوال، أم نحن نقرأ هذه الأحاديث الشريفة لفظاً دون تطبيق واقعي؟
إنّ من دواعي الأخوّة الإعانة على الصعوبات والعقبات التي قد تضعف الإنسان في حياته، والأخ المؤمن هو العون والنصير والملجأ لأخيه المؤمن، ولو تأمّلنا في هذه الغاية المهمّة في حياة الإنسان فإنّنا نجد أنّها مبتنية على العفو والمسامحة لأخطاء الإخوان فيما بينهم؛ فإنّها بطبيعة الحال لا تحمل طابع الخسارة والنقص، بل هي تزيد في حفظ الكرامة وهيبة الشخصية، على العكس مما يتصوّره البعض من أنّ العفو والمسامحة عادة ما يشكلان منطلقاً زائفاً للبعض للتهجّم على الآخرين والاستعلاء عليهم من دون سبب معقول، وهذا ما نجد أمير المؤمنين(عليه السلام) يؤكد عليه في بعض أحاديثه وتعاليمه المباركة: (احتمل زلة وليك لوقت وثبة عدوك)(18).
ـــــــــــــــ
(1) المائدة: 3.
(2) الوسائل 14: 388 ـ 389، أبواب المزار وما يناسبه، ب 28، ح 1.
(3) أعيان الشيعة 2: 515.
(4) القلم: 4.
(5) آل عمران 33ـ 34.
(6) آل عمران: 61.
(7) المزار للمشهدي: 567.
(8) مستدرك الوسائل 6: 297.
(9) الحجرات: 10.
(10) المحاسن 1: 263.
(11) الأعراف:199.
(12) الحجر: 85.
(13) ميزان الحكمة 1: 45.
(14) ميزان الحكمة 1: 45.
(15) ميزان الحكمة 1: 45.
(16) ميزان الحكمة 1: 45.
(17) ميزان الحكمة 1: 45.
(18) ميزان الحكمة 1: 45.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1)
قال الإمام الرضا(عليه السلام): (يا بن أبي نصر، أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين(عليه السلام)، فإنّ الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين، فأفضل على إخوانك في هذا اليوم وسرّ فيه كل مؤمن ومؤمنة... والله، لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كلّ يوم عشر مرّات)(2).
يحار المرء من أين يبدأ لينهل من بحر الإمام عليّ المتدفق باستمرار، ووجوده المشع في سماء الإنسانية وهو يزيّن دنيا الأحرار وعباد الله الصالحين بالأنوار الساطعة من السماحة والشجاعة والكرم والتضحية والفتوّة والحنان. إنّ الإنسانية بكلّ معانيها وتجلّياتها وقفت خاضعة منحية أمام علي؛ لأنّه حاز قصب سبقها، ونال غرضها البعيد.
وقد أحسن المتنبي حين أعلن العجز في جنب الوصي قائلاً:
وتركت مدحي للوصي تعمّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً شاملاً
وإذا استطال الشيء قام بنفسه *** وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً(3)
ولا نريد هنا أن نتعمق في الكلام حول شخصية علي(عليه السلام)؛ لأنّ ذلك يعقب الذهول ويوجب الدهشة والحيرة أمام قدسيته وعظمته؛ ولكن نستعرض المفاهيم التي ترتبط بمناسبة الغدير العظيمة؛ إذ إنّ هذا اليوم اعتبر من أهم الأعياد الإسلامية في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، لذا فإنّ المحطات التي يستوقفنا بها يوم الغدير كثيرة وعظيمة؛ لأنّنا في مثل هذا اليوم نعيش حادثة تجسيد القيم الدينية والإسلامية بكلّ تجلياتها ومفاهيمها ومعانيها الإنسانية في شخصية رجل واحد، وهذا الرجل هو علي ابن أبي طالب(عليه السلام).
صحيح أنّ القيم الدينية والإنسانية التي دعا إليها الإسلام هي قيم مطلقة تتجاوز مسألة الزمان والمكان وحدود النسبية والشخصية، لكنّ هذه القيم ما لم تتجسد واقعاً وخارجاً فإنّها تفقد تأثيرها وفاعليتها في الوجود الإنساني على مستوى الإيمان والاعتقاد الداخلي، وكذا على مستوى السلوك الخارجي. ورؤيتنا ليوم الغدير وحادثته أنّها واقعة بهذا الحجم، فهي تعني أنّ علياً جسّد المثل والقيم حتى أصبح قدوة وأسوة بعد النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، بما كان يحمله رسول الله من إنسانية وأخلاق مثالية أعلنت السماء مدحها والثناء عليها: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4)، وعلي هو وريث النبي المصطفى في شخصيته المعنوية والأخلاقية؛ لكونهما من أصل واحد اصطفاه الله وطهره وأعلى شأنه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).
محطة الأخوّة في عيد الغدير
للأخوّة وقع خاصّ في يوم الغدير والذي يسمّى بعيد الولاية، فهو اليوم الذي آخى به رسول الله علياً دون غيره من الناس. ولم تكن تلك الأخوّة التي عقدت بين خير الأنبياء وخير الأوصياء أخوّة قائمة على رابطة العصبية أو رابطة الدم وما شاكلهما، بل هي أخوّة المبادئ والتضحية في سبيل الله، لذا بارك الله ـ جلّ وعلا ـ لهما أخوّتهما واعتبرهما نفساً واحدة قائلاً في كتابه الكريم: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}(6).
وكذا نقرأ الإشارة إلى تلك الأخوّة في دعاء الندبة الوارد عن الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف: (ثم أودعه علمه وحكمته، فقال: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها، ثم قال له: أنت أخي ووصيي ووارثي، لحمك من لحمي، ودمك من دمي، وسلمك سلمي، وحربك حربي، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنت غداً على الحوض معي، وأنت خليفتي، وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي، وشيعتك على منابر من نور مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة وهم جيراني، ولولا أنت يا علي لم يعرف المؤمنون بعدي. فكان بعده هدىً من الضلالة، ونوراً من العمى، وحبل الله المتين وصراطه المستقيم)(7).
عقد الأخوّة
قال الشيخ النوري في (المستدرك): (وينبغي عقد الأخوّة في هذا اليوم مع الإخوان، بأن يضع يده اليمنى على يمنى أخيه المؤمن، ويقول: وآخيتك في الله، وصافيتك في الله، وصافحتك في الله، وعاهدت الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأنبياءه، والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، على أنّي إن كنت من أهل الجنة والشفاعة، وأذن لي بأن أدخل الجنّة، لا أدخلها إلا وأنت معي. فيقول الأخ المؤمن: قبلت. فيقول: أسقطت عنك جميع حقوق الأخوّة، ما خلا الشفاعة والدعاء والزيارة)(8).
ومن خلال هذه الكلمات نريد أن نتأمّل في الأخوّة التي دعينا لإقرارها، ومعنى التسامح الذي أكّدت عليه الروايات في هذا العيد المبارك، والتفكير في دلالاته الروحية والإنسانية العظيمة.
ولا شكّ أنّ هذه الأخوّة هي الأخوّة الحقيقية التي أساسها وركيزتها ما يلي:
أولاً: الأخوّة المبنية على الإيمان
إنّ الكلام عن مفهوم الأخوّة ومنزلتها هو كلام عن الأخوّة المثالية المنطلقة من أسس رصينة في التعامل والارتباط، وهي لا تكون بهذا المعنى إلاّ إذا كانت منطلقة من الإيمان، وهذا ما تمتاز به الأخوّة الحقيقة الإيمانية عن سائرها من العلاقات الاعتبارية كالعلاقات الاجتماعية المبتنية على تبادل الصفقات، كأخوّة الأموال، أو أخوّة المصالح، أو العلاقات النسبية العرقية القائمة على طرفين؛ إذ مهما تكن الروابط والوشائج بين هذين الطرفين فإنّ هذه الأخوّة التي بينهما تبقى مهدّدة بالزوال والبرود والتشظي.
أمّا أخوّة الإيمان فإنّها أخوّة رصينة؛ لأنّها لا تقوم على طرفين تربطهما مصلحة معينة، بل تقوم على طرف ثالث هو الضامن لها بأن تسير على الصراط المستقيم والمشاعر الإنسانية المتدفّقة في كلّ حين، وذلك الطرف الضامن هو الله تعالى.
إنّ الأخ المؤمن إنّما يتآخى مع أخيه المؤمن من خلال العقيدة الإلهية التي يشتركان فيها، المتمثلة بعنصر الإيمان بالله والتعلّق به جلّ وعلا، فالله تعالى هو الذي يتكفّل بناء الثقة والاندماج بين الأخوين بعد أن يكون الإيمان هو المحور في حركتهما ونشاطهما ومشاريعهما، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(9).
ثانياً: الإخلاص في المودّة
الركيزة الأخرى التي تبتني عليها الأخوة المثالية الحقيقية هي ركيزة المودّة والحبّ الخالص للأخ المؤمن، فالحبّ أساس المشاعر الإنسانية، وأساس العواطف الصادقة التي تقوي الإنسان على التضحية في سبيل مَن يحب، والمثابرة من أجل إسعاد الآخر المحبوب والتقليل من أزماته وهمومه التي تواجهه في ساحة الصراع مع الحياة. يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (وهل الدين إلاّ الحب؟!)(10).
فالحبّ الصادق هو الذي يترجم الإيمان والقيم التي يؤمن بها الإنسان إلى الواقع، فلا إيمان ولا دين حقيقيين يقومان على الصلابة والجفاء، ولا إيمان لمَن يعيش الجفاف في عواطفه وأحاسيسه الإنسانية ومن أجمل الأحاسيس الإنسانية هي إحساس الأخوّة.
لكن لا بد لنا من التفريق بين نحويين من إخلاص المودّة والحبّ، فالبعض يرى أنّ المودة الحقيقية هي أن توافقه في كلّ شيء، وتنصره في كل شيء، سواء كان في حقّ أم في باطل، وهذا الشيء ليس من الأخوّة الحقيقية، بل هو من مزالق الأخوّة وعثراتها التي ربما تهوي بالإنسان إلى ما لا يحمد عقباه. والنحو الثاني من الإخلاص معناه حب الخير والصلاح لأخيك بما يرضي الله، بأن تنصره على الحق وتزجره عن الباطل.
ثالثاً: التسامح والعفو عن الأخطاء
العفو والتجاوز هما الدعامة المهمّة في بناء الأخوّة الحقيقية والعلاقة الإنسانية المتينة، ولا شكّ أنّ التسامح يمثّل جانب التضحية والإيثار في شخصية الإنسان المسامح والمتجاوز. لكن هل يمثّل ذلك السلوك ضعفاً في الشخصية أو خطأ في القرار أو تصاغراً أمام الآخر؟
هذا المنطق هو ما يتحكّم ببعض الناس ويهيمن على طريقة تفكيرهم في التعامل مع الآخرين، لذا فإنّ التصوّر السائد عند هذا النمط من الناس هو التعامل بالشدّة والردّ بالمثل هو الأسلوب الأمثل في التناصف والانتصار للذات في مقابل الآخرين، ولأجل هذا التصوّر الخاطئ انعدمت في قاموس هؤلاء معاني غضّ الطرف والتسامح والتسامي والتعالي فوق الأخطاء والهفوات والزلات. إنّهم ذوو الأفق الضيق والأخلاقية الهابطة والأنفس الضعيفة في دائرة التقييم الأخلاقي والإنساني.
النبي مأمور بالعفو
ولمّا كان العفو والمسامحة من الأساليب البنّاءة في ديمومة العلاقات الاجتماعية والفاعلة في تربية الآخرين على الروح الخيّرة والروح السامية بأهدافها وقيمها، فإنّ النبيَّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) قد أمر بالعفو والتسامح في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شكّ عندنا أنّه المظهر الحقيقي لروح التسامح ولأخلاقية العفو والتجاوز في دنيا المثل الإنسانية والبشرية، ولذا نرى أنّ الخطاب الإلهي جاء على شكل قانون يرسم حركة النبي الأكرم في ترسيخ القيم الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية المتربية على أخلاقية حبّ الذات والأنانية والثأر: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(11).
وفي خطاب إلهي آخر يؤمر النبيَّ الأكرم بالصفح: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(12)، فرغم الأذى والعداء الذي تلقّاه النبي الأكرم من ذلك المجتمع الجاهل المتعنت، فإنّ روح المحبّة ترتفع عن الواقع المادي والحسّي وتتعلق بعالم القيم والمثل فتطبع على سلوك النبي الأكرم حسن معاملته مع مَن عادوه وآذوه وشرّدوه من وطنه ودياره.
وعندما نأتي إلى علاقة الأخوّة القائمة على الرابطة التصالحية وليست على رابطة تضادية وندّية، نجد أنّ الأخوين يعيشان الهمّ الواحد ويحسّان الشعور المتقارب بينهما، لذا فإنّ كثيراً من معاني الضدّية والندّية تتلاشى بينهما.
ومن أبرز مظاهر انعدام الندّية أن يعيش الأخ تجاه أخيه سجية العفو وغفران الزلّة والتغطية على الخطأ والخلل. يقول النبي الأكرم في وصف الأخ المؤمن: (لطيف على أخيه بزلّته، ويرعى ما مضى من قديم صحبته)(13).
ويقول الإمام علي(عليه السلام): (احتمل أخاك على ما فيه، ولا تكثر العتاب فإنّه يورث الضغينة، واستعتب مَن رجوت عتباه)(14).
والمعاتبة إذا كانت ممّا يجلب المحبّة والتقارب فهي ممّا يجب فعله والقيام به، لكنها في كثير من الأحيان تثير في النفس الحقد والتباعد والحزن، وفي هذه الأثناء يتحرّك الشيطان في أجواء العصبية وساعة الغضب في الإنسان، فيتحوّل العتاب إلى سُباب أو شتيمة أو سجالات عنيفة جارحة لمشاعر الآخرين، ممّا قد يسبّب الفرقة وتنافر القلوب.
فلذا نجد أنّ الأحاديث الشريفة توصي في أحيان كثيرة في ترك أسلوب المعاتبة والملامة؛ لأنّ بعض الأخوان لا يطيقون ذلك.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (الاحتمال زين الرفاق)(15).
وعنه(عليه السلام) أيضاً: (من لم يحتمل زلل الصديق مات وحيداً)(16).
وفي بعض الأخبار أنّ رجلاً شكا للإمام الرضا(عليه السلام) بعض إخوانه، فأجابه الإمام(عليه السلام) بأبيات من الشعر:
اعذر أخاك على ذنوبه *** واستر وغطِّ على عيوبه
واصبر على بهت السفيه *** وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلاً *** وكِلْ الظلوم إلى حسيبه(17)
وكلّما كثرت الوصايا والمواعظ من أهل البيت(عليهم السلام) في هذا المعنى نجد أنفسنا قد ازدادت حبّاً ومعرفة بهم(عليهم السلام)، فتزداد تمسكاً بأقوالهم وأفعالهم في الجانب العملي الذي يكشف عنه سلوكنا الخارجي، فهل يا ترى أنّ السلوك الصادر عنّا نحن أتباع أهل البيت هو تطبيق لهذه الأقوال، أم نحن نقرأ هذه الأحاديث الشريفة لفظاً دون تطبيق واقعي؟
إنّ من دواعي الأخوّة الإعانة على الصعوبات والعقبات التي قد تضعف الإنسان في حياته، والأخ المؤمن هو العون والنصير والملجأ لأخيه المؤمن، ولو تأمّلنا في هذه الغاية المهمّة في حياة الإنسان فإنّنا نجد أنّها مبتنية على العفو والمسامحة لأخطاء الإخوان فيما بينهم؛ فإنّها بطبيعة الحال لا تحمل طابع الخسارة والنقص، بل هي تزيد في حفظ الكرامة وهيبة الشخصية، على العكس مما يتصوّره البعض من أنّ العفو والمسامحة عادة ما يشكلان منطلقاً زائفاً للبعض للتهجّم على الآخرين والاستعلاء عليهم من دون سبب معقول، وهذا ما نجد أمير المؤمنين(عليه السلام) يؤكد عليه في بعض أحاديثه وتعاليمه المباركة: (احتمل زلة وليك لوقت وثبة عدوك)(18).
ـــــــــــــــ
(1) المائدة: 3.
(2) الوسائل 14: 388 ـ 389، أبواب المزار وما يناسبه، ب 28، ح 1.
(3) أعيان الشيعة 2: 515.
(4) القلم: 4.
(5) آل عمران 33ـ 34.
(6) آل عمران: 61.
(7) المزار للمشهدي: 567.
(8) مستدرك الوسائل 6: 297.
(9) الحجرات: 10.
(10) المحاسن 1: 263.
(11) الأعراف:199.
(12) الحجر: 85.
(13) ميزان الحكمة 1: 45.
(14) ميزان الحكمة 1: 45.
(15) ميزان الحكمة 1: 45.
(16) ميزان الحكمة 1: 45.
(17) ميزان الحكمة 1: 45.
(18) ميزان الحكمة 1: 45.
تعليق