يوم المباهلة يوم بيان برهان الصادقين
الذين أَمَرَ الله جلّ جلاله باتّباعهم
في مقدّس قرآنه وآياته ..
تمرّ على الأمّة الإسلامية في مثل هذا اليوم
( 24 من ذي الحجة الحرام ) ذكرى مباهلة الرسول الكريم
( صلّى الله عليه وآله ) في السنة العاشرة للهجرة النبوية
المباركة بأهل بيته الطاهرين مع نصارى نجران ،
وهو من الأيام المباركة والمواقف المشرّفة التي تميّز بها
أهل بيت النبوّة والرسالة فترقّوا بواسطتها الى أعلى
منازل المقرّبين من الحضرة القدسية المباركة ومن الشواهد
المبرزة لمكانة أصحاب العصمة والطهارة ،
فهو يوم مشهود ومصدر عظمة في سلسلة الأيام الإسلامية ،
وهو يومٌ تألّق نوره بين الأيام المشعّة في الرسالة المحمدية
ويوم مشهود حقّت فيه كلمة الله العليا وتمت فيه الغلبة للإسلام ،
وقد جاء أمر الله جلّ وعلا لرسوله الكريم في كتابه العظيم :
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ
ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) آل عمران :61 .
إذا وقفنا على أحداثه فإنّما نقف على عظمة الرسالة
المحمدية التي تتجلّى في نفسٍ واحدة دون أنفس كثيرة ،
وامرأة واحدة من نساء كثيرات ،
وابنين اثنين دون أبناء كثيرين ،
هم جميعاً صفوة الصفوة ولبّ اللبّ الذين اختارهم الله لكرامته
وأعدّهم لهداية بريّته من بعد نبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) .
حيث كتب رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله )
إلى أهل نجران يدعوهم الى الإسلام :
( .. أمّا بعد فإنّي أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد ،
أدعوكم الى ولاية الله من ولاية العباد ،
فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام ) .
فلمّا قرأ الأسقف الكتاب ضاق به ذرعاً وذُعِر ذعراً شديداً ،
فبعث الى رجلٍ من أهل نجران يُقال له ( شرحبيل بن وداعة )
فدفع إليه كتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فقرأه ،
فقال له الأسقف : ما رأيك ؟
فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم
في ذرية اسماعيل من النبوّة ،
فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبياً ،
وليس لي في النبوّة رأي ،
لو كان أمرٌ من أمور الدنيا أشرتُ عليك فيه وجهدت لك ،
فبعث الأسقف الى واحدٍ بعد واحدٍ من أهل نجران فكلّمهم .
فأجابه مثل ما أجاب شرحبيل .
فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبدالله ابنه
وحبار بن قنص فيأتوهم بخبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ،
فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )
فسألهم وسألوه ،
فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا :
ما تقول في عيسى بن مريم ؟
فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) :
إنه عبدالله ،
ومثل هذا الجواب يختلف عند المغالين بعيسى ،
فهم يزعمون أنّه ابن الله ،
وهو من جوهرة الألوهية .
وذلك لخلقه دون أب ،
فيكون ابناً لله .
فنزلت الآية الكريمة : ( فمن حاجّك فيه ... )
حاملةً الإجابة الوافية وقاطعةً العذر عن مؤلّهي المسيح ومُتبنّيه ،
وهي بنفس الوقت من غرر الآيات المباركة بشأن الكرام
من آل الكساء ( عليهم السلام ) ؛
حيث تعبّر عن علي ( عليه السلام ) بـ« أنفسنا » ،
وعن فاطمة ( عليها السلام ) بـ« نساءنا » ،
وعن الحسن والحسين ( عليهما السلام ) بـ« أبناءنا » ،
ممّا يدلّ على أخصّ الاختصاصات لهؤلاء
بالرسالة القدسية المحمدية ..
وهي بنفس الوقت دعوة صارخة لمباهلة الكاذبين المصرّين
على كذبهم فيما يخصّ عيسى ( عليه السلام ) .
فدعاهم ( صلّى الله عليه وآله ) الى اجتماعٍ حاشدٍ
من أعزّ الملاصقين من الجانبين ،
ليبتهل الجميع الى الله في دعاءٍ قاطعٍ أن ينزل
لعنته على الكاذبين .
فخرج ( صلّى الله عليه وآله ) وعليه مرط من شعر أسود ،
وكان قد احتضن الحسين ( عليه السلام ) .
وأخذ بيد الحسن ( عليه السلام ) ،
وفاطمة ( عليها السلام ) تمشي خلفه ،
وعلي ( عليه السلام ) خلفها وهو يقول : إذا دعوت فأمّنوا .
فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى !
إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً
من مكانه لأزاله بها ،
فلا تُباهِلوا فَتَهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيٌّ
الى يوم القيامة .
فقالوا : يا أبا القاسم ؛
رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ،
فقال ( صلّى الله عليه وآله ) :
فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين
وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا ،
فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : فإنّي أناجزكم القتال .
فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ،
ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا
على أن نؤدّي اليك في كلّ عامٍ ألفي حُلّة ،
ألف في صفر ، وألف في رجب ،
وثلاثين درعاً عادية من حديد ،
فصالحهم ( صلّى الله عليه وآله ) على ذلك ،
وقال : والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على
أهل نجران ولو لاعنوا لمُسِخُوا قردة وخنازير ،
ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ،
ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ،
ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا .
وقولهم : ( ألف في صفر ) المراد به شهر محرّم ،
وهو أول السنة عند العرب .
وقد كان يُسمى صفراً في الجاهلية ،
فيُقال : صفر الأوّل وصفر الثاني ،
وقد كانت العرب تنسئ في صفر الأوّل ،
ثم أقرّ الإسلام الحرمة في صفر الأوّل فسمّي لذلك
بشهر الله المحرّم ، ثم اشتهر بالمحرّم .
استدلّ علماؤنا بكلمة « وأنفسنا » ،
تبعاً لأئمّتنا ( عليهم السلام ) على عصمة وأفضلية
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
ولعلّ أوّل مَن استدلّ بهذه الآية المباركة
هو نفس أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،
عندما احتجّ في الشورى على الحاضرين بجملة
من فضائله ومناقبه ،
فكان من ذلك احتجاجه بآية المباهلة ،
وكلّهم أقرّوا بما قال وصدّقوه فيما قال .
وسأل المأمون العبّاسي الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
هل لك من دليل من القرآن الكريم على أفضلية عليّ ؟
فذكر له الإمام ( عليه السلام ) آية المباهلة ،
واستدلّ بكلمة : « وأنفسنا » ؛
لأنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عندما أُمر أن يُخرج معه نساءه ،
فأخرج فاطمة فقط ،
وأمر بأن يُخرج معه أبناءه فأخرج الحسنين( عليهما السلام ) ،
وأمر بأن يُخرج معه نفسه فلم يخرج إلّا عليٌّ ( عليه السلام ) ،
فكان عليّ نفس رسول الله ،
إلّا أنّ كون عليّ نفس رسول الله بالمعنى الحقيقي غير ممكن ،
فيكون المعنى المجازي هو المراد ،
وهو أن يكون عليٌّ مساوياً لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله )
في جميع الخصائص والمزايا إلّا النبوّة ؛ لخروجها بالإجماع .
لمزيد من التفاصيل عن الموضوع
اضغط هنا