«مهرجان الكميت العراقي» يعيد قراءة الرواية سوسيوثقافياً
صفاء ذياب
يبدو أن الحياة الثقافية في العراق لا تختلف تماماً عن الحياة السياسية، فما تفعله السياسة بنا يغور عميقاً في الأدب والفن والعمارة والعلوم المختلفة، حتى نغدو ببغاوات نكرر ما يقدمه لنا السياسي، فنشربه بمتعة كبيرة حتى وإن كان مجَّاً. هذا ما يمكن تلمّسه في مهرجان الكميت الرابع الذي أقيم في مدينة العمارة على مدى يومين متتالين، لكن هذا لا يمنع أن هناك أصواتاً نقدية قدَّمت دراسات مهمة، فضلاً عن بعض القصائد التي اشتغلت بشكل مغاير، وطرحت نماذج شعرية جديدة.صفاء ذياب
غير أننا لا بُدَّ أن نعترف، بأن ما تعب به اتحاد أدباء ميسان واللجنة المشرفة على المهرجان لم يذهب سدىً، فقد قدما نموذجاً من النادر أن نجده في مهرجاناتنا التي أصبحت من الصعب إحصاؤها، وفي الوقت نفسه من الأصعب علينا أن نقول أننا قد دعينا أو شاركنا لمهرجان نتذكره حسناته. إلا أن ما فعلته اللجنة المنظمة للمهرجان كان مثار إعجابٍ كبيرٍ من قبل الحاضرين، لأنها دأبت على تنظيمه بشكل مختلف، احترمت فيه المشاركين أولاً، ومن ثمَّ وضعت برنامجاً مكثفاً ومتنوعاً ومهماً ثانياً، فضلاً عن أنها؛ كما أخبرنا رئيس اتحاد أدباء ميسان، حاولت أن تدعو الأسماء المهمة والرصينة في كتاباتها النقدية ونصوصها الإبداعية، إلا أن هذه الأسماء؛ أو أغلبها، اعتذر لأسباب كثيرة، منها تخوفها من المشاركة في مهرجاناتنا المعروفة…
حفل الافتتاح
المهرجان الذي أقيم في دورته الرابعة، كان تحت شعار (ميسان والكلمة.. أفق ثقافةٍ وراهن إبداع) قدم محوراً نقدياً بعنوان (الرواية العراقية المعاصرة.. قراءة سوسيوثقافية)، في حين كان للشعر حصة كبيرة، فضلاً عن أعمال فنية أخرى.
استهل المهرجان حفل افتتاحه بكلمات للمنظمين والمشاركين في الفعاليات، فتحدث فراس طه الصكر، رئيس اتحاد أدباء ميسان، عن المهرجان قائلاً إنه معني بهموم الثقافة العراقية وتطلعاتها ومستجداتها عبر فتحه؛ في كل دورة، ملفاً ثقافياً مهماً تتعدد البحوث والدراسات فيه دون أن يرافقه عنوان آخر، محافظين على وحدته والتركيز فيه، وإشباعه بحثاً وتفصيلاً، فمذ أن فتحنا ملف الشعر العراقي المعاصر وأسئلة النقد الثقافي في الدورة الأولى، وملف أزمة الثقافة العراقية بعد التغيير في النسخة الثانية، وملف إشكالية الهوية في النسخة الثالثة، نقف اليوم في الدورة الرابعة لنعلن عن ملف الرواية العراقية المعاصرة.. قراءات سوسيوثقافية، مستمرين في انتهاج النقد الثقافي كمنهج في النقد والتحليل ورؤية في الأدب والحياة.
وأضاف الصكر أنه عندما قرر الزملاء أن يطلقوا اسم الكميت على مهرجانهم النوعي هذا، لم يكن في حسأنهم الجغرافية أو المكان بالقدر الذي كان يعنيهم الكميت التأريخ، الكميت القضية، الكميت الثورة ضد قوى الظلم والإرهاب لصالح قوى العدل والحرية والجمال، ولهذا كنا نراهن على القيمة الثقافية وحسن التنظيم ودقته، وحسبنا أننا وفقنا فيما كنا نسعى إليه.
من جانبه عبَّر الشاعر إبراهيم الخياط، في كلمة الاتحاد العام للأدباء، عن أهمية هذا المهرجان، مبيناً أنه يمثل دعوة للقراءة والمكتبات وإشراك الجامعة، والمهم هو اختيار هذا المحور الذي يدرس الرواية العراقية المعاصرة وقيمتها السردية والثقافية، وهذا يثري تفاؤلنا بأن للعرب أصبح ديوان للسرد أيضاً، مع تأكيدنا أن لا يكون الإنجاز على الصعيد الشكلاني الصرف، بل أن تكون الثورة السردية في المحتوى الاجتماعي التأريخي العام.
وأشار الخياط، في حديثه عن الكميت كمكان وشخصية، إلى إن نظام الفاشية السابق لم يهمل الكميت الشاعر فقط، بل أساء إليه كثيراً، فأيام القادسية السوداء كانت أعداد غفيرة من العوائل تأتي وتقف عند سيطرة تدعى (سيطرة الكميت) أيام احتدام المعارك في جبهة الموت والحرب والأحزان، وانتظار أبنائها الضحايا، حتى تحول الاسم إلى لعنة. واليوم يأتي الشعراء والنقاد والمثقفون ليعيدوا لهذا الشاعر الكريم مكانته ونحتفي معاً بالكميت شاعر المعارضة العلوية الشريفة، وغرّيد ثورة الإمام زيد. وعاد اسم الكميت أليفاً في أحاديث عوائلنا، وتحولت العمارة إلى محج لمثقفي العراق.. ولا غرو، فهذه المحافظة قدمت أدباء كباراً: عبد الجبار عبد الله، لميعة عباس عمارة، عبد المطلب الهاشمي، عبد المنعم الفرطوسي، الشيخ عبد الواحد الأنصاري، دكتور إبراهيم السامرائي، حسب الشيخ جعفر، جمعة اللامي، عيسى حسن الياسري، وغيرهم الكثير من الأدباء الذين اثروا الساحة العراقية.
في حين كانت كلمة فوزي الأتروشي، وكيل وزير الثقافة، عن أهمية أن تقام فعاليات ثقافية في ظل الظروف التي يمر بها العراق، لافتاً إلى إننا نعيش في أزمة كبيرة، تحاول أن ترجعنا إلى القرون الوسطى. لا بد أن نمرّ على ضحايا سبايكر وتلعفر وسنجار والزمار والأنبار وآمرلي وطوزخوماتو، وكل بقاع هذا الوطن. لذلك فما أحرى أن نجد هنا اليوم كلمات وقصائد تخلد هؤلاء الخالدون أصلاً في ذاكرتنا الجمعية العراقية، لأن الوقوف على الحياد هنا يكون خيانة، والسكوت يكون تواطؤاً والرضوخ يكون مقدمة لتسليم وطن بأكمله إلى إرهاب ظلامي وبالتالي لتقديم نموذج سيئ إلى الإنسانية جمعاء.
شعر ومسرح
على الرغم من أن هوية المهرجان نقدية بالدرجة الأساس، غير أن المنظمين اقترحوا في هذه الدورة إعطاء حصة أكبر للشعر، فضمت جلسة الافتتاح ستة شعراء كانوا في أغلبهم كلاسيكيين سوى قصيدتين نثيريتين، شارك في الجلسة الأولى محمد حسين آل ياسين وأجود مجبل وعامر عاصي ونجاة عبد الله وحبيب السامر وفوزي الاتروشي.
ربما تمثَّل بعض هذه الأسماء تاريخاً طويلاً من الشعر والثقافة العراقية، إلا أنها لم تتغير على الرغم من التحولات الشعرية والثقافية العربية والعراقية، فبقت متمسكة بشكل القصيدة العمودية شكلاً وروحاً، وهذا ما لم يتغير كثيراً في الجلسات الشعرية الأخرى، حتى وإن اعتمدت على في بعضها على القصيدة الجديدة والجيدة، إلا أن إشراك شعراء كلاسيكيين معهم الشعراء الذين يحاولون تقديم قصائد مغايرة يربك الأمسية ويغير من خطوطها العامة.
وهذا ما حدث مع الجلسات الثانية والثالثة والختامية التي قرأ فيها عشرة شعراء. الميزة المهمة التي قدمها المهرجان في الجلسات الشعرية أنه لم يكدَّس الشعراء وقصائدهم فوق بعضها كما تفعل المهرجانات الأخرى، فقدم في كل جلسة شعرية قراءات قليلة بعضها ست وبعضها خمس قراءات فقط، في حين تكتظ المهرجانات بالقراءات الشعرية التي تتجاوز أربعين شاعراً في كل جلسة.
القراءات الشعرية التي ألقيت في حفل الافتتاح تبعها فيلم وثائقي عن مهرجان الكميت في دوراته الثلاث السابقة والمشاكل التي تقف حائلاً في تطويره فضلاً عن آمال المنظمين له، ومن ثمَّ عرضت مسرحية صامتة بعنوان (قيامة القيامة)، اشتغلت على الواقع السياسي العراقي الحالي والحرب ضد داعش، من تأليف وإخراج كاظم اللامي، في حين كانت المسرحية من تمثيل: كرار الميساني، حيدر زاهي، علاء مالديني، مقداد الحريشاوي، حمزة الخزعلي، علاء الإٌيراني، وزمن المحمداوي.
في حين سبق الفعاليات المسائية لليوم الأول افتتاح المعرض التشكيلي الثالث للفنان فهد الصكر الذي كان بعنوان (ميسان.. أبجديتي الأولى) وقدم فيه أكثر من ثلاثين لوحة عبارة عن حفر على النحاس، رسم فيها مدينة العمارة وأزقتها وثقافتها بجمالية فائقة.
النقد والنقاد
الصعوبة الأكبر التي واجهت اللجنة المنظمة للمهرجان هي اختيار نقاد يمكن أن يمثلوا الواقع النقدي العراقي، فالمحور الرئيس للمهرجان كان (الرواية العراقية المعاصرة.. قراءة سوسيوثقافية)، وهو موضوع ليس باليسير، كما أنه يجب أن يعيد قراءة المنجز الروائي العراقي بحسب المفاهيم المعاصرة للنقد الثقافي رابطاً إياه بالقراءة السوسيولوجية.
افتتحت الجلسة الأولى من المحور النقدي بستة نقاد، وهم: بشير حاجم، عبد الغفار العطوي، د. جاسم الخالدي، عباس خلف علي، زهير الجبوري وحسن السلمان، تناولت أوراقهم النقدية أعمالاً روائية عدَّة، بعضها لرواد، وبعضها لشباب، إلا أن المناقشات لم تكن مع الأوراق النقدية، بل كانت تصب في مناقشتها والمشاكل التي وقع فيها النقاد وكيف ابتعدوا عن المحور الذي حدد للمهرجان. وهذا ما حدث فعلاً في أغلب النقود التي قدمت في هذه الجلسة وغيرها، سوى ورقة حسن السلمان التي قرأت الرواية التي فازت بجائزة البوكر (فرانكشتاين في بغداد) ثقافياً.
أما الجلسة النقدية الثانية، فقد شارك فيها أمجد نجم الزيدي، محمد رشيد السعيدي، محمد يونس، علي سعدون ومحمد قاسم الياسري. وربما كانت هذه الجلسة النقدية تنقسم إلى قسمين، فثلاثة نقاد كانت لديهم رؤية واضحة وبنيت دراستهم بناءً جيداً، مثل أمجد نجم الزيدي ومحمد رشيد السعيدي وعلي سعدون، في حين كانت دراسات محمد يونس ومحمد قاسم الياسري مثار تندُّر لدى الحاضرين، فلم يعبأ محمد يونس باللغة أو سياقات الجملة النقدية، إنما كتب تهويمات لا علاقة لها بالنقد ولا بالمعنى العام ولا سياقات اللغة العربية التي يفترض أن تكون جملها مفهومة ومترابطة، كما أن خرج بمصطلح جديد وهو يدرس لإحدى الرحلات، وهو (السرد المائي)، وكان تساؤل الحاضرين: هل هناك سرد ترابي وفضائي وأرضي؟ فإن كان كل ما يكتب عن بحر يسمى سرده مائياً، فإن كل ما يكتب عن الهواء سيكتب سرداً هوائياً!
فيما كانت ورقة محمد قاسم الياسري مليئة بالمصطلحات التي لم تعرف سابقاً ولا يمكن أن تفهم في أي سياق نقدي، مثل (عطالة آيديولوجية) و(عطالة وجودية) و(سرد هذائي)، وغيرها الكثير.
ربما كانت الجلسة النقدية الثالثة هي الأهم، على الرغم من أن عدد نقادها لا يتجاوز الثلاثة فقط، وهم صادق ناصر الصكر، محمد علي النصراوي وعلي كاظم داوود. فبحث الناقد صادق ناصر الصكر المرأة في روايات علي بدر الإحدى عشرة، قائلاً إن بدراً كان متناقضاً بين آرائه الشخصية وتقديمه للمرأة في رواياته، فقد كان بدر ينادي بالتحرر والتغيير واحترام الآخر وغيرها من الشعارات، غير أنه قدم المرأة في جميع رواياته على أنه عاهر ولا تريد سوى المتعة فضلاً عن افتتانها بأبطال رواياته. من جانبه درس محمد علي النصراوي رواية (ذاكرة البيدق)، وبحث علي كاظم داوود في ستة روايات عراقية عن العنف وتمثلاته فيها.
آراء
كانت أروقة المهرجان حافلة بالآراء التي ناقشت الأوراق النقدية، متباينة فيما بينها في طروحات النقاد والمفاهيم التي اشتغلوا عليها.
فيرى الناقد حسن السلمان أن الدراسات التي قدمت في المهرجان تفاوتت من حيث الالتزام بالمحور، فالكثير من الدراسات لم تلتزم به ولم تدر في فلكه، أما معظمها فكانت دراسات أدبية وليست ثقافية، بل كانت توصيفات نقدية غلب عليها طابع الاستعراض والمراجعة، باستثناء بعض الدراسات التي يمكن أن نقول أنها قراءات سوسيو ثقافية، وكانت قراءات في الصميم، مثل صادق ناصر الصكر وعلي سعدون… و»أعتقد أن هذه إشكالية النقدية العراقية التي تدور في فلك النصية، وأن هناك تخوفاً كبيراً من النقاد الذين يحاولون أن يشتغلوا على النقد الثقافي خشية أن يغيضوا الآخرين وأن يكشفوا حقائقهم، فالتزموا حيادية النقد النصي. بالإجمال لم تكن الدراسات على مستوى من الطموح بشكل عام».
ويشير الناقد عباس خلف علي إلى أن هذا المهرجان يعد انعطافة بالمشهد الثقافي النقدي، لأنه يحتوي العديد من الدراسات النقدية التي تمتد حسب خارطة العراق، باعتقادنا لا بد أن تكون هناك دراية كاملة بالمصطلحات والمفاهيم النقدية، بالإضافة إلى ذلك لا بد أن تكون هناك حاضنة حقيقية لكل هذه المناهج، لأننا الآن نعيش نوعاً من الفوضى باستخدامات المصطلح، ويكاد يختلط الحابل بالنابل، فليس هناك ضابط نقدي حقيقي يحاول أن يقدم لنا مفهوماً أو اصطلاحاً ينسجم مع النصوص أو النتاج الفكري والثقافي والمعرفي للنصوص الإبداعية، لكننا لا نستطيع أن نميز هذا الاختلاط من خلال الصحف، إنما من خلال المهرجانات، فـ»هذا المهرجان جعلنا أمام احتكاك ثقافي مع المصطلحات التي كانت غائبة عن المشهد العراقي، وهنا يحاول هذا المهرجان أن يركز على أهمية دور النقد، وفي الوقت نفسه، نحن كمتلقين نتمكن من إدراك الآلية النقدية التي تمارس الآن ويلاحظ فيها هناك بون شاسع ما بين الواقع النقدي الحقيقي، وبعض النقاد الذي قدموا أوراقهم».
البيان الختامي
دعا المشاركون في البيان الذي قرأه الشاعر غسان حسن، الوزارة الثقافة لزيادة التخصيص المالي للمهرجان بهدف إطالة فترة إقامته والارتقاء به إلى مصاف المهرجانات الدولية. كما طالب المشاركون الوزارة بدفع ملف ميسان عاصمة للثقافة العراقية للعام 2015، والإسراع بإنجاز متطلبات هذا الملف. وفي مطالبهم للحكومة المحلية، دعا المشاركون لتخصيص جزء يسير من واردات البترو دولار للجانب الثقافي في عموم المحافظة، وبجانيها التشغيلي والاستثماري، وتخصيص مبالغ محددة لرعاية أسر أدباء ميسان المتوفي، وتوفير مقر لاتحاد الأدباء في المدينة لحين إنجاز مشروع قصر الثقافة والفنون في المحافظة… وأخيراً إطلاق جائزة ميسان الإبداعية الكبرى، كتقليد سنوي في مخلف مجالات الثقافة والفنون، بهدف الارتقاء بالواقع الثقافي في المحافظة.
تعليق