جاءتهُ زوجتُهُ زائغةَ العَينين، مُتعَبة، حائرة.. تَحمِلُ بين يدَيها « شيئاً ». قدّمَته إليه، قالت:
ـ يا أبا عبدالله.. إسْقِهِ ماءً، سيَموت.
حَملَ ولدَهُ الرَّضيعَ بكلتا يدَيه. ليس له مِن العُمر غيرُ شُهورٍ ستّة. أخَذَ يَنظُر إلى وجهِ ولدِه الجميلِ النَّحيلِ. لقد ذَبَل كما تَذبُل وَردةٌ بيضاءُ عاطِرَةٌ في رياحِ ظَهيرةٍ صَحراويّة. وتَذكّرَ وجهَ أُمِّه.. فاطمةَ. القصّةُ طويلة.. بدَأتْ من هناك.
لاحظَ أنّ صغيرَهُ عبدَالله يَلُوك لِسانَهُ في فَمهِ، ويُديرُ رأسَهُ يَمْنةً ويَسْرةً مِن آلامِ الظمأ والجَفاف.
لو كان بَقِي في عينهِ دَمعٌ لَسقاهُ مِن دَمعِ العَين. قال:
ـ حَسْبيَ الله ونِعْم الوكيل.
حَملَ ولدَه إلى خارج الخَيمة.. ومضى.
مضى.. حتّى وَصلَ أمامَ صُفوفِ جيشِ العَدوّ. جيشٌ قد ملأ الأُفُق، لا يُرى له أوّلٌ ولا آخِر.
رَفَعَهُ أمامَهُم على يدَيه، لِيَرَوا ما فَعلَ الظمأُ بهذا الطفلِ الصغير.. فلعلَّ فيهم مَن يَرِقُّ قَلبُه له.
قالَ لهم: أُسْقُوا هذا الرّضيعَ ماءً. خُذوهُ أنتم واسقُوهُ إذا كنتم تَخافونَ أن أشربَ أنا من الماء. جُرعَة واحدةٌ تَكْفيه.. وخلفَكُم النّهُر يَجري، وتَشربُ منه حتّى الكِلاب!
وَقَفَ أبو عبدِالله مادّاً يدَيهِ بالطفلِ إليهم، وظلَّ يَنتَظِرُ الجواب.
وجاءهُ الجوابُ على الفَور. لم يَتأخَّرْ لحظةً واحدة!
أحسَّ أبو عبدالله أنّ « شيئاً » حارّاً بدأ يَسيلُ فَجأةً على كفَّيه. ونَظَر إلى هذا الشّيء، فإذا هو أحمرُ اللّون.. يَتَدفّقُ من رقَبَةِ صغيرهِ العَطشان! ورأى سَهماً أُمويّاً كريهاً قد انغَرَزَ في رقَبةِ الرَّضيع. كانَ السّهمُ قد انطَلَقَ مِن قَوسِ أحدِهم فذَبَحَ ولدَهُ العزيز. ونظرَ إليهِم الإمامُ الصابرُ نظرةً ذاتَ مَغزىً عميق.. ثمّ رَفعَ طَرْفَهُ إلى السماء.
ظلَّ الوَلَدُ يَرفسُ برِجلَيهِ دَقائق، ويَبسُطُ كفَّيهِ ويَقْبِضُهما مِن شدّةِ الألم، وهو يَتَلوّى ـ على يدَي أبيه ـ كالطَّيرِ المذبوح.. حتّى صَعَدَت روحُهُ القُدسيّةُ إلى الأعالي، واستقبلَتْها هنالكَ أفواجُ الملائكة الباكين.
* * *
ذَهبَ عبدُالله رَضيعاً شهيداً ظامئاً كأشدِّ ما يكونُ الظمأ.
ذَهبَ عبدُالله ذَبيحاً مَظلوماً كأقسى ما تكون الظُّلاماتُ في العالَم.
لكنّ صورتَهُ القُدسيّةَ المحفوفةَ بِهالَةٍ من النورِ السّماويّ ظَلَّتْ حاضرةً في ذاكرةِ التاريخ.
وظَلَّتْ صورةُ عُنُقهِ الفِضِيِّ الأبيضِ الذي تَفجّرَ منهُ الدمُ المحمّديُّ الشريف.. تَحمِلُها إلى الأبد كلُّ نَسمَةٍ من هواءِ العالَم.
وما يزَالُ الدمُ الطاهرُ يَقطُرُ على كفِّ أبيهِ الحسينِ صلوات الله عليه.. إلى آخِر أيّامِ الدنيا على هذهِ الأرض.
وما يَزالُ الصِّبيانُ والصَّبايا في العالَم كلِّه يَذكُرونَ حكايةَ الشهيدِ الرَّضيعِ المظلوم.
يَذكرونها كلّما رأوا طفلاً رَضيعاً على صدرِ أُمِّه.
ويَذكرونها كلّما شاهَدوا وَلَداً يَطلُبُ الماءَ مِن العطش.
ويَذكرونها كلّما سَمِعوا عن صَبيٍّ مظلوم يَتَعذّب.
ويَذكرونها كلّما شرِبوا هُم قَدَحَ ماءٍ باردٍ لذيذ.
ـ يا أبا عبدالله.. إسْقِهِ ماءً، سيَموت.
حَملَ ولدَهُ الرَّضيعَ بكلتا يدَيه. ليس له مِن العُمر غيرُ شُهورٍ ستّة. أخَذَ يَنظُر إلى وجهِ ولدِه الجميلِ النَّحيلِ. لقد ذَبَل كما تَذبُل وَردةٌ بيضاءُ عاطِرَةٌ في رياحِ ظَهيرةٍ صَحراويّة. وتَذكّرَ وجهَ أُمِّه.. فاطمةَ. القصّةُ طويلة.. بدَأتْ من هناك.
لاحظَ أنّ صغيرَهُ عبدَالله يَلُوك لِسانَهُ في فَمهِ، ويُديرُ رأسَهُ يَمْنةً ويَسْرةً مِن آلامِ الظمأ والجَفاف.
لو كان بَقِي في عينهِ دَمعٌ لَسقاهُ مِن دَمعِ العَين. قال:
ـ حَسْبيَ الله ونِعْم الوكيل.
حَملَ ولدَه إلى خارج الخَيمة.. ومضى.
مضى.. حتّى وَصلَ أمامَ صُفوفِ جيشِ العَدوّ. جيشٌ قد ملأ الأُفُق، لا يُرى له أوّلٌ ولا آخِر.
رَفَعَهُ أمامَهُم على يدَيه، لِيَرَوا ما فَعلَ الظمأُ بهذا الطفلِ الصغير.. فلعلَّ فيهم مَن يَرِقُّ قَلبُه له.
قالَ لهم: أُسْقُوا هذا الرّضيعَ ماءً. خُذوهُ أنتم واسقُوهُ إذا كنتم تَخافونَ أن أشربَ أنا من الماء. جُرعَة واحدةٌ تَكْفيه.. وخلفَكُم النّهُر يَجري، وتَشربُ منه حتّى الكِلاب!
وَقَفَ أبو عبدِالله مادّاً يدَيهِ بالطفلِ إليهم، وظلَّ يَنتَظِرُ الجواب.
وجاءهُ الجوابُ على الفَور. لم يَتأخَّرْ لحظةً واحدة!
أحسَّ أبو عبدالله أنّ « شيئاً » حارّاً بدأ يَسيلُ فَجأةً على كفَّيه. ونَظَر إلى هذا الشّيء، فإذا هو أحمرُ اللّون.. يَتَدفّقُ من رقَبَةِ صغيرهِ العَطشان! ورأى سَهماً أُمويّاً كريهاً قد انغَرَزَ في رقَبةِ الرَّضيع. كانَ السّهمُ قد انطَلَقَ مِن قَوسِ أحدِهم فذَبَحَ ولدَهُ العزيز. ونظرَ إليهِم الإمامُ الصابرُ نظرةً ذاتَ مَغزىً عميق.. ثمّ رَفعَ طَرْفَهُ إلى السماء.
ظلَّ الوَلَدُ يَرفسُ برِجلَيهِ دَقائق، ويَبسُطُ كفَّيهِ ويَقْبِضُهما مِن شدّةِ الألم، وهو يَتَلوّى ـ على يدَي أبيه ـ كالطَّيرِ المذبوح.. حتّى صَعَدَت روحُهُ القُدسيّةُ إلى الأعالي، واستقبلَتْها هنالكَ أفواجُ الملائكة الباكين.
* * *
ذَهبَ عبدُالله رَضيعاً شهيداً ظامئاً كأشدِّ ما يكونُ الظمأ.
ذَهبَ عبدُالله ذَبيحاً مَظلوماً كأقسى ما تكون الظُّلاماتُ في العالَم.
لكنّ صورتَهُ القُدسيّةَ المحفوفةَ بِهالَةٍ من النورِ السّماويّ ظَلَّتْ حاضرةً في ذاكرةِ التاريخ.
وظَلَّتْ صورةُ عُنُقهِ الفِضِيِّ الأبيضِ الذي تَفجّرَ منهُ الدمُ المحمّديُّ الشريف.. تَحمِلُها إلى الأبد كلُّ نَسمَةٍ من هواءِ العالَم.
وما يزَالُ الدمُ الطاهرُ يَقطُرُ على كفِّ أبيهِ الحسينِ صلوات الله عليه.. إلى آخِر أيّامِ الدنيا على هذهِ الأرض.
وما يَزالُ الصِّبيانُ والصَّبايا في العالَم كلِّه يَذكُرونَ حكايةَ الشهيدِ الرَّضيعِ المظلوم.
يَذكرونها كلّما رأوا طفلاً رَضيعاً على صدرِ أُمِّه.
ويَذكرونها كلّما شاهَدوا وَلَداً يَطلُبُ الماءَ مِن العطش.
ويَذكرونها كلّما سَمِعوا عن صَبيٍّ مظلوم يَتَعذّب.
ويَذكرونها كلّما شرِبوا هُم قَدَحَ ماءٍ باردٍ لذيذ.
تعليق