{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [يونس:92]
هذا النص القرآني الكريم جاء في الربع الأخير من سورة يونس, وهي سورة مكية, وآياتها تسع ومائة بعد البسملة, وقد سميت باسم نبي الله يونس ـ عليه السلام ـ لورود ذكر قومه في أواخر السورة التي يدور محورها الرئيسي حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة يونس وما جاء فيها من ركائز العقيدة الإسلامية, والإشارات العلمية والتاريخية, وبعض طبائع النفس الإنسانية, ونركز هنا علي بعض جوانب الإعجاز التاريخي في ذكر قصة نبي الله موسي وشقيقه النبي هارون ـ عليهما السلام ـ مع فرعون وقومه, وفي الخطاب القرآني الموجه إلي أحد فرعوني موسي كما جاء في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التاريخي في النص الكريم:-
بعد تحرير مصر من الهكسوس في أوائل عهد الأسرة الثامنة عشرة, انتهي حكم هذه الأسرة بموت الملك حور محب, ثم جاءت الأسرة التاسعة عشرة بدءا بالملك رمسيس الأول (1308 ق.م. إلي1306 ق.م) الذي حكم لفترة قصيرة( نحو السنتين), ثم خلفه ابنه سيتي الأول (1306 ق.م ـ1290 ق.م) ثم من بعده حفيده رمسيس الثاني ابن سيتي الأول, والذي عرف باسم فرعون الاضطهاد وحكم مصر لفترة طويلة تقدر بنحو(67) سنة( من1290 ق.م إلي1223 ق.م), وطوال مدة حكمه بلغ اضطهاده لبني إسرائيل مبلغه, وولد نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ في زمن حكمه, وتربي في بيت الفرعون من بعد فطامه في بيت أمه, وبقي في قصر فرعون إلي أن بلغ أشده( ثلاثين سنة), وفي يوم من الأيام دخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته( إسرائيلي) والآخر من عدوه, فاستنجد به الذي من شيعته فوكز موسي الذي من عدوه وكزة أدت إلي وفاته, فاستغفر موسي ربه لأنه ما كان يقصد قتل المصري. ولما شاع الخبر وطلب الفرعون رأس موسي فر موسي إلي أرض مدين, حيث عاش عشر سنوات في كنف نبي الله شعيب الذي صاهره موسي بزواج احدي ابنتيه, ثم استأذنه في العودة إلي مصر فأذن له.
وفي أثناء ارتحال موسي وأسرته من أرض مدين إلي مصر تلقي موسي الأمر الإلهي بتبليغ رسالة الله إلي فرعون وملئه ومنها السماح للإسرائيليين بالخروج من مصر, وأعطاه الله ـ سبحانه وتعالي ـ من المعجزات الحسية ما يشهد له بصدق نبوته.
وبعد وصوله إلي أرض مصر تبين موسي أن رمسيس الثاني كان قد مات وهو في أرض مدين, وخلفه من بعده ابنه مرنبتاح( أو منفتاح) الأول فذهب مع أخيه هارون إلي مرنبتاح يدعوانه إلي الإيمان بالله الواحد الأحد, ويطلبان منه السماح لبني إسرائيل بالخروج معهما من أرض مصر إلي بلاد الشام والذين كانوا قد استذلهم رمسيس الثاني بأكثر مما استذلهم به أسلافه فكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم أولا: لأنهم كانوا علي التوحيد وسط بحر من الوثنيات القديمة, وثانيا: لأنهم كانوا يتعاونون سرا مع الهكسوس من أجل عودتهم إلي احتلال أرض مصر بعد أن كانوا قد أخرجوا منها, خاصة أن الإسرائيليين علي أرض مصر كانوا قد خانوا عهد الفرعون سيتي الأول( والد رمسيس الثاني) وتعاونوا مع أهل بلاد الشام ضده, كما خانوا عهود رمسيس الثاني وعرضوه لخدعة كلفته فيلقا كاملا من جنده, وكادت تلك الخدعة أن تودي بحياة هذا الفرعون نفسه في معركة قادش, ولذلك استمر ابنه مرنبتاح في اضطهادهم.
وكان بنو يعقوب قد وفدوا إلي أرض مصر زمن القحط الذي ضرب منطقة المشرق العربي( نحو سنة 1728 ق.م) بعد أن بيع يوسف بن يعقوب رقيقا لعزيز مصر, ثم أكرمه الله ـ تعالي ـ بعد سلسلة من الابتلاءات بأن جعله أمينا علي خزائن أرض مصر.
وبعد أن عاد رمسيس الثاني من معركة قادش بعد توقيع الصلح مع الحيثيين بدأ المبالغة في التنكيل بالإسرائيليين لخيانتهم له, ثم لرؤيته في المنام رؤيا فسرت له بأن غلاما يولد في بني إسرائيل يتحقق علي يديه هلاك فرعون مصر وزوال حكمه. ولقد أزعج تفسير هذه الرؤيا رمسيس الثاني إزعاجا شديدا, وفي غمرة ذلك أمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل فور ولادته, وأن يترك الإناث من هذه المواليد للقيام بالخدمة في بيوت المصريين, ثم مع الشكاوي المتعددة أمر بذبح الغلمان الإسرائيليين عاما وإعفائهم من القتل عاما. ونظر لخيانات الإسرائيليين المتكررة لم يشركهم المصريون في عمليات القتال, وكان الفرعون يسخرهم في الأعمال المدنية الشاقة من مثل قطع الأحجار, وصناعة الطوب, وأعمال البناء, ولما كانت غالبيتهم أهل بداوة ورعي, فإنهم لم يتعودوا علي مثل هذه الأعمال الشاقة فتمردوا عليها, وطالبوا بالخروج إلي بلاد الشام, ولما كان مثل هذا الخروج قد يضيف قوة إلي أعداء مصر المتربصين بها الدوائر فقد تمسك كل من رمسيس الثاني وابنه مرنبتاح الأول بعدم خروج الإسرائيليين من أرض مصر, وزاد استذلالهم والتنكيل بهم.
جاء موسي وهارون إلي فرعون مصر مرنبتاح الأول يبلغانه رسالة ربه, وأطلعاه علي ما يشهد لهما بالنبوة من المعجزات الحسية فرد فرعون بأنه السحر, وتحداهما بسحرته, وعند اللقاء ألقي السحرة سجدا, وقالوا:... آمنا برب هارون وموسي*.
استشاط مرنبتاح غيظا وتهدد سحرته بما يسجله القرآن الكريم في الآيات التالية :
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِوَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ } ( طه:71 ـ73).
ومع هذا التهديد والوعيد استعد الفرعون مرنبتاح الأول لمقاتلة موسي وقومه وجميع من آمن معه فنجاهم الله ـ تعالي ـ بعدد من المعجزات الخارقة التي كان من أعظمها عبورهم خليج السويس الذي يسره الله ـ تعالي ـ لهم وأغرق مرنبتاح وجنوده فيه, ثم ينجيه ببدنه ليكون آية لجميع من يأتي من بعده إلي يوم القيامة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}( طه:77 ـ79).
ويقول رب العالمين ـ سبحانه وتعالي:-{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } ( يونس:90 ـ92).
وفي سنة1977 م أغري دهاقنة الحركة الصهيونية العالمية الإدارة المصرية بإخراج بعض آثار قدماء المصريين لعرضها في متاحف العالم.
وقد رأيت بنفسي طوابير المصطفين أمام أحد تلك المتاحف في مدينة لوس أنجيليس من قبل صلاة الفجر حاملين مظلاتهم تحت وابل الأمطار حتى يلحقوا فرصة لمشاهدة تلك الآثار النادرة. ونتيجة لذلك تعرضت بعض المومياءات لرطوبة الجو التي أدت إلي تعفن أجزاء منها, وكان من المومياءات التي تعرضت لشئ من التعفن مومياء الفرعون مرنبتاح الأول فأرسل إلي فرنسا للعلاج في أواخر الثمانينات من القرن العشرين, واستقبل الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ووزراؤه وكبار موظفيه تلك المومياء استقبالا ملكيا ثم قدم لمحاكمة هزلية علي التلفاز الفرنسي حاكتها الحركة الصهيونية العالمية, وأتي له بالمحامين والقضاة والمدعين العامين في مسرحية رخيصة لمحاكمة ميت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
وبعد هذه المحاكمة الهزلية تم نقل المومياء إلي جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي لعلاج ما أصابها من العفن واستكشاف شئ من أسرارها الكثيرة. وكان من بين الدارسين والمعالجين لتلك المومياء الطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي (Maurice Bucaille). وقد فوجئ دكتور بوكاي وزملاؤه عند فك أربطة المومياء باليد اليسري لهذا الجسد المحنط تندفع فجأة إلي الأمام, وفهم من ذلك أن المحنطين كانوا قد أجبروا تلك اليد علي الانضمام إلي الصدر عنوة, كما ظهرت بقايا ملحية عديدة علي جسد المومياء, وتبين أن عظام المومياء مكسورة في أكثر من موضع بدون تمزق الجلد, واستنتج الدارسون من تلك الملاحظات أن صاحب تلك المومياء لابد وأنه مات غارقا في بحر مالح, وأن تكسر عظامه دون تمزق الجلد مرده إلي قوة ضغط الماء علي جسده بعد غرقه, وأن أمواج البحر ألقت بجثته علي الشاطئ بعد غرقه مباشرة, أو أن فريقا من الغواصين قد استخرجها بعد واقعة الغرق في الحال.
وفسرت الوضعية الغريبة ليد المومياء اليسرى بتشنجها لحظة الغرق وهو يدفع الماء بدرعه التي كان يحملها بها, بينما كان يحمل لجام فرسه أو سيفه باليد اليمني, فتيبست اليد اليسرى علي هذا الوضع واستحالت عودتها إلي سيرتها الأولي.
وبينما كان الدكتور موريس بوكاي يعد تقريره عن تلك المومياء ظانا أنه توصل إلي كشف حقيقة لم يعرفها أحد قبله جاء إلي علمه أن القرآن الكريم وهو كتاب أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة يسجل تلك الواقعة بدقة فائقة كما جاء في الآيات (البقرة 50), (الأنفال54), والآيات(90 ـ92) من سورة يونس, والآيات(77 ـ79) من سورة طه, وغيرهما. واستغرب الدكتور بوكاي سبق القرآن الكريم بالإشارة إلي نجاة تلك الجثة بعد غرقها, لأن تلك المومياء لم تكتشف إلا في سنة(1898 م), والتحنيط لم يعرف إلا في حدود ذلك التاريخ أو بعده!
أعيدت المومياء إلي مصر بعد علاجها وبعد أن طبعت في ذاكرة الدكتور بوكاي فضولا شديدا لدراسة الإشارات الكونية في القرآن الكريم فأمضي عشر سنوات يدرس ذلك, وأذهله التطابق الشديد بين تلك الإشارات القرآنية وحقائق العلم في أعلي مراتبه الحالية, وسجل شهادته تلك في واحد من أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين وسماه: الكتاب والقرآن والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة (LaBible, Le Qur'anella Science) وكانت هذه الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال هي مدخل الدكتور بوكاي لمعرفة حقيقة الإسلام.
فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا النص القرآني الكريم جاء في الربع الأخير من سورة يونس, وهي سورة مكية, وآياتها تسع ومائة بعد البسملة, وقد سميت باسم نبي الله يونس ـ عليه السلام ـ لورود ذكر قومه في أواخر السورة التي يدور محورها الرئيسي حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة يونس وما جاء فيها من ركائز العقيدة الإسلامية, والإشارات العلمية والتاريخية, وبعض طبائع النفس الإنسانية, ونركز هنا علي بعض جوانب الإعجاز التاريخي في ذكر قصة نبي الله موسي وشقيقه النبي هارون ـ عليهما السلام ـ مع فرعون وقومه, وفي الخطاب القرآني الموجه إلي أحد فرعوني موسي كما جاء في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التاريخي في النص الكريم:-
بعد تحرير مصر من الهكسوس في أوائل عهد الأسرة الثامنة عشرة, انتهي حكم هذه الأسرة بموت الملك حور محب, ثم جاءت الأسرة التاسعة عشرة بدءا بالملك رمسيس الأول (1308 ق.م. إلي1306 ق.م) الذي حكم لفترة قصيرة( نحو السنتين), ثم خلفه ابنه سيتي الأول (1306 ق.م ـ1290 ق.م) ثم من بعده حفيده رمسيس الثاني ابن سيتي الأول, والذي عرف باسم فرعون الاضطهاد وحكم مصر لفترة طويلة تقدر بنحو(67) سنة( من1290 ق.م إلي1223 ق.م), وطوال مدة حكمه بلغ اضطهاده لبني إسرائيل مبلغه, وولد نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ في زمن حكمه, وتربي في بيت الفرعون من بعد فطامه في بيت أمه, وبقي في قصر فرعون إلي أن بلغ أشده( ثلاثين سنة), وفي يوم من الأيام دخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته( إسرائيلي) والآخر من عدوه, فاستنجد به الذي من شيعته فوكز موسي الذي من عدوه وكزة أدت إلي وفاته, فاستغفر موسي ربه لأنه ما كان يقصد قتل المصري. ولما شاع الخبر وطلب الفرعون رأس موسي فر موسي إلي أرض مدين, حيث عاش عشر سنوات في كنف نبي الله شعيب الذي صاهره موسي بزواج احدي ابنتيه, ثم استأذنه في العودة إلي مصر فأذن له.
وفي أثناء ارتحال موسي وأسرته من أرض مدين إلي مصر تلقي موسي الأمر الإلهي بتبليغ رسالة الله إلي فرعون وملئه ومنها السماح للإسرائيليين بالخروج من مصر, وأعطاه الله ـ سبحانه وتعالي ـ من المعجزات الحسية ما يشهد له بصدق نبوته.
وبعد وصوله إلي أرض مصر تبين موسي أن رمسيس الثاني كان قد مات وهو في أرض مدين, وخلفه من بعده ابنه مرنبتاح( أو منفتاح) الأول فذهب مع أخيه هارون إلي مرنبتاح يدعوانه إلي الإيمان بالله الواحد الأحد, ويطلبان منه السماح لبني إسرائيل بالخروج معهما من أرض مصر إلي بلاد الشام والذين كانوا قد استذلهم رمسيس الثاني بأكثر مما استذلهم به أسلافه فكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم أولا: لأنهم كانوا علي التوحيد وسط بحر من الوثنيات القديمة, وثانيا: لأنهم كانوا يتعاونون سرا مع الهكسوس من أجل عودتهم إلي احتلال أرض مصر بعد أن كانوا قد أخرجوا منها, خاصة أن الإسرائيليين علي أرض مصر كانوا قد خانوا عهد الفرعون سيتي الأول( والد رمسيس الثاني) وتعاونوا مع أهل بلاد الشام ضده, كما خانوا عهود رمسيس الثاني وعرضوه لخدعة كلفته فيلقا كاملا من جنده, وكادت تلك الخدعة أن تودي بحياة هذا الفرعون نفسه في معركة قادش, ولذلك استمر ابنه مرنبتاح في اضطهادهم.
وكان بنو يعقوب قد وفدوا إلي أرض مصر زمن القحط الذي ضرب منطقة المشرق العربي( نحو سنة 1728 ق.م) بعد أن بيع يوسف بن يعقوب رقيقا لعزيز مصر, ثم أكرمه الله ـ تعالي ـ بعد سلسلة من الابتلاءات بأن جعله أمينا علي خزائن أرض مصر.
وبعد أن عاد رمسيس الثاني من معركة قادش بعد توقيع الصلح مع الحيثيين بدأ المبالغة في التنكيل بالإسرائيليين لخيانتهم له, ثم لرؤيته في المنام رؤيا فسرت له بأن غلاما يولد في بني إسرائيل يتحقق علي يديه هلاك فرعون مصر وزوال حكمه. ولقد أزعج تفسير هذه الرؤيا رمسيس الثاني إزعاجا شديدا, وفي غمرة ذلك أمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل فور ولادته, وأن يترك الإناث من هذه المواليد للقيام بالخدمة في بيوت المصريين, ثم مع الشكاوي المتعددة أمر بذبح الغلمان الإسرائيليين عاما وإعفائهم من القتل عاما. ونظر لخيانات الإسرائيليين المتكررة لم يشركهم المصريون في عمليات القتال, وكان الفرعون يسخرهم في الأعمال المدنية الشاقة من مثل قطع الأحجار, وصناعة الطوب, وأعمال البناء, ولما كانت غالبيتهم أهل بداوة ورعي, فإنهم لم يتعودوا علي مثل هذه الأعمال الشاقة فتمردوا عليها, وطالبوا بالخروج إلي بلاد الشام, ولما كان مثل هذا الخروج قد يضيف قوة إلي أعداء مصر المتربصين بها الدوائر فقد تمسك كل من رمسيس الثاني وابنه مرنبتاح الأول بعدم خروج الإسرائيليين من أرض مصر, وزاد استذلالهم والتنكيل بهم.
جاء موسي وهارون إلي فرعون مصر مرنبتاح الأول يبلغانه رسالة ربه, وأطلعاه علي ما يشهد لهما بالنبوة من المعجزات الحسية فرد فرعون بأنه السحر, وتحداهما بسحرته, وعند اللقاء ألقي السحرة سجدا, وقالوا:... آمنا برب هارون وموسي*.
استشاط مرنبتاح غيظا وتهدد سحرته بما يسجله القرآن الكريم في الآيات التالية :
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِوَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ } ( طه:71 ـ73).
ومع هذا التهديد والوعيد استعد الفرعون مرنبتاح الأول لمقاتلة موسي وقومه وجميع من آمن معه فنجاهم الله ـ تعالي ـ بعدد من المعجزات الخارقة التي كان من أعظمها عبورهم خليج السويس الذي يسره الله ـ تعالي ـ لهم وأغرق مرنبتاح وجنوده فيه, ثم ينجيه ببدنه ليكون آية لجميع من يأتي من بعده إلي يوم القيامة, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:{ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}( طه:77 ـ79).
ويقول رب العالمين ـ سبحانه وتعالي:-{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } ( يونس:90 ـ92).
وفي سنة1977 م أغري دهاقنة الحركة الصهيونية العالمية الإدارة المصرية بإخراج بعض آثار قدماء المصريين لعرضها في متاحف العالم.
وقد رأيت بنفسي طوابير المصطفين أمام أحد تلك المتاحف في مدينة لوس أنجيليس من قبل صلاة الفجر حاملين مظلاتهم تحت وابل الأمطار حتى يلحقوا فرصة لمشاهدة تلك الآثار النادرة. ونتيجة لذلك تعرضت بعض المومياءات لرطوبة الجو التي أدت إلي تعفن أجزاء منها, وكان من المومياءات التي تعرضت لشئ من التعفن مومياء الفرعون مرنبتاح الأول فأرسل إلي فرنسا للعلاج في أواخر الثمانينات من القرن العشرين, واستقبل الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ووزراؤه وكبار موظفيه تلك المومياء استقبالا ملكيا ثم قدم لمحاكمة هزلية علي التلفاز الفرنسي حاكتها الحركة الصهيونية العالمية, وأتي له بالمحامين والقضاة والمدعين العامين في مسرحية رخيصة لمحاكمة ميت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
وبعد هذه المحاكمة الهزلية تم نقل المومياء إلي جناح خاص في مركز الآثار الفرنسي لعلاج ما أصابها من العفن واستكشاف شئ من أسرارها الكثيرة. وكان من بين الدارسين والمعالجين لتلك المومياء الطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي (Maurice Bucaille). وقد فوجئ دكتور بوكاي وزملاؤه عند فك أربطة المومياء باليد اليسري لهذا الجسد المحنط تندفع فجأة إلي الأمام, وفهم من ذلك أن المحنطين كانوا قد أجبروا تلك اليد علي الانضمام إلي الصدر عنوة, كما ظهرت بقايا ملحية عديدة علي جسد المومياء, وتبين أن عظام المومياء مكسورة في أكثر من موضع بدون تمزق الجلد, واستنتج الدارسون من تلك الملاحظات أن صاحب تلك المومياء لابد وأنه مات غارقا في بحر مالح, وأن تكسر عظامه دون تمزق الجلد مرده إلي قوة ضغط الماء علي جسده بعد غرقه, وأن أمواج البحر ألقت بجثته علي الشاطئ بعد غرقه مباشرة, أو أن فريقا من الغواصين قد استخرجها بعد واقعة الغرق في الحال.
وفسرت الوضعية الغريبة ليد المومياء اليسرى بتشنجها لحظة الغرق وهو يدفع الماء بدرعه التي كان يحملها بها, بينما كان يحمل لجام فرسه أو سيفه باليد اليمني, فتيبست اليد اليسرى علي هذا الوضع واستحالت عودتها إلي سيرتها الأولي.
وبينما كان الدكتور موريس بوكاي يعد تقريره عن تلك المومياء ظانا أنه توصل إلي كشف حقيقة لم يعرفها أحد قبله جاء إلي علمه أن القرآن الكريم وهو كتاب أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة يسجل تلك الواقعة بدقة فائقة كما جاء في الآيات (البقرة 50), (الأنفال54), والآيات(90 ـ92) من سورة يونس, والآيات(77 ـ79) من سورة طه, وغيرهما. واستغرب الدكتور بوكاي سبق القرآن الكريم بالإشارة إلي نجاة تلك الجثة بعد غرقها, لأن تلك المومياء لم تكتشف إلا في سنة(1898 م), والتحنيط لم يعرف إلا في حدود ذلك التاريخ أو بعده!
أعيدت المومياء إلي مصر بعد علاجها وبعد أن طبعت في ذاكرة الدكتور بوكاي فضولا شديدا لدراسة الإشارات الكونية في القرآن الكريم فأمضي عشر سنوات يدرس ذلك, وأذهله التطابق الشديد بين تلك الإشارات القرآنية وحقائق العلم في أعلي مراتبه الحالية, وسجل شهادته تلك في واحد من أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين وسماه: الكتاب والقرآن والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة (LaBible, Le Qur'anella Science) وكانت هذه الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال هي مدخل الدكتور بوكاي لمعرفة حقيقة الإسلام.
فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعليق