بسم الله الرحمن الرحيم
ولله الحمد والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ورد في دعاء يوم الاثنين للامام أمير المؤمنين عليه السلام:
((فَاِنْ كُنْتُ يا اِلهي مُسْرِفاً عَلى نَفْسي، مُخْطِئاً عَلَيْها بِانْتِهاكِ الْحُرُماتِ، ناسِياً لِمَا اجْتَرَمْتُ مِنَ الْهَفَواتِ، فَاَنْتَ لَطيفٌ تَجُودُ عَلَى الْمُسْرِفينَ بِرَحْمَتِكَ وَ تَتَفَضَّلُ عَلَى الْخاطِئينَ بِكَرَمِكَ، فَارْحَمْني يا اَرْحَمَ الرَّاحِمينَ))..
لقد أوردنا هذا المقطع الشريف من الدعاء لاحتوائه على كلمة (الاسراف)، ونحن لسنا بصدد شرحه بل نريد أن نبحث عن مدى صحة الاسراف في المواكب الحسينية..
ففي كلّ عام مع إقتراب موسم الأحزان من محرّم وصفر نجد انّ هناك من يتشدّق ويتقوّل على بعض الشعائر الحسينية متّهماً في بعض الأحيان بخروجها عن الحد وخروجها عن التعقّل، والتقوّل بلسان الامام الحسين عليه السلام في أحيان أخرى..
ومن هذه الأقاويل هو كثرة الاطعام والشراب والبذل غير المحدود حتى تجاوز الحدّ الشرعي فوصل حدّ الاسراف والتبذير المنهي عنه في القرآن الكريم ((إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ))الإسراء: 27، لذا حسب كلامهم انّه ينبغي التقليل من ذلك ويكفي ما يسد حاجة الزائر، أو انّ هذه الأموال ينبغي أن تصرف في مجال أهم من ذلك كتزويج الشباب أو إيجاد سكن لمن لا يملك بيتاً أو صرفها على المساكين والمحتاجين وغيرها من الأمور التي تفيد المجتمع..
وللاجابة عن هذه الإشكاليات - التي يطرحها البعض بحسن نيّة أو بغفلة منه، والبعض الآخر قاصد لمحاربة تلك الشعائر والتي يتذرّع بهذه الأمور ليشكّك في نوايا البسطاء ويستميل بعض المتثقّفين فيحاولوا السخرية من تلك الشعائر – لابد من تقديم المقدمة التالية:
انّ مسألة الاطعام بشكل مطلق هو أمر مباح بل وممدوح في القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام، فقد قال تعالى ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))الإنسان: 8، وهذه الآية الشريفة معروفة بأنها نزلت في الامام علي ومولاتنا الزهراء والامام الحسن والامام الحسين عليهم السلام، والنكتة الجميلة في هذه الآية هو أنّهم أنفقوا كلّ ما يملكونه من الطعام ولمدّة ثلاثة أيام، حتى نزلت الآية تمتدحهم على عملهم هذا، أما الروايات الشريفة فأكثر من أن تحويها هذه الصفحة المتواضعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ورد في الكافي الشريف: عن ربعي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من أطعم أخاه في الله كان له من الاجر مثل من أطعم فئاما من الناس، قلت: وما الفئام [من الناس]؟ قال: مائة ألف من الناس))، وفي نفس المصدر: عن سدير الصير في قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ((ما منعك أن تعتق كل يوم نسمة؟ قلت: لا يحتمل مالي ذلك، قال: تطعم كل يوم مسلما، فقلت: موسرا أو معسرا؟ قال: فقال: إن الموسر قد يشتهي الطعام))، وفي وسائل الشيعة: عن أبي عبد الله ( عليه السلام )، قال: ((من اطعم ثلاث نفر من المؤمنين اطعمه الله من ثلاث جنان ملكوت السماء : الفردوس ، وجنة عدن ، وطوبى وهي شجرة من جنة عدن))، وجاء في البحار: عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله انّه قال ((افشوا السلام، وأطعموا الطعام))..
فهذه وغيرها الكثير تشير إشارة واضحة الى استحباب الاطعام بل لفاعله الأجر العظيم، هذا فيما إذا كان في الأمر الطبيعي والاعتيادي، فما بالك إذا كان الاطعام في سبيل الله من خلال إحياء شعائر الامام الحسين عليه السلام..
فالذي يأتي الى قبر سيد الشهداء عليه السلام هو بالتأكيد جاء ليعزّي بهذا المصاب الجلل، ومن صفات الجود والكرم أن يقوم الناس بالاحتفاء بهؤلاء المعزّين بتقديم أفضل الأطعمة والأشربة ووسائل الراحة، حتى انّ الروايات الشريفة حثّت على هذا الأمر، فقد ورد عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله ((من عزى مصابا فله مثل أجره))، وروي أن داود عليه السلام قال: ((إلهي ما جزاء من يعزي الحزين على المصائب ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن أكسوه رداء من أردية الايمان أستره به من النار وادخله به
الجنة))..
ومن الجميل أن نلتفت الى انّ انتشار المواكب والمآتم والمجالس ولبس السواد في كلّ الأرجاء يدلّ على انّ أهل هذا البلد أو هذه المنطقة بأنّهم أهل مصيبة وحزن على المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وهذا بالتأكيد من المواساة لأهل البيت عليهم السلام، وهذا يعني انّهم أصحاب عزاء ومصيبة..
بعد هذه المقدمة البسيطة نأتي الى أمر الاسراف والتبذير الذي يدّعيه البعض ونتعرّف على ما هيته في إحياء هذه الشعائر الشريفة..
بداية ينبغي الالتفات الى الفرق بين الاسراف والتبذير وبين المواساة والايثار بالأموال والأنفس لتعريف العالم بمظلومية الامام الحسين عليه السلام وسبب نهضته، فأين يضع المنصف الباذلين للطعام وتقديم الخدمة لزوار الامام عليه السلام؟ هل في خانة الاسراف أم في خانة المواساة..
الاسراف لغة هو المبالغة وتجاوز الحد، فقد قال تعالى ((وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ))غافر: 43، فهو أمر يحرّمه الشرع، ولا يختلف على ذلك اثنان..
وقبل الدخول في حد الاسراف ينبغي الالتفات الى انّ مسألة الاسراف هي أمر نسبي يختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر ومن وقت لآخر، فما يُعدّ إسرافاً على شخص لا يُعد كذلك لآخر بحسب الشأنية والامكانية، فقد يكون الفقير مسرفاً بمبلغ بسيط بنظر العرف، ولا يكون الغني مسرفاً حتى لو صرف الأموال الطائلة ما دامت مناسبة لشأنيته وإمكانيته، فقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام حينما سأله سماعة، فقال ((..رب فقير أسرف من غني، فقلت: كيف يكون الفقير أسرف من الغني؟ فقال: إن الغني ينفق مما اوتي والفقير ينفق من غير ما اوتي))..
هناك أمران ينبغي الالتفات اليهما في الاسراف:
الأول: تجاوز الحد: لنأتي الى قضية الاطعام وكثرته في المواكب والمجالس الحسينية فهل نرى انّه قد تجاوز الحد، وتجاوز الحد يعني انّ أكثر الطعام يزيد عن الحاجة من غير الاستفادة منه وبالتالي سيرمى في المزابل، وما نراه انّه لم يصل الى هذه الدرجة أبداً، وما دام ضمن الحد الشرعي ولم يتجاوزه فلا يصل الأمر الى الاسراف أبداً..
الثاني: انّه لو سلّمنا جدلاً بأنّه يُعد من الاسراف، فهذا الاسراف هو من الأمور المستثناة، بل من المستحبات، فمن الاسراف المستثنى هو الحج والعمرة والطيب والاطعام، فلو انّ شخصاً يحجّ في كلّ عام ويعتمر في كلّ شهر لم يعد مسرفاً، لأنّ الفقهاء يقولون بأنّه لا حدّ لذلك، فلا يدخل في الاسراف المنهي عنه، وكذلك الطيب والاطعام، فقد ورد في تفسير العياشي عن الامام الصادق عليه السلام قال: ((لو أن رجلا أنفق على طعام ألف درهم، وأكل منه مؤمن، لم يعد سرفا))..
لذلك يقول الفقهاء انّ هذا الاستثناء إما خارج موضوعاً أو حكماً، فالحج والعمرة مهما بلغ لا يكون إسرافاً لأنّ الاسراف تجاوز للحد، والحج والعمرة ليس فيهما حدّ حتى يمكن أن نعتبره إسرافاً..
أما الخارج حكماً، فهو على فرض التسليم بأنّه إسراف، ولكنّه أمر جائز ومباح بل وممدوح..
فكثرة المواكب والمآتم والمجالس تحتمل احتمالين:
الأول: خارجة موضوعاً لأنّها لم تتجاوز الحد المنهي عنه شرعاً لأمرين:
1- لقد ورد في البحار عن أبي عبد الله عليه السلام قال في حديث له عن الامام الحسين عليه السلام ((لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا))، فاذا كان قتل أهل الأرض جميعاً بالامام الحسين لم يُعد سرفاً، فهل في بذل الطعام والشراب في سبيله يُعد سرفاً؟؟؟ لذلك ترخص الأموال والنفوس في سبيل أبي عبد الله عليه السلام، بل لابد من زيادة المواكب والمجالس والاطعام ليحيي مراسم عاشوراء الامام عليه السلام ويوصل صوت الامام الى أقصى أهل الأرض..
2- انّ ما يقوم به محبو وموالو الامام عليه السلام هو من باب تعظيم الشعائر التي أمرنا الله بها، فالأمر ليس متوقفاً على الاحياء فقط حتى نكتفي بالقليل أو ما يسد حاجة الزائر، بل لابد من التعظيم، والتعظيم لا يتأتّى إلاّ بالاكثار وبذل الطعام لزائري الامام عليه السلام..
3- ثمّ انّ المدار في الاسراف هو مدار تحقق الغرض العقلائي كما عبّر عنه الامام الخوئي (قدس الله روحه) عندما سأله أحدهم عن بناء المساجد والحسينيات بشكل يؤدي الى الاسراف من التفخيم وبذل الأموال الطائلة، فلو صُرفت على الفقراء والمحتاجين لكان أفضل، فكان جوابه أعلاه، اذن ما دام هناك غرض عقلائي وهو تعظيم الشعائر فلا يكون إسرافاً لأنه راجح وممدوح..
الثاني: خارجة حكماً: لأنّه لو سلّمنا بأنّها تعد من الاسراف فهو من الاسراف الجائز والممدوح، لأنّ غرضه عقلائي حتى لو ملئت الأرض بالمواكب والحسينيات، وهذا نظير إعطاء الصدقة، فالصدقة مهما بلغت فهو مباح ومسموح به، وهناك أمور كثيرة لا يمكن إدخالها في الاسراف المحرّم ما دام انّها تُعد من تعظيم شعائر الله، كالعناية بطباعة القرآن الكريم بأجمل حلّة وبأعداد هائلة، فلا يمكن أن يأتي أحد ويقول هذا إسراف، وكذلك الأمر بالنسبة الى العناية بالحرم المكي وما يُصرف على الحجاج من الأموال الطائلة..
ونختم بهذه الآية الكريمة التي تمتدح الاكثار من الطعام مما لا شك فيه أبداً، وهو قوله تعالى ((فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ))هود: 69، وفي آية أخرى عبّرت عن العجل بأنّه سمين، والروايات تشير الى أنّ ضيوف إبراهيم هم ثلاثة، فهل تقديم العجل السمين لهؤلاء الثلاثة فقط يُعد من الاسراف، فلو كان إسرافاً لما امتدحه الله تعالى..
لذا نتحصل بأنّ إطعام الطعام هو من الأمور المحبّبة عند الله تعالى، ويزداد حبّه إذا كان تعظيماً لشعائره تعالى، ويكون أكثر وأكثر إذا كان في سبيل أحبّ الخلق اليه ومن بذل مهجته في سبيله وهو الامام الحسين عليه السلام..
وعليه ينبغي أن ندقّق في الأمر قبل أن نتلفّظ بأي كلام قد يُدخلنا في مصاف من يعين أعداء الامام عليه السلام من غير أن نلتفت.. والأسلم في الأمر أن نُرجع إشكالياتنا أو ما يُطرح الى مراجعنا العظام أعلى الله تعالى مقامهم الشريف فيبتّون بالأمر فهم الأعلم بهذه الأمور..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين...
ولله الحمد والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ورد في دعاء يوم الاثنين للامام أمير المؤمنين عليه السلام:
((فَاِنْ كُنْتُ يا اِلهي مُسْرِفاً عَلى نَفْسي، مُخْطِئاً عَلَيْها بِانْتِهاكِ الْحُرُماتِ، ناسِياً لِمَا اجْتَرَمْتُ مِنَ الْهَفَواتِ، فَاَنْتَ لَطيفٌ تَجُودُ عَلَى الْمُسْرِفينَ بِرَحْمَتِكَ وَ تَتَفَضَّلُ عَلَى الْخاطِئينَ بِكَرَمِكَ، فَارْحَمْني يا اَرْحَمَ الرَّاحِمينَ))..
لقد أوردنا هذا المقطع الشريف من الدعاء لاحتوائه على كلمة (الاسراف)، ونحن لسنا بصدد شرحه بل نريد أن نبحث عن مدى صحة الاسراف في المواكب الحسينية..
ففي كلّ عام مع إقتراب موسم الأحزان من محرّم وصفر نجد انّ هناك من يتشدّق ويتقوّل على بعض الشعائر الحسينية متّهماً في بعض الأحيان بخروجها عن الحد وخروجها عن التعقّل، والتقوّل بلسان الامام الحسين عليه السلام في أحيان أخرى..
ومن هذه الأقاويل هو كثرة الاطعام والشراب والبذل غير المحدود حتى تجاوز الحدّ الشرعي فوصل حدّ الاسراف والتبذير المنهي عنه في القرآن الكريم ((إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ))الإسراء: 27، لذا حسب كلامهم انّه ينبغي التقليل من ذلك ويكفي ما يسد حاجة الزائر، أو انّ هذه الأموال ينبغي أن تصرف في مجال أهم من ذلك كتزويج الشباب أو إيجاد سكن لمن لا يملك بيتاً أو صرفها على المساكين والمحتاجين وغيرها من الأمور التي تفيد المجتمع..
وللاجابة عن هذه الإشكاليات - التي يطرحها البعض بحسن نيّة أو بغفلة منه، والبعض الآخر قاصد لمحاربة تلك الشعائر والتي يتذرّع بهذه الأمور ليشكّك في نوايا البسطاء ويستميل بعض المتثقّفين فيحاولوا السخرية من تلك الشعائر – لابد من تقديم المقدمة التالية:
انّ مسألة الاطعام بشكل مطلق هو أمر مباح بل وممدوح في القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام، فقد قال تعالى ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))الإنسان: 8، وهذه الآية الشريفة معروفة بأنها نزلت في الامام علي ومولاتنا الزهراء والامام الحسن والامام الحسين عليهم السلام، والنكتة الجميلة في هذه الآية هو أنّهم أنفقوا كلّ ما يملكونه من الطعام ولمدّة ثلاثة أيام، حتى نزلت الآية تمتدحهم على عملهم هذا، أما الروايات الشريفة فأكثر من أن تحويها هذه الصفحة المتواضعة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ورد في الكافي الشريف: عن ربعي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من أطعم أخاه في الله كان له من الاجر مثل من أطعم فئاما من الناس، قلت: وما الفئام [من الناس]؟ قال: مائة ألف من الناس))، وفي نفس المصدر: عن سدير الصير في قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ((ما منعك أن تعتق كل يوم نسمة؟ قلت: لا يحتمل مالي ذلك، قال: تطعم كل يوم مسلما، فقلت: موسرا أو معسرا؟ قال: فقال: إن الموسر قد يشتهي الطعام))، وفي وسائل الشيعة: عن أبي عبد الله ( عليه السلام )، قال: ((من اطعم ثلاث نفر من المؤمنين اطعمه الله من ثلاث جنان ملكوت السماء : الفردوس ، وجنة عدن ، وطوبى وهي شجرة من جنة عدن))، وجاء في البحار: عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله انّه قال ((افشوا السلام، وأطعموا الطعام))..
فهذه وغيرها الكثير تشير إشارة واضحة الى استحباب الاطعام بل لفاعله الأجر العظيم، هذا فيما إذا كان في الأمر الطبيعي والاعتيادي، فما بالك إذا كان الاطعام في سبيل الله من خلال إحياء شعائر الامام الحسين عليه السلام..
فالذي يأتي الى قبر سيد الشهداء عليه السلام هو بالتأكيد جاء ليعزّي بهذا المصاب الجلل، ومن صفات الجود والكرم أن يقوم الناس بالاحتفاء بهؤلاء المعزّين بتقديم أفضل الأطعمة والأشربة ووسائل الراحة، حتى انّ الروايات الشريفة حثّت على هذا الأمر، فقد ورد عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله ((من عزى مصابا فله مثل أجره))، وروي أن داود عليه السلام قال: ((إلهي ما جزاء من يعزي الحزين على المصائب ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن أكسوه رداء من أردية الايمان أستره به من النار وادخله به
الجنة))..
ومن الجميل أن نلتفت الى انّ انتشار المواكب والمآتم والمجالس ولبس السواد في كلّ الأرجاء يدلّ على انّ أهل هذا البلد أو هذه المنطقة بأنّهم أهل مصيبة وحزن على المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وهذا بالتأكيد من المواساة لأهل البيت عليهم السلام، وهذا يعني انّهم أصحاب عزاء ومصيبة..
بعد هذه المقدمة البسيطة نأتي الى أمر الاسراف والتبذير الذي يدّعيه البعض ونتعرّف على ما هيته في إحياء هذه الشعائر الشريفة..
بداية ينبغي الالتفات الى الفرق بين الاسراف والتبذير وبين المواساة والايثار بالأموال والأنفس لتعريف العالم بمظلومية الامام الحسين عليه السلام وسبب نهضته، فأين يضع المنصف الباذلين للطعام وتقديم الخدمة لزوار الامام عليه السلام؟ هل في خانة الاسراف أم في خانة المواساة..
الاسراف لغة هو المبالغة وتجاوز الحد، فقد قال تعالى ((وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ))غافر: 43، فهو أمر يحرّمه الشرع، ولا يختلف على ذلك اثنان..
وقبل الدخول في حد الاسراف ينبغي الالتفات الى انّ مسألة الاسراف هي أمر نسبي يختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر ومن وقت لآخر، فما يُعدّ إسرافاً على شخص لا يُعد كذلك لآخر بحسب الشأنية والامكانية، فقد يكون الفقير مسرفاً بمبلغ بسيط بنظر العرف، ولا يكون الغني مسرفاً حتى لو صرف الأموال الطائلة ما دامت مناسبة لشأنيته وإمكانيته، فقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام حينما سأله سماعة، فقال ((..رب فقير أسرف من غني، فقلت: كيف يكون الفقير أسرف من الغني؟ فقال: إن الغني ينفق مما اوتي والفقير ينفق من غير ما اوتي))..
هناك أمران ينبغي الالتفات اليهما في الاسراف:
الأول: تجاوز الحد: لنأتي الى قضية الاطعام وكثرته في المواكب والمجالس الحسينية فهل نرى انّه قد تجاوز الحد، وتجاوز الحد يعني انّ أكثر الطعام يزيد عن الحاجة من غير الاستفادة منه وبالتالي سيرمى في المزابل، وما نراه انّه لم يصل الى هذه الدرجة أبداً، وما دام ضمن الحد الشرعي ولم يتجاوزه فلا يصل الأمر الى الاسراف أبداً..
الثاني: انّه لو سلّمنا جدلاً بأنّه يُعد من الاسراف، فهذا الاسراف هو من الأمور المستثناة، بل من المستحبات، فمن الاسراف المستثنى هو الحج والعمرة والطيب والاطعام، فلو انّ شخصاً يحجّ في كلّ عام ويعتمر في كلّ شهر لم يعد مسرفاً، لأنّ الفقهاء يقولون بأنّه لا حدّ لذلك، فلا يدخل في الاسراف المنهي عنه، وكذلك الطيب والاطعام، فقد ورد في تفسير العياشي عن الامام الصادق عليه السلام قال: ((لو أن رجلا أنفق على طعام ألف درهم، وأكل منه مؤمن، لم يعد سرفا))..
لذلك يقول الفقهاء انّ هذا الاستثناء إما خارج موضوعاً أو حكماً، فالحج والعمرة مهما بلغ لا يكون إسرافاً لأنّ الاسراف تجاوز للحد، والحج والعمرة ليس فيهما حدّ حتى يمكن أن نعتبره إسرافاً..
أما الخارج حكماً، فهو على فرض التسليم بأنّه إسراف، ولكنّه أمر جائز ومباح بل وممدوح..
فكثرة المواكب والمآتم والمجالس تحتمل احتمالين:
الأول: خارجة موضوعاً لأنّها لم تتجاوز الحد المنهي عنه شرعاً لأمرين:
1- لقد ورد في البحار عن أبي عبد الله عليه السلام قال في حديث له عن الامام الحسين عليه السلام ((لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا))، فاذا كان قتل أهل الأرض جميعاً بالامام الحسين لم يُعد سرفاً، فهل في بذل الطعام والشراب في سبيله يُعد سرفاً؟؟؟ لذلك ترخص الأموال والنفوس في سبيل أبي عبد الله عليه السلام، بل لابد من زيادة المواكب والمجالس والاطعام ليحيي مراسم عاشوراء الامام عليه السلام ويوصل صوت الامام الى أقصى أهل الأرض..
2- انّ ما يقوم به محبو وموالو الامام عليه السلام هو من باب تعظيم الشعائر التي أمرنا الله بها، فالأمر ليس متوقفاً على الاحياء فقط حتى نكتفي بالقليل أو ما يسد حاجة الزائر، بل لابد من التعظيم، والتعظيم لا يتأتّى إلاّ بالاكثار وبذل الطعام لزائري الامام عليه السلام..
3- ثمّ انّ المدار في الاسراف هو مدار تحقق الغرض العقلائي كما عبّر عنه الامام الخوئي (قدس الله روحه) عندما سأله أحدهم عن بناء المساجد والحسينيات بشكل يؤدي الى الاسراف من التفخيم وبذل الأموال الطائلة، فلو صُرفت على الفقراء والمحتاجين لكان أفضل، فكان جوابه أعلاه، اذن ما دام هناك غرض عقلائي وهو تعظيم الشعائر فلا يكون إسرافاً لأنه راجح وممدوح..
الثاني: خارجة حكماً: لأنّه لو سلّمنا بأنّها تعد من الاسراف فهو من الاسراف الجائز والممدوح، لأنّ غرضه عقلائي حتى لو ملئت الأرض بالمواكب والحسينيات، وهذا نظير إعطاء الصدقة، فالصدقة مهما بلغت فهو مباح ومسموح به، وهناك أمور كثيرة لا يمكن إدخالها في الاسراف المحرّم ما دام انّها تُعد من تعظيم شعائر الله، كالعناية بطباعة القرآن الكريم بأجمل حلّة وبأعداد هائلة، فلا يمكن أن يأتي أحد ويقول هذا إسراف، وكذلك الأمر بالنسبة الى العناية بالحرم المكي وما يُصرف على الحجاج من الأموال الطائلة..
ونختم بهذه الآية الكريمة التي تمتدح الاكثار من الطعام مما لا شك فيه أبداً، وهو قوله تعالى ((فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ))هود: 69، وفي آية أخرى عبّرت عن العجل بأنّه سمين، والروايات تشير الى أنّ ضيوف إبراهيم هم ثلاثة، فهل تقديم العجل السمين لهؤلاء الثلاثة فقط يُعد من الاسراف، فلو كان إسرافاً لما امتدحه الله تعالى..
لذا نتحصل بأنّ إطعام الطعام هو من الأمور المحبّبة عند الله تعالى، ويزداد حبّه إذا كان تعظيماً لشعائره تعالى، ويكون أكثر وأكثر إذا كان في سبيل أحبّ الخلق اليه ومن بذل مهجته في سبيله وهو الامام الحسين عليه السلام..
وعليه ينبغي أن ندقّق في الأمر قبل أن نتلفّظ بأي كلام قد يُدخلنا في مصاف من يعين أعداء الامام عليه السلام من غير أن نلتفت.. والأسلم في الأمر أن نُرجع إشكالياتنا أو ما يُطرح الى مراجعنا العظام أعلى الله تعالى مقامهم الشريف فيبتّون بالأمر فهم الأعلم بهذه الأمور..
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين...
تعليق