الإمام الحسن بن علي العسكري (ع
)
تاريخ مولده ، مبلغ سنّه ، ووقت وفاته عليه السلام
كان مولده عليه السلام يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة اثنين وثلاثين ومائتين .
وقبض عليه السلام بسرّ من رأى لثمان خلون من شهر ربيع الاَول سنة ستّين ومائتين ، وله يومئذ ثمان وعشرون سنة .
واُمّه اُمّ ولد يقال لها : حديث .
وكانت مدّة خلافته ستّ سنين .
ولقبه : الهاديّ ، والسراج ، والعسكري ، وكان هو وأبوه وجدّه يعرف كل منهم في زمانه بابن الرضا .
وكانت في سني إمامته بقيّة ملك المعتزّ أشهراً ، ثمّ ملك المهتدي أحد عشر شهراً وثمانية وعشرين يوماً ، ثمّ ملك أحمد المعتمد على الله بن جعفر المتوكّل عشرين سنة وأحد عشر شهراً .
وبعد مضيّ خمس سنين من ملكه قبض الله وليّه أبا محمد عليه السلام ودفن في داره بسرّ من رأى في البيت الذي دفن فيه أبوه عليهما السلام (1) .
وذهب كثير من أصحابنا إلى أنّه عليه السلام مضى مسموماً ، وكذلك أبوه وجدّه وجميع الاَئمّة عليهم السلام خرجوا من الدنيا بالشهادة ، واستدلّوا في ذلك بما روي عن الصادق عليه السلام من قوله : « والله ما منّا إلاّ مقتول شهيد » (2) والله أعلم بحقيقة ذلك .
النصوص الدالة على إمامته عليه السلام
يدلّ على إمامته عليه السلام ـ بعد طريقتي الاعتبار والتواتر اللتين ذكرناهما في إمامة من تقدمه من آبائه عليهم السلام ـ :
ما رواه محمد بن يعقوب ، عن عليّ بن محمد ، عن جعفر بن محمد الكوفيّ ، عن بشّار بن أحمد البصري ، عن عليّ بن عمر النوفلي قال : كنت مع أبي الحسن عليه السلام في صحن داره فمرّ بنا محمد ابنه ، فقلت : جعلت فداك ، هذا صاحبنا بعدك؟
فقال : « لا ، صاحبكم ، بعدي ابني الحسن » (1) .
وبهذا الاِسناد ، عن بشّار بن أحمد ، عن عبدالله بن محمد الاصفهانيّ قال : قال أبو الحسن عليه السلام : « صاحبكم بعدي الذي يصلي علي » .
قال : ولم نكن نعرف أبا محمد عليه السلام قبل ذلك ، فلّما مات أبو الحسن عليه السلام خرج أبو محمد عليه السلام فصلّى عليه (2) .
وبهذا الاِسناد ، عن بشّار بن أحمد ، عن موسى بن جعفر بن وهب ، عن عليّ بن جعفر قال : كنت حاضراً أبا الحسن عليه السلام لما توفي ابنه <محمد> (3)فقال للحسن : « يا بنيّ أحدث لله شكراً فقد اُحدث فيك أمراً » (4) .
محمد بن يعقوب ، عن الحسين بن محمد ، عن معلّى بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن عبدالله بن مروان الاَنباريّ قال : كنت حاضراً عند مضيّ أبي جعفر محمد بن عليّ ، فجاء أبو الحسن عليه السلام فوضع له كرسيّ فجلس عليه وحوله أهل بيته ، وأبو محمد قائم في ناحية ، فلمّا فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد عليه السلام فقال : « يا بنيّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً » (5) .
وعنه ، عن عليّ بن محمد ، عن محمد بن أحمد القلانسيّ ، عن عليّ ابن الحسين بن عمرو ، عن عليّ بن مهزيار قال : قلت لاَبي الحسن عليه السلام : إن كان كونٌ ـ وأعوذ بالله ـ فإلى من؟
قال : « عهدي إلى الاَكبر من ولدي » يعني الحسن عليه السلام (6) .
وعنه ، عن عليّ بن محمد ، عن أبي محمد الاسترابادي ، عن عليّ ابن عمرو العطّار قال : دخلت على أبي الحسن وأبو جعفر ابنه ـ أعني محمداً ـ في الاَحياء ، وأنا أظنّه هو القائم من بعده ، فقلت له : جعلت فداك ، من أخصّ من ولدك؟
فقال : « لا تخصّوا أحداً حتّى يخرج إليكم أمري » .
قال : فكتب إليه بعد فيمن يكون هذا الاَمر؟ قال : فكتب إلي : « في الاَكبر من ولدي » .
قال : وكان أبو محمد أكبر من جعفر (7) .
وعنه ، عن محمد بن يحيى وغيره ، عن سعد بن عبدالله ، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الاَفطس : أنّهم حضروا يوم توفّي محمد بن عليّ بن محمد دار أبي الحسن عليه السلام ليعزّوه وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله ، قالوا : فقدّرنا أن يكون حوله يومئذ من آل أبي طالب وسائر بني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس ، إذ نظر إلى الحسن بن عليّ ابنه وقد جاء مشقوق الجيب حتّى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه ، فنظر إليه أبو الحسن عليه السلام ساعة ثمّ قال له : « يا بنيّ أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً »فبكى الفتى واسترجع وقال : « الحمد لله رب العالمين » .
وقدرنا ان له في ذلك الوقت عشرين سنة ، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنّه قد اشار اليه بالإمامة وأقامه مقامه (8) .
وعنه ، عن عليّ بن محمد ، عن إسحاق بن محمد ، عن شاهويه بن عبدالله الجلاب قال : كتب إليّ أبو الحسن عليه السلام : « أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك ، فلا تقلق ، فإنّ الله لا يضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يتبيّن لهم ما يتّقون ، وصاحبك بعدي أبو محمد ابني ، وعنده ما تحتاجون إليه » (9) . الحديث بطوله .
وبهذا الاِسناد ، عن إسحاق بن محمد ، عن محمد بن يحيى ، عن أبي بكر الفهفكي قال : كتب إليّ أبو الحسن عليه السلام : « أبو محمد ابني أصحّ آل محمد غريزة ، وأوثقهم حجّة ، وهو الاَكبر من ولدي ، وهو الخلف ، وإليه تنتهي عرى الاِمامة وأحكامها فما كنت سائلي عنه فسله عنه ، فعنده ما تحتاج إليه ومعه آلة الاِمامة » (10) .
وعنه ، عن عليّ بن محمد ، عن محمد بن أحمد النهديّ ، عن يحيى ابن يسار القنبري قال : أوصى أبو الحسن عليه السلام إلى ابنه الحسن قبل مضيّه بأربعة أشهر ، وأشار إليه بالاَمر من بعده ، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي (11) .
وفي كتاب أبي عبدالله بن عيّاش : حدّثني أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا سعد بن عبدالله قال : حدّثني محمد بن أحمد بن محمد العلوّي العريضي قال : حدّثني أبو هاشم داود بن القاسم الجعفريّ قال : سمعت أبا الحسن عليه السلام صاحب العسكر يقول : « الخلف من بعدي الحسن ، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف . » .
قلت : ولَم جعلت فداك؟
قال : « لاَنّكم لا ترون شخصه ، ولا يحّل لكم تسميته ، ولا ذكره باسمه » .
قلت : كيف نذكره؟
قال : « قولوا : الحجّة من آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم » (12)
من آياته ومعجزاته عليه السلام
محمد بن يعقوب ، عن عليّ بن محمد ، عن إسحاق بن محمد النخعيّ قال : حدّثني إسماعيل بن محمد بن عليّ بن إسماعيل بن عليّ بن عبدالله بن عبّاس ، قال : قعدت لاَبي محمد على ظهر الطريق ، فلمّا مرّ بي شكوت إليه الحاجة ، وحلفت أن ليس عندي درهم فمافوقه ولا غداء ولا عشاء ، فقال : « تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مائتي دينار! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة ، أعطه يا غلام ما معك » فعطاني غلامه مائة دينار .
ثمّ أقبل عليّ فقال لي : « إنّك تُحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها » وصدق عليه السلام ، وذلك أنّي أنفقت ما وصلني به ، واضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه ، وانغلقت عليّ أبواب الرزق ، فنبشت عن الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها ، فنظرت فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب ، فما قدرت منها على شيء (1) .
وبهذا الاِسناد ، عن إسحاق بن محمد النخعي ، عن عليّ بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال : كان لي فرس ، وكنت به معجباً ، أكثر ذكره في المحافل ، فدخلت على أبي محمد يوماً فقال لي : « ما فعل فرسك ؟ » .
فقلت : هو عندي ، هو ذا هو على بابك ، الآن نزلت عنه .
فقال لي : « استبدل به قبل المساء إن قدرت ، ولا تؤخّر ذلك » ودخل علينا داخل فانقطع الكلام ، فقمت متفكّراً ، ومضيت إلى منزلي فأخبرت أخي فقال : ما أدري ما أقول في هذا . وشححت عليه ، ونفست على الناس ببيعه ، وأمسينا ، فلمّا صلّينا العتمة جاءني السائس فقال : يا مولاي نفق فرسك الساعة ، فاغتممت لذلك وعلمت أنّه عنى هذا بذلك القول .
ثمّ دخلت على أبي محمد عليه السلام بعد أيّام وأنا أقول في نفسي : ليته أخلف عليّ دابّة ، فلمّا جلست قال قبل أن اُحدّث : « نعم ، نخلف عليك ، يا غلام أعطه برذوني الكميت » ثمّ قال : « هذا خير من فرسك وأطأ وأطول عمراً » (2) .
ومما شاهده أبو هاشم ـ رحمه الله ـ من دلائله عليه السلام : ما ذكره أبو عبدالله أحمد بن محمد بن عيّاش قال : حدّثني أبو عليّ أحمد بن محمد ابن يحيى العطّار ، وأبو جعفر محمد بن أحمد بن مصقلة القمّيّان قالا : حدّثنا سعد بن عبدالله بن أبي خلف قال : حدّثنا داود بن القاسم الجعفريّ ، أبو هاشم ، قال : كنت عند أبي محمد عليه السلام فاستؤذن لرجل من أهل اليمن ، فدخل عليه رجلٌ جميلٌ طويلٌ جسيمٌ ، فسلّم عليه بالولاية فردّ عليه بالقبول ، وأمره بالجلوس فجلس إلى جنبي ، فقلت في نفسي : ليت شعري من هذا ، فقال أبو محمد : « هذا من ولد الاَعرابيّة صاحبة الحصاة التي طبع آبائي فيها » ثمّ قال : « هاتها » .
فأخرج حصاة وفي جانب منها موضع أملس ، فأخذها وأخرج خاتمه فطبع فيها فانطبع ، وكأنّي أقرأ الخاتم الساعة « الحسن بن عليّ » فقلت لليمانيّ : رأيته قطّ قبل هذا؟
فقال : لا والله ، وإنّي منذ دهر لحريص على رؤيته ، حتّى كان الساعة أتاني شابُّ لست أراه فقال : قم فادخل ، ثمّ نهض وهو يقول : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، ذرّيّة بعضها من بعض ، أشهد أنّ حقّك لواجب كوجوب حقّ أمير المؤمنين والاَئمّة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين ، وإليك انتهت الحكمة والاِمامة ، وإنّك وليّ الله الذي لا عذر لاَحد في الجهل به .
فسألت عن اسمه ، فقال : اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم بن أُمّ غانم ، وهي الاَعرابيّة اليمانيّة صاحبة الحصاة التي ختم فيها أمير المؤمنين عليه السلام (3) .
وقال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله في ذلك :
بدربِ الحصا مولى لنا يختمُ الحـصى * لـه الله أصفــىبالـدليـل وأخلصا
وأعـطاهُ آيـاتِ الاِمـامـةِ كـلّهـا * كـموسىوفـق البحـرِ واليدِ والعصا
ومــاقمّـص الله النبيّيـنَ حـجـّةً * ومعجــزةً إلاّ الوصيّيــن قمّصـا
فـمن كـانَ مـرتاباً بذاكَ فقصـرهُ * من الاَمر أن تتلو الدليل وتفحصا (4)
قال أبو عبدالله بن عيّاش : هذه أُمّ غانم صاحبة الحصاة غير تلك صاحبة الحصاة ، وهي أُمّ الندى حبابة بنت جعفر الوالبيّة الاَسديّة . وهي غير صاحبة الحصاة الاُولى التي طبع فيها رسول الله صلّى لله عليه وآله وسلّم وأمير المؤمنين عليه السلام فإنّها اُمّ سليم ، وكانت وارثة الكتب (5) . فهنّ ثلاثة ولكلّ واحدة منهنّ خبر قد رويته ، ولم أطل الكتاب بذكره .
قال : وحدّثني أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا سعد بن عبدالله وعبدالله بن جعفر قال : حدّثنا أبو هاشم قال : شكوت إلى أبي محمد عليه السلام ضيق الحبس وثقل القيد ، فكتب إليّ : « تصلّي الظهر اليوم في منزلك » .
فأخرجت في وقت الظهر فصلّيت في منزلي كما قال عليه السلام .
قال : وكنت مضيّقاً فأردت أن أطلب منه دنانير في كتابي فاستحييت ، فلمّا صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمائة دينار وكتب إليّ : « إذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم ، واطلبها فإنّك ترى ما تحبّ » (6) .
قال : وكان أبو هاشم حُبس مع أبي محمد عليه السلام ، كان المعتزّ حبسهما مع عدّة من الطالبيّين في سنة ثمان وخمسين ومائتين (7) .
حدثنا أحمد بن زياد الهمدانيّ ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال : حدّثني أبو هاشم داود بن القاسم قال : كنت في الحبس المعروف بحبس صالح بن وصيف الاَحمر ، أنا ، والحسن بن محمد العقيقي ، ومحمد بن إبراهيم العمري ، وفلان وفلان ، إذ دخل علينا أبو محمد الحسن عليه السلام وأخوه جعفر ، فحففنا به ، وكان المتولّي لحبسه صالح بن وصيف ، وكان معنا في الحبس رجل جمحي يقول : أنّه علويّ .
قال : فالتفت أبو محمد عليه السلام فقال : « لولا أنّ فيكم من ليس منكم لاَعلمتكم متى يفرّج عنكم » ، وأومأ إلى الجمحي أن يخرج فخرج ، فقال أبو محمد عليه السلام : « هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه » .
فقام بعضهم ففتّش ثيابه فوجد فيها القصّة يذكرنا فيها بكلّ عظيمة .
وكان أبو الحسن عليه السلام يصوم فإذا أفطر أكلنا معه من طعام كان يحمله غلامه إليه في جونة مختومة ، وكنت أصوم معه ، فلمّا كان ذات يوم ضعفت فأفطرت في بيت آخر على كعكة وما شعر بي والله أحد ، ثمّ جئت فجلست معه ، فقال لغلامه : « أطعم أبا هاشم شيئاً فإنّه مفطر » .
فتبسّمت ، فقال : « ما يضحكك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوّة فكل اللحم فإنّ الكعك لا قوّة فيه » .
فقلت : صدق الله ورسوله وأنتم ، فأكلت فقال لي : « أفطر ثلاثاً ، فإنّ المنّة لا ترجع إذا انهكها الصوم في أقلّ من ثلاث » .
فلمّا كان في اليوم الذي أراد الله سبحانه أن يفرّج عنه جاءه الغلام فقال : يا سيّدي أحمل فطورك؟
فقال : « إحمل ، وما أحسبنا نأكل منه » .
فحمل الطعام الظهر ، واُطلق عنه عند العصر وهو صائم ، فقال : « كلوا هنّاكم الله » (8) .
قال : وحدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبدالله بن جعفر قال : حدّثنا أبو هاشم قال : كنت عند أبي محمد عليه السلام فقال : « إذا خرج القائمُ أمر بهدم المنائر والمقاصير التي في المساجد » .
فقلت في نفسي : لاَي معنى هذا؟ فأقبل عليّ وقال : « معنى هذا أنّها محدثة مبتدعة لم يبنها نبيّ ولا حجّة » (9) .
وبهذا الاِسناد ، عن أبي هاشم قال : سأل الفهفكي أبا محمد : ما بال المرأة المسكينة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرّجل سهمين؟
فقال : « إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها مَعْقُلة (10) ، إنّما ذلك على الرجال » .
فقلت في نفسي : قد كان قيل لي إن ابن أبي العوجاء سأل أبا عبدالله عليه السلام عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب ، فأقبل أبو محمد عليَّ فقال : « نعم هذه مسألة بن أبي العوجاء ، والجواب منّا واحد ، إذا كان معنى المسألة واحداً جرى لاخرنا ما جرى لاَوّلنا ، وأوّلنا وآخرنا في العلم والاَمر سواء ، ولرسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما فضلهما » (11) .
وبهذا الاِسناد ، عن أبي هاشم قال : كتب إليه ـ يعني أبا محمد عليه السلام ـ بعض مواليه يسأله أن يعلمه دعاءً ، فكتب إليه : « ادع بهذا الدعاء : يا أسمع السامعين ، ويا أبصر المبصرين ، ويا أنظر الناظرين ، ويا أسرع الحاسبين ، ويا أرحم الراحمين ، ويا أحكم الحاكمين ، صلّ على محمدٍ وآل محمد ، وأوسع لي في رزقي ، ومدّلي في عمري ، وامنن عليّ برحمتك ، واجعلني ممّن تنتصر به لدينك ، ولا تستبدل به غيري » .
قال أبو هاشم فقلت في نفسي : اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرتك ، فأقبل عليّ أبو محمد عليه السلام فقال : « أنت في حزبه وفي زمرته إن كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدّقاً ، وبأوليائه عارفاً ، ولهم تابعاً ، فابشر ثمّ أبشر » (12) .
وبهذا الاِسناد ، عن أبي هاشم قال : سمعت أبا محمد عليه السلام يقول : « من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل ليتني لا اُؤاخذ إلاّ بهذا » .
فقلت في نفسي : إنّ هذا لهو الدقيق ، وقد ينبغي للرجل أن يتفقّد من نفسه كلّ شيء .
فأقبل عليّ أبو محمد فقال : « صدقت يا أبا هاشم ، ألزم ما حدّثتك به نفسك ، فإنّ الاِشراك في الناس أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في اللّيلة الظلماء ومن دبيب الدرّ على المسح الاَسود » (13) .
وبهذا الاِسناد قال : سمعت أبا محمد عليه السلام يقول : « إنّ في الجنّة باباً يقال له المعروف لا يدخله إلاّ أهل المعروف » فحمدت الله تعالى في نفسي وفرحت ممّا أتكلّفه من حوائج الناس ، فنظر إليّ أبو محمد عليه السلام وقال : « نعم قد علمت ما أنت عليه ، وإنّ أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك » (14) .
وبهذا الاِسناد ، عن أبي هاشم قال : دخلت على أبي محمد وأنا اُريد أن أسأله ما أصوغ به خاتماً أتبرّك به ، فجلست واُنسيت ما جئت له ، فلمّا ودّعته ونهضت رمى إليّ بخاتم فقال : « أردت فضةً فأعطيناك خاتماً وربحت الفصّ والكرى ، هنّاك الله يا أبا هاشم » .
فتعجّبت من ذلك فقلت : يا سيّدي ، إنّك وليّ الله وإمامي الذي أدين الله بفضله وطاعته .
فقال : « غفرالله لك يا أبا هاشم » (15) .
وهذا قليل من كثير ما شاهده أبو هاشم من آياته عليه السلام ودلالاته ، وقد ذكر ذلك أبو هاشم فيما روي لنا عنه بالاِسناد الذي ذكرناه ، قال : ما دخلت على أبي الحسن وأبي محمد عليهما السلام يوماً قطُّ إلاّ رأيت منهما دلالة وبرهاناً (16) .
محمد بن يعقوب ، عن عليّ بن محمد ، عن إسحاق بن محمد ، عن محمد بن الحسن بن شمّون ، عن أحمد بن محمد قال : كتبت إلى أبي محمد عليهما السلام حين أخذ المهتدي في قتل الموالي وقلت : يا سيّدي ، الحمدلله الذي شغله عنك ، فقد بلغني أنّه يتهدّدك ويقول : والله لاَجلينّهم عن جديد الاَرض .
فوقّع أبو محمد عليه السلام بخطّه : « ذاك أقصر لعمره ، عدّ من يومك هذا خمسة أيّام ويُقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به » .
فكان كما قال عليه السلام (17) .
وبإسناده ، عن أحمد بن محمد الاَقرع قال : حدّثنا أبو حمزة نصير الخادم قال : سمعت أبا محمد عليه السلام غير مّرة يكلّم غلمانه بلغاتهم وفيهم ترك وروم وصقالبة ، فتعجّبت من ذلك وقلت : هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لاَحد حتّى مضى أبو الحسن ولا رآه أحدٌ فكيف هذا ؟ ـ اُحدّث نفسي بهذا ـ فاقبل عليّ وقال : « الله تبارك وتعالى بيّن حجّته من سائر خلقه ، وأعطاه معرفة كلّ شيء ، فهو يعرف اللغات والاَنساب والحوادث ، ولولا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرقٌ » (18) .
وبإسناده ، عن الحسن بن ظريف قال : اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما إلى أبي محمد عليهما السلام ، فكتبت أسأله عن القائم إذا قام بم يقضي؟ وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس؟ وأردت أن أكتب أسأله عن شيء لحمّى الربع فأغفلت ذكر الحمّى ، فجاء الجواب : « سألت عن القائم وإذا قام قضى في الناس بعلمه كقضاء داود لا يسأل عن بيّنة ، وكنت أردت أن تسأل عن حمّى الربع فأُنسيت ، فاكتب في ورقة وعلّقها على المحموم( يا نارُ كُوني بَرداً وسَلاماً على إبراهيم) (19) » .
فكتبت ذلك وعلّقته على محموم لنا فأفاق وبرئ (20) .
وأمثال هذه الاَخبار كثرة لا نطوّل الكتاب بذكرها
من مناقبه وخصائصه ونبذ من أخباره عليه السلام
محمد بن يعقوب ، عن رجاله قالوا : كان أحمد بن عبيدالله بن خاقان على الضياع والخراج بقمّ ، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت ، فجرى في مجلسه ذكر العلويّة يوماً فقال : ما رأيت ولا عرفت من العلويّة مثل الحسن بن عليّ بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه ، وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم كافّة ، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر ، وكذلك كانت حاله عند القوّاد والوزراء وعامّة الناس ، وأذكر أنّي كنت يوماً قائماً على رأس أبي إذ دخل حجّابه فقالوا : أبو محمد ابن الرضا بالباب ، فقال بصوت عال : إئذنوا له ، فتعجّبت من جسارتهم أن يُكنّوا رجلاً بحضرة أبي ولم يكن يكّنى عنده إلاّ خليفة أو وليّ عهد أو من أمر السلطان .
فدخل رجل أسمر ، حسن القامة ، جميل الوجه ، حديث السنّ ، له جلالة وهيئة حسنة ، فلمّا نظر إليه قام يمشي إليه خطاً ـ ولا أعلمه فعل هذا بإحد من بني هاشم والقوّاد ـ فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدّره ، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وجعل يكلّمه ويفديه بنفسه ، وأنا متعجّب ممّا أرى منه ، إذ دخل الحاجب فقال : الموفقّ (1)قد جاء .
وكان الموفّق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصّة قوّاده ، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج ، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد حتّى نظر إلى غلمان الخاصّة فقال حينئذ : إذا شئت جعلت فداك ، ثمّ قال لحجّابه : خذوا به خلف السماطين لايره هذا ـ يعني الموفّق ـ .
فقام وقام أبي وعانقه ومضى ، فلم أزل يومي ذلك متفكّراً في أمره وأمر أبي ، وما رأيته منه حتّى كان الليل ، فلمّا صلّى العتمة وجلس جلست بين يديه وليس عنده أحدٌ ، فقال ، يا أحمد ألك حاجة؟
قلت : نعم يا أبه ، من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الاِجلال والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟
فقال : يا بنيّ ذلك إمام الرافضة الحسن بن عليّ المعروف بابن الرضا ، ثمّ سكت ساعة وأنا ساكت ، ثمّ قال : يا بنيّ ، لو زالت الاِمامة عن خلفاء بني العبّاس ما استحقّها أحدٌ من بني هاشم غيره لفضله وعفافه ، وهديه وصيانته ، وزهده وعبادته ، وجميل أخلاقه وصلاحه ، ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً .
فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي ، ولم تكن لي همّة بعد ذلك إلاّ السؤال عن خبره ، فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عنده في غاية الاِجلال والاِعظام والمحلّ الرفيع والتقديم له على جميع أهل بيته ، فعظم قدره عندي ، إذ لم أجد له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو يحسن القول فيه والثناء عليه .
فقال له بعض الحاضرين : فما خبر أخيه جعفر؟
فقال : ومن جعفر فيسأل عن خبره ، أو يقرن الحسن بجعفر! < إنَّ جعفراً > معلن الفسق ، فاجر شرّيب للخمور ، أقلّ من رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه .
ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن ابن عليّ ما تعجّبت منه وما ظننت أنّه يكون وذلك أنّه لمّا اعتلّ بُعث إلى أبي : أنّ ابن الرضا قد اعتلّ ، فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلّهم من ثقاته وخاصّته فيهم نحرير ، وأمرهم بلزوم دار الحسن ، وتعرّف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطبّبين وأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً .
فلمّا كان بعد يومين أو ثلاثة أُخبر أنّه ضعف ، فأمر المتطّببين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار عشرة ممّن يوثق بهم ، وبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتّى توفّي عليه السلام ، فلمّا ذاع خبر وفاته صارت سرّ من رأى ضجّة واحدة ، وعطّلت الاَسواق ، وركب بنوهاشم والقوّاد وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة .
فلمّا فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكّل فأمره بالصلاة عليه ، فلمّا وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلويّة والعبّاسيّة ، وعلى القوّاد والكتّاب والقضاة والمعدّلين فقال : هذا الحسن بن عليّ بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه ، على فراشه ، وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ثمّ غطّى وجهه وصلّى عليه وأمر بحمله .
فلمّا دفن جاء جعفر بن عليّ إلى أبي فقال له : اجعل لي مرتبة أخي وأنا اُوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار ، فزبره أبي وأسمعه ما كره وقال له : يا أحمق ، إنّ السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردّهم عن ذلك فلم يتهيّأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً
فلا حاجة بك إلى سلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير سلطان ، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا ، ثمّ أمر أبي أن يحجب عنه ، ولم يأذن له في الدخول عليه حتّى مات أبي ، وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثراً لولد الحسن بن عليّ إلى اليوم ولا يجد إلى ذلك سبيلاً ، وشيعته مقيمون على أنّه مات وخلّف ولداً يقوم مقامه في الاِمامة (2) .
محمد بن يعقوب ، عن عليّ بن محمد ، عن محمّد بن إسماعيل العلوّي قال : حُبس أبو محمد عند عليّ بن أوتامش (3) وكان شديد العداوة لآل محمد عليهم السلام ، غليظاً على آل أبي طالب ، وقيل له : إفعل به وافعل .
قال : فلما أقام إلاّ يوماً حتّى وضع خدّيه له ، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً له وإعظاماً ، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم فيه قولاً (4) .
وبهذا الاَسناد أيضاً قال : دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد عليه السلام فقالوا له : ضيّق عليه ، فقال لهم صالح : ما أصنع به وقد وكّلت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام على أمر عظيم .
ثمّ أمر بإحضار الموكّلين فقال لهما : ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا : ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كلّه ، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة ، وإذا نظرنا إليه أرعدت فرائصنا وداخلنا مالا نملكه من أنفسنا .
فلمّا سمع ذلك العبّاسيّون انصرفوا خائبين (5) .
وبهذا الاِسناد ، عن جماعة من أصحابنا قالوا : سلّم أبو محمد إلى نحرير (6)وكان يضيّق عليه ويؤذيه ، فقالت له امرأته : اتّق الله فإنّك لا تدري من في منزلك ، وذكرتله صلاحه وعبادته ، فقال : والله لأرمينه بين السباع ، ثم استأذن في ذلك فأُذن له ، فرمى به إليها ، ولم يشكّوا في أكلها له ، فنظروا إلى الموضع فوجدوه عليه السلام قائماً يصلّي وهي حوله ، فأمر بإخراجه إلى داره (7) .
وكان مرضه عليه السلام الذي توفّي فيه في أوّل شهر ربيع الاَول سنة ستّين ومائتين ، وتوفّي عليه السلام يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر ، وخلّف ولده الحجّة القائم المنتظر لدولة الحقّ ، وكان قد أخفى مولده لشدّة طلب سلطان الوقت له واجتهاده في البحث عن أمره ، فلم يره إلاّ الخواصّ من شيعته على ما نذره بعد .
وتولّى أخوه جعفر أخذ تركته ، وسعى إلى السلطان في حبس جواري أبي محمّد عليه السلام ، وشنّع على الشيعة في انتظارهم ولده وقطعهم بوجوده واعتقادهم لاِمامته ، وجرى بسبب ذلك على مخلفة أبي محمد عليه السلام وشيعته كلّ بلاء ومحنة ، من حبس واعتقال وشدّة ، واجتهد جعفر في القيام مقامه فلم يقبله أحدٌ من الطائفة ، بل تبرّؤوا منه ولقّبوه الكذّاب (8) .
وله أخبار كثيرة في هذا المعنى ، مشهورة عند أصحابنا ، رأيت الاِضراب عن ذكرها تحرّياً للاِختصار وبالله التوفيق .
تعليق