الإبتلاء مدرسة الإستقامة
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } (العنكبوت/2)
لا شك إن وراء المآسي التي تتوالى على الأمم، والصعوبات والمحن التي تنتاب المجتمعات، فلسفة وحكمة. على الرغم من إن البعض يزعم أن الصدفة تلعب دوراً أساسياً فيما يجري عليه، ونحن - كمسلمين - نرفض هذا الراي، ونرى إن كل شيء في هذا الكون بمقدار؛ فما من سكون وحركة، وضر ونفع، إلاّ في كتاب مبين. فنحن نؤمن-على سبيل المثال- بأن السحب لا تجري، وإنما تزجى وتساق من قبل إرادة مدبّرة لها، وإن الأرض لا تنبت وإنما تُزرَع، وإننا لسنا نحن الزارعين، بل ان الله جل وعلا هو الزارع، وإنه لن يصيب الانسان إلاّ ما كتب له.. وبالتالي فان السنن الالهية والتقديرات الحكيمة، هي التي تجري مقادير الكون الذي نعيش نحن فيه، ونعد جزء منه.
ضرورة وعي الأحداث
وبناءً على ذلك، فان علينا أن نتساءل عن أسباب الحوادث التي تجري حولنا وعلينا، لأن الصدفة لا يمكن أن تلعب دوراً في تسبيب تلك الحوادث. فليس من الصدفة بمكان أن يأتي الطغاة الظالمون ليتحكّموا في مصائر بلداننا وشعوبنا. فقديماً أبتلي - على سبيل المثال - العراق بالحجاج، وبزياد ابن أبيه، وقديماً أبتلي الايطاليون في الزمن الغابر بطاغية مثل نيرون، وقديماً نزلت القوارع على الأمم من أمثالنا فأبيدت، واغرقت، واحترقت...
إن تلك الأحداث وغيرها لم تقع صدفة؛ لذا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البصيرة من وراء ذلك، وما هي العبرة، وكيف نستطيع أن نفهم الحياة الفهم اللائق بها ؟
أقول: إن من الجيد أن يفكر الانسان في هذه الأمور، وأن لا يحبس تفكيره في أطر ضيقة، لأن التفكير في قضايا صغيرة وتافهة ليس من شأن الانسان. فمن المفروض فيه أن يفكر ويعتبر ويخطط لمستقبله، ويتطلع الى الأفضل. فماذا ينفعه أن يصبّ تفكيره على القضايا الهامشية، في حين يعيش حالة التغافل عن إنسان طاغية يتحكم في مصيره ويسلبه إراداته، ويسومه الخسف والهوان ؟
حكمة المآسي
وهنا نعود لنتساءل: ما هي حكمة المآسي التي تتوالى على البشرية ؟
في آيات عديدة من القرآن الكريم يكشف لنا الله تعالى عن هذه الحكمة. ونحن اذا تدبرنا في هذه الآيات، واستوعبنا تلك الحكمة، وطبقناها على أنفسنا، ولم ندع المآسي تتكرر، فاننا سنعيش أحراراً في دنيانا، مستقلين عن أية قوة داخلية أو خارجية تريد أن تستعبدنا.
ومن أبرز الحكم في مآسي الأمم، دعوة الله عز وجل الانسان أن يعود إليه. فالله يحب البشر، ويحب أن يعود عباده إليه، ولذلك فانه ينزل عليهم المآسي والمحن. وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً وثجَّه بالبلاء ثجاً، فإذا دعاه، قال: لبيك عبدي، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر، ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك".
وهكذا فان من جملة الحكم أن الخالق جلّ شأنه يريد من عبده أن يدعوه، وأن يتضرع إليه. فالله تبارك وتعالى يتحبب الى العباد، وهناك منهم من يستجيبون الى هذا التحبب، فيتضرعون الى خالقهم. فان كان الانسان يتمتع بكل شيء من طعام وشراب وما الى ذلك، فانه سوف لا يجد في نفسه دافعاً أساسياً حتى الى العبادة ، فيستبدّ به الغرور. أمّا إذا أصابته مصيبة، فان قلبه سينكسر، وسيدعو الله جل جلاله بلسان التوسل والتضرع.
وفي هذا المجال يروى أن جبرائيل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال: يا محمد السلام يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة. قال: يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك؟ قال: الموت، فقال: إذاً لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده. فقال له جبرئيل: وفقت لكل خير يا محمد".
إن الانسان الذي يجيء شبعه بعد جوعه، فانه يشكر الله تبارك وتعالى. أما الانسان الذي لم يذق في حياته الجوع ولو لمرة واحدة، فانه سوف لا يحس بأن هناك جائعاً على الأرض، وبالتالي فانه سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق. ولذلك فان الانسان لايشكر ربه - عادة - على النعم العظيمة التي أنعم بها عليه.
ومن حكمة المآسي على الشعوب، أن سلبياتها تتراكم طبقة على طبقة، وظلاماً فوق ظلام، وإنحرافاً أيديولوجياً، وشذوذاً في العادات والسلوكيات، وإنحرافاً في الاخلاق والآداب والمفاهيم، وتشوّشاً في الرؤية، وفوضى في النظم السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها.. فاذا بهم يعيشون في شرنقة الانحرافات، وزنزانة الفساد. وفي هذه الحالة لا تنفعهم نصيحة الناصحين، ولا عبر ودروس التأريخ، ولا تلاوة القرآن والروايات.. فتراهم يركضون وراء المادة، فان لم يجدوها جروا وراء وهمها.
وفي هذه الحالة فان الله عز وجل، وطبقاً لحكمته يعرّض هذه الشعوب للبلاء. ويشتد هذا البلاء، ويتدرج في العنف والقسوة، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في البأساء والضراء، فيجعل الله سبحانه بأسهم بينهم، فيقتلون بعضهم البعض، ويتسلّط عليهم أراذلهم وحقراؤهم.
هدف الابتلاء
وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة؛ أي أن يستيقظوا، وينتقدوا أنفسهم، ويعودوا الى رشدهم، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم، ليعودوا الى الله جل وعلا، والى القيم الحقة، والصراط المستقيم، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة. فان لم يصلوا الى هذا المستوى، فان الخالق سوف ينزل عليهم بلاءات أخرى أشدّ، حتى تحين فرصتهم في الاعتبار من هذا البلاء. وحينئذ يفتح الله تعالى عليهم أبواب الرحمة، وإذا بهم بعد ذلك يفرحون، ويعلون في الأرض، ويعيثون فيها الفساد، وعند ذلك يأخذهم الخالق بأشدّ البلاء.
فعلى سبيل المثال ابتلى الله فرعون وقومه بسبع بلايا، فكانوا كلما تأتيهم آية يقرّرون العودة الى بارئهم، وبمجرّد أن تنتهي يعودون الى غيّهم وعدوانهم. وحينها كانوا يذهبون الى موسى ويقولون له: يا موسى؛ أدع الله أن يرفع عنّا هذا البلاء، فاننا عائدون الى دينه. وما كان من هذا النبي الكريم إلاّ أن يتوجه بالدعاء الى الخالق ليرفع عنهم البلاء، فيستجيب الله لدعوته. ولكنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم. وفي نهاية المطاف أغدق الله عليهم بالنعم والخيرات، ففرحوا واستبدّ بهم الغرور، وعلوا وطغوا. وحينئذ أخذهم -سبحانه- أخذ عزيز مقتدر ، ونبذهم في اليم فانتهوا وانقرضوا، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر.
إستعادة الوعي
والذي يصيبنا الآن - نحن المسلمين - هدفه وحكمته أن نستعيد وعينا، وأن نقف موقف الناقد من أنفسنا، وأن نسأل أنفسنا: لماذا هذه الابتلاءات؟ فان انتبهنا، واستيقظنا، وعدنا الى رشدنا، رفع الله تعالى عنّا البلاء. وإن لم نفعل ذلك، فان هذا البلاء سوف يزداد، وستأتي مراحل شديدة وصعبة إذا لم نتّعظ.
وفي هذا المجال يقول عز من قائل: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ اُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الانعام/42-45)
إن الأمم السابقة لم تتضرع، ولم تعد الى الله، ولم تطبق حكمة الابتلاء في حياتها؛ وبدل أن ينقذوا أنفسهم، ويستعيدوا وعيهم، وينتفعوا من المآسي، تكرّست السلبيات في أنفسهم، لأن قلوبهم كانت قاسية. والقلب عندما يقسو، فان المواعظ البالغة، والابتلاءات الشديدة لا يمكن أن تنفع معه.
وعلى الرغم من التذكير والابتلاءات المتواصلة، فانهم نسوا التحذيرات الالهية، فكانت النتيجة أن استدرجهم الله سبحانه وتعالى بالنعم حتى قطع دابرهم، وأهلكوا عن آخرهم. فأين عاد، وأين ثمود، وأين أصحاب الأيكة وقوم لوط... ؟ لقد انقرضوا جميعاً، وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم. فالله أتاح لهم الفرص الواسعة، وفتح أمامهم الطريق للعودة، ولم يبادرهم ويباغتهم بالعذاب.
ويبقى هنا السؤال المهم: بعد هذه المآسي والويلات والابتلاءات التي توالت وتتوالى علينا بين الحين والآخر، هل انتفعنا منها وأخذنا الدروس والعبر؟ وهل أدرك الناس إن التشرذم، والتفكير المصلحي الخاص لا يمكن ان ينفعهم؟ وهل أعادت مؤسساتنا النظر في إستراتيجياتها، وفي اُسلوب عملها وتحرّكها؟ وهل قمنا بما كان ينبغي لنا أن نقوم به؟
إن علينا أن نقف وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا. ففي كثير من الأحيان يكون النقد البنّاء، ومراجعة الماضي، وإعادة النظر في المسيرة، من صميم العمل الرسالي، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كانسان، فما بالك بالقيادات، والعلماء والمفكّرين والطلائع الرسالية ؟ إن المهم في كل ذلك أن نتضرع الى الله جل جلاله، وأن نعود إلى أنفسنا، ونتساءل عن الخطأ في سلوكنا وفكرنا وبصيرتنا ووعينا.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين وبه تعالى نستعين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
اما بعد،والحمد لله رب العالمين وبه تعالى نستعين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } (العنكبوت/2)
لا شك إن وراء المآسي التي تتوالى على الأمم، والصعوبات والمحن التي تنتاب المجتمعات، فلسفة وحكمة. على الرغم من إن البعض يزعم أن الصدفة تلعب دوراً أساسياً فيما يجري عليه، ونحن - كمسلمين - نرفض هذا الراي، ونرى إن كل شيء في هذا الكون بمقدار؛ فما من سكون وحركة، وضر ونفع، إلاّ في كتاب مبين. فنحن نؤمن-على سبيل المثال- بأن السحب لا تجري، وإنما تزجى وتساق من قبل إرادة مدبّرة لها، وإن الأرض لا تنبت وإنما تُزرَع، وإننا لسنا نحن الزارعين، بل ان الله جل وعلا هو الزارع، وإنه لن يصيب الانسان إلاّ ما كتب له.. وبالتالي فان السنن الالهية والتقديرات الحكيمة، هي التي تجري مقادير الكون الذي نعيش نحن فيه، ونعد جزء منه.
ضرورة وعي الأحداث
وبناءً على ذلك، فان علينا أن نتساءل عن أسباب الحوادث التي تجري حولنا وعلينا، لأن الصدفة لا يمكن أن تلعب دوراً في تسبيب تلك الحوادث. فليس من الصدفة بمكان أن يأتي الطغاة الظالمون ليتحكّموا في مصائر بلداننا وشعوبنا. فقديماً أبتلي - على سبيل المثال - العراق بالحجاج، وبزياد ابن أبيه، وقديماً أبتلي الايطاليون في الزمن الغابر بطاغية مثل نيرون، وقديماً نزلت القوارع على الأمم من أمثالنا فأبيدت، واغرقت، واحترقت...
إن تلك الأحداث وغيرها لم تقع صدفة؛ لذا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البصيرة من وراء ذلك، وما هي العبرة، وكيف نستطيع أن نفهم الحياة الفهم اللائق بها ؟
أقول: إن من الجيد أن يفكر الانسان في هذه الأمور، وأن لا يحبس تفكيره في أطر ضيقة، لأن التفكير في قضايا صغيرة وتافهة ليس من شأن الانسان. فمن المفروض فيه أن يفكر ويعتبر ويخطط لمستقبله، ويتطلع الى الأفضل. فماذا ينفعه أن يصبّ تفكيره على القضايا الهامشية، في حين يعيش حالة التغافل عن إنسان طاغية يتحكم في مصيره ويسلبه إراداته، ويسومه الخسف والهوان ؟
حكمة المآسي
وهنا نعود لنتساءل: ما هي حكمة المآسي التي تتوالى على البشرية ؟
في آيات عديدة من القرآن الكريم يكشف لنا الله تعالى عن هذه الحكمة. ونحن اذا تدبرنا في هذه الآيات، واستوعبنا تلك الحكمة، وطبقناها على أنفسنا، ولم ندع المآسي تتكرر، فاننا سنعيش أحراراً في دنيانا، مستقلين عن أية قوة داخلية أو خارجية تريد أن تستعبدنا.
ومن أبرز الحكم في مآسي الأمم، دعوة الله عز وجل الانسان أن يعود إليه. فالله يحب البشر، ويحب أن يعود عباده إليه، ولذلك فانه ينزل عليهم المآسي والمحن. وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً وثجَّه بالبلاء ثجاً، فإذا دعاه، قال: لبيك عبدي، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر، ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك".
وهكذا فان من جملة الحكم أن الخالق جلّ شأنه يريد من عبده أن يدعوه، وأن يتضرع إليه. فالله تبارك وتعالى يتحبب الى العباد، وهناك منهم من يستجيبون الى هذا التحبب، فيتضرعون الى خالقهم. فان كان الانسان يتمتع بكل شيء من طعام وشراب وما الى ذلك، فانه سوف لا يجد في نفسه دافعاً أساسياً حتى الى العبادة ، فيستبدّ به الغرور. أمّا إذا أصابته مصيبة، فان قلبه سينكسر، وسيدعو الله جل جلاله بلسان التوسل والتضرع.
وفي هذا المجال يروى أن جبرائيل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال: يا محمد السلام يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة. قال: يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك؟ قال: الموت، فقال: إذاً لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده. فقال له جبرئيل: وفقت لكل خير يا محمد".
إن الانسان الذي يجيء شبعه بعد جوعه، فانه يشكر الله تبارك وتعالى. أما الانسان الذي لم يذق في حياته الجوع ولو لمرة واحدة، فانه سوف لا يحس بأن هناك جائعاً على الأرض، وبالتالي فانه سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق. ولذلك فان الانسان لايشكر ربه - عادة - على النعم العظيمة التي أنعم بها عليه.
ومن حكمة المآسي على الشعوب، أن سلبياتها تتراكم طبقة على طبقة، وظلاماً فوق ظلام، وإنحرافاً أيديولوجياً، وشذوذاً في العادات والسلوكيات، وإنحرافاً في الاخلاق والآداب والمفاهيم، وتشوّشاً في الرؤية، وفوضى في النظم السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها.. فاذا بهم يعيشون في شرنقة الانحرافات، وزنزانة الفساد. وفي هذه الحالة لا تنفعهم نصيحة الناصحين، ولا عبر ودروس التأريخ، ولا تلاوة القرآن والروايات.. فتراهم يركضون وراء المادة، فان لم يجدوها جروا وراء وهمها.
وفي هذه الحالة فان الله عز وجل، وطبقاً لحكمته يعرّض هذه الشعوب للبلاء. ويشتد هذا البلاء، ويتدرج في العنف والقسوة، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في البأساء والضراء، فيجعل الله سبحانه بأسهم بينهم، فيقتلون بعضهم البعض، ويتسلّط عليهم أراذلهم وحقراؤهم.
هدف الابتلاء
وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة؛ أي أن يستيقظوا، وينتقدوا أنفسهم، ويعودوا الى رشدهم، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم، ليعودوا الى الله جل وعلا، والى القيم الحقة، والصراط المستقيم، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة. فان لم يصلوا الى هذا المستوى، فان الخالق سوف ينزل عليهم بلاءات أخرى أشدّ، حتى تحين فرصتهم في الاعتبار من هذا البلاء. وحينئذ يفتح الله تعالى عليهم أبواب الرحمة، وإذا بهم بعد ذلك يفرحون، ويعلون في الأرض، ويعيثون فيها الفساد، وعند ذلك يأخذهم الخالق بأشدّ البلاء.
فعلى سبيل المثال ابتلى الله فرعون وقومه بسبع بلايا، فكانوا كلما تأتيهم آية يقرّرون العودة الى بارئهم، وبمجرّد أن تنتهي يعودون الى غيّهم وعدوانهم. وحينها كانوا يذهبون الى موسى ويقولون له: يا موسى؛ أدع الله أن يرفع عنّا هذا البلاء، فاننا عائدون الى دينه. وما كان من هذا النبي الكريم إلاّ أن يتوجه بالدعاء الى الخالق ليرفع عنهم البلاء، فيستجيب الله لدعوته. ولكنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم. وفي نهاية المطاف أغدق الله عليهم بالنعم والخيرات، ففرحوا واستبدّ بهم الغرور، وعلوا وطغوا. وحينئذ أخذهم -سبحانه- أخذ عزيز مقتدر ، ونبذهم في اليم فانتهوا وانقرضوا، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر.
إستعادة الوعي
والذي يصيبنا الآن - نحن المسلمين - هدفه وحكمته أن نستعيد وعينا، وأن نقف موقف الناقد من أنفسنا، وأن نسأل أنفسنا: لماذا هذه الابتلاءات؟ فان انتبهنا، واستيقظنا، وعدنا الى رشدنا، رفع الله تعالى عنّا البلاء. وإن لم نفعل ذلك، فان هذا البلاء سوف يزداد، وستأتي مراحل شديدة وصعبة إذا لم نتّعظ.
وفي هذا المجال يقول عز من قائل: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ اُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الانعام/42-45)
إن الأمم السابقة لم تتضرع، ولم تعد الى الله، ولم تطبق حكمة الابتلاء في حياتها؛ وبدل أن ينقذوا أنفسهم، ويستعيدوا وعيهم، وينتفعوا من المآسي، تكرّست السلبيات في أنفسهم، لأن قلوبهم كانت قاسية. والقلب عندما يقسو، فان المواعظ البالغة، والابتلاءات الشديدة لا يمكن أن تنفع معه.
وعلى الرغم من التذكير والابتلاءات المتواصلة، فانهم نسوا التحذيرات الالهية، فكانت النتيجة أن استدرجهم الله سبحانه وتعالى بالنعم حتى قطع دابرهم، وأهلكوا عن آخرهم. فأين عاد، وأين ثمود، وأين أصحاب الأيكة وقوم لوط... ؟ لقد انقرضوا جميعاً، وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم. فالله أتاح لهم الفرص الواسعة، وفتح أمامهم الطريق للعودة، ولم يبادرهم ويباغتهم بالعذاب.
ويبقى هنا السؤال المهم: بعد هذه المآسي والويلات والابتلاءات التي توالت وتتوالى علينا بين الحين والآخر، هل انتفعنا منها وأخذنا الدروس والعبر؟ وهل أدرك الناس إن التشرذم، والتفكير المصلحي الخاص لا يمكن ان ينفعهم؟ وهل أعادت مؤسساتنا النظر في إستراتيجياتها، وفي اُسلوب عملها وتحرّكها؟ وهل قمنا بما كان ينبغي لنا أن نقوم به؟
إن علينا أن نقف وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا. ففي كثير من الأحيان يكون النقد البنّاء، ومراجعة الماضي، وإعادة النظر في المسيرة، من صميم العمل الرسالي، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كانسان، فما بالك بالقيادات، والعلماء والمفكّرين والطلائع الرسالية ؟ إن المهم في كل ذلك أن نتضرع الى الله جل جلاله، وأن نعود إلى أنفسنا، ونتساءل عن الخطأ في سلوكنا وفكرنا وبصيرتنا ووعينا.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وال بيته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا
ونسالكم الدعاء
هاشم الحسيني الحلي
ونسالكم الدعاء
هاشم الحسيني الحلي
تعليق