من ثوابت الفكر الشيعيّ هو عصمة الأئمّة الاثني عشر، وقد استدلّوا على ذلك بأدلّة عقليّة ونقليّة.
الدليل العقليّ على عصمة الأئمّة
ذكرنا في كتاب "يسألونك عن الأنبياء" أنّ العقل يدلّ على لزوم عصمة النبيّ بتلقّي الوحي وتبليغه، وذلك لأنّ الخطأ في هذا المجال يضرّ بالهدف الإلهيّ، الذي يقتضي وصول الشريعة التي تعبِّر عن خريطة كمال الإنسان. وكذلك فإنّ انتخاب الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون هو الموحى إليه، يقتضي بالدليل العقليّ عصمته من الذنوب، لأنّ صدور معصية من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسقطه عن كونه القدوة، مع أنّ الاقتداء به أساسيٌّ في سلوك الناس مسار الكمال، فإنّ ذلك يقرِّبهم من طريق المعصية، بعد أن علموا أنّ المصطفى والمختار من الله تعالى سلكها، بل قد يزلزل عقيدة الناس بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، باعتبار أنَّ معصيته قد تشكّكهم بصدقه.
إنّ ما تقدَّم من دليل عقليّ على عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأتي هو نفسه على عصمة الإمام عليه السلام، صاحب المرجعيّة الدينيّة بعده، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام، وإن كان انحصر تلقيه للشريعة بوساطة واحدة هي النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، إلاّ أنّه تلقّى الشريعة التي تحتاج إلى حفظ خاص باعتبارها لم تبلَّغ بكاملها، وبالتالي، وبما أنّ الهدف الإلهيّ لا يتحقّق إلاّ بإبلاغ الرسالة للناس، وبما أنّ الرسالة التشريعيّة محفوظة لدى الإمام عليه السلام، فإنّ العقل يقتضي أن يكون معصومًا في حفظ هذه الشريعة، وفي تبليغها للناس، وهذا يدلّ على اصطفاء خاص من الله تعالى للإمام عليه السلام، ومن هنا كانت الإمامة في الفكر الشيعيّ بانتخاب الله تعالى، وليست باختيار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضمن الهامش الذي أعطاه فيه حريّة الاختيار.
وبما أنّ الإمام عليه السلام يكون باختيار الله تعالى، فهذا يقتضي عصمته من الذنوب، باعتبار أنّ صدور المعصية منه، وهو المختار من الله تعالى من بين الناس، سيوقعهم بالمحذورين السابقين:
1- تقريبهم من سلوك طريق المعصية، باعتبار أنّ المنتخب الخاصّ من الله يعصي، فكيف غيره!
2- تزلزل عقيدتهم بما يبلِّغ من تشريع، باعتبار أنّ معصيته قد تشكّكهم بصدقه.
إذًا إنّ المرجعيّة الدينيّة للإمام عليه السلام، والتي تعني دوره الحافظ للدين، هو المنطلق للدليل العقلي على عصمة الإمام عليه السلام.
الدليل النقليّ على عصمة الأئمّة
هناك العديد من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة دالّة على عصمة الأئمّة عليه السلام، نعرض منها:
أ- الآيات القرآنيّة الدالّة على عصمة الأئمة عليهم السلام
1- قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾1.
إنّ هذه الآية تثبت أنّ المناصب الإلهيّة، التي هي عهد من الله تعالى، ومنها الإمامة، لا تنال الظالمين، وقد أطلق الله تعالى قوله:﴿الظَّالِمِينَ﴾، ممّا يعني أنّ كلّ من ظلم نفسه لا يناله العهد الإلهيّ، أي لا تناله الإمامة، ومن الواضح أنّ الذي يذنب، ولو ذنبًا صغيرًا، هو ظالم لنفسه، وهذا يعني أنّ الذي يناله عهد الله لا بدّ أن يكون معصومًا عن أيّ ذنب.
وقد أثبتنا سابقًا أنّ إمامة الأئمّة عليه السلام هي انتخاب واصطفاء وتنصيب من الله تعالى، وبالتالي فإنّها لا تنال إلاّ المعصومين.
2- قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾2.
نُبيِّن معنى الآية من خلال نقطتين:
النقطة الأولى: أنَّ معنى الرجس هو القذر، وهو أعمّ من النجاسة، بدليل قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾3، وبالتالي فإنّ الذنب هو من ذلك الرجس. وعليه، فإنّ الله تعالى يحدِّثنا في هذه الآية أنّه يريد أن يذهب عن أهل البيت عليه السلام كلّ أنواع القذارة ومنه الذنب والإثم.
النقطة الثانية: إنّ الإرادة الإلهيّة على نوعين:
* إرادة تكوينيّة، وهي التي لا يتخلّف فيها المراد عن الإرادة، إنّما لا بدَّ من تحقّقها بشكل قهريّ، دون أيّ اختيار للمراد، كخلق الكون، حركة الكواكب...الخ.
* إرادة تشريعيّة، وهي التي تصدر من الله تعالى، ولكن يكون هناك اختيار لمن توجَّهت إليه في تحقيقها أو عدمه، كفرضَي الصلاة والصيام ونحوهما، فالله تعالى أراد من الإنسان أن يؤدِّيهما، إلاّ أنّه ترك له هامش الاختيار، بحيث يمكنه أن يتخلَّف عن ذلك دون تأديتهما.
والسؤال: ما المراد بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾4، هل الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة؟
الجواب: إنَّ الإرادة التشريعيّة الإلهيّة بأن يذهب الله الرجس لا تختصّ ببعض الناس دون البعض، بل هي مطلوبة من الجميع، فلا وجه لاختصاص أهل البيت عليه السلام بطلب ذلك منهم، وعليه فإنّ ذلك يؤدّي إلى القول بأنّ المراد من الإرادة في الآية هي التكوينيّة التي لا تقبل التخلّف، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾5.
وما تقدَّم يعني أنّ الله تعالى بإرادته التكوينيّة يمنع صدور الذنب من أهل البيت عليه السلام، وهذا يعني أنّهم معصومون عن ارتكاب الذنوب. وقد تقدّم في كتاب "يسألونك عن الأنبياء" أنّ العصمة عبارة عن علم خاص موهوب من الله تعالى، يجعل المعصوم يرى الطاعة على جمالها، والمعصية على قبحها، وهذا ما يجعل صور الأشياء لديه صافية على واقعها، فهو لذلك لا يقدم على فعل المعصية أو ترك الطاعة، وتقدّم أنّ عدم إقدامه على ذلك هو باختياره لا بالقهر التكوينيّ.
بناءً عليه فإنّ الإرادة التكوينيّة لإذهاب الرجس عن أهل البيت عليه السلام لا بدَّ أن تكون تعلَّقت بإفاضة ذلك العلم الخاصّ عليهم، بما يجعلهم معصومين باختيارهم، مع ضمانة عدم وقوعهم في المحذور.
من هم أهل البيت؟
على ضوء التفسير السابق للآية، فإنّ تفسير أهل البيت عليه السلام ينحصر بما قاله الشيعة في المعصومين، لأنّ جميع المذاهب والفرق الإسلاميّة لا يدَّعون وجود العصمة في أيّ أحد من المنتسبين إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيبقى قول الشيعة المؤكِّدين على عصمة السيّدة فاطمة الزهراء عليه السلام والأئمة الاثني عشر عليه السلام.
ومع ذلك فقد ورد من طرق أهل السُّنّة ما يفيد أنّ المقصود بأهل البيت عليه السلام هم علي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام.
ففي مسند أحمد بن حنبل أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أدنى عليًّا وفاطمة، فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنًا وحسينًا كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفَّ عليهم ثوبه، (أو قال: كساءً)، ثمّ تلا هذه الآية:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾6، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحقّ"7.
وفي نصٍّ آخر ذكره ابن حنبل أيضًا عن أم سلمة (رض): "أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة8، فدخلت عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء عليّ، والحسين، والحسن، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له على دكان9 تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أصلّي في الحجرة، فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾10، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهِّرهم تطهيرًا، اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهِّرهم تطهيرًا، قالت: فأدخلت رأسي...، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله، قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير"11.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غداة، وعليه مِرْطٌ12 مُرَجَّل13 من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾14" 15.
وفي سنن الترمذيّ بسنده عن عمر ابن أبي سلمة، ربيب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: قال: "لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾16، في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنًا وحسينًا، فجلَّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره، فجلَّله بكساء، ثمّ قال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرًا، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبيّ الله، قال: أنت على مكانك، وأنت على خير"17.
وقد روى عن الحاكم في المستدرك بسنده عن أم سلمة أنّها قالت: "في بيتي نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾18، قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم أجمعين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمّ، هؤلاء أهل بيتي، قالت أم سلمة: ما أنا من أهل البيت؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّك على خير، وهؤلاء أهل بيتي، اللهمّ أهلي أحقّ"، ثمّ علّق الحاكم على الحديث قائلاً: "هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه"19.
وقد أحصى العلّامة هاشم البحرانيّ أكثر من سبعين رواية، ورد أكثرها من علماء أهل السُنَّة، تدلّ على أنّ آية التطهير نزلت في حقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام 20.
ومن طرق الشيعة، روى الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عليّ، هذه الآية نزلت فيك، وفي سبطيَّ، والأئمّة من ولدك، قلت: يا رسول وكم الأئمّة من بعدك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أنت يا عليّ، ثمّ ابناك الحسن، والحسين، وبعد الحسين علي ابنه، وبعد عليّ محمّد ابنه، وبعد محمّد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى عليّ ابنه، وبعد عليّ محمّد ابنه، وبعد محمّد عليّ ابنه، وبعد عليّ الحسن ابنه، وبعد الحسن ابنه الحجّة، من ولد الحسن، هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله عزّ وجل عن ذلك فقال: يا محمّد هم الأئمّة من بعدك، مطهّرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون"21.
الأحاديث الدالّة على العصمة
نكتفي من الأحاديث الدالّة على عصمة الأئمّة بحديثين: الأوّل حول عصمة أهل البيت عليه السلام، والثاني حول عصمة الإمام عليّ عليه السلام.
الدليل على عصمة أهل البيت عليه السلام
روى الحاكم في المستدرك بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض".
ثمّ علّق الحاكم بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه22.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"23.
وفي ينابيع المودّة روى القندوزيّ بسنده عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، وإنّكم لن تضلّوا إن اتبعتم واستمسكتم بهما"24.
وبصيغة أخرى روى القندوزيّ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، نبّأني بذلك اللطيف الخبير"25.
وحديث الثقلين هذا متواتر عند المسلمين، لا شكَّ في اعتباره وصحّة سنده، وهو دالٌّ على عصمة أهل العترة، لأنّ من المحال أن يدعو النبيّ إلى أخذ الدين من مرجع بمثل هذا الجزم والحسم، ثمّ يتخلّل الخطأ بعض كلام ذلك المرجع"26.
الدليل على عصمة الإمام عليّ عليه السلام
روى الحاكم النسابوريّ في المستدرك عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله عليًّا، اللهمّ أدر الحقّ معه حيث دار"، ثمّ قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه27.
وباعتباره دعاءً من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه مستجاب حتمًا يكون الإمام عليّ عليه السلام حيثما يدور مع الحقّ، وبالتالي هو معصوم.
وورد عن الخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد عن ابن ثابت موسى أبي ذر قال: دخلت على أمّ سلمة، فرأيتها تبكي وتذكر عليًّا، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة"28.
الدليل العقليّ على عصمة الأئمّة
ذكرنا في كتاب "يسألونك عن الأنبياء" أنّ العقل يدلّ على لزوم عصمة النبيّ بتلقّي الوحي وتبليغه، وذلك لأنّ الخطأ في هذا المجال يضرّ بالهدف الإلهيّ، الذي يقتضي وصول الشريعة التي تعبِّر عن خريطة كمال الإنسان. وكذلك فإنّ انتخاب الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون هو الموحى إليه، يقتضي بالدليل العقليّ عصمته من الذنوب، لأنّ صدور معصية من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسقطه عن كونه القدوة، مع أنّ الاقتداء به أساسيٌّ في سلوك الناس مسار الكمال، فإنّ ذلك يقرِّبهم من طريق المعصية، بعد أن علموا أنّ المصطفى والمختار من الله تعالى سلكها، بل قد يزلزل عقيدة الناس بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، باعتبار أنَّ معصيته قد تشكّكهم بصدقه.
إنّ ما تقدَّم من دليل عقليّ على عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأتي هو نفسه على عصمة الإمام عليه السلام، صاحب المرجعيّة الدينيّة بعده، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام، وإن كان انحصر تلقيه للشريعة بوساطة واحدة هي النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، إلاّ أنّه تلقّى الشريعة التي تحتاج إلى حفظ خاص باعتبارها لم تبلَّغ بكاملها، وبالتالي، وبما أنّ الهدف الإلهيّ لا يتحقّق إلاّ بإبلاغ الرسالة للناس، وبما أنّ الرسالة التشريعيّة محفوظة لدى الإمام عليه السلام، فإنّ العقل يقتضي أن يكون معصومًا في حفظ هذه الشريعة، وفي تبليغها للناس، وهذا يدلّ على اصطفاء خاص من الله تعالى للإمام عليه السلام، ومن هنا كانت الإمامة في الفكر الشيعيّ بانتخاب الله تعالى، وليست باختيار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضمن الهامش الذي أعطاه فيه حريّة الاختيار.
وبما أنّ الإمام عليه السلام يكون باختيار الله تعالى، فهذا يقتضي عصمته من الذنوب، باعتبار أنّ صدور المعصية منه، وهو المختار من الله تعالى من بين الناس، سيوقعهم بالمحذورين السابقين:
1- تقريبهم من سلوك طريق المعصية، باعتبار أنّ المنتخب الخاصّ من الله يعصي، فكيف غيره!
2- تزلزل عقيدتهم بما يبلِّغ من تشريع، باعتبار أنّ معصيته قد تشكّكهم بصدقه.
إذًا إنّ المرجعيّة الدينيّة للإمام عليه السلام، والتي تعني دوره الحافظ للدين، هو المنطلق للدليل العقلي على عصمة الإمام عليه السلام.
الدليل النقليّ على عصمة الأئمّة
هناك العديد من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة دالّة على عصمة الأئمّة عليه السلام، نعرض منها:
أ- الآيات القرآنيّة الدالّة على عصمة الأئمة عليهم السلام
1- قال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾1.
إنّ هذه الآية تثبت أنّ المناصب الإلهيّة، التي هي عهد من الله تعالى، ومنها الإمامة، لا تنال الظالمين، وقد أطلق الله تعالى قوله:﴿الظَّالِمِينَ﴾، ممّا يعني أنّ كلّ من ظلم نفسه لا يناله العهد الإلهيّ، أي لا تناله الإمامة، ومن الواضح أنّ الذي يذنب، ولو ذنبًا صغيرًا، هو ظالم لنفسه، وهذا يعني أنّ الذي يناله عهد الله لا بدّ أن يكون معصومًا عن أيّ ذنب.
وقد أثبتنا سابقًا أنّ إمامة الأئمّة عليه السلام هي انتخاب واصطفاء وتنصيب من الله تعالى، وبالتالي فإنّها لا تنال إلاّ المعصومين.
2- قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾2.
نُبيِّن معنى الآية من خلال نقطتين:
النقطة الأولى: أنَّ معنى الرجس هو القذر، وهو أعمّ من النجاسة، بدليل قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾3، وبالتالي فإنّ الذنب هو من ذلك الرجس. وعليه، فإنّ الله تعالى يحدِّثنا في هذه الآية أنّه يريد أن يذهب عن أهل البيت عليه السلام كلّ أنواع القذارة ومنه الذنب والإثم.
النقطة الثانية: إنّ الإرادة الإلهيّة على نوعين:
* إرادة تكوينيّة، وهي التي لا يتخلّف فيها المراد عن الإرادة، إنّما لا بدَّ من تحقّقها بشكل قهريّ، دون أيّ اختيار للمراد، كخلق الكون، حركة الكواكب...الخ.
* إرادة تشريعيّة، وهي التي تصدر من الله تعالى، ولكن يكون هناك اختيار لمن توجَّهت إليه في تحقيقها أو عدمه، كفرضَي الصلاة والصيام ونحوهما، فالله تعالى أراد من الإنسان أن يؤدِّيهما، إلاّ أنّه ترك له هامش الاختيار، بحيث يمكنه أن يتخلَّف عن ذلك دون تأديتهما.
والسؤال: ما المراد بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾4، هل الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة؟
الجواب: إنَّ الإرادة التشريعيّة الإلهيّة بأن يذهب الله الرجس لا تختصّ ببعض الناس دون البعض، بل هي مطلوبة من الجميع، فلا وجه لاختصاص أهل البيت عليه السلام بطلب ذلك منهم، وعليه فإنّ ذلك يؤدّي إلى القول بأنّ المراد من الإرادة في الآية هي التكوينيّة التي لا تقبل التخلّف، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾5.
وما تقدَّم يعني أنّ الله تعالى بإرادته التكوينيّة يمنع صدور الذنب من أهل البيت عليه السلام، وهذا يعني أنّهم معصومون عن ارتكاب الذنوب. وقد تقدّم في كتاب "يسألونك عن الأنبياء" أنّ العصمة عبارة عن علم خاص موهوب من الله تعالى، يجعل المعصوم يرى الطاعة على جمالها، والمعصية على قبحها، وهذا ما يجعل صور الأشياء لديه صافية على واقعها، فهو لذلك لا يقدم على فعل المعصية أو ترك الطاعة، وتقدّم أنّ عدم إقدامه على ذلك هو باختياره لا بالقهر التكوينيّ.
بناءً عليه فإنّ الإرادة التكوينيّة لإذهاب الرجس عن أهل البيت عليه السلام لا بدَّ أن تكون تعلَّقت بإفاضة ذلك العلم الخاصّ عليهم، بما يجعلهم معصومين باختيارهم، مع ضمانة عدم وقوعهم في المحذور.
من هم أهل البيت؟
على ضوء التفسير السابق للآية، فإنّ تفسير أهل البيت عليه السلام ينحصر بما قاله الشيعة في المعصومين، لأنّ جميع المذاهب والفرق الإسلاميّة لا يدَّعون وجود العصمة في أيّ أحد من المنتسبين إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيبقى قول الشيعة المؤكِّدين على عصمة السيّدة فاطمة الزهراء عليه السلام والأئمة الاثني عشر عليه السلام.
ومع ذلك فقد ورد من طرق أهل السُّنّة ما يفيد أنّ المقصود بأهل البيت عليه السلام هم علي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام.
ففي مسند أحمد بن حنبل أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أدنى عليًّا وفاطمة، فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنًا وحسينًا كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفَّ عليهم ثوبه، (أو قال: كساءً)، ثمّ تلا هذه الآية:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾6، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحقّ"7.
وفي نصٍّ آخر ذكره ابن حنبل أيضًا عن أم سلمة (رض): "أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة8، فدخلت عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء عليّ، والحسين، والحسن، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له على دكان9 تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أصلّي في الحجرة، فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾10، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهِّرهم تطهيرًا، اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهِّرهم تطهيرًا، قالت: فأدخلت رأسي...، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله، قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير"11.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غداة، وعليه مِرْطٌ12 مُرَجَّل13 من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾14" 15.
وفي سنن الترمذيّ بسنده عن عمر ابن أبي سلمة، ربيب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: قال: "لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾16، في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنًا وحسينًا، فجلَّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره، فجلَّله بكساء، ثمّ قال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرًا، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبيّ الله، قال: أنت على مكانك، وأنت على خير"17.
وقد روى عن الحاكم في المستدرك بسنده عن أم سلمة أنّها قالت: "في بيتي نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾18، قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم أجمعين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهمّ، هؤلاء أهل بيتي، قالت أم سلمة: ما أنا من أهل البيت؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّك على خير، وهؤلاء أهل بيتي، اللهمّ أهلي أحقّ"، ثمّ علّق الحاكم على الحديث قائلاً: "هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه"19.
وقد أحصى العلّامة هاشم البحرانيّ أكثر من سبعين رواية، ورد أكثرها من علماء أهل السُنَّة، تدلّ على أنّ آية التطهير نزلت في حقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام 20.
ومن طرق الشيعة، روى الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عليّ، هذه الآية نزلت فيك، وفي سبطيَّ، والأئمّة من ولدك، قلت: يا رسول وكم الأئمّة من بعدك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أنت يا عليّ، ثمّ ابناك الحسن، والحسين، وبعد الحسين علي ابنه، وبعد عليّ محمّد ابنه، وبعد محمّد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى عليّ ابنه، وبعد عليّ محمّد ابنه، وبعد محمّد عليّ ابنه، وبعد عليّ الحسن ابنه، وبعد الحسن ابنه الحجّة، من ولد الحسن، هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله عزّ وجل عن ذلك فقال: يا محمّد هم الأئمّة من بعدك، مطهّرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون"21.
الأحاديث الدالّة على العصمة
نكتفي من الأحاديث الدالّة على عصمة الأئمّة بحديثين: الأوّل حول عصمة أهل البيت عليه السلام، والثاني حول عصمة الإمام عليّ عليه السلام.
الدليل على عصمة أهل البيت عليه السلام
روى الحاكم في المستدرك بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض".
ثمّ علّق الحاكم بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه22.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"23.
وفي ينابيع المودّة روى القندوزيّ بسنده عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، وإنّكم لن تضلّوا إن اتبعتم واستمسكتم بهما"24.
وبصيغة أخرى روى القندوزيّ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، نبّأني بذلك اللطيف الخبير"25.
وحديث الثقلين هذا متواتر عند المسلمين، لا شكَّ في اعتباره وصحّة سنده، وهو دالٌّ على عصمة أهل العترة، لأنّ من المحال أن يدعو النبيّ إلى أخذ الدين من مرجع بمثل هذا الجزم والحسم، ثمّ يتخلّل الخطأ بعض كلام ذلك المرجع"26.
الدليل على عصمة الإمام عليّ عليه السلام
روى الحاكم النسابوريّ في المستدرك عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله عليًّا، اللهمّ أدر الحقّ معه حيث دار"، ثمّ قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه27.
وباعتباره دعاءً من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه مستجاب حتمًا يكون الإمام عليّ عليه السلام حيثما يدور مع الحقّ، وبالتالي هو معصوم.
وورد عن الخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد عن ابن ثابت موسى أبي ذر قال: دخلت على أمّ سلمة، فرأيتها تبكي وتذكر عليًّا، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة"28.