استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف. وبما أن هذه القاعدة تطرح دليلاً في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية، فلا بد لنا من بسط الكلام فيها بشكل عام، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها، سواء فيما له صلة ببعث الرسل أو غيره، فنقول:
إن اللطف، في اصطلاح المتكلمين، يوصف بوصفين
1- اللطف المُحَصِّل.
2- اللطف المُقَرِّب.
وهناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأول، ومسائل أُخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني، وربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتب على الأول بما يترتب على الثاني. ولأجل الإِحتراز عن ذلك نبحث عن كل منهما، بنحو مستقل.
أ- اللُّطف المحصِّل
اللُّطف المحصِّل عبارة عن القيام بالمبادي والمقدمات الّتي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغا عن الغاية، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرز عن العبث. وذلك كبيان تكاليف الإنسان، وإعطائه القدرة على إمتثالها.
ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلة السابقة، أن الإِنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقة، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة بالإِعتماد على عقله، والإِستغناء عن التعليم السماوي. ووجوب اللطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتفق عليه العقل والنقل1.
اللطف المحصِل في مصطلح المتكلمين
ما ذكرناه من المعنى للطف المحصل، مصطلح خاص لنا وليس معروفاً بين المتكلمين والمعنى المعروف لديهم هو: قيامه سبحانه بعمل تترتب عليه الطاعة.
قال القاضي عبد الجبار: اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار (الواجب) أو ترك القبيح2.
ب: اللُّطف المقرِّب
المراد منه ما يكون موجباً لقرب المكلّف لفعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية، من دون ان يكون له حظ في التمكين ولا يبلغ الإلجاء وذلك كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل وبعده عن المعصية3.
قولهم: "ولاحظ في التمكين" يخرج بعث الرسل وبيان التكليف، وإعطاء القدرة فإنها ممكنة للعبد من الطاعة لا مقربة منها وقد عرفت أن هذا القسم من اللطف داخل في المحصل بالمعنى الأول المختار وقوله: "ولا يبلغ الإلجاء" يخرج ما إذا لم يكن للعبد معه محيص من إختيار الطاعة، فهذا أيضاً إلجاء وليس لطفاً.
إستدلوا على وجوب اللطف مطلقاً أنه تعالى أراد من المكلف الطاعة فإذا علم أنه لا يختار الطاعة (اللطف المحصل) أو لا يكون أقرب إليها إلا عند فعل يفعله به، وجب في الحكمة أن يفعل، إذ لو أخل به لكشف ذلك عن عدم إرادته أو جرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو ظن أنه لا يحضر بدون رسول، فمن لم يرسل عد مناقضاً لغرضه4.
والحق والقول بوجوب اللطف إذا كان مؤثر في قرب الأغلبية الساحقة من المكلفين إلى الطاعة أي ما هو دخيل في نفس الرغبة إلى الطاعة، والإبتعاد عن المعصية في نفوس الأكثرية، فيجب على الله القيام به.
وفي الكتاب والسنة إشارات إلى هذا النوع من اللُّطف. يقول سبحانه: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الاعراف:168).
والمراد من الحسنات والسيئات، نعماء الدنيا وضراؤها وكأن الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحق والطاعة.
ويقول سبحانه:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَة مِنْ نَبِيّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾(الاعراف:ا94).
ومفاد الآية أن الله تعالى أرسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى العباد وإرشادهم إلى طريق الكمال، غير أن الرفاهة والرخاء والتوغل في النعم المادية، ربما يسبب الطغيان وغفلة الإنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون ويبتهلون إلى الله تعالى5.
ولأجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا بإقامة الحجة والبرهان، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشرين ومنذرين. وكان الترغيب والترهيب من شؤون رسالتهم، قال تعالى:﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ﴾(النساء:165). والإنذار والتبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة وابتعادهم عن المعصية.
وفي كلام الإمام علي عليه السَّلام إشارة إلى هذا قال عليه السَّلام: "أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم مالهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي6. والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك... الخ"7.
وقوله عليه السَّلام : "والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد"، إشار إلى أنّ امتثال الأمر والنهي ونفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب والعقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلاّ من العارفين الذين يعبدون الله تعالى لا رغبة ولا رهبة، بل لكونه مستحقاً للعبادة.
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، والإبتعاد عن المعصية، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.
نعم إذا كانت هذه المبادي كافية في تحريك الأكثرية، نحو الطاعة، ولكن القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصة، كاليسر في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على الله سبحانه؟.
الظاهر لا، إلا من باب الجود والتفضل.
وبذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان مؤثراً في رغبة الأكثرية بالطاعة وترك المعصية يجب من باب الحكمة.
وأما إذا كان مؤثراً في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل والكرم.
وبذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في المقام، أو سقمه.
استدل القاضي عبد الجبار على وجوب اللطف بقوله: "إنه تعالى كلّف المكّلف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد أتخذه، وعلم من حاله أنه لا يجيبه، إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. وكذلك ها هنا"8.
وقال العلامة الحلي: "إن المكلِّف (بالكسر) إذا أن المكلِّف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض"9.
وقال الفاضل المقداد: "إنا بيَّنّا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلا عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة، فإنه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: إما عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه.
ونقض الغرض باطل، لأنه نقص، والنقص عليه تعالى محال، ولأن العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة"10.
وهذه البيانات تدل على أن اللطف واجب من باب الحكمة.
هذا كلام القائلين بوجوب اللطف، وهو على اطلاقه غير تام، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين، فيجب من باب الحكمة، وإلاّ فيرجع إلى وجوده وتفضله من دون إيجاب عليه.
واستدل القائل بعدم وجوبه بقوله: "لووجب اللطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع وفيهم من عصى، تبين أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى"11.
يلاحظ عليه: أنَّ كون العاصي دليلاً على عدم وجوبه، يعرب عن أنّ المستدل لم يقف على حقيقة اللطف، ولذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده، وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقرباً إلى الطاعة ومبعّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء.
يقول القاضي عبد الجبار بان العباد على قسمين، فإن فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح، أو يكون اقرب إلى ذلك. وفيهم من هو خلافه حتى إنْ فَعَلَ به كُلَّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً12.
ويؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك اُناساً لا يؤمنون ابداً ولو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات والمعاجز.
قال سبحانه: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْم لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(يونس:101).
وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَة مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾(البقرة:145).
وفي الختام، نقول: إن اللطف سواء أكان المراد منه اللطف المحصِّل أو اللطف المقرّب، من شؤون الحكمة، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللغو والعبث، لا مناص له عن الإعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب.
ولكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود والكرم، قال: "ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف، إنما وجب من جهة الجود والكرم ،لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه، وأنه لو لم يفعل لكان ظالماً"13.
يلاحظ عليه: إن إيجابه من باب الجود والكرم يختص باللطف الراجع إلى آحاد المكلفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين، كما عرفت.
ثم إن المراد من وجوب اللطف على الله سبحانه، ليس ما يتبادر إلى اذهان السطحيين من الناس، من حاكمية العباد على الله، مع أن له الحكم والفصل ،بل المراد إستكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى.
فإذا علمنا بدليل عقلي قاطع أنه تعالى حكيم، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنه لطيف بعباده، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف، لولا اللطف.
إن اللطف، في اصطلاح المتكلمين، يوصف بوصفين
1- اللطف المُحَصِّل.
2- اللطف المُقَرِّب.
وهناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأول، ومسائل أُخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني، وربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتب على الأول بما يترتب على الثاني. ولأجل الإِحتراز عن ذلك نبحث عن كل منهما، بنحو مستقل.
أ- اللُّطف المحصِّل
اللُّطف المحصِّل عبارة عن القيام بالمبادي والمقدمات الّتي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغا عن الغاية، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرز عن العبث. وذلك كبيان تكاليف الإنسان، وإعطائه القدرة على إمتثالها.
ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلة السابقة، أن الإِنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقة، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة بالإِعتماد على عقله، والإِستغناء عن التعليم السماوي. ووجوب اللطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتفق عليه العقل والنقل1.
اللطف المحصِل في مصطلح المتكلمين
ما ذكرناه من المعنى للطف المحصل، مصطلح خاص لنا وليس معروفاً بين المتكلمين والمعنى المعروف لديهم هو: قيامه سبحانه بعمل تترتب عليه الطاعة.
قال القاضي عبد الجبار: اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار (الواجب) أو ترك القبيح2.
ب: اللُّطف المقرِّب
المراد منه ما يكون موجباً لقرب المكلّف لفعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية، من دون ان يكون له حظ في التمكين ولا يبلغ الإلجاء وذلك كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل وبعده عن المعصية3.
قولهم: "ولاحظ في التمكين" يخرج بعث الرسل وبيان التكليف، وإعطاء القدرة فإنها ممكنة للعبد من الطاعة لا مقربة منها وقد عرفت أن هذا القسم من اللطف داخل في المحصل بالمعنى الأول المختار وقوله: "ولا يبلغ الإلجاء" يخرج ما إذا لم يكن للعبد معه محيص من إختيار الطاعة، فهذا أيضاً إلجاء وليس لطفاً.
إستدلوا على وجوب اللطف مطلقاً أنه تعالى أراد من المكلف الطاعة فإذا علم أنه لا يختار الطاعة (اللطف المحصل) أو لا يكون أقرب إليها إلا عند فعل يفعله به، وجب في الحكمة أن يفعل، إذ لو أخل به لكشف ذلك عن عدم إرادته أو جرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو ظن أنه لا يحضر بدون رسول، فمن لم يرسل عد مناقضاً لغرضه4.
والحق والقول بوجوب اللطف إذا كان مؤثر في قرب الأغلبية الساحقة من المكلفين إلى الطاعة أي ما هو دخيل في نفس الرغبة إلى الطاعة، والإبتعاد عن المعصية في نفوس الأكثرية، فيجب على الله القيام به.
وفي الكتاب والسنة إشارات إلى هذا النوع من اللُّطف. يقول سبحانه: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الاعراف:168).
والمراد من الحسنات والسيئات، نعماء الدنيا وضراؤها وكأن الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحق والطاعة.
ويقول سبحانه:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَة مِنْ نَبِيّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾(الاعراف:ا94).
ومفاد الآية أن الله تعالى أرسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى العباد وإرشادهم إلى طريق الكمال، غير أن الرفاهة والرخاء والتوغل في النعم المادية، ربما يسبب الطغيان وغفلة الإنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون ويبتهلون إلى الله تعالى5.
ولأجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا بإقامة الحجة والبرهان، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشرين ومنذرين. وكان الترغيب والترهيب من شؤون رسالتهم، قال تعالى:﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ﴾(النساء:165). والإنذار والتبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة وابتعادهم عن المعصية.
وفي كلام الإمام علي عليه السَّلام إشارة إلى هذا قال عليه السَّلام: "أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم مالهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي6. والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك... الخ"7.
وقوله عليه السَّلام : "والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد"، إشار إلى أنّ امتثال الأمر والنهي ونفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب والعقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلاّ من العارفين الذين يعبدون الله تعالى لا رغبة ولا رهبة، بل لكونه مستحقاً للعبادة.
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، والإبتعاد عن المعصية، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.
نعم إذا كانت هذه المبادي كافية في تحريك الأكثرية، نحو الطاعة، ولكن القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصة، كاليسر في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على الله سبحانه؟.
الظاهر لا، إلا من باب الجود والتفضل.
وبذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان مؤثراً في رغبة الأكثرية بالطاعة وترك المعصية يجب من باب الحكمة.
وأما إذا كان مؤثراً في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل والكرم.
وبذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في المقام، أو سقمه.
استدل القاضي عبد الجبار على وجوب اللطف بقوله: "إنه تعالى كلّف المكّلف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد أتخذه، وعلم من حاله أنه لا يجيبه، إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. وكذلك ها هنا"8.
وقال العلامة الحلي: "إن المكلِّف (بالكسر) إذا أن المكلِّف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض"9.
وقال الفاضل المقداد: "إنا بيَّنّا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلا عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة، فإنه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: إما عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه.
ونقض الغرض باطل، لأنه نقص، والنقص عليه تعالى محال، ولأن العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة"10.
وهذه البيانات تدل على أن اللطف واجب من باب الحكمة.
هذا كلام القائلين بوجوب اللطف، وهو على اطلاقه غير تام، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين، فيجب من باب الحكمة، وإلاّ فيرجع إلى وجوده وتفضله من دون إيجاب عليه.
واستدل القائل بعدم وجوبه بقوله: "لووجب اللطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع وفيهم من عصى، تبين أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى"11.
يلاحظ عليه: أنَّ كون العاصي دليلاً على عدم وجوبه، يعرب عن أنّ المستدل لم يقف على حقيقة اللطف، ولذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده، وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقرباً إلى الطاعة ومبعّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء.
يقول القاضي عبد الجبار بان العباد على قسمين، فإن فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح، أو يكون اقرب إلى ذلك. وفيهم من هو خلافه حتى إنْ فَعَلَ به كُلَّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً12.
ويؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك اُناساً لا يؤمنون ابداً ولو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات والمعاجز.
قال سبحانه: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْم لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(يونس:101).
وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَة مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾(البقرة:145).
وفي الختام، نقول: إن اللطف سواء أكان المراد منه اللطف المحصِّل أو اللطف المقرّب، من شؤون الحكمة، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللغو والعبث، لا مناص له عن الإعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب.
ولكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود والكرم، قال: "ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف، إنما وجب من جهة الجود والكرم ،لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه، وأنه لو لم يفعل لكان ظالماً"13.
يلاحظ عليه: إن إيجابه من باب الجود والكرم يختص باللطف الراجع إلى آحاد المكلفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين، كما عرفت.
ثم إن المراد من وجوب اللطف على الله سبحانه، ليس ما يتبادر إلى اذهان السطحيين من الناس، من حاكمية العباد على الله، مع أن له الحكم والفصل ،بل المراد إستكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى.
فإذا علمنا بدليل عقلي قاطع أنه تعالى حكيم، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنه لطيف بعباده، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف، لولا اللطف.