وقد وصف هذه الغارة الشنعاء المنكرة بقوله : ((على أن الفاجعة الكبرى كانت على قاب قوسين أو أدنى , تلك الفاجعة التي دلت على منتهى القسوة والهمجية والطمع الاشعبي باسم الدين , وان الجيوش الوهابية تحركت للغزو المختص بالربيع , فارسل الكهية الى الهند إلا انه ما كاد يغادر بغداد حتى وافت اخبار هجوم الوهابيين على كربلاء ونهبهم اياها وهي أقدس المدن الشيعية واعناها))(2).
ثم يصف الهجوم بقوله : (( انتشر خبر اقتراب الوهابيين من كربلاء في عشية اليوم الثاني من نيسان (1801م) عندما كان معظم سكان البلدة في النجف يقومون بالزيارة , فسارع من بقي في المدينة لإغلاق الابواب غير ان الوهابيين , وقد قدروا بستمائة هجمان وأربعمائةفارس نزلوا فنصبوا خيامهم وقسموا قوتهم إلى ثلاثة أقسام , ومن ظل احد الخانات (من ناحية محلة باب المخيم فتحوا ثغرة في السور فدخلوا احد الخانات فجأة) )), هاجموا أقرب باب من أبواب البلد , فتمكنوا من فتحه عسفاً ودخلوا , فدهش السكان واصبحوا يفرون على غير هدى بل كيفما شاء خوفهم (3) أما الوهابيون الخشن فقد شقوا طريقهم الى الاضرحة المقدسة واخذوا يخربونهاو فاقتلعت القضب المعدنية , والسياج ثم المرايا الجسيمة, ونهبت النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشوات والامراء وملوك الفرس, وكذلك سلبت زخارف الجدران وقلع ذهب السقوف, واخذت الشمعدانات والسجاد الفاخر والمعلقات الثمينة , والابواب المرصعة وجميع ما وجد من هذا الضرب وقد سحبت جميعها ونقلت الى الخارج. ثم يذكر المستر لونكريك ما فعلو ا الوهابيين بالبلدة : ((وقتل زيادة على هذه الافاعيل قراب خمسين شخصاً بالقرب من الضريح , وخمسمائة أيضاً خارج الضريح في الصحن, أما البلدة نفسها فقد عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه, كما سرقوا كل دار , ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل , ولم يحترموا النساء ولا الرجال, فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أسرهم, ولقد قدر البعض عدد القتلى بألف نسمة وقدر الاخرون خمسة اضعاف ذلك , ولم يجد وصول الكهية الى كربلاء نفعاً’ فقد جمع جيشه في كربلاء والحلة والكفل , ونقل خزائن النجف الاشرف الى بغداد, ثم حصن كربلاء بسور خاص وعلى هذا لم يقم بأي انتقام للفعلة الشنيعة الاخيرة التي قام بها العدو الذي لا يدرك, قد كان ذلك الحادث الاليم للباشا الشيخ(سليمان باشا الكبير والي بغداد) في عمره هذا صدمة مميتة, وانتشر الرعب والفزع في جميع انحاء تركيا وايران, وبذلك رجع وحوش نجد الكواسر الى مواطنهم ثقالاً على ابلهم التي حملت تحميلاً ثقيلاً نفائس لا تثمن (4). وقد وصف الكثير من المؤرخين هذا الحادث المؤلم لهذه البلدة الاسلامية المقدسة الامنة بكثير من الاستفضاع والاستهجان على نحو ما فعله المستر لونكريك فجاء مثل هدم الوهابيين للحائر المقدس ونهبهم البلدة وقتلهم عشرات اللوف من شيوخ وشبان ونساء ورجال واطفال, أما ما تناولته الكتب عن وصف الغارة الهائلة فقد ذكر الدكتور عبد الجواد الكليدار ناقلاً عن تاريخ كربلاء المعلى بما نصه : ((وبقيت كربلاء وهي مطمئنة البال مدة طويلة تزيد على ثلاثة قرون – يعني بذلك من بعد غارة المشعشعين في سنة 858هـ الى غارة الوهابيين في 1216 - ولم تر في خلالها ما يكدر صفو سكانها حتى اذا جاءت سنة 1216 هـ جهز الامير سعود الوهابي جيشاً عرمرماً مؤلفاً من عشرين الف مقاتل وهجم بهم على مدينة كربلاء وكانت على غاية من الشهرة والفخامة, يؤمها زوار الفرس والترك والعرب , فدخل سعود المدينة بعد ان ضيق عليها وقاتل حاميتها وسكانها قتالاً شديداً, وكان سور المدينة مركباً من أفلاك نخيل مرصوصة خلف حائط من طين , وقدارتكب الجيوش فيها الفظائع ما لايوصف حتى قيل أنه في ليلة واحدةعشرين الف نسمة, وبعد ان تم الامير سعود مهمته الحربية التفت نحو خزائن القبر وكانت مشحونة بالاموال الوفيرة وكل شيئ نفيس , فاخذ كل ما وجد فيها , وقيل انه فتح كنزاً كان فيه جملة جمعت من الزوار, وكان من جملة ما اخذه لؤلؤة كبيرة وعشرين سيفاً محلاة جميعاً بالذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة , وأوانٍ ذهبية وفضية وفيروزج والماس وغيرها من الذخائر النفيسة الجليلة القدر(5). وكان من جملة ما نهبه سعود اثاث الروضة وفرشها منها أربعة الاف (4000) شال كشمير والفان (2000) سيف من الفضة وكثير من البنادق والاسلحة, فذهبوا بما حملوه على جمالهم الى عاصمتهم في الدرعية بعد أن خلفوا ورائهم الدمار والحريق , فقد احرقوا ضريح الامام الحسين (عليه السلام) وكسروا قسماً منه ومن الابواب(6). وإذا استعرضنا بعض ما جاء في الكتب مثل : (( وهدموا القبة الموضوعة على قبر الحسين, وأخذوا ما في القبة وما حولها وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من أنواع الاموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر))(7). وجاء أيضاً: ((وهدموا أركان الحضرتين – حضرة الحسين والعباس – ونهبوا ما في الحضرة الحسينية من نفائس ومجوهرات ثمينة))(8). وجاء ايضاً


وذكر سلمان هادي آل طعمة في كتابه (( كربلاء في الذاكرة)) ناقلاً عن كتاب (( غرائب الاثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر )) لياسين العمري حيث يصف ما حل بالمدينة من تخريب بقوله : \\" لم يبق من بيوتها الا داراً واحدة كانت محصنة بالبناء الشامخ وأجتمع فيها نحو خمسين رجالاً وجعلوا يضربون بالبنادق وقتلوا من الوهابيين عدداً كبيراً))(11).
فما جاء من نصوص بعض الكتب يدل على مدى الفاجعة التي حلت وعدد القتلى والتخريب الذي لحق بالمدينة على اثر الغارة البشعة التي حدثت على حين غرة, وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها , وقد وصف السماوي هذه الحادثة بقوله : فشد لايثني هواه الثاني ومزق الكتاب والمثاني وهد الشباك والرواقا واستلب الحلى والاعلاقا وقتل النساء والاطفالا إذا لم يجد في كربلاء رجالا لأنهم زاروا الغدير قصدا فأرخوه : بغدير عدا كما أرخ الشاعر الازري هذه الواقعة بقوله من قصيدة – الطويل - : ونادى به نادي الصلاح مؤرخاً ((لقد عاودتنا اليوم أرزاء كربلا)) أما الاسباب التي دعت الى حدوث هذه الحادثة فهي تعود الى عدة أمور منها: تعاون السلطة العثمانية الحاكمة والمتمثلة بـعمر آغا العثماني (1800-1802م) الذي كان متعصب المذهب وقد اعدم من قبل السلطان سليمان باشا(12) فهو الذي سهل أمر دخول الوهابيين الى كربلاء حيث لم يعمل أي شيء لحماية البلدة, بل فر هارباً الى قرية قريبة من كربلاء أول علمه بقدوم الوهابيين , وقد اتهم بمخابرة الوهابيين والتواطؤ معهم(13)
أما السبب الاخر الذي جعل الازمة تتفاقم وتتطور هو عدم فهم الطرف الآخر وتعصبهم بشان المراقد و دعواهم الباطلة بان مراقد أئمة الشيعة تجسد إحياء للوثنية, ورغم المحاولات الجادة والموضوعية والمنهجية العلمية التي اتبعتها حوزة النجف المتمثلة بالشيخ جعفر الجناحي الملقب بـ(كاشف الغطاء) للوصول معهم الى نتيجة محددة على اثر المراسلات التي جرت, ولم يكن هذا موقف فقط حوزة النجف من الحركة وهابية بل رد علماء أهل السنة في بغداد على الاتهامات التي ساقها الوهابية الى فرق المسلمين بعد ان اتهموا بالزيغ والضلال لمجرد أنهم لا يرون رأيهم, فكانت رسائل علماء العالم الاسلامي حازمة في رفض التكفير والتشدد الطائفي وحذروا من تفريق كلمة المسلمين وشق وحدتهم (14) والذي يظهر من مذكرات الجاسوس البريطاني مستر همفر أنه تم اعداد محمد بن عبد الوهاب لتنفيذ المخطط البريطاني بالقضاء على الدولة العثمانية أولاً ثم القضاء على الاسلام ثانياً, لذا نراهم اليوم يعادون جميع المسلمين سنة وشيعة فيتهمون السنة بالشرك والشيعة بالكفر وعلى اعتقاد هذا المذهب يكون جميع المسلمين قبل ظهور ابن تيمية وأفكاره المتطرفة خارجين عن ملة الاسلام باعتقاد ابن تيمية وان لم يصرح بذلك (15).
و عن موقف السلطة العثمانية الحاكمة آنذاك فقد كان ضعيف جداً تجاه هذه الغارة , حيث تشير الكتب والمصادر الى ان القوة العسكرية بقيادة (علي باشا) التي أرسلها الوالي (سليمان باشا) لصد الغارة الاخيرة قد تباطأت بالمسير وعسكرت في (الدورة) جنوب غرب بغداد لمدة طويلة تصل الى أسبوع وبشكل يثير الاستغراب بحجة انها تنتضر قوات العشائر, ثم عسكرت في الحلة بدلاً من التوجه بشكل مباشر الى كربلاء, وهناك تلقى (علي باشا) قائد القوة العسكرية خبر الهجوم, من دون القيام بأي عمل لملاحقة الوهابيين الذي باشروا بالهجوم (16).
أما موقف بقية الدول المجاورة فقد تلقت الدولة القاجارية (1795-1925م) في بلاد فارس أنباء واقعة كربلاء باهتمام بالغ واصفة اياها أنها اعتدائات صارخة على المقدسات, وأنها تركت وقع مؤلم في نفوس المسلمين جميعاً, وأمر حاكمها فتح علي شاه(1797-1834م) اعلان الحداد العام في ارجاء بلاده وإقامة المآتم, والاهم من ذلك أنه ارسل الى الوالي العثماني سليمان باشا احتجاج شديد اللهجة ملقياً تبعة ما حصل على عاتق الدولة العثمانية, ومبدياً استعداد بلاده لسحق الوهابيين حسب تعبيره عن قوات تعبر الاراضي العراقية اذا ما استمر الوالي على موقفه المتخاذل عن توفير الحماية للعتبات المقدسة ومطالبا بتعويضات مالية كبيرة عن بعض رعاياه الذين قتلوا وأسروا, وعما نهب من الكنوز الثمينة التي قدمها أسلافه وعما ادعاه من الخسائر المالية التي تعرّض لها التجار الفرس (17). أما عن موقف بريطانيا تجاه هذه الغارة فأنه مؤيد وداعم للحركة من جهة ومن جهة أخرى (مع الدولة القاجارية و الدولة العثمانية) معادي ومحارب لهم ظاهرأً وبدعوى أن هذه القوى تؤدي الى إشاعة الفوضى في البلاد, فعملت بريطانيا تحركات للقضاء على الدولة العثمانية العدو الاول والدولة القاجارية العدو الثاني, وقد نفذت مخططاتها بواسطة قنصلهم في بغداد (هارفورد جونز) والجواسيس الذين كانوا معه, فأصبحت الدولة العثمانية الضعيفة مضطرة للتعامل مع المخططات البريطانية في العراق والاستجابة لمطالبهم, فكان هذا البناء الجاسوسي الذي لعبته بريطانيا يمهد الطريق لغزو بلاد المسلمين والقضاء عليهم والحصول على ثرواتهم (18).
وقد صارت كربلاء بعد هذه الواقعة في حال يرثى لها, فقد أدمت هذه الفاجعة قلوب المسلمين في مختلف أقطار الأرض وهزت العالم الاسلامي بأسره من أدناه الى أقصاه, وقد عاد اليها بعد هذه الحادثة من نجا بنفسه فأصلح بعض خرابها وأعاد اليها العمران رويداً رويداً (19).
________________________
1- بتصرف تاريخ كربلاء وحائر الحسين (عليه السلام): ص(208-209).
2 - راجع تاريخ كربلاء وحائر الحسين(عليه السلام) : ص209.
3 - المصدر السابق
4 - المصدر السابق : ص(208-211).
5 - بتصرف المصدر السابق.
6 - بتصرف دائرة المعارف الحسينية : ج2 ص(118-119).
7 - يراجع هامش (2) دائرة المعارف الحسينية :ج2 ص118
8 - يراجع هامش هامش رقم (1) دائرة المعارف الحسينية:ج2 ص119.
9 - يراجع هامش (3) دائرة المعارف الحسينية : ج2 ص118.
10 - يراجع كربلاء في الذاكرة : ص26.
11 - قوله : (( لقد عاودتنا اليوم ارزاء كربلاء)) يعادل (( 134 + 532 + 87 +210 +254 =1216)), يراجع هامش دائرة المعارف الحسينية: ص120. 12 - سليمان باشا الكبير: والي عثماني حكم العراق في الفترة ما بين سنة (1779-1802م).
13 - يراجع تاريخ كربلاء وحائر الحسين (عليه السلام) :ص(212-213) ,موسوعة العتبات المقدسة :ج8 ص273.
14 - بتصرف غارات القبائل النجدية على كربلاء: ص (111-112).
15 - ينظر مذكرات مستر همفر الجاسوس البريطاني: ص(65-84).
16 - بتصرف غارات القبائل النجدية : ص117.
17 - بتصرف غارات القبائل النجدية: ص118.
18 - ينظر مذكرات مستر همفر الجاسوس البريطاني : ص(65- 84) , و بتصرف غارات القبائل النجدية: ص118.
19 - ينظر تاريخ كربلاء وحائر الامام الحسين (عليه السلام) : ص212.
اترك تعليق: