ذكرى استشهاد الامام الحسن الزكي العسكري في سامراء
بقلم \ مجاهد منعثر منشد
عاش الامام مرافقا ابيه الإمام الهادي (عليه السلام) في حلّه وترحاله .وترعرع في بيت وصفه الشبراوي قائلاً :فللّه درّ هذا البيت الشريف ، والنسب الخضم المنيف ، وناهيك به من فخار ، وحسبُك فيه من علوّ مقدار ، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون ، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً ، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ» ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم ، والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه ، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»1.
لقد ظفر الإمام أبو محمد في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث ( يسبّح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) 2.
قال الامام الهادي (عليه السلام) أنّه امتداد الرسالة والامامة فكان يوليه أكبر اهتمامه ، فقد قال عنه (عليه السلام) :ـ أبو محمد ابني أصحّ آل محمد(صلى الله عليه وآله) غريزةً وأوثقهم حجة . وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها . 3.
الامام العسكري في حياة ابيه الامام الهادي (عليهما السلام )
عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، المعتصم منذ سنة (220 ـ 232 هـ ) والمتوكل (232 ـ 247 هـ) حيث قتل على يد الأتراك ، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين، ثم المستعين (248 ـ 252هـ) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة المعتز (252 ـ 255هـ) حيث كان استشهاد الإمام الهادي سنة (254هـ) تاريخ الطبري : 7 أحداث سنة 234 وسنة 254 هـ ،
وكان عمر الإمام الهادي عند ولادة ابنه الإمام العسكري تسع عشر سنة وتسعة شهور وثمانية أيام ، ولما أشخص الإمام الهادي إلى العراق سنة ست وثلاثين ومائتين أشخص الإمام العسكري معه ، وكان له يومئذٍ من العمر أربع سنين وأشهر.
وقد عاش الإمام العسكري بعدئذٍ مع أبيه الإمام الهادي حتى شهادته في سامراء ، فكان للإمام العسكري يومئذٍ إثنتان وعشرون سنة وشهران وثلاثة وعشرون يوماً .
وعاش بعد والده مدة إمامته هو خمس سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام ، قضاها في سامراء أيضاً ، فكانت مدة حياته الشريفة على نحو التدقيق - سبعاً وعشرين سنة وعشرة أشهر ، وثمانية وعشرين يوماً.
فحينما رُحِّلَ مع أبيه الإمام الهادي بأمر المتوكّل العباسي من المدينة إلى سامراء (سُرَّ مَن رأى) كان عمره سنتين أو أربع سنوات فقط، وكانت المنطقة التي أُسكنوا فيها منطقة الجيش والجند، فلذلك كانت تسمّى (عسكر)، ومَنْ يقيم فيها يسمى (عسكري) نسبة إلى هذه المنطقة، ولهذا أطلق على الإمام هذا اللقب.
وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العباسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً ، إذ إنها كانت تعد مؤشراً على ضعفها ، وتشكل بدايةً لانحلالها ، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة ، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة اُخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى الى تولي المعتز وخلع الاول عام (252هـ) 4.
وجراء الصرعات في كل واحده منها كان له تأثيره المباشر في ايجاد الضعف والانحلال .
والاحداث الداخلية كانت مليئة بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مادر الشاري ، وهناك أيضاً الثورات والانتفاضات العلوية الى جانب نزاعات الطامعين في السلطة .
وان الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والاسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم .
وكان للإمام الهادي (عليه السلام) منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم ، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى ابن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام (234هـ) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال : «فذهبت الى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده ميل الى الدنيا ، فجعلت أسكّنهم ، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد إلاّ مصاحف
وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني» 5.
. وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام الهادي (عليه السلام) من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الاُمة به كما كانت توصله بالأمة ، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمام(عليه السلام) فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة الى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العباسيين أوّلاً ، بالاضافة الى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه الى السيطرة والسلطة ثانياً .
طيلة عقدين من الزمن لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء . وانتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي : «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهادي (عليه السلام) ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد ، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب اسحاق بن إبراهيم لتلقّيه ، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى 6. .
وحتى يتفادى المتوكل المضاعفات أمر باستقدام الإمام الهادي إلى سامراء في محاولة لتقريبه من البلاط بغية عزله عن قواعده الشعبية التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.. والأهم من ذلك لكي يضعه تحت رقابة القصر ويرصد حركاته بعيون جواسيسه.. ومن ثم قتله!.
وحتى لا يثير ضجة تؤدي إلى سخط الأمة عليه وثورتها ضده، لجأ المتوكل إلى الأسلوب الخسيس، الحيلة والخداع والتظاهر بالمودة التي اتبعها أجداده من خلفاء بني العباس مع أئمة أهل البيت الأطهار(عليهم السلام).. فكما فعل المنصور مع الإمام جعفر الصادق وهارون الرشيد مع الإمام موسى الكاظم والمأمون مع الإمامين الرضا والجواد(عليهما السلام) فعل المتوكل نفس الشيء مع الإمام الهادي.. فبعث أحد قادة جيشه (يحيى بن هرثمة) ومعه فرقة من الجند إلى المدينة المنورة، لإحضار الإمام علي الهادي بالقوة إلى سامراء.. وأمرهم بتفتيش بيت الإمام والبحث عن مستمسك أو دليل إدانة بالعمل والتآمر ضد الدولة.. غير أن الله أحبط مسعاهم وخيب آمالهم، يقول ابن هرثمة: )ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم) 7.
وأسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ففرض عليه الاقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به ، وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً ، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر ، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها .
وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّا زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء8.
وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الاشعاع الثوري في أرض الإسلام .
ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته; لأن المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم ، ولم يرد تجاه تلك الاحداث أي تعليق من قبل الإمام الهادي(عليه السلام)، ويمكن أن يقال: «انه لم يرد إلينا عن موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء شيء سوى ما جاء عن موقفه من المتوكل وهو أقل القليل» 9.
حتّى انّ يحيى بن أكثم قال للمتوكل : «ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل ـ أي الإمام (عليه السلام) ـ شيئاً بعد مسائلي هذه وإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها ، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة»10.
لقد سعى جماعة بالامام (عليه السلام) إلى المتوكل ، وأخبروه بأن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها وأنه يطلب الأمر لنفسه ، فارسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلاً ليهجموا على منزله على حين غفلة ، فلمّا باغتوا الإمام (عليه السلام) وجدوه وحده ، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن ، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثُل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجة يتعلّل بها على الإمام (عليه السلام) . فناول المتوكل الإمام (عليه السلام) الكأس الذي في يده .
فقال الإمام (عليه السلام) : ياأمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط ، فأعفني، فأعفاه ، فقال المتوكل : أنشدني شعراً أستحسنه .
قال الإمام (عليه السلام) : إنّي لقليل الرواية للشعر .
قال المتوكل : لا بدّ أن تنشدني شيئاً . فأنشده الإمام (عليه السلام) :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم***غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم***فاُودعوا حفراً يابئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا***أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا***فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا
وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم***ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا***فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطَّلَةً***وساكِنوها الى الأجداث قد رحلوا
فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضر ثم أمر برفع الشراب ، ثم قال ياأبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، وردّه إلى منزله مكرّماً 11.
بعد مقتل المتوكل على يد ابنه المنتصر بدأ عصر انحطاط الخلافة العباسية وبعد أربعة حكّام جاء المعتمد إلى سدة السلطة فبدأ عصر الإرهاب الأكثر دموية واستهتاراً.. وبلغ الإرهاب ضد آل البيت أوجه.. فالمعتمد كان يتخوف من تحركات الإمام ويتوجس منها، فشدد حصاره ووقف مع الطبقة المستأثرة من الموالي والأتراك الذين سيطروا بالكامل على مقاليد الحكم ووقفوا موقفاً غاية في العداء ضد خط الإمام وأطروحاته الفكرية والسياسية.. وسعوا للتشديد عليه والتضييق على تحركاته.. كما سعوا بكل الوسائل الخبيثة لعزله عن المسرح الاجتماعي ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبر صغير عن نشاط الإمام ,فكان الامام العسكري مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس) 12.
بعد استشهاد الإمام الهادي تسلم ولده الإمام الحسن,فحلّ المعتز العباسي محلّ ابن عمّه المستعين، واستشهد الإمام الهادي (عليه السلام) أثناء حكم المعتز، واستشهد أو سُمّ مجموعة من العلويين أيضاً في ظلّ خلافة هذا الخليفة الظالم 13.
بعد استشهاد الإمام الهادي تسلم ولده الإمام الحسن العسكري مركز الإمامة وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وكان قد قضى القسط الأهم من حياته في سامراء وعانى مع أبيه من ظلم بني العباس وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف الصعبة التي واجهت أباه..
وباعتباره المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده، وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية.. بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده الإمام المهدي (عليه السلام ) وقف الإمام العسكري موقفاً حازماً وحذراً من علاقته بالحكم، وامتداداً لموقف أبيه لم يبد انصياعاً للرغبات المريضة والعدائية أو إذلالاً أمام الخليفة وأتباعه.
وفرض شخصيته المؤثرة المستقلة دون أن يثير الريبة والشك به مما أكسبه احتراماً ورفعة وإجلالاً حتى من أشد المعارضين لنهج آل البيت(عليهم السلام) وأكثرهم حقداً وعداوة، وهو الوزير (عبيد الله بن يحيى بن خاقان) الذي يقول: (ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلويين مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبّرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر).غير أن ذلك لم يرق للحكم، الذي رأى في توجهات الإمام العسكري خطراً مبطناً ينطوي على الكثير من التحديات، الأمر الذي فاقم من موجة الإرهاب والضغط عليه وعلى أصحابه، خاصة بعد أن استجدت في عصره ظروف وملابسات أضعفت قبضة السلطة العباسية على بعض الأقاليم والمدن.. ولم تكن قط لصالح الإمام كما كان متوقعاً ,فحتى اللقاء به (عليه السلام)في الطرقات العامّة لم يكن آمنًا، وهذا ما نستشفّه من رواية تنقل عنه أنه كتب إلى بعض شيعته يقول لهم: «ألا لا يُسَلِّمَنَّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تؤمنون على أنفسكم»14.
وورد عنه أنه قال: «ما مُنِيَ أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيتُ به»15.
وركز البلاط العباسي على إبعاد الإمام العسكري عن أصحابه، وإزاء ذلك كان الإمام يتحرك بيقظة وحذر وجدية من أجل أن يضمن سلامة أصحابه . وكان يحث أصحابه على العمل بهمة وسرية تامة ويحذرهم من التمادي في إظهار العداء.. وعندما يستشعر الخطر يأمرهم بتكثيف العمل السري وكتمان الأسرار انطلاقاً من قول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): (اقضوا حوائجكم بالكتمان) أو يأمرهم بالكف عن النشاط مؤقتاً حين يكون مصدر خطر عليهم ويحمل لهم بوادر سوء.. أو عندما يكون أحدهم مراقباً من قبل جواسيس البلاط.. وينبههم من الأخطاء ويحذرهم خشية الوقوع في أحابيل السلطة وشراكها,فقد كتب محذراً إلى (محمد بن علي السمري) وهو من خاصة أصحابه وأحد نواب الحجة المهدي (سلام الله عليه ) في غيبته الصغرى (فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة)16.
ولم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات.. وقد اعتقل ذات مرة جماعة من أصحابه فبعث إليهم الإمام أحد أعوانه ليحذرهم من أحد المعتقلين.. وكان جاسوساً دس بينهم من قبل صاحب الشرطة (صالح بن وصيف): (أخبرهم الإمام (ع) أن يحذروا واحداً في الحبس يدّعي أنه علوي، وهو ليس منهم. وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه. فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام (ع) )17.
وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام (عليه السلام) نفذوا إلى (عثمان بن سعيد العمري السمان) الذي كان يتاجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام , فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه18.
ومع الحذر والحيطة السرية التي اتبعها الإمام ,الا انه كان يوصي أصحابه بالتزام الحق وعدم التهاون في الواجب أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنك من بر وفاجر، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهاذا جاء محمد(صلى الله عليه واله وسلم)، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسر في ذلك، واتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك)19.
ظلت السلطة برمتها في حذر دائم واستنفار وتوجس مستمر من أقوال وأفعال الإمام الحسن العسكري وأصحابه.. فكان الاعتقال ووسائل القهر الإرهابية سيفاً مسلطاً تشهره السلطات بوجه الإمام وأصحابه الذين كانت حياة بعضهم تنتهي بين جدران السجون.. ولقد تم إلقاء القبض على الإمام نفسه مرات، ليبقى في غياهب السجن مدة، ثم يخرج ليسجن ثانية!.
وللحفاظ على وتيرة عمله الجهادي الشريف، وبعد أن شاهد ما يتعرض إليه أصحابه ومناصروه من قهر وذل وما يعانونه من خوف وعذاب جراء سياسة البطش والاضطهاد الذي ينالهم على أيدي المعتمد وجلاوزته، وبناء على ضغط الأحداث أمر الإمام العسكري أتباعه بعد أن توسم فيهم قوة الإرادة والصمود، باتباع أسلوب النشاط السري المحاط بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً، مستهدفاً الحفاظ على حياتهم وإذكاء روح الثورة والأمل في نفوسهم.
ولقد نجحت خطة الإمام أيما نجاح, فبينما واصل أتباعه عملهم بنشاط وسرية، اتبع هو سياسة حكيمة مع مناؤيه مما أكسبه الثقة والاحترام.. خاصة عند الوزير عبيد الله، الذي أثبت مدى احترامه وتقديره للإمام العسكري.. وبهذا تم كسبه لصالح المظلومين .
وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير، لكي يفهمهم أن وقوفه إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والانحراف، الذي يمارسه جهاز الحكم إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد)20.
كل هذه الظروف المريرة عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكري (عليه السلام) وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ نفسه آلاماً وأحزاناً وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة21.
وحبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك.. ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لآبائه مع المتوكل، من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى)22.
وبعد المعتز استلم المهتدي زمام الحكم، وسار هذا الظالم سيرة النفاق، فكان يتظاهر بالزهد ويجتنب البذخ في الظاهر كما انه قام بنفي النساء المغنيات ومنع المنكرات الاخرى وتظاهر باعادة الحقوق العادلة للمظلومين، لكنه احتفظ بالإمام العسكري (عليه السلام) مدة من الزمن في السجن ، بل وحتى اتخذ قراراً بقتله إلاّ انّ الأجل لم يمهله ,فأهلكه الله تعإلى وأثناء خلافة المهتدي ثارت طائفة من العلويين سيق بعضهم إلى السجن وهناك لفظوا آخر أنفاسهم.
يقول احمد بن محمد:
كتبت على أبي محمد الإمام العسكري (عليه السلام)، حين اخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني انه يتهددك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الارض، فوقّع ابومحمد (عليه السلام) بخطه: (ذلك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة ايام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به ) ، فكان كما قال (عليه السلام)23.
فقتل المهتدي في تمرد للاتراك من جيشه وحلّ محلّه المعتمد24.
وفي احدى المرات أُرسل الإمام إلى سجن صالح بن وصيف ، فقالوا له ضيق عليه ولا توسع، فقال لهم صالح: ما اصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى امر عظيم، ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في امر هذا الرجل؟
فقالا: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من انفسنا 25.
وفي مرة اخرى سلم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير ( وهو سجّان آخر) وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق الله فانك لا تدري من في منزلك وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت له اني اخاف عليك منه، فقال: والله لأرمينه بين السباع ثم استأذن في ذلك فأذن له فرمى به إليها ولم يشكوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلي وهي حوله فأمر باخراجه إلى داره 26.
يتبع لطفا
بقلم \ مجاهد منعثر منشد
عاش الامام مرافقا ابيه الإمام الهادي (عليه السلام) في حلّه وترحاله .وترعرع في بيت وصفه الشبراوي قائلاً :فللّه درّ هذا البيت الشريف ، والنسب الخضم المنيف ، وناهيك به من فخار ، وحسبُك فيه من علوّ مقدار ، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون ، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً ، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ» ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم ، والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه ، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»1.
لقد ظفر الإمام أبو محمد في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث ( يسبّح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) 2.
قال الامام الهادي (عليه السلام) أنّه امتداد الرسالة والامامة فكان يوليه أكبر اهتمامه ، فقد قال عنه (عليه السلام) :ـ أبو محمد ابني أصحّ آل محمد(صلى الله عليه وآله) غريزةً وأوثقهم حجة . وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها . 3.
الامام العسكري في حياة ابيه الامام الهادي (عليهما السلام )
عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، المعتصم منذ سنة (220 ـ 232 هـ ) والمتوكل (232 ـ 247 هـ) حيث قتل على يد الأتراك ، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين، ثم المستعين (248 ـ 252هـ) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة المعتز (252 ـ 255هـ) حيث كان استشهاد الإمام الهادي سنة (254هـ) تاريخ الطبري : 7 أحداث سنة 234 وسنة 254 هـ ،
وكان عمر الإمام الهادي عند ولادة ابنه الإمام العسكري تسع عشر سنة وتسعة شهور وثمانية أيام ، ولما أشخص الإمام الهادي إلى العراق سنة ست وثلاثين ومائتين أشخص الإمام العسكري معه ، وكان له يومئذٍ من العمر أربع سنين وأشهر.
وقد عاش الإمام العسكري بعدئذٍ مع أبيه الإمام الهادي حتى شهادته في سامراء ، فكان للإمام العسكري يومئذٍ إثنتان وعشرون سنة وشهران وثلاثة وعشرون يوماً .
وعاش بعد والده مدة إمامته هو خمس سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام ، قضاها في سامراء أيضاً ، فكانت مدة حياته الشريفة على نحو التدقيق - سبعاً وعشرين سنة وعشرة أشهر ، وثمانية وعشرين يوماً.
فحينما رُحِّلَ مع أبيه الإمام الهادي بأمر المتوكّل العباسي من المدينة إلى سامراء (سُرَّ مَن رأى) كان عمره سنتين أو أربع سنوات فقط، وكانت المنطقة التي أُسكنوا فيها منطقة الجيش والجند، فلذلك كانت تسمّى (عسكر)، ومَنْ يقيم فيها يسمى (عسكري) نسبة إلى هذه المنطقة، ولهذا أطلق على الإمام هذا اللقب.
وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العباسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً ، إذ إنها كانت تعد مؤشراً على ضعفها ، وتشكل بدايةً لانحلالها ، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة ، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة اُخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى الى تولي المعتز وخلع الاول عام (252هـ) 4.
وجراء الصرعات في كل واحده منها كان له تأثيره المباشر في ايجاد الضعف والانحلال .
والاحداث الداخلية كانت مليئة بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مادر الشاري ، وهناك أيضاً الثورات والانتفاضات العلوية الى جانب نزاعات الطامعين في السلطة .
وان الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والاسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم .
وكان للإمام الهادي (عليه السلام) منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم ، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى ابن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام (234هـ) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال : «فذهبت الى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ وقامت الدنيا على ساق ، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده ميل الى الدنيا ، فجعلت أسكّنهم ، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد إلاّ مصاحف
وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني» 5.
. وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام الهادي (عليه السلام) من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الاُمة به كما كانت توصله بالأمة ، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمام(عليه السلام) فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة الى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العباسيين أوّلاً ، بالاضافة الى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه الى السيطرة والسلطة ثانياً .
طيلة عقدين من الزمن لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء . وانتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي : «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهادي (عليه السلام) ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد ، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب اسحاق بن إبراهيم لتلقّيه ، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى 6. .
وحتى يتفادى المتوكل المضاعفات أمر باستقدام الإمام الهادي إلى سامراء في محاولة لتقريبه من البلاط بغية عزله عن قواعده الشعبية التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.. والأهم من ذلك لكي يضعه تحت رقابة القصر ويرصد حركاته بعيون جواسيسه.. ومن ثم قتله!.
وحتى لا يثير ضجة تؤدي إلى سخط الأمة عليه وثورتها ضده، لجأ المتوكل إلى الأسلوب الخسيس، الحيلة والخداع والتظاهر بالمودة التي اتبعها أجداده من خلفاء بني العباس مع أئمة أهل البيت الأطهار(عليهم السلام).. فكما فعل المنصور مع الإمام جعفر الصادق وهارون الرشيد مع الإمام موسى الكاظم والمأمون مع الإمامين الرضا والجواد(عليهما السلام) فعل المتوكل نفس الشيء مع الإمام الهادي.. فبعث أحد قادة جيشه (يحيى بن هرثمة) ومعه فرقة من الجند إلى المدينة المنورة، لإحضار الإمام علي الهادي بالقوة إلى سامراء.. وأمرهم بتفتيش بيت الإمام والبحث عن مستمسك أو دليل إدانة بالعمل والتآمر ضد الدولة.. غير أن الله أحبط مسعاهم وخيب آمالهم، يقول ابن هرثمة: )ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم) 7.
وأسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ففرض عليه الاقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به ، وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً ، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر ، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها .
وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّا زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء8.
وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الاشعاع الثوري في أرض الإسلام .
ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته; لأن المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم ، ولم يرد تجاه تلك الاحداث أي تعليق من قبل الإمام الهادي(عليه السلام)، ويمكن أن يقال: «انه لم يرد إلينا عن موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء شيء سوى ما جاء عن موقفه من المتوكل وهو أقل القليل» 9.
حتّى انّ يحيى بن أكثم قال للمتوكل : «ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل ـ أي الإمام (عليه السلام) ـ شيئاً بعد مسائلي هذه وإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها ، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة»10.
لقد سعى جماعة بالامام (عليه السلام) إلى المتوكل ، وأخبروه بأن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها وأنه يطلب الأمر لنفسه ، فارسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلاً ليهجموا على منزله على حين غفلة ، فلمّا باغتوا الإمام (عليه السلام) وجدوه وحده ، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن ، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثُل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجة يتعلّل بها على الإمام (عليه السلام) . فناول المتوكل الإمام (عليه السلام) الكأس الذي في يده .
فقال الإمام (عليه السلام) : ياأمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط ، فأعفني، فأعفاه ، فقال المتوكل : أنشدني شعراً أستحسنه .
قال الإمام (عليه السلام) : إنّي لقليل الرواية للشعر .
قال المتوكل : لا بدّ أن تنشدني شيئاً . فأنشده الإمام (عليه السلام) :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم***غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم***فاُودعوا حفراً يابئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا***أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا***فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا
وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم***ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا***فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطَّلَةً***وساكِنوها الى الأجداث قد رحلوا
فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلّت دموعه لحيته ، وبكى من حضر ثم أمر برفع الشراب ، ثم قال ياأبا الحسن ، أعليك دين ؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، وردّه إلى منزله مكرّماً 11.
بعد مقتل المتوكل على يد ابنه المنتصر بدأ عصر انحطاط الخلافة العباسية وبعد أربعة حكّام جاء المعتمد إلى سدة السلطة فبدأ عصر الإرهاب الأكثر دموية واستهتاراً.. وبلغ الإرهاب ضد آل البيت أوجه.. فالمعتمد كان يتخوف من تحركات الإمام ويتوجس منها، فشدد حصاره ووقف مع الطبقة المستأثرة من الموالي والأتراك الذين سيطروا بالكامل على مقاليد الحكم ووقفوا موقفاً غاية في العداء ضد خط الإمام وأطروحاته الفكرية والسياسية.. وسعوا للتشديد عليه والتضييق على تحركاته.. كما سعوا بكل الوسائل الخبيثة لعزله عن المسرح الاجتماعي ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبر صغير عن نشاط الإمام ,فكان الامام العسكري مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس) 12.
بعد استشهاد الإمام الهادي تسلم ولده الإمام الحسن,فحلّ المعتز العباسي محلّ ابن عمّه المستعين، واستشهد الإمام الهادي (عليه السلام) أثناء حكم المعتز، واستشهد أو سُمّ مجموعة من العلويين أيضاً في ظلّ خلافة هذا الخليفة الظالم 13.
بعد استشهاد الإمام الهادي تسلم ولده الإمام الحسن العسكري مركز الإمامة وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وكان قد قضى القسط الأهم من حياته في سامراء وعانى مع أبيه من ظلم بني العباس وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف الصعبة التي واجهت أباه..
وباعتباره المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده، وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية.. بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده الإمام المهدي (عليه السلام ) وقف الإمام العسكري موقفاً حازماً وحذراً من علاقته بالحكم، وامتداداً لموقف أبيه لم يبد انصياعاً للرغبات المريضة والعدائية أو إذلالاً أمام الخليفة وأتباعه.
وفرض شخصيته المؤثرة المستقلة دون أن يثير الريبة والشك به مما أكسبه احتراماً ورفعة وإجلالاً حتى من أشد المعارضين لنهج آل البيت(عليهم السلام) وأكثرهم حقداً وعداوة، وهو الوزير (عبيد الله بن يحيى بن خاقان) الذي يقول: (ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلويين مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبّرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر).غير أن ذلك لم يرق للحكم، الذي رأى في توجهات الإمام العسكري خطراً مبطناً ينطوي على الكثير من التحديات، الأمر الذي فاقم من موجة الإرهاب والضغط عليه وعلى أصحابه، خاصة بعد أن استجدت في عصره ظروف وملابسات أضعفت قبضة السلطة العباسية على بعض الأقاليم والمدن.. ولم تكن قط لصالح الإمام كما كان متوقعاً ,فحتى اللقاء به (عليه السلام)في الطرقات العامّة لم يكن آمنًا، وهذا ما نستشفّه من رواية تنقل عنه أنه كتب إلى بعض شيعته يقول لهم: «ألا لا يُسَلِّمَنَّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تؤمنون على أنفسكم»14.
وورد عنه أنه قال: «ما مُنِيَ أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيتُ به»15.
وركز البلاط العباسي على إبعاد الإمام العسكري عن أصحابه، وإزاء ذلك كان الإمام يتحرك بيقظة وحذر وجدية من أجل أن يضمن سلامة أصحابه . وكان يحث أصحابه على العمل بهمة وسرية تامة ويحذرهم من التمادي في إظهار العداء.. وعندما يستشعر الخطر يأمرهم بتكثيف العمل السري وكتمان الأسرار انطلاقاً من قول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): (اقضوا حوائجكم بالكتمان) أو يأمرهم بالكف عن النشاط مؤقتاً حين يكون مصدر خطر عليهم ويحمل لهم بوادر سوء.. أو عندما يكون أحدهم مراقباً من قبل جواسيس البلاط.. وينبههم من الأخطاء ويحذرهم خشية الوقوع في أحابيل السلطة وشراكها,فقد كتب محذراً إلى (محمد بن علي السمري) وهو من خاصة أصحابه وأحد نواب الحجة المهدي (سلام الله عليه ) في غيبته الصغرى (فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة)16.
ولم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات.. وقد اعتقل ذات مرة جماعة من أصحابه فبعث إليهم الإمام أحد أعوانه ليحذرهم من أحد المعتقلين.. وكان جاسوساً دس بينهم من قبل صاحب الشرطة (صالح بن وصيف): (أخبرهم الإمام (ع) أن يحذروا واحداً في الحبس يدّعي أنه علوي، وهو ليس منهم. وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه. فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام (ع) )17.
وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام (عليه السلام) نفذوا إلى (عثمان بن سعيد العمري السمان) الذي كان يتاجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام , فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه18.
ومع الحذر والحيطة السرية التي اتبعها الإمام ,الا انه كان يوصي أصحابه بالتزام الحق وعدم التهاون في الواجب أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنك من بر وفاجر، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهاذا جاء محمد(صلى الله عليه واله وسلم)، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسر في ذلك، واتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك)19.
ظلت السلطة برمتها في حذر دائم واستنفار وتوجس مستمر من أقوال وأفعال الإمام الحسن العسكري وأصحابه.. فكان الاعتقال ووسائل القهر الإرهابية سيفاً مسلطاً تشهره السلطات بوجه الإمام وأصحابه الذين كانت حياة بعضهم تنتهي بين جدران السجون.. ولقد تم إلقاء القبض على الإمام نفسه مرات، ليبقى في غياهب السجن مدة، ثم يخرج ليسجن ثانية!.
وللحفاظ على وتيرة عمله الجهادي الشريف، وبعد أن شاهد ما يتعرض إليه أصحابه ومناصروه من قهر وذل وما يعانونه من خوف وعذاب جراء سياسة البطش والاضطهاد الذي ينالهم على أيدي المعتمد وجلاوزته، وبناء على ضغط الأحداث أمر الإمام العسكري أتباعه بعد أن توسم فيهم قوة الإرادة والصمود، باتباع أسلوب النشاط السري المحاط بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً، مستهدفاً الحفاظ على حياتهم وإذكاء روح الثورة والأمل في نفوسهم.
ولقد نجحت خطة الإمام أيما نجاح, فبينما واصل أتباعه عملهم بنشاط وسرية، اتبع هو سياسة حكيمة مع مناؤيه مما أكسبه الثقة والاحترام.. خاصة عند الوزير عبيد الله، الذي أثبت مدى احترامه وتقديره للإمام العسكري.. وبهذا تم كسبه لصالح المظلومين .
وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير، لكي يفهمهم أن وقوفه إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والانحراف، الذي يمارسه جهاز الحكم إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد)20.
كل هذه الظروف المريرة عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكري (عليه السلام) وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ نفسه آلاماً وأحزاناً وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة21.
وحبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك.. ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لآبائه مع المتوكل، من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى)22.
وبعد المعتز استلم المهتدي زمام الحكم، وسار هذا الظالم سيرة النفاق، فكان يتظاهر بالزهد ويجتنب البذخ في الظاهر كما انه قام بنفي النساء المغنيات ومنع المنكرات الاخرى وتظاهر باعادة الحقوق العادلة للمظلومين، لكنه احتفظ بالإمام العسكري (عليه السلام) مدة من الزمن في السجن ، بل وحتى اتخذ قراراً بقتله إلاّ انّ الأجل لم يمهله ,فأهلكه الله تعإلى وأثناء خلافة المهتدي ثارت طائفة من العلويين سيق بعضهم إلى السجن وهناك لفظوا آخر أنفاسهم.
يقول احمد بن محمد:
كتبت على أبي محمد الإمام العسكري (عليه السلام)، حين اخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني انه يتهددك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الارض، فوقّع ابومحمد (عليه السلام) بخطه: (ذلك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة ايام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به ) ، فكان كما قال (عليه السلام)23.
فقتل المهتدي في تمرد للاتراك من جيشه وحلّ محلّه المعتمد24.
وفي احدى المرات أُرسل الإمام إلى سجن صالح بن وصيف ، فقالوا له ضيق عليه ولا توسع، فقال لهم صالح: ما اصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى امر عظيم، ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في امر هذا الرجل؟
فقالا: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من انفسنا 25.
وفي مرة اخرى سلم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير ( وهو سجّان آخر) وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق الله فانك لا تدري من في منزلك وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت له اني اخاف عليك منه، فقال: والله لأرمينه بين السباع ثم استأذن في ذلك فأذن له فرمى به إليها ولم يشكوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلي وهي حوله فأمر باخراجه إلى داره 26.
يتبع لطفا
تعليق