الأسرة سابقاً
اتحسر على تلك الأيام الخوالي التي كنتُ فيها ركيزة مهمة للمجتمع.. كانت لي هيبة الملوك، ووقار الشيوخ.. كانت عودة ربّي من العمل تُنذر بالاستعداد وتوقي الأخطاء.. وكان يُسيطر على الباقين شعور بالاحترام المشوب بالخوف، وحين عودته يسود الهدوء في بيتي الجميل..
كان موعد الطعام موعداً مقدساً لا يمكن التخلف عنه، ليس لأنه يسدّ بطون الجائعين فحسب، ولكن لأنه يجمع شملي ويلمّ شعثي، فالجميع يجتمع على مائدة واحدة، لا يجدون عليها سوى نوع واحد من الطعام وفي بعض الأحيان نوعين، الكلّ يأكل منه ويستلذّ بطعمه المميز فربتي طباخة ماهرة، على رأس تلك المائدة كان ربّي يجلس كملك أو أمير يبدأ بالبسملة إيذاناً ببدء الأكل.. كان السكون يخيّم على الأجواء احتراماً لهذا الملك، لا يتكلمون إلاّ إذا أذن لهم بالكلام ولا يخرجون من البيت إلاّ بعلمه.. وتحلو جلسات السمر على التلفاز فالكلّ يُتابع محطة واحدة.. كانت ربّتي تُساند ربّي وترى كلّ ما يرى، وتُغمض عينيها عمّا لا يراه، تنتظره بشغفٍ وحبٍ واحترامٍ، كانت راحته أكبر همها، فتراها تُهيئ كلّ شيء لأجله من تهيئة طعامه، ونظافة ملابسه، وفراشه إلى نظافة البيت والأطفال، وكانت تحنو عليه حتى وإن قسا عليها..
كنتُ أتمتع سابقاً بدفء العائلة وتفقد أفرادها أحدهم للآخر، فإذا حدث وأن تعرض أحدهم لشيء ما كـ (حادث، مرض، مشكلة) فالكل يُسارع لمساعدته ويبذل الغالي والنفيس دونه ويقلقون لقلقه، ويحزنون لحزنه ويسهرون لراحته.
الأسرة حالياً
أمّا الآن فقد تغيّر اسمي ورسمي، وأصبحت متفككة، فقد غدا أفرادي في كُلِّ وادٍ يهيمون، وعن بعضهم بعيدون،وعن أخبارهم لا يعلمون، ولا من طعام واحد يأكلون، ولا على نفس المائدة يجلسون.. فربّي يخرج صباحاً ويعود مساءً منهك البدن لا يدري عن الأولاد شيئاً.. وربّتي خرجت إلى ساحات العمل المختلفة تُجاهد لتحسين وضعي في ظل هذه الظروف الصعبة، فتعود مجهدة لا تستطيع أن تهتمّ بربّي كالسابق ولا بأفرادي فاستبدلت طعام الأمس بالمعلبات، والأكلات الجاهزة، فتغيّرت نكهة الأكل فلم يعد أحد يستلذّ به، أصبح الاجتماع بهم صعباً؛ لأنهم على التلفاز يتشاجرون وكلٌّ منهم يريد أن يُتابع محطته المفضلة، فكان الحل أن ازداد عدد أجهزة التلفاز، فصاروا لا يتواجدون إلاّ لأخذ المال من ربّي أو ربّتي، وإذا أراد أفرادي الاجتماع لمناقشة أمر يخص العائلة فسأحتاج إلى مواعيد لجمع شملهم، وإذا بدأ النقاش فكلّ واحد منهم يبدأ بفرض مصلحته على الجميع ويراها أهم من البقية، فيتحول النقاش إلى شجار، فتجنبوا اللقاء وأصبح لكلّ فرد عالم يختلف عن عالم الآخر، فربّي متعب لا يُتابع أبناءه وربّتي أجهدها العمل، والمسؤوليات الإضافية أفقدتها هويتها، ففقدتُ هويتي معها، وسُرق مني (الاهتمام، والحنان، والحب، والاحترام) التي أصبحت من الأساطير القديمة.
تعليق