الحياة في مفهومها العميق
إن قضية الحياة المجدّدة في الآخرة، وما يترتّب عليها من حساب وجزاء.. هي من القضايا الاساسية في المعتقَد الإسلامي التي يقوم عليها بناء الدين بعد الإيمان بوحدانية الله سبحانه.
والإسلام الذي أكمله الله وأتمّ به نعمته على المؤمنين ورَضِيه لهم ديناً.. منهاج كامل للحياة، متناسق في مفرداته وفي تكوينه. يتناسق فيه تصوّره الاعتقادي مع قيمه الخُلقية وشرائعه التنظيمية. وهذه كلها تقوم على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية وحقيقة الحياة الآخرة.
والحياة في الواقع ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمتدّ بمقدار عمر الفرد، وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمتد بمقدار عمر الأمة من الناس.. كما أنها ليست هذه الفترة المشهودة التي تمثّل عمر البشرية على الأرض.
إنّ الحياة لَتمتدّ طولاً في الزمان، وعرضاً في الآفاق، وعمقاً في العوالم. تمتدّ في الزمان فتشمل هذه الفترة المشهودة في الدنيا وفترة الحياة الأخرى التي لا نعلم مداها، والتي تُعدّ مدّة الحياة الدنيا بالقياس إليها لحظة في عمر الزمان.
وهي تمتدّ في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض، وناراً تَسَع الكثرة من جميع الأجيال التي قَطَنت في الأرض أحقاباً طويلة.
وهي تمتدّ في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود، وتعبره إلى وجودٍ آخر مُغيَّب مديد يتّسم بالأبدية التي لا تعرف الزمان والمكان. وهو وجود يبدأ من لحظة العبور من الدنيا ( الموت ) ليدخل في آفاق الحياة الآخرة. وعالَم الموت وعالَم الآخرة كلاهما من غيب الله الذي يمتدّ فيه وجود الإنسان.
تمتد الحياة لتستوعب هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا.. إلى تلك المستويات الجديدة في الآخرة.. في النعيم وفي الشقاء على السواء. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست مثل مذاقات هذه الدنيا، ولا تعادل الدنيا بالنسبة إليها جناحَ بعوضة.
الحقيقة التي تسمو بالإنسان
إنّ كل جزئية في الرؤية الإسلاميّة منظورٌ فيها إلى حقيقة الآخرة التي هي دار القرار والاستقرار.. وإلى ما تكوّنه في داخل الإنسان المؤمن من سعة وجمال ورفعة وتعالٍ عن الهموم الدنيوية الصغيرة، وإلى ما تُلوِّن به الخُلقَ اليومي من طُهر ونزاهة وسماحة، ومن تمسّك بالحق وتحرّج وتقوى، وما تولّده في النشاط الإنساني من استقامة وثقة وتصميم.
من هنا ـ أيها الأصدقاء ـ لا تستقيم حياة الإنسان الإسلاميّة بدون يقين في الآخرة. ومن هنا كان تأكيد القرآن الكريم على حقيقة الآخرة.
ومن الواضحات أنّ غياب الإيمان بالآخرة لا يمكن أن تَنبُت في ظلاله حياة إنسانية كريمة معافاة. وإهمال شأن الآخرة يجعل الإنسان لاصقاً بالأرض، عالقاً بالماديّ المحسوس.. كما البهيمة. وفي الانشداد إلى رقعة صغيرة من الزمان والمكان.. يشتد التكالب على المتاع المحدود، وتقوى العبودية للحاجات الصغيرة.. وحينئذٍ يفقد الإنسان إنسانيته.
إنّ كتاب الله يؤكّد على حقيقة الآخرة؛ لأنّها « حقيقة »، والله يَقُصّ الحق، ولأنّ اليقين بها ضرورة لحقيقة الإنسان في التصور والاعتقاد، وفي التعامل والسلوك، وفي الشريعة والنظام.
الإنسان في حركته التكاملية
القرآن الكريم، في كثير من آياته، وقف بالمرصاد لأولئك الذين يَصدُرون عن فهم مقلوب، فيُنكرون الحياة الأخرى التي يستقبلها الإنسان حتماً بعد الموت. وكرّر ذِكرَ الآخرة في موارد عديدة.. ليزداد المؤمن إيماناً.
نقرأ في كتاب الله العزيز قوله تعالى في سورة الجاثية عند دحض مقولات المنكرين: وقالوا: ما هي إلاّ حياتُنا الدنيا، نموتُ ونحيا وما يُهلِكُنا إلاّ الدهر! وما لهم بذلك من علم إنْ هُم إلاّ يظنّون .
وفي سورة الأنعام نقرأ قوله تعالى: وقالوا: ما هي إلاّ حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. ولو تَرى إذ وُقِفوا على ربّهم، قال: أليس هذا بالحق ؟ قالوا: بلى وربِّنا! قال: فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون .
ويذكّر القرآن بالحياة الأخروية القادمة ألواناً من التذكير.. من أجل أن يلتفت الإنسان إلى هذه الحقيقة الوجودية القادمة، ومن أجل أن يبني حياته على قاعدة الإيمان بها كإيمانه بسائر مفردات المعتقَد الحق.
ومن ألوان التذكير القرآني بحقيقة العودة إلى الحياة الآخرية: تذكير الإنسان بالبداية التي تكوّن فيها إنساناً بعد أن لم يكن شيئاً، ذلك أن الخالق المقتدر الذي بدأ خلقَ الإنسان في البدء قادر على أن يعيده بعد موته من جديد: كما بدأكم تَعودون .
ندخل ـ أيها الأصدقاء ـ معاً في أنوار هذه الآيات المباركات الكاشفات:
• في سورة يس: وضَرَبَ لنا مثَلاً ـ ونَسِيَ خَلقَه ـ قال: مَن يُحيي العِظامَ وهي رميم ؟! * قُل: يُحييها الذي أنشأها أوّلَ مرّة، وهو بكلِّ خَلقٍ عليم .
• وفي سورة مريم ويقولُ الإنسانُ.. أإذا ما مِتُّ لَسوفَ أُخرَجُ حيّاً ؟! * أوَ لا يذكرُ الإنسانُ أنّا خَلَقْناه مِن
قبلُ ولم يكُ شيئاً .
• وفي الآية الخامسة والسادسة والسابعة من سورة الحجّ: يا أيّها الناس! إن كنتُم في رَيبٍ مِن البعث.. فإنّا خَلَقناكُم مِن تُرابٍ، ثمّ مِن نطفة .. ذلكَ بأنّ اللهَ هو الحقُّ وأنّه يُحيي الموتى وأنّه على كلِّ شيءٍ قدير * وأنّ الساعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور .
وفي هذا الاتّجاه نقرأ قول الإمام السجّاد زين العابدين عليه السّلام: العَجَب كلُّ العَجَب لمن أنكرَ النَّشأةَ الآخرة وهو يَرى الأولى!
أجَل أيّها الأصدقاء..
إنّ إنشاء الإنسان من التراب وتطوّر الجنين في مراحل تكوّنه، وتطوّر الطفل في مراحل نموّه هو من السُّنَن المستمرّة في الحركة الدائمة إلى الأمام.. فلا يكون الموت عندئذ إلاّ حركة تطوّرية إلى الأمام تنفتح للإنسان بعده نشآت ونشآت.
ودلالة هذه الأطوار الحياتية على البعث دلالة مزدوجة، فهي تدلّ على البعث بلحاظ أنّ القادر على الإنشاء الأوّليّ قادر على الإعادة، وتدلّ على البعث لأنّه استمرار لمراحل النموّ والتحوّل والتطوّر في حياة الإنسان.. حتّى يصل إلى تكامله الوجودي.
المصابيح الهادية
النصوص الإسلاميّة المذكِّرة بالحياة الآخرة وبالمعاد.. غالباً ما تحمل أُفقين. الأفق الأوّل يكشف عن الحقائق المرتبطة بالموضوع بوصفها جزءً من المعتقَد الإسلاميّ الذي ينبغي أن يتعرّف عليه المؤمن. والأفق الثاني أنّ هذه النصوص ليست نصوصاً تعليمية ساكنة أو جامدة، بل هي متحرّكة موّاجة ملِئة بالحسّ العميق الذي يصبغ بصبغته داخلَ الإنسان ويجعله ـ تلقائيّاً ـ يتّخذ موقفاً عملياً من هذه المعاني الأخروية. وهذا هو شأن النصّ الديني الهادي الذي يهتمّ بحياة الإنسان ومصيره، ويريد له أن يقترب من صراط الحق، ويحذر الغفلة وتضييع العمر فيما لا يُفيد.
هذه السمة ـ يا أصدقاءنا ـ من مزايا النصّ الديني الإسلاميّ، لكنها أكثر وضوحاً وأوفر ظهوراً فيما يتّصل بالكلام عن الموت وما بعد الموت.. وذلك صَوناً للإنسان من الخراب والخسران، وإرادةً لتبصيره وهدايته، ليكون في العالَم الآخَر من الناجحين الفائزين.
ومَن يقرأ في القرآن الكريم، وفي أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفي كتاب ( نهج البلاغة )، وكلمات الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام.. يجد هذه الظاهرة الرحيمة المنقذة واضحة في تنويرها وتبصيرها الإنسان، ويجد في هذه النصوص القيّمة والكلمات العظيمة دفعاً رفيقاً حانياً يدفعه إلى الدخول في هذه المعاني والتلبّس بها.. ليغدو الإنسان إنساناً سويّاً يمشي على صراط مستقيم.
• نقرأ مثلاً هذا التبصير النبويّ الكريم: « يا بني عبدالمطّلب! إنّ الرائد لا يَكذِبُ أهلَه؛ والذي بَعَثني بالحقّ.. لَتَمُوتُنَّ كما تنامون، ولَتُبعَثُنَّ كما تستيقظون. وما بعد الموت إلاّ جنّة أو نار. وخَلقُ جميع الخَلْق وبَعثُهم ـ على الله عزّوجلّ ـ كخلقِ نفسٍ واحدة وبعثِها، قال الله تعالى: وما خَلْقُكُم ولا بَعثُكُم إلاّ كنفسٍ واحدة .
• ونقرأ في كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام هذا التصوير الحضوري المتدفق بالحركة والشعور: «.. حتّى إذا تَصرّمَت الأمور، وتَقَضَّت الدهور، وأزِفَ النشور.. أخرجهم من ضرائحِ القبور، وأوكارِ الطيور، وأوجِرةِ السِّباع، ومَطارحِ المهالك.. سِراعاً إلى أمرِه، مُهطِعينَ إلى مَعادِه... ».
• وهذا نصّ علَويّ آخر من نهج البلاغة: «.. حتّى إذا بلغ الكتابُ أجلَه، والأمرُ مقاديره، وأُلحِقَ آخِرُ الخَلْق بأوّله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه.. أمادَ السماءَ وفَطَرها، وأرَجَّ الأرضَ وأرجفَها، وقَلَع جبالَها ونَسَفها، ودَكّ بعضُها بعضاً من هيبةِ جلالته ومَخُوفِ سَطوَتهِ، وأخرَجَ مَن فيها فجدّدهم بعد إخلاقِهم، وجَمَعهُم بعد تفرّقهم. ثمّ ميّزهم لِما يريد من مُساءلتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال، وجعلهم فريقَين: أنعمَ على هؤلاء، وانتَقَم مِن هؤلاء ».
• ويصوّر نصٌّ آخر انكشافَ السرائر البشرية في القيامة وبروز الإنسان لله الواحد القهّار. يقول الإمام عليّ عليه السّلام: « فكأنّكم بالساعةِ تَحدُوكم... وكأنّ الصيحة قد أتَتكُم، والساعة قد غَشِيَتكُم، وبَرَزتُم لفصل القضاء؛ قد زاحَت عنكم الأباطيل، واضمحلّت عنكم العِلَل.. ».
وهذه مصابيح أيضاً
وإذا انتقلنا من ( نهج البلاغة ) إلى كتاب ( غُرَر الحِكَم ) الذي يضمّ كلمات قيمة للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.. رأينا هذه السمة ظاهرة فيه؛ سمة التذكير المبصِّر والتعليم المنوِّر الذي يجسّد أمامَنا « الموتَ » وما بعده تجسيداً حضورياً مؤثّراً:
نقرأ معاً هذه المجموعة الهادية من المصابيح:
• الموتُ ألزَمُ لكم من ظلّكم، وأملَكُ لكم من أنفسكم.
• أسمِعوا دعوةَ الموت آذانَكُم قبل أن يُدعى بكم.
• إيّاكَ أن يَنزِلَ بك الموتُ وأنتَ آبِق عن ربّك في طلب الدنيا.
• إنّ أمراً لا تَعلَمُ متى يَفجأك ينبغي أن تستعدّ له قبل أن يَغشاك.
• عُجِبتُ لمن يرى أنّه يُنقَص كلَّ يوم في نفسهِ وعمره.. وهو لا يتأهّب للموت!
• إنّ الموت لَمعقودٌ بِنَواصيكم، والدنيا تُطوى مِن خلفكم.
وأخيراً نُبصر هذا المصباح الكاشف الجليل الضوء:
• لا تَغترّنَّ بالأمن؛ فإنك مأخوذٌ مِن مأمنك!
نسأل الله لنا ولكم ـ أيّها الأصدقاء ـ أن يوقظنا من نومة الغافلين، وأن يبصّرنا ما نحن إليه صائرون، وألاّ يُخرِجَنا من الدنيا حتّى يرضى عنّا، وأن يرزقنا شفاعة حبيبه محمد وآله الطاهرين.
إن قضية الحياة المجدّدة في الآخرة، وما يترتّب عليها من حساب وجزاء.. هي من القضايا الاساسية في المعتقَد الإسلامي التي يقوم عليها بناء الدين بعد الإيمان بوحدانية الله سبحانه.
والإسلام الذي أكمله الله وأتمّ به نعمته على المؤمنين ورَضِيه لهم ديناً.. منهاج كامل للحياة، متناسق في مفرداته وفي تكوينه. يتناسق فيه تصوّره الاعتقادي مع قيمه الخُلقية وشرائعه التنظيمية. وهذه كلها تقوم على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية وحقيقة الحياة الآخرة.
والحياة في الواقع ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمتدّ بمقدار عمر الفرد، وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمتد بمقدار عمر الأمة من الناس.. كما أنها ليست هذه الفترة المشهودة التي تمثّل عمر البشرية على الأرض.
إنّ الحياة لَتمتدّ طولاً في الزمان، وعرضاً في الآفاق، وعمقاً في العوالم. تمتدّ في الزمان فتشمل هذه الفترة المشهودة في الدنيا وفترة الحياة الأخرى التي لا نعلم مداها، والتي تُعدّ مدّة الحياة الدنيا بالقياس إليها لحظة في عمر الزمان.
وهي تمتدّ في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض، وناراً تَسَع الكثرة من جميع الأجيال التي قَطَنت في الأرض أحقاباً طويلة.
وهي تمتدّ في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود، وتعبره إلى وجودٍ آخر مُغيَّب مديد يتّسم بالأبدية التي لا تعرف الزمان والمكان. وهو وجود يبدأ من لحظة العبور من الدنيا ( الموت ) ليدخل في آفاق الحياة الآخرة. وعالَم الموت وعالَم الآخرة كلاهما من غيب الله الذي يمتدّ فيه وجود الإنسان.
تمتد الحياة لتستوعب هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا.. إلى تلك المستويات الجديدة في الآخرة.. في النعيم وفي الشقاء على السواء. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست مثل مذاقات هذه الدنيا، ولا تعادل الدنيا بالنسبة إليها جناحَ بعوضة.
الحقيقة التي تسمو بالإنسان
إنّ كل جزئية في الرؤية الإسلاميّة منظورٌ فيها إلى حقيقة الآخرة التي هي دار القرار والاستقرار.. وإلى ما تكوّنه في داخل الإنسان المؤمن من سعة وجمال ورفعة وتعالٍ عن الهموم الدنيوية الصغيرة، وإلى ما تُلوِّن به الخُلقَ اليومي من طُهر ونزاهة وسماحة، ومن تمسّك بالحق وتحرّج وتقوى، وما تولّده في النشاط الإنساني من استقامة وثقة وتصميم.
من هنا ـ أيها الأصدقاء ـ لا تستقيم حياة الإنسان الإسلاميّة بدون يقين في الآخرة. ومن هنا كان تأكيد القرآن الكريم على حقيقة الآخرة.
ومن الواضحات أنّ غياب الإيمان بالآخرة لا يمكن أن تَنبُت في ظلاله حياة إنسانية كريمة معافاة. وإهمال شأن الآخرة يجعل الإنسان لاصقاً بالأرض، عالقاً بالماديّ المحسوس.. كما البهيمة. وفي الانشداد إلى رقعة صغيرة من الزمان والمكان.. يشتد التكالب على المتاع المحدود، وتقوى العبودية للحاجات الصغيرة.. وحينئذٍ يفقد الإنسان إنسانيته.
إنّ كتاب الله يؤكّد على حقيقة الآخرة؛ لأنّها « حقيقة »، والله يَقُصّ الحق، ولأنّ اليقين بها ضرورة لحقيقة الإنسان في التصور والاعتقاد، وفي التعامل والسلوك، وفي الشريعة والنظام.
الإنسان في حركته التكاملية
القرآن الكريم، في كثير من آياته، وقف بالمرصاد لأولئك الذين يَصدُرون عن فهم مقلوب، فيُنكرون الحياة الأخرى التي يستقبلها الإنسان حتماً بعد الموت. وكرّر ذِكرَ الآخرة في موارد عديدة.. ليزداد المؤمن إيماناً.
نقرأ في كتاب الله العزيز قوله تعالى في سورة الجاثية عند دحض مقولات المنكرين: وقالوا: ما هي إلاّ حياتُنا الدنيا، نموتُ ونحيا وما يُهلِكُنا إلاّ الدهر! وما لهم بذلك من علم إنْ هُم إلاّ يظنّون .
وفي سورة الأنعام نقرأ قوله تعالى: وقالوا: ما هي إلاّ حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. ولو تَرى إذ وُقِفوا على ربّهم، قال: أليس هذا بالحق ؟ قالوا: بلى وربِّنا! قال: فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون .
ويذكّر القرآن بالحياة الأخروية القادمة ألواناً من التذكير.. من أجل أن يلتفت الإنسان إلى هذه الحقيقة الوجودية القادمة، ومن أجل أن يبني حياته على قاعدة الإيمان بها كإيمانه بسائر مفردات المعتقَد الحق.
ومن ألوان التذكير القرآني بحقيقة العودة إلى الحياة الآخرية: تذكير الإنسان بالبداية التي تكوّن فيها إنساناً بعد أن لم يكن شيئاً، ذلك أن الخالق المقتدر الذي بدأ خلقَ الإنسان في البدء قادر على أن يعيده بعد موته من جديد: كما بدأكم تَعودون .
ندخل ـ أيها الأصدقاء ـ معاً في أنوار هذه الآيات المباركات الكاشفات:
• في سورة يس: وضَرَبَ لنا مثَلاً ـ ونَسِيَ خَلقَه ـ قال: مَن يُحيي العِظامَ وهي رميم ؟! * قُل: يُحييها الذي أنشأها أوّلَ مرّة، وهو بكلِّ خَلقٍ عليم .
• وفي سورة مريم ويقولُ الإنسانُ.. أإذا ما مِتُّ لَسوفَ أُخرَجُ حيّاً ؟! * أوَ لا يذكرُ الإنسانُ أنّا خَلَقْناه مِن
قبلُ ولم يكُ شيئاً .
• وفي الآية الخامسة والسادسة والسابعة من سورة الحجّ: يا أيّها الناس! إن كنتُم في رَيبٍ مِن البعث.. فإنّا خَلَقناكُم مِن تُرابٍ، ثمّ مِن نطفة .. ذلكَ بأنّ اللهَ هو الحقُّ وأنّه يُحيي الموتى وأنّه على كلِّ شيءٍ قدير * وأنّ الساعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور .
وفي هذا الاتّجاه نقرأ قول الإمام السجّاد زين العابدين عليه السّلام: العَجَب كلُّ العَجَب لمن أنكرَ النَّشأةَ الآخرة وهو يَرى الأولى!
أجَل أيّها الأصدقاء..
إنّ إنشاء الإنسان من التراب وتطوّر الجنين في مراحل تكوّنه، وتطوّر الطفل في مراحل نموّه هو من السُّنَن المستمرّة في الحركة الدائمة إلى الأمام.. فلا يكون الموت عندئذ إلاّ حركة تطوّرية إلى الأمام تنفتح للإنسان بعده نشآت ونشآت.
ودلالة هذه الأطوار الحياتية على البعث دلالة مزدوجة، فهي تدلّ على البعث بلحاظ أنّ القادر على الإنشاء الأوّليّ قادر على الإعادة، وتدلّ على البعث لأنّه استمرار لمراحل النموّ والتحوّل والتطوّر في حياة الإنسان.. حتّى يصل إلى تكامله الوجودي.
المصابيح الهادية
النصوص الإسلاميّة المذكِّرة بالحياة الآخرة وبالمعاد.. غالباً ما تحمل أُفقين. الأفق الأوّل يكشف عن الحقائق المرتبطة بالموضوع بوصفها جزءً من المعتقَد الإسلاميّ الذي ينبغي أن يتعرّف عليه المؤمن. والأفق الثاني أنّ هذه النصوص ليست نصوصاً تعليمية ساكنة أو جامدة، بل هي متحرّكة موّاجة ملِئة بالحسّ العميق الذي يصبغ بصبغته داخلَ الإنسان ويجعله ـ تلقائيّاً ـ يتّخذ موقفاً عملياً من هذه المعاني الأخروية. وهذا هو شأن النصّ الديني الهادي الذي يهتمّ بحياة الإنسان ومصيره، ويريد له أن يقترب من صراط الحق، ويحذر الغفلة وتضييع العمر فيما لا يُفيد.
هذه السمة ـ يا أصدقاءنا ـ من مزايا النصّ الديني الإسلاميّ، لكنها أكثر وضوحاً وأوفر ظهوراً فيما يتّصل بالكلام عن الموت وما بعد الموت.. وذلك صَوناً للإنسان من الخراب والخسران، وإرادةً لتبصيره وهدايته، ليكون في العالَم الآخَر من الناجحين الفائزين.
ومَن يقرأ في القرآن الكريم، وفي أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفي كتاب ( نهج البلاغة )، وكلمات الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام.. يجد هذه الظاهرة الرحيمة المنقذة واضحة في تنويرها وتبصيرها الإنسان، ويجد في هذه النصوص القيّمة والكلمات العظيمة دفعاً رفيقاً حانياً يدفعه إلى الدخول في هذه المعاني والتلبّس بها.. ليغدو الإنسان إنساناً سويّاً يمشي على صراط مستقيم.
• نقرأ مثلاً هذا التبصير النبويّ الكريم: « يا بني عبدالمطّلب! إنّ الرائد لا يَكذِبُ أهلَه؛ والذي بَعَثني بالحقّ.. لَتَمُوتُنَّ كما تنامون، ولَتُبعَثُنَّ كما تستيقظون. وما بعد الموت إلاّ جنّة أو نار. وخَلقُ جميع الخَلْق وبَعثُهم ـ على الله عزّوجلّ ـ كخلقِ نفسٍ واحدة وبعثِها، قال الله تعالى: وما خَلْقُكُم ولا بَعثُكُم إلاّ كنفسٍ واحدة .
• ونقرأ في كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام هذا التصوير الحضوري المتدفق بالحركة والشعور: «.. حتّى إذا تَصرّمَت الأمور، وتَقَضَّت الدهور، وأزِفَ النشور.. أخرجهم من ضرائحِ القبور، وأوكارِ الطيور، وأوجِرةِ السِّباع، ومَطارحِ المهالك.. سِراعاً إلى أمرِه، مُهطِعينَ إلى مَعادِه... ».
• وهذا نصّ علَويّ آخر من نهج البلاغة: «.. حتّى إذا بلغ الكتابُ أجلَه، والأمرُ مقاديره، وأُلحِقَ آخِرُ الخَلْق بأوّله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه.. أمادَ السماءَ وفَطَرها، وأرَجَّ الأرضَ وأرجفَها، وقَلَع جبالَها ونَسَفها، ودَكّ بعضُها بعضاً من هيبةِ جلالته ومَخُوفِ سَطوَتهِ، وأخرَجَ مَن فيها فجدّدهم بعد إخلاقِهم، وجَمَعهُم بعد تفرّقهم. ثمّ ميّزهم لِما يريد من مُساءلتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال، وجعلهم فريقَين: أنعمَ على هؤلاء، وانتَقَم مِن هؤلاء ».
• ويصوّر نصٌّ آخر انكشافَ السرائر البشرية في القيامة وبروز الإنسان لله الواحد القهّار. يقول الإمام عليّ عليه السّلام: « فكأنّكم بالساعةِ تَحدُوكم... وكأنّ الصيحة قد أتَتكُم، والساعة قد غَشِيَتكُم، وبَرَزتُم لفصل القضاء؛ قد زاحَت عنكم الأباطيل، واضمحلّت عنكم العِلَل.. ».
وهذه مصابيح أيضاً
وإذا انتقلنا من ( نهج البلاغة ) إلى كتاب ( غُرَر الحِكَم ) الذي يضمّ كلمات قيمة للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.. رأينا هذه السمة ظاهرة فيه؛ سمة التذكير المبصِّر والتعليم المنوِّر الذي يجسّد أمامَنا « الموتَ » وما بعده تجسيداً حضورياً مؤثّراً:
نقرأ معاً هذه المجموعة الهادية من المصابيح:
• الموتُ ألزَمُ لكم من ظلّكم، وأملَكُ لكم من أنفسكم.
• أسمِعوا دعوةَ الموت آذانَكُم قبل أن يُدعى بكم.
• إيّاكَ أن يَنزِلَ بك الموتُ وأنتَ آبِق عن ربّك في طلب الدنيا.
• إنّ أمراً لا تَعلَمُ متى يَفجأك ينبغي أن تستعدّ له قبل أن يَغشاك.
• عُجِبتُ لمن يرى أنّه يُنقَص كلَّ يوم في نفسهِ وعمره.. وهو لا يتأهّب للموت!
• إنّ الموت لَمعقودٌ بِنَواصيكم، والدنيا تُطوى مِن خلفكم.
وأخيراً نُبصر هذا المصباح الكاشف الجليل الضوء:
• لا تَغترّنَّ بالأمن؛ فإنك مأخوذٌ مِن مأمنك!
نسأل الله لنا ولكم ـ أيّها الأصدقاء ـ أن يوقظنا من نومة الغافلين، وأن يبصّرنا ما نحن إليه صائرون، وألاّ يُخرِجَنا من الدنيا حتّى يرضى عنّا، وأن يرزقنا شفاعة حبيبه محمد وآله الطاهرين.
تعليق