فمن ذلك عجز بلغاء العرب عن الاتيان بمثله في فصاحته ونظمه مع علمهم بان النبي صلى الله عليه واله قد جعله علما على صدقه وسماعهم للتحدي فيه على ان ياتوا بسورة من مثله هذا مع اجتهادهم في دفع ما اتى به صلى الله عليه واله وتوفر دواعيهم الى ابطال امره وفل جمعه واستفراغ مقدورهم في اذيته وتعذيب اصحابه وطرد المؤمنين به ثم ما فعلوه بعد ذلك من بذل النفوس والاموال في حربه والحرص على اهلاكه مع علمهم بان ذلك لا يشهد بكذبة ولا فيه ابطال الحجة ولا يقوم مقام معارضته فيما جعله دلالة على صدقه وتحداهم على الاتيان بمثله وقد كانوا قوما فصحاء حكماء عقلاء خصماء لا يصبرون على التقريع ولا يتغاضون عن التعجيز وعاداتهم معروفة في الشرع الى الافتخار وتحدي بعضهم لبعض بالخطب والاشعار وفي انصرافهم عن المعارضة دلالة على انها كانت متعذرة عليهم وفي التجائهم الى الحروب الشاقة دونها بيان انها الايسر عندهم وأي عاقل يطلب امرا بما فيه هلاك حاله والتغرير بنفسه وهو يقدر على كلام يقوله يغنيه بذلك وينال به امله ومراده فلا يفعله هذا ما لا يتصور في العقل ولا يثبت في الوهم وفي عجزهم الذي ذكرناه حجة في بيان معجز القرآن وفي صحة نبوة نبينا صلى الله عليه واله ومن ذلك ما يتضمنه من اخبار الدهور الماضية واحوال القرون الخالية وانباء الامم الغابرة ووصف الديار الداثرة وقصص الانبياء المتقدمين وشرح احكام أهل الكتابين مما لا يقدر عليه إلا من اختص بهم وانقطع الى الاطلاع في كتبهم وسافر في لقاء علمائهم وصحب رؤساءهم ولما كان نبينا صلى الله عليه واله معلوم المولد والدار والمنشا والقرار لا تخفي احواله ولا تستتر افعاله لم يلف قط قبل بعثته مدارسا لكتاب ولا رئي مخالطا لاهل الكتاب ولم يزل معروفا بالانفراد عنهم غير مختص باحد منهم ولا سافر لاتباع عالم سرا ولا جهرا ولا احتال في نيل ذلك اولا ولا آخرا علم انه لم ياخذ ذلك إلا عن رب العالمين دون الخلائق اجمعين وثبت صدقه وحجته واعجاز القرآن الوارد على يده وكان قول الله عزوجل * (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا الى موسى الامر وما كنت من الشاهدين) * سورة القصص وقوله عزوجل * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا و لكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما اتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) * سورة القصص يعضد ما ذكرناه ويشهد بصحة ما وصفناه ومن ذلك ايضا ما ثبت فيه من الاخبار بالكائنات كونها واعلام ما في القلوب وضمائرها كقوله سبحانه في اليهود من أهل خيبر * (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون واكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا اذى وان يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) * سورة آل عمران وكان الامر في هزيمتهم وخذلانهم كما قال سبحانه وقال في قصة بدر تشجيعا للمسلمين واخبارا لهم عن عاقبة امرهم وأمر المشركين * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * سورة القمر وكان ذلك يقينا كما قال سبحانه * (وقال فيهم الذين ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) * سورة الانفال فكان الظفر قريبا كما قال سبحانه وقال عز اسمه * (واورثكم ارضهم وديارهم واموالهم وارضا لم تطئوها) * يعني العراق وفارس فكان الامر كما قال سبحانه وقال عزوجل * (الم غلبت الروم في ادنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) * سورة الروم فاخبر الله تعالى عن ظفرهم بغلبهم وغلبتهم له وحدد زمان ذلك وحصره فكان الامر فيه حسب ما قال سبحانه وقال عزوجل * (يا ايها الذين هادوا ان زعمتم انكم اولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين ولا يتمنونه ابدا بما قدمت ايديهم والله عليم بالظالمين) * سورة الجمعة فقطع على بغيهم واعلم انهم لا يتمنون الموت فلم يقدر احد منهم على دفعه ولا اظهر تمنيه كان الامر في ذلك موافقا لما قال سبحانه * (ويقولون في انفسهم لو لا يعذبنا الله بما نقول) * سورة المجادلة فاخبر عن ضمائرهم بما في سرائرهم قبل ان يبدو على السنتهم وكان الامر كما قال سبحانه وقال في ابي لهب وهو حي متوقع منه الايمان والبصيرة والاسلام * (تبت يدا أبي لهب وتب) * سورة المسد فمات على كفره ولم يصر الى الاسلام وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه واله * (انا كفيناك المستهزئين) * سورة الحجر وكلهم يومئذ حي عزيز في قومه فاهلكهم الله اجمعين وكفاه امرهم على ما اخبر به وامثال ذلك كثيرة يطول بها الكتاب وقد ذكرها أهل العلم.
وهذا طرف منها يدل على معجزة القرآن وصدق من اتى به

تعليق