بسم الله الرحمن الرحيم
هنا نُشير إلى مسألةٍ مهمة وعدم الالتفات لها سبب العديد من الشبهات حول القران الكريم، وهي إنَّ القران الكريم قد استعمل في عدة موارد كلمات غير عربية وقد احصاها بعضهم الى تسع موارد مختلفة ككلمة الطور و كلمة الفردوس، والفردوس ليست كلمةً عربية، ولعلَّها من أصلٍ فارسي، واستعمل كلمة سجِّيل وهي من أصلٍ فارسي أيضاً -كما قيل - ومعناها الحجر الصلب. واستعمل كلمة المشكاة، والمشكاة ليست كلمةً عربية. وكذلك الاستبرق بمعنى الحرير، والقسطاس وهي من أصولٍ حبشية كما قيل. وهناك عددٌ آخر من الكلمات استعملها القرآن الكريم رغم انَّها لم تكن من أصلٍ عربي.
من هنا انبرى بعض المسيحيين، وبعض المشكِّكين فقالوا: كيف يصفُ القرآن نفسه بأنَّه قرآن عربي، فيقول في بعض الآيات: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ والحال أنَّه قد استعمل في القرآن عدداً من الكلمات غير العربية.
جواب الشبهة:
هذا إشكال يثيره بعض المسيحيين وبعض المشكِّكين، وهو إشكالٌ واهن، وذلك لأنَّ استعمال القرآن لكلماتٍ محدودة من أصل غيرِ عربي لا ينفي عنه وصف العربيَّة، لماذا؟ لأنَّ وصف خطابٍ بلغةٍ معيَّنة أو نسبة كتابٍ إلى لغة معينة يتقوم بركنين أساسيين:
الركن الأول:هو إنَّ الكتاب يعتمد الأسلوب والتراكيب والتصريفات –تصريفات الأفعال- التي هي مقرَّرة في تلك اللغة المنتسب إليها، ويعتمد القواعد والضوابط اللغويَّة المعتمدة في تلك اللغة التي ينتسب إليها ذلك الكتاب، هذا هو الركن الأول. فإذا وجدنا كتاباً يُوصفُ بأنَّه كتاب عربي مثلاً وكان هذا الكتاب من حيثُ تراكيب جمله وتصريفات أفعاله والقواعد المعتمدة وأدوات الربط فيه كلها عربية فإنَّه يكون قد توفَّر على الركن الأول المصحِّح لنسبته إلى العربية.
الركن الثاني: هو ان تكون الغالبيَّة العظمى لمفرداته من هذه اللغة التي انتسب إليها. فإذا كان كذلك فقد توفَّر على الركن الثاني المصحِّح لنسبة ذلك الكتاب إلى تلك اللغة.
وعليه فلننظر للقرآن المجيد، والذي وصف نفسه بأنَّه كتابٌ عربي، هل هو واجد للركنين اللذين ذكرناهما؟ بلا إشكال، وبلا ريب، القرآن:
والجواب هو انُّه بأدنى ملاحظة نجد انَّ تراكيب الجمل في القرآن هي على نسق التراكيب العربية دون استثناء. ونجد انَّ تصريفات الأفعال وأسماء الفاعل وأسماء المفعول والصفات المشبِّهة والمصادر وسائر الاشتقاقات مصوغة على النسق المقرَّر في اللغة العربية، وكذلك نجد أدوات الربط فيه: من حروف الجر وغيرها هي أدوات الربط في اللغة العربية. إذن فالركن الأول متحقِّق دون ريب في التراكيب اللفظية القرآنيَّة.
وأما الركن الثاني وهو مفردات القرآن من الأسماء ومواد الأفعال ومواد أسماء الفاعل والمفعول والصفات المشبهة، فانَّ الغالبية العظمى والساحقة هو انها مفردات من اصولٍ عربيَّة وليس في مقابل ذلك إلا نزرٌ يسيرٌ من الكلمات التي هي من أصولٍ غير عربيَّة، فالغالبيَّة العظمى من مفردات القرآن وأسمائه وموادِّ أفعاله هي من اللغة العربية. أي انَّه لو قسنا المفردات التي من هي أصلٍ غير عربي إلى المفردات التي استُعملت في القرآن وكانت من أصلٍ عربي لوجدنا أنَّ النسبة بينهما تتجاوز نسبة الواحد إلى 100 ألف. أفيصحُّ والحال كذلك نفيُ وصف العربيَّة عن القرآن لمجرَّد أنه اشتمل على كلمات محدودة من أصل غير عربي؟!
إن مثل هذه الإشكالات هي من الوهن بحيث لا تكون بحاجة إلى جواب لولا الخشية من علوق مثل هذه الشبهات في أذهان البسطاء من الناس.
فلو بحثتم في أيِّ كتاب من الكتب منتسبٍ إلى أيِّ لغة، فإنَّكم ستجدون بعض كلماته من غير تلك اللغة لكنَّ أحداً لا يسعه أن ينفي انتساب ذلك الكتاب إلى تلك اللغة، فلو كان الكتاب منسوباً إلى اللغة الفرنسية مثلاً وسئل عنه المصنِّفون في المكتبات الفرنسية وكذلك ادباء تلك اللغة وعموم المتكلِّمين بها لو سئل هؤلاء جميعاً عن لغة هذا الكتاب؟ وفي أيِّ الكتب يصحُّ تصنيفه ؟ لأجابوا بأنَّه كُتب باللغة الفرنسية ويُصنف في الكتب الفرنسية رغم انَّ هذا الكتاب قد اشتمل على مفرداتٍ ليست من أصول تلك اللغة.
وحتى الخطيب الذي يتكلَّم، لو سُئل الناس عن لغة خطابه لكان جوابُهم إنَّه يتكلَّم باللغة التي يستعمل مفرداتها وتراكيبها اللفظية، فينسبون خطابه إلى اللغة العربية مثلاً إذا كان يستعمل مفرداتها وتراكيبها في ذلك الخطاب، ولا ينفون العربيَّة عن خطابه الذي امتدَّ لساعة لمجرَّد استعماله كلمةً أو كلمتين أو عشر كلمات أو أكثر من لغاتٍ أخرى، فلو جاء بمصطلحات ليست عربيَّة، مثل كلمة الديمقراطية والبرجوازية والإرستقراطيَّة، فإنَّ أحداً لا يسعه أن ينفي وصف العربيَّة عن خطابه لمجرَّد ذلك.
ثم إنَّ القرآن حينما استعمل هذه الكلمات التي هي من أصولٍ غير عربية إنما استعملها بعد أن استعملتها العرب في أشعارها وفي خطبها وفي محاوراتها وفي يومياتها واستعملها بعد أن تمَّ تعريبها في لغة العرب فتلك الكلمات وإن كانت من أصولٍ غير عربيَّة إلا انَّها صيغتْ وفق التصريفات العربية فالقرآن إنَّما استعملها بعد التعريب، فلذلك يُعبَّر عنها بالكلمات المعرَّبة، كما هو الشأن في أيِّ لغة، فعموم اللغات تستعمل المفردات التي هي من غير أصولها ولكن بعد صياغتها وفق التصريفات المناسبة لتلك اللغة، فالكلمة العربية حينما يستعملها الفارسي فإنَّه يصوغها بما يتناسب مع التصريفات المقرَّرة في اللغة الفارسية وهكذا هي اللغة السريانية أو العبرية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات، ولو بحثتم في اللغات لوجدتم أنَّ لغات الأرض متداخلة في بعض كلماتها فلا ينفي ذلك تميُّز اللغات بعضها عن بعض. فهذا إشكال واهن لا يُعتدُّ به ولا يستحق الوقوف عليه أكثر من ذلك.
تعليق